يشوهن وطني الحبيب سوريا
كتبت هيفاء زنكنة:
عرضت قناة الأي بي سي الأخبارية، في 5 تشرين الاول/اكتوبر، تقريرا بعنوان ‘المرأة العراقية في تجارة الجنس في سورية’ جاء فيه انتشار تجارة الجسد وبيع الفتيات العراقيات من سن العاشرة فما فوق في ملاهي دمشق لزبائن من دول الخليج وظهرت لقطات في الفيديو (وهو متوفر على اليوتيوب) لفتيات، بالجملة، يرتدين بدلات الرقص الشرقي، يرقصن او يتمايلن باشكال مثيرة على ما يشبه المسرح او المنصة، بينما يراقبهن عدد من الرجال الجالسين او يقف بينهن من يقوم بانتقاء من يشاء لقضاء وطره.
وتخبرنا الصحافية، صاحبة التقرير، من خلال عدد من المقابلات مع مسؤولات منظمات تتعامل مع المهجرين (عددهم يزيد على المليون في سورية لوحدها) بأن الفقر والبطالة وعدم توفر المعيل في البلد الذي تم فيه التهجير القسري (وينطبق الحال نفسه على بقية دول الجوار) يجبر المرأة (خاصة الارملة المعيلة للايتام) على ممارسة الدعارة لتوفير لقمة العيش لاسرتها او تزويج البنات في سن مبكرة للتخلص من مسؤوليتهن.
وأكدت المتحدثات، تزايد اعداد الفتيات اللواتي يتم استغلالهن في هذه التجارة عبرالمقايضة والتهريب او الزواج الاسمي ومن ثم عرضهن للبيع في سوق نخاسة الجسد.
وهذه ليست المرة الأولى التي نشاهد فيها تقريرا كهذا، اذ سبقه العديد من التقارير المكتوبة والمرئية التي تطرقت الى ذات الكارثة ومن قبل منظمات حقوق الانسان وبعض المنظمات النسوية المستقلة الدولية والعراقية، حتى بات وجود المرأة العراقية المهجرة، بعيدا عن عائلتها ومجتمعها ومحيطها الطبيعي، مرتبطا بابشع الصور المهينة للكرامة وعزة النفس التي طالما اشتهرت بها عبر تاريخها وانجازاتها.
فاختزل وجودها، في ظل ‘العراق الجديد’، وتحت صك الوعود بحقوق المرأة، الى عاهرة تستقطب الزبائن، كما كانت فتيات فيتنام الجنوبية اللواتي كن يعرضن اجسادهن للبيع على مسارح في نوادي تايلاند، وهن يرقصن مرتديات البيكيني لجذب الجنود الامريكيين العائدين من فيتنام، كما يذكرنا بريستون جونز، استاذ التاريخ في جامعة جون براون.
ولا يقتصر تحويل المرأة الى بضاعة بين المهجرين في دول الجوار فحسب بل يتعداه الى داخل العراق المحتل، ايضا بفضل ساسة الاحتلال من العراقيين الذين، والحق يقال، يتسترون بعباءاتهم الدينية وبدلاتهم العلمانية، على كل انواع جرائم وانتهاكات الاحتلال والميليشيات وكل من هب ودب، بدءا من الاغتصاب وانتهاء بالدعارة ويعمل معظمهم، بشكل خاص، على اسدال ستار كثيف من الصمت (متحججين بالحياء الديني والاعراف والعادات الاجتماعية) على انتشار الدعارة المرتبطة بوجود المحتل وقواعده العسكرية وحملات التهجير القسرية، الطائفية والعرقية، والنزاعات المختلقة حول ‘مناطق متنازع عليها’، فضلا عن الفساد الاخلاقي المستشري بين قوات الشرطة والامن والجيش وميليشيات الاحزاب بانواعها، ليلقوا اللوم، بالكامل، أما على ‘قوى الارهاب’، في حالة المتأسلمين الطائفيين منهم او تدهور الوضع الاقتصادي، في حالة العلمانيين.
ويكفينا مثالا في ‘العراق الجديد’، باعتباره النموذج المراد تطبيقه في بقية الدول العربية، انه ما ان تتقدم امرأة الى احدى الدوائر الرسمية او مراكز الشرطة او الأمن للسؤال عن معتقل او مفقود (ارتفع عددهم من 375 ألف الى مليون منذ 2003 حتى 2007، حسب الصليب الاحمر الدولي)، حتى يكون الثمن الذي يجب ان تدفعه اما آلاف الدولارات او شرفها. حيث صار شرف المرأة سلعة لاجدال في شرعية استباحتها.
ومن الحقائق المعروفة والواضحة، تاريخيا وحاضرا، انه حيثما وجدت القواعد العسكرية الامريكية ازدهرت الدعارة (وتشمل الاطفال من الجنسين) وبيع المخدرات بأنواعها وحلقات التهريب بانواعها، وكلها مغلفة بالديمقراطية وتوفير ‘ فرص العمل’ لسكان البلد المضيف! حيث تبين الدراسات والبحوث المجتمعية، عن القواعد العسكرية ‘غير الدائمة/ الدائمة’ في كوريا واليابان والفليبين وتايلاند، ومن بينها ‘الدعارة العسكرية في العلاقات الامريكية الكورية’ لكاثرين مون (جامعة كولومبيا 1997)، حصر العمل أو الانتاج حول هذه القواعد بـ’تسلية’ الجنود الأمريكيين وخدمتهم في واجهات تؤسس في ‘البلد المضيف’ لهذا الغرض كالبارات والمطاعم والمقاهي ومحال بيع الحرف اليدوية والتذكارات المحلية.
وكما نعلم جميعا، ان العراق المحتل كبلد مضيف لم يبخل على ‘ضيوفه’، منذ عام 2003، بالمطاعم والمقاهي سواء في المنطقة الخضراء أو غيرها وكذلك اقامة اسواق ‘بيع’ المنتجات المحلية من قبل النساء ضمن حدود القواعد العسكرية، فضلا عن العزائم الخاصة والولائم العامة التي طالما اقامها ساسة حكومات الاحتلال المتعاقبة للعسكريين والاداريين و’المستشارين’ الامريكيين والتي تركت ‘اثرا عميقا’ في نفوسهم ، كما صاروا يكتبون في مذكراتهم. وتزودنا كتابات جنود الاحتلال، خاصة في مدوناتهم على الانترنت وفي كتبهم، وكذلك تقارير بعض المنظمات الدولية والدراسات الاكاديمية، فضلا عن الصحافيين المستقلين، ببعض الحقائق المستورة اعلاميا خشية تشويه صورة القوات الامريكية باعتبارها قوات ‘تحرير’ تحترم المجتمع وثقافته الدينية .
في هذه المصادر (ونحن بحاجة ماسة الى البحث الجاد فيها)، نجد بعض الاجوبة على تساؤلات ملحة مثل :
هل تسلي نساء البلد ‘المضيف’، جنود الاحتلال فعلا؟ هل هي ظاهرة حقا ام حالات استثنائية؟ ماهي السبل التي لجأ اليها مايزيد عن 180 ألف جندي (قبل تخفيض العدد الى 50 ألفا) و160 ألفا من المرتزقة، لاشباع حاجاتهم الجنسية وهم الذين يخوضون حربا تجاوزت في مدتها الحرب الامريكية ضد فيتنام، أي الحرب التي حولت سايغون، عاصمة الحكومة الفيتنامية الجنوبية الموالية لامريكا، الى ماخور لجنود الاحتلال؟ ومن الذي يوفر لجنود القواعد العسكرية المنتشرة في العراق الفتيات ان لم يكن الصبيان لممارساتهم؟ هل حدث وقام ساسة ‘الحكومة المتنازع عليها’ باي اجراء ازاء ذلك؟
ان الاجابة على هذه الاسئلة يقتضي مساحة كبيرة، لذلك سأوجز…
كلا، ان ‘تسلية’ جنود الاحتلال لم تصبح ظاهرة في داخل العراق، وان كانت هناك حالات وجدت، خاصة في بداية الاحتلال… وهو وضع مختلف عن فرنسا، اثناء الاحتلال النازي، مثلا.
فقد تمكن المجتمع العراقي المتمسك بذخيرة قيمه التاريخية وثقافته الدينية وتماسكه، على الرغم من كل ما يشاع، في وضع حد لانتشار التعاون مع المحتل، بأي شكل من الاشكال وبضمنها صناعة الاستغلال الجنسي… أقول وضع حد للانتشار وليس القضاء كلية.
وقد لعبت المقاومة المسلحة دورها في ذلك… فذخيرة المجتمع، مهما كانت كبيرة، قد تنفد يوما باستمرار شرعنة وجود المحتل وقواعده العسكرية وانتشار الفساد ونزاعات الميليشيات وغياب القانون واستغلال وكلاء ‘الدين’ وزواج المتعة المشرعن للدعارة.
كما يجب الانتباه الى دور المرتزقة او المتعاقدين الأمنيين في انتشار الدعارة، وكما نعلم فان اعدادهم في تزايد طردي مع تخفيض اعداد القوات العسكرية، مما يعني ان صفقاتهم السرية ستبقى مهيمنة طوال فترة وجودهم ولسنوات طويلة مقبلة.
ففي مقال بعنوان ‘الدعارة العسكرية واحتلال العراق’، المنشور في 11 تموز/يوليو، 2007 على موقع ‘كاونتر بانش’ المعروف، تتابع الباحثة الامريكية ديبرا ماكنات، دور المتعاقدين الأمنيين في توفير العاهرات لقوات الاحتلال من خلال اتصالاتهم الخاصة اما ببعض المترجمين او متعاقدين آخرين.
ويتباهى المتعاقدون الأمنيون بقدرتهم، في بعض الأحيان، على جلب النساء العراقيات أو الاجنبيات (ايرانيات وفيليبينيات ومن بلدان اوروبا الشرقية) في بغداد أو حول القواعد العسكرية الامريكية او من اماكن اخرى.
ولعل ما يميز المتعاقدين الامنيين عن قوات الاحتلال، في هذا المجال، كونهم يتقاضون أجورا عالية ولايخضعون للمساءلة… اذ يحظر الجيش الامريكي (ولو علنيا) على الجنود الاتصال بالعاهرات.
ويتم احيانا جلب العاهرات بواسطة شركات متعاقدة لجلب الايدي العاملة حيث وثق الصحافي دافيد فيني كيفية قيام شركة كويتية متعاقدة لاستيراد العمال لبناء مجمع السفارة الامريكية في المنطقة الخضراء، ببغداد، بجلب النساء ايضا الى مواقع البناء.
ويذكر الجندي باتريك لاكيت، بانه في عام 2005، في العراق: ‘بدولار واحد تستطيع الحصول على عاهرة لمدة ساعة’. وقد تم فتح عدد من بيوت الدعارة في المنطقة الخضراء تحت مسميات ملجأ للنساء، صالون تصفيف الشعر، أو مطعم. الا انها اغلقت بعد ورود تقارير عن وجودها إلى وسائل الإعلام (تذكروا بأن المنطقة الخضراء تضم مكاتب وبيوت مسؤولي ‘الحكومة’ العراقية والبرلمان أيضا).
كما يتم جلب النساء الى القواعد العسكرية كمترجمات ومنظفات وطباخات الا ان الامر اصبح خطرا مع تزايد العمليات ضد القوات الامريكية.
ولم يعد بامكانهم التحرك، كالسابق، خارج القواعد العسكرية والمنطقة الخضراء.
وأدى الهجوم على الشاحنات الناقلة لمثل هذه النسوة الى التقليل من هذه الظاهرة، مما جعل المقاولون ينصحون قوات الاحتلال بالتوجه الى المنطقة الكردية الاكثر أمنا لـ’ الراحة والتسلية’، أو الى حانات وفنادق دبي، وبقية دول الإمارات العربية المتحدة.
بينما توجب على شبكات الدعارة في العراق البحث عن طرق سرية جديدة لتغلف بها ممارساتها اللااخلاقية البشعة. وقد تحدث احد المتعاقدين العاملين في المنطقة الخضراء في شباط/فبراير 2007 الى ان الامر اقتضاه اربعة شهور ليقيم اتصالاته الخاصة مع شخص يحمل ‘مواصفات امنية’ ويزودهم بجميلات عراقيات.
ان هذه المعلومات تشكل لمحة بسيطة في كيفية تستر حكومات الاحتلال على جرائم الاحتلال وتعاونهم، سلبا او ايجابا، في استهداف كرامة المرأة وعزة نفسها وشرفها وبالتالي مكانتها وقيمتها المجتمعية.
لاعذر اطلاقا لمن يدعي السذاجة… وليس هناك، حسب علمي، من يدعي الأمية بين ساسة الاحتلال، بل ان كل واحد منهم، ذكرا كان ام انثى، بات فقيها لغويا ومرجعا علميا وقانونيا في كل المواد والموضوعات.
ان الجريمة اكبر من ان تغطى بذريعة الجهل.
انه استهداف منهجي لانسانية المرأة وكينونتها الفردية والمجتمعية.
انه استهداف لانسانية الرجل وكرامته ومستقبل أطفالنا.
وهي جريمة تمس عمق المجتمع وعلينا جميعا مسؤولية ايجاد الحلول لها بكل الطرق الممكنة، وأولها التخلص من الاحتلال وقواعده.
وكان القس الامريكي الاسود مارتن لوثر كنغ، قبل عام من اغتياله،، قد أدرك جسامتها حين تحدث عن الوضع في فيتنام واصفا اياه ‘حيث اضطر الأطفال إلى بيع أخواتهم لجنودنا. لقد أفسدنا نساءهم وأطفالهم’
وختم حديثه بصوته المتهدج غضبا، الذي لايزال يثير القشعريرة في البدن عند سماعه، قائلا: ‘يا لنا من محررين’!
(( منقول ))