11 شباط عيد سيدة لورد
(اليوبيل الخمسين بعد المئة للظهورات)
1858- 2008
الـرّحـلة الـى لـورد – أيـار 1903
ألكسي كاريل (1873 – 1944) طبيب وبحاثة فرنسي من ليون؛ نال جائزة نوبل للطب عام 1912 وهو لم يبلغ الاربعين. منذ صباه برز لديه ميل الى العلوم الطبيعية، فدرس الطب. وعندما بلغ الثالثة والعشرين، عمل في مستشفيات ليون. ثم عكف على اجراء أبحاث طبيّة لفتت اليه الانظار، وكان آنذاك يؤمن بالتشككية العلمية والعقلانيّة الواقعية، لا يلقي بالا الى أيّة نظريات فوقيّة أو دينيّة. وفي الثلاثين من عمره رافق قطار يقل مرضى ميمّمين شطر لورد؛ رافقه عرضا اذ حل محل زميل له تعذّر عليه السفر في اللحظة الاخيرة. وكان يحدوه، في قبوله هذه المهمّة، الفضول العلمي فحسب. وكانت معجزات لورد ما زالت تشغل الرأي العام.
"لورد": قرية فرنسية قابعة في أحضان جبال البيرينيه. عام 1858 ظهرت فيها العذراء مريم لفتاة فقيرة، في الرابعة عشرة من العمر، تدعى "برنديـت سـوبيرو"، في حنية مغارة تعرف بمغارة مسّـابييـل، وتوالى ظهـور العذراء ثماني عشـر مرة ما بين 11 شـباط و16 تموز وأثناء أحد هذه الظهورات قالت بأنها "الحبـل بلا دنس" وفجّرت نبع ماء داخل المغارة لا زال يسيل منها، ومع الماء العجيـب، دفـق مـن النعم الغـامـرة، والأشـفية الخارقـة. ويحج الى لورد، باستمرار وبلا انقطاع، مئات ألوف المؤمنين من شتى أصقاع العالم فيعودون منها بايمان متأجج وطعم لحياة جديدة، وقد يعودون بشفاء سـقم مستعص على كل طـب .
بادىء الأمر، استحوذ على ليراك (كاريل) التأثر حيال آلام المرضى وصيحاتهم.
ولكن بين ظهراني أولئك البؤساء، أخذ يتولد لديه شعور غريب،
فهو المفعم شبابا وحيويّة، كان معنيا بيأس أولئك الأفراد،
وهم رغم شبابهم، قد حرموا النشاط والحريّة، وفرض عليهم الانحباس في غرفة،
وقيض لهم ألا يعرفوا، يـومـا، رعشة الحب.
وتركّز فكره على ماري فيران، التي اطلع عن كثب على قصة حياتها:
حياة مسلولة تصرّمت في المشافي، لقد مرّت عبر ذات الجنب،
الى إلتهاب الصفاق السلّي، وها هي قد أشرفت على الموت،
قبل أن تختبر من الحياة سحر الربيع والحب، ومع ذلك،
كانت أقل تعاسة مما يبدو عليها إذ كانت تؤمن بالمسيح
الذي كان أملها، وشاغلها الوحيد.
إن موت المؤمن على قدر لا يقاس من الروعة،
فهو المدخل الى جوار العذراء ويسوع، ويا لها من صورة عذبة!
كم يجب أن يكون منقطع النظير سحر يسوع هذا،
بحركاته الهادئة، في إخضرار جبال الجليل الربيعي،
وهو ينهض لألقاء خطبته على الجبل ، التي لا يجد روعتها وصف.
لقد كان يوفـّر للمتألمين التعزيات الابدية، وكم يحسن الايمان بها(لوقا 6: 20 – 49).
والعذراء الرقيقة، الحامية، المتحنّنة على جميع الآلام، يا لها من صورة سنيّة.
" آه ، كـم كنت أود أن أومن، نظير جميع هؤلاء البؤساء
إنّك أيتها العذراء مريم، لست نبعا لذيذا ولدته ادمغتنا فحسب.
اشفي اذن هذه "الفتاة"، فكفاها ما عانت من عذاب
إئذني لها ان تحيا قليلا، وادفعيني الى الايمان.
عندما ينعدم تأثير الملاحظة الواقعيّة،
لا يبقى سوى الانسان، تتقاذفه النظريّات والنزوات الهوجاء.
إن ما أشهده الآن، لعلى قدر كبير من العقلانية،
فإذا ما برئت هذه الفتاة، وهو أمر يتعارض مع المنطق، إجعليني أومن
عندما سأراها وقد عادت الى الحياة فعلا، عند خروجها من الاستحمام".
ومرّت عربة صغيرة تقلّ ماري فيران،
فدنا منها ليراك على عجل، ليتبين أي تطور طرأ على حالها.
كان لا يزال وجهها ممتقعا، وجسمها هزيل، وبطنها متضخما على غير تفاقم ظاهر.
لقد غسـلوا بطنها بعض الشيء، لأن السيدات المشرفات رفضنا تغطيسها كلّية بالماء.
فقال ليراك: " سألحق بكم بعد قليل،
ان وضعها يبدو ثابتا، ولكن بوسعكم استدعائي اذا ما تفاقم".
فنقلت الى قرب مغارة مسّابييل، حيث جثا كاهن شاب ازاء المرضى والجمهور
رافعا ذراعيه نحو السماء هاتفا : - " أيتها العذراء القديسة، اشفي مرضانا".
فيرد عليه الجمهور، في صيحة جبّارة تتهادى كالموج :
- " أيتها العذراء القديسة، اشفي مرضانا".
- " أيتها العذراء القديسة، استجيبي لدعائنا" - " أيتها العذراء القديسة، استجيبي لدعائنا"
- " يا يسوع، نحن نحبّك " - " يا يسوع، نحن نحبّك ".
وكان هتاف الجماهير يشتد عزما، أكثر فأكثر؛ وهبّ الكاهن واقفا، وقال:
" لنصلّ يا اخوتي وأذرعنا مرفوعة عل شكل صليب ".
فامتدت جميع أذرع الجمهور، وكأن تـيـارا قـد عـبـر بـه،
شـيء لا يـدرك، جـبـّار، لا يـقـاوم، صامـت،
كان يجري بين أفراده، مستحثا الارادات، مثل اعصار على رأس جبل!
وكان ليراك يؤنس، على نحو مبهم، هذا الانطباع القوي،
الذي لا يطاله تحليل، يمسك بخناقه، يشنج ذراعيه،
وراودته رغبة في البكاء، لم يدرك لها سببا!
كانت الساعة تشارف الثانية والنصف،
والمغارة تسطع بألوف أنوار الشموع تحت صخرة مسّابييل،
وتمثال العذراء ينتصب في تجويفة الصخر، حيث كانت، فيما مضى،
برنديت قد رأت السيدة البيضاء الساطعة " سيدة الحبل بلا دنس ".
وعند أقدام العذراء، كان موقع مربع فسيح، يحدّق به درابزين
مخصصا للمرضى الذين كانوا يحتلون مكان الشرف الى جوار المغارة.
واتكأ على الدرابزين الواطئ قريبا من ماري فيران،
التي كانت تبدو في مرحلة احتضار، وهي ملقاة على المحفة، جامدة،
في حين كان صدرها يتعالى بفعل تنفّس متسرّع.
ووصل بعض الحجاج، وكان مضيفون، وحمّالو محفّات يتراصون كثـُرًا،
ثم توافدت العربات، واحدة فواحدة، الى جانب ماري فيران.
ووقع نظر ليراك على ماري فيران، فبدا له أن منظر وجهها قد تغيّر،
وأن ظلال الامتقاع قد تبدّدت، وأن جلدها قد بات أقل شحوبة.
فأخذ يكلم نفسه: إنني أتعرض للهلوسة،
إنها ظاهرة نفسية جديرة بالاهتمام، يجدر تسجيلها.
وأخرج قلم حبر، ودوّن على كمه ساعة ملاحظة: كانت الثالثة الا ثلثا.
غير انه استدرك، ولكنني حتى هذا اليوم، لم أتعرض للهلوسة؟
وتقدّم ليراك، وعدّ النبضات، وقاس سرعة التنفس.
كان ليراك يلمس تحسنا جليّا وسريعا في الحالة العامة،
وشعر بأن حدثا ما على وشك التحقـّق، غير أنه قاوم انفعالا عابرا،
كان متكئا على الحاجز، وقد انشدّت جميع ملكات انتباهه
نحو ماري فيران، لايرى سواها أحدا.
كان الكاهن، في تلك الاثناء، يلقي عظة على مسامع جمهور الحجاج والمرضى،
وكانت تراتيل وأدعية تتصاعد، ووجه ماري فيران لا يفتأ يتحوّل،
وقد شخصت منها العينان المحدّقتان في ذهول نحو المغارة،
تحسـن هـام كـان قد طـرأ،
وكانت الآنسـة "أو" المرافقـة، تنحني على ماري فيران وتساندها.
فجأة شعر ليراك أن الشحوب قد عراه- فقد شاهد، عند الزنّار،
الغطاء يغور شيئا فشيئا، على مستوى البطن! ودقّت ساعة الكنيسة الثالثة.
بعد بضع دقائق، كان ورم البطن يبدو وكأنه قد تلاشى كلّية،
وجال في خاطر ليراك: أظن أنني، حقا، قد فقدت رشدي!
ودنا حينئذ من ماري فيران، وراقب تنفسها، وعنقها،
كان القلب لا يزال متسرعا، ولكن خفقاته عادت طبيعية،
من المؤكد أن حدثا كان يجري، وسألها:
- كيف تشعرين؟ . . .
فأجابت ماري فيران بصوت خافت:
- إنني على أحسن حال، لست قويّة بعد، ولكنني أشعر أنني برأت!
ولم يبقى للتردد مكان، فحالة ماري فيران كانت تتحسن،
بل قد بات من الصعب التعرّف عليها!
لقد ساور ليراك اضطراب شديد، وبات عاجزا عن التفكير !
كانت الآنسة "او" تشهد ذلك الامر العجيب،
في دهشة تحاكي دهشة الطبيب، وهو يشهد إلتئام كسر،
إنها كانت قد ألفت مثل هذه الامور.
أما ليراك، فلم ينطق بحرف، وأقلع عن التفكير،
فذلك الحدث غير المتوقّع كان يتعارض مع كل توقعاته، بحيث ظن أنه في حلم!
وقدمت الآنسة "أو" كوبا مليئا بالحليب الى ماري فيران فشربته كله،
ثم بعد فترة وجيزة، رفعت رأسها وتطلعت فيما حولها وتحركت قليلا،
فمالت على جنبها من غير أن تبدر عنها أيّة امارة ألم.
ونهض ليراك فاجتاز صفوف الحجاج المتراصة، وسط أدعيتهم
التي كان يكاد لا يسمعها، ومضى؛ وكانت الساعة تشارف الرابعة.
لقد تحقق المستحيل، غير المتوقع،
لقد تمت المعجزة، لقد برئت تقريبا فتاة محتضرة!
كان لا يزال يجهل حال الاصابات الفعلي، غير أن تحسنا وظيفيا،
كان في الواقع، قد جرى تحت بصره، وسيتأكد عما قريب،
أن ذلك التحسن كان عجيبا، وفي أيّة بساطة!
الآنسة "أو" وهو كانا الوحيدين الواقفين على حقيقة المعجزة.
وعاد ليراك الى ساحة المسبحة الوردية، الى مكتب التحقيقات الطبيّة
الذي يقع تحت قناطر الدرج الاثري، بالقرب من مركز مضفي سيدة الخلاص.
فرأى الدكتور بواساري، مدير مستشفى لورد واقفا على الباب،
فحيّاه، وروى له، في الحال، الأمور العجيبة التي كان لها شاهدا. . .
ورنا اليه بواساري ، وقد ثبت في مكانه لدى سماعه رواية ليراك،
وإذ كان هذا الأخير يتحدّث عن تحسن وظيفي فحسب،
غير متطرّق الى برء الاصابات، قال له بواساري باطمئنان:
ان مريضتك قد برئت، أو على الاقل ان احتمال شفائها كبير،
هاتها الى العيادة منذ الغد.
وقفل ليراك عائدا الى فندقه، عازما على الامتناع
عن أي بحث قبل التأكد مما حدث على نحو ثابت،
الا أنه كان يؤنس سعادة عارمة، إذ قد بلغ أرب رحلته،
وتسنت له فرصة نادرة، كي يرى حدثا.
كانت الشمس قد إختفت خلف رؤوس الجبال، وفي سكون النهار المنصرم،
كان المرضى يصعدون الى المستشفى، على محفاتهم أو في عرباتهم الصغيرة،
على إيقاع التسابيح وأنغام "السلام يا مريم"،
وبعضهم كانوا يسيرون مشرقي الوجوه، بين ظهراني ذويهم وأصدقائهم،
ومجهولين جذبهم سحر المعجزة الذي لا يقاوم.
وكان ليراك يتساءل:" أيمكن أن يكون الفرض المستحيل قد أمسى واقعا؟"
وفتح باب قاعة "سيدة الحبل بلا دنس"، وخفّ الجميع نحو سرير ماري فيران،
وانعـقـل لسـانه، فالتحـول كان خـارقا!.
كانت الفتاة في قميصها الابيض، جالسة فوق السرير،
وعيناها تلتمعان في وجه ما زال رمادي اللون معروفا،
الا أنه متحرك حي، وعلى شيء من الحمرة في الخدّين.
عند ملتقى الشفتين المطبقتين، كان لا يزال تغضن أليم،
طبعته سنوات العذاب، ولكن، من كل كيانها،
كان ينبعث شعور بالسكينة، يند عن الوصف،
يشع فيما حولها، ويضيء بالفرح القاعة الحزينة.
وقد بادرت ليراك الذي دنا منها بالقول: سيدي الدكتور،
أنـا لقد شفيت تماما، مازلت أشعر أنني مفتقرة الى القوّة،
ولكن يلوح لي أني، لو عزمت، لاستطعت السير.
وأمسك ليراك بمعصمها، فاذا بالشريان الكعبري، تحت اصبعه،
يخفق على نحو منتظم هادئ، ثمانين مرة في الدقيقة،
وذكر كم كانت وتيرته قد تسرّعت خلال الايام الفائتة
كما كان يشير، آنذاك، النبض المتقطع، المتسرع، الذي كان يكاد لا يعد،
وكذلك التنفس قد عاد طبيعيا، والصدر بات يرتفع بتؤدة وانتظام.
ولكن ليراك كان ما يـزال يتسـاءل:
أهـو شـفاء ظاهري فحسـب؟ تحسـن وظيفي مدهـش ؟
ضربة سوط أنـزلها بالجسـم إيحـاء ذاتـي مكثـف؟
أو أن الاصابـات قد زالـت فعـلا ؟
هل هو حـدث نـادر، ولكنه معـروف،
أم هـو واقـع جـديـد، أمر مسـتحيـل، مذهــل : المعـجـزة ؟ . .
وقبل أن يفحص بطن ماري فيران، في محاولة لحل الاشكال،
انتابته لحظة قلق وتردد، وكان يرتعش رغبة وخشية، في آن معا،
وانتزع الغطاء، وتأمل، فبدا الجلد أبيض أملس،
وتحت الخصر الضيق، رأى البطن صغيرا،
مسطحا هابطا، كما هو حال شابة في العشرين تعاني هزالا شديدا،
حينئذ وضع يديه على جدران الجوف، فتبدى له ليّنا، مرنا، شديد الرقة.
وكانت الأنامل الفضولية تتنقل، فلا تحدث أي ألم،
جاسة كل جوانب البطن، والخاصر والحوض،
بحثا عن الورم، وعن الكتل القاسية التي كانت قد تبخرت، تبخر حلم،
وعاد كل شيء طبيعيا، وحدها الساقان كانتا لا تزالان منتفختين.
لقد كان الشفاء تاما، وقد انكفأت تلك المحتضرة،
المزرقة الوجه، المنتفخة البطن، الشاردة القلب،
في غضون ساعات معدودات، فتاة شبه طبيعية،
وانما قد نال منها الهزال والوهن.
وأحس ليراك بقطرات عرق تنساب على جبينه،
وكان يشعر وكأنه قد تلقى لكمة بقبضة يد، على رأسه،
وكانت شرايينه تخفق، وتصلب في جمود مطلق، خال من أي انفعال.
وأخذ يقول لنفسه:
" ان هذه الفتاة قد برئت تماما، لا جدال في ذلك،
انني لم أشهد يوما أمرا على هذا القدر من الاثارة.
أي انطباع مريع وعذب يخلّف هذا المشهد الفريد،
منظر الحياة تعود سريعة الى جسم، كادت تدمره سنوات من المرض!
فوق كل جدال، هناك حدث موضوعي:
شفاء فتاة كانت مصابة بداء على قدر من الخطورة شديد،
انه تحقيق المستحيل، أو انني ربما أخطأت التشخيص
وربما كانت حالة التهاب صفاق عصبي المنشأ.
ولكن لم تكن امارات التهاب صفاق عصبي،
بل ان كل الاعراض كانت تشير الى التهاب صفاق سلي.
لقد قضى ابواها من السل، وكذلك اخوتها،
وقد ابتليت بذات الجنب السلية المتكررة،
اذ ان طبيبها قد انتزع منها لترين من السائل،
وأصيبت بالسل الرئوي، ونفثت الدم،
وقد شخص الأطباء والجراحون التهاب صفاق سلي،
وحسب جميع الظواهر، لم يكن ممكنا اصدار أي افتراض آخر بعد جس بطنها،
لو أني لم أدون مراحل مراقبتي لها، لارتبكت في دقة ذكرياتي،
انه من المؤكد، قطعا، أن حالتها العامة كانت شديدة الخطورة، وقد برئت.
انها المعجزة، المعجزة الكبرى، التي تثير حمية الجماهير،
وتدفعهم في انقضاض مجنون نحو لورد، وهم في ذلك على حق.
مهما كان منشأ هذا الحدث المدهش، فالنتيجة رائعة ومجدية.
أية مصادفة سعيدة أن أشهد شفاء تلك التي كانت معرفتي لها
هي الأوثق بين سائر المرضى، والتي تقصيت حالتها طويلا.
ولكن، ها أنذا مقحم في قضية أعجوبة، وما هـمّ ؟
مهما غلا الثمن سأمضي حتى النهاية، كما لو كان الأمر يتعلق بتجربة على كلب،
لا أبغي أن أكون هنا سوى آلة تسجيل دقيقة.
وإذا كان الأمر أعجوبة حقا، فلا بد من التسليم بوجود قدرة تفوق الطبيعة.
كل ذلك مدهش، أية قوة تلك التي تخرج من مياه لورد؟
فــي الحقيقـة أنــا لا أفهـم شـيئا. ." .
كانت الأنسة "أو" الى جانب ماري فيران، ترنو الى مريضتها،
في دهشة وجزع، وقد أتعب الارهاق ملامحها الجميلة،
وكانت بعض النسوة قد اقتربن من السرير، وأحطن به،
وساد الصمت الجميع، أما ماري فيران،
التي كانت تجس وتعجن، وتدلك من كل صوب، فقد كانت مشرقة،
وكان فرحها، وسعادتها الصامتة، ينتقلان الى الجميع،
بحيث طاف في جـو القاعة انطباع فـرح سـاكن وسـلام.
انها فعلا معجزة، انني لم أخطئ التشخيص،
قال ليراك بصوت منخفض، ثم ظل صامتا،
وقد استحوذ على ذهنه اضطراب شديد، لم يعد يقوى على تكوين رأي،
بم يجيب، عندما سيقال له ان الشفاء كان أعجوبة؟
لقد كان عاجزا عن أي تفكير.
أتكون معجزة حقا، أرادت العذراء من خلالها
إقامة الدليل على وجودها الموضوعي؟ ولـم لا ؟
اذن لم يبق له سوى الايمان بالمعجزة، أهي أعجوبة حقا؟
لا بد من الانتظار سنه أو سنتين.
ولكن ما جدوى جدلنا العقيم حيال سعادة هذه الفتاة،
التي كانت تسوق حياة تبعث على الرثاء،
وها هي ستعيش من جديد، وستحب، وسترى الشمس، والهواء،
ستعيش فعلا، تلك هي النتيجة، الواقع المعجز، الحدث السعيد.
ماذا ستفعلين الآن، وقد اقتنعت بامكانية معجزة شفائك؟
- سأقصد راهبات القديس منصور، سأنتسب اليهن وسأعتني بالمرضى.
وانسحب ليراك، لئلا يلحظ أحد تأثره.
كان الليل قد قد تقدم، وربما انتصف.
وكان القمر يصعد وئيدا من خلف الليل التلة، في سماء رائعة،
فتبدو الاشجار وظلالها متمادية الطول. . .
وظلّ ليراك وحيدا في قلب الليل الشفاف، ولم يعد سوى رجل هائم في الليل،
وقد حاصرت ذهنه هواجس النقد العلمي، التي كان قد حاول اقصاءها عنه. .
وكان يحدث نفسه : لاشيء يبثّ في الواقع أن الله غير موجود
وأن العذراء ليست سوى نتاج خيالنا،
يبدو لي أنه من الصعب إقامة الدليل على وجود الله، ولكن يستحيل أيضا انكاره.
كيف تمكن بعض المفكّرين، مثل باستور
من الجمع بين الايمان العلمي، والايمان الدّيني؟
فيما يحاول المرء أن ينقل الى عالم ما فوق الطبيعة
عاداته ومعتقداته العلمية، فلا يعود يبصر شيئا.
ومن حرص على التفكير السليم،
توجّب عليه ألا يحيد عن مراقبة الظواهر، والعلاقات بينها.
أمّا البحث عن الاسباب، فلا يوجد أي يقين ولا أيّة وسيلة
للتأكد من عدم الوقوع في خطأ، وبالتّالي فقد يقبل المرء ما يشاء.
كنت في البدء، كاثوليكيا مخلصا
ثم انقلبت رواقيا، ثم هويت في الريبة المطلقة والانفعالية.
ولم أكسب من ذلك سوى المزيد من التعاسة.
وحده الايمان الكاثوليكي، الذي للأسف لم أفهمه،
هو الذي سكب فيّ شيئا من الرضى.
" أنا وحيد بالليل،
النظريّات الفكرية الصرف، لا وجود لها.
ما قيمة النظريّات حيال الحياة والموت؟
لا حاجة بنا، من أجل حياة حقيقية الى علم بل حاجتنا الى الـروح والايمـان".
"أيتها العذراء الرقيقة، منجدة البؤساء الذين يدعونك في تواضع
إحفظيني، أنـا أومن بك،
لقد شئت أن تردّي على شكّي بأعجوبة باهـرة
وأنا لا أعرف كيف أراها، وما زلت فيها مرتابا،
الا أنّ رغبتي الكبرى، والهدف الاسمى لكل تطلعاتي
أن أومن إيمانا عنيفا أعمى، لا يشوبه جدال ولا نقد.
إن اسمك أعذب من شمس الصباح،
فخذي الخاطىء القلق، ذا القلب المضطرب والجبين المغضّن،
الذى ينهك نفسه في نشدان الاوهام.
تحت نصائح كبريائي الفكرية العميقة القاسية،
يرقد حـلــم، ما بـرح للأسـف مكتوما،
هو أكبر أحـلامي إغـراءً، حـلــم الايمـان بـك،
وحبّـك على غـرار الرهـبــان الاطهــار النفوس".
Comment