أضواء على الزّواج المدنيّ
(1)
يثير موضوع الزّواج المدنيّ، خيارًا، اليوم، جدلاً. حتّى ضمن الطّائفة الواحدة ثمّة مواقف متضاربة منه. أفهم وأرى محقًّا أنّ بعض النّاس، لا سيّما من الشّبّان والشّابّات، يجد ظلمًا في أن يكون الانسجام البشريّ بين شاب وفتاة، يتوقان إلى الزّواج، أمرًا مرتهنًا لاعتبارات طائفيّة تعطيها الدّولة صفة قانونيّة. ما قيمة مثل هذه الاعتبارات إذا ما كان الشّاب والشّابة لا يقيمان لها أيّ وزن؟ لا إكراه في الدّين معناه أنّ أمور الإيمان، كائنةً ما كانت، لا تؤخذ قسرًا؛ ومن باب أَولى لا يليق بها، كمسائل خياريّة، يُسلِّم بها الوجدان أو لا يسلِّم، أن تَفرض ذاتها على النّاس بقوّة القانون الّذي ينتمي، أصلاً، إلى الدّولة، وليس مفترضًا بالدّولة أن تتنازل عنه إلى أيّ كان. ما لله لله، في نهاية المطاف، وما لقيصر لقيصر. جَعْلُ ما لا يأتي كَرْهًا لازمًا ملزِمًا مسيءٌ ومشوِّش للدّين والدّولة سواء بسواء! مستلزمات هذه غير مستلزمات ذاك. الأمر البديهيّ يقضي بأن يكون ما يجري على صعيد الدّولة، في هذا الشّأن، مستقلاً عمّا يجري على صعيد الدّين. الدّولة تفرض تدابيرها وأحكامها، بالتساوي، على كلّ مواطنيها، خاصة متى كانت البلاد على تعدّدية. بعد ذلك يَذهب كلٌّ المذهَبَ الّذي يشاؤه لنفسه. حتّى لو فرضنا أحكامًا مذهبيّة على النّاس لمجرّد أنّهم يولَدون لعائلات تُحسَب لهذه الطّائفة أو لتلك، فلا قيمة إيمانيّة لمثل هذه الأحكام لأنّها تَفرِض، كمِن الخارج، ما هو مفترض أن يكون قائمًا، قصرًا، على ما يفرضه المرء على نفسه، من ذاته، في المبدأ، ولا حقّ لأحد في أن يَفرضه عليه! كيف يفرض أحدٌ الحبّ أو الوداعة أو الصّبر على أحد؟! من هنا كون الإصرار على إضفاء الصّفة القانونيّة على ما للدّين، بِغَضّ النّظر عن الإيمان الفعليّ للنّاس أو عدمه، واعتبار ما للطّائفة شِرعةً تُسلِم بها الدّولة، ضربًا من الفصام الكيانيّ الوجدانيّ! ليس معقولاً ولا مقبولاً أن تتوقّع أمرًا وتنشئ النّاس على تعاليمه، ثم تشرِّع عكسه فرضًا!(1)
الأمر السّويّ، إذًا، يقضي لا فقط بأن يجاز لمَن يرغب بأن يدخل في زيجة مدنيّة توفِّر وتضمن لها الدّولة إطارها القانونيّ، بل بأن تفرِض الدّولة الزّواج المدنيّ على كلّ مواطنيها، في مسعى جدّيّ لاسترداد ما لها هي وحدها، أصلاً، الحقّ فيه! بعد ذلك، يذهب كلٌّ المذهبَ الّذي يشاؤه من جهة ما للإيمان بالله! أن يُشرَّع باب الصّدق والخيار الشّخصيّ مع الذّات خيرٌ من فرض الأحكام على أساس انتماء مذهبيّ قسريّ قد لا يكون المرء مسلّمًا به! هذا غير حقّانيّ وظالم!
هل يعني هذا أنّنا نعطي الزّواج المدنيّ ذات القيمة الّتي نعطيها للزّواج الكنسيّ؛ وأنّ كلاً من النمطَين مقبول ومشروع ومساوٍ للآخر؟ هل يعني ما أبديناه، أعلاه، أنّنا نترك الخيار أو نشجِّع أبناء الإيمان المسيحيّ الأرثوذكسيّ على الزّواج المدنيّ أو على الزّواج المختلط وغير الأرثوذكسيّين من المسيحيّين، أو المسلمين؟ الجواب، بكلّ بساطة وصراحة، هو كلا!!!
في شأن مسألة الزّواج المدنيّ والزّواج الكنسيّ، أوّلاً، نقول إنّه حتّى في الأمبراطوريّة البيزنطيّة، بقي الزّواج المدنيّ مفروضًا إلى القرن التّاسع الميلاديّ. تدابير الكنيسة كانت شأن الكنيسة، ولمّا تفرض نفسها على الدّولة وعلى القانون المدنيّ! الزّواج الكنسيّ شيء والزّواج المدنيّ شيء آخر تمامًا. وإذا ما ظنّ قومٌ، اليوم، أنّ الزّواج الكنسيّ هو الزّواج الشّرعيّ لدى المسيحيّين، فإنّهم يخطئون! هناك تزوير وتلفيق تاريخيّ حدث، سبّب التباسًا كبيرًا لا بدّ من جلائه وإزالته. اللَّبْس مردّه، بالضّبط، تنازلُ، ثمّ، بعد ذلك، تحويل الدّولة، كتحصيل حاصل، ما يخصّها هي وحدها من حقّ قانونيّ، في شأن الزّواج المدنيّ والأحوال الشّخصيّة، إلى الكنيسة. بدأ ذلك، كما ذكرنا، في القرن التّاسع الميلاديّ، في الأمبراطوريّة البيزنطيّة. ثمّ، بعد سقوط القسطنطينيّة (1452 م)، خضعت الكنيسة لنظام الملّة. والحالة الرّاهنة إن هي سوى امتداد لذاك النّظام. في الأساس والمضمون، لا صفة ولا معنى شرعيًّا، البتّة، عندنا، للزّواج الكنسيّ! فالزّواج المدنيّ، أو الشّرعيّ، هو عبارة عن عقد يتمّ إبرامه وتسجيله لدى الدّوائر الرّسميّة للدّولة بناء لاتّفاق رجل وامرأة تتوفّر فيهما الشّروط الوضعيّة للزّواج، كما يُفترض أن تكون محدّدة، نصًّا، في قانون الدّولة الخاصّ بالأحوال الشّخصيّة. أمّا الزّواج الكنسيّ فدخول رضائيّ لرجل وامرأة لهما، كليهما، ذات الإيمان الفاعل الّذي للكنيسة، أقول دخولهما، بإذن الكنيسة المقدّسة وبركتها، في عهد، أمام الله، وفي حضرة جماعة المؤمنين، يكرّس الحياة في المسيح هدفًا لزواجهما، وللعائلة الّتي ستتكوّن من جرّاء هذا الزّواج، ابتغاء سيرة القداسة والتماس الحياة الأبديّة. ما يتمّ في الخدمة الكنسيّة، الموصّفة "إلهيّة"، والحال هذه، هو إدخالُ طالبَي الزّواج في ما يُعرف بـ"سرّ الزّواج"، أي تصييرهما كينونة روحيّة واحدة بالنّعمة – أو جسدًا واحدًا، وفق التّعبير الكتابيّ – وولوجهما النّطاق السّماويّ الّذي يفوق كلّ عقل، في العلاقة بالله.
فإن اعتبرنا الزّواج الكنسيّ معادِلاً للزّواج الشّرعيّ، في دولة القانون، عُرْفًا، فإنّ الشّرط المحوريّ للزّواج لا يعود الإيمان الكنسيّ الفاعل لطالبَي الزّواج، بل انتماؤهما أو أحدهما، الذَكَر، إلى ملّة أو طائفة الرّوم والآخر مسيحيٌ من طائفة أخرى! ملّة الرّوم، في الأمبراطوريّة العثمانيّة، هي الشّريحة المجتمعيّة الّتي يجمع ما بينها، في عين العثمانيّين، مذهب المسيحيّين الرّوم! هذا كان تحديدًا خارجيًّا لكنيسة الرّوم الأرثوذكس، كما رآه المسلمون! في عيون الرّوم الأرثوذكس الأمر آخر، فَهُم كنيسةٌ، وحسْبُهُم! والكنيسة تُحَدَّدُ، داخليًّا، بإيمانها الفاعل بالمحبّة. ليس هناك، بالمعنى الصّارم للكلمة، تحديد خارجيّ للكنيسة! مَن له إيمانها يكون فيها، ومَن ليس له، لا يكون، بكلّ بساطة، منها! الواقع الجديد جعلنا نكابد ازدواجيّة نكراء! بتنا ننظر إلى أنفسنا ككنيسة، وبات علينا أن نتبنّى، في آن معًا، نظرة أخرى، تتنافر والأولى، هي نظرة المسلمين إلينا كطائفة؛ حتّى صار الكثيرون بيننا، بقوّة العادة، يُماهون أو يخلطون الكنيسة بالطّائفة! واليوم، إذ نجد نسبة مرتفعة من أبناء "طائفة الرّوم" أمّيّة فيما للإيمان الأرثوذكسيّ، أو تتعاطاه هامشيًّا، نجدنا، ككنيسة، أعجز، وضعيًّا، من أن ننفكّ عن اعتبارنا طائفة الرّوم، ككيان غريب، في تركيبه، عن الكنيسة، ولكن في قلب الكنيسة؛ وملزَمين، في آن معًا، بتسخير ميراث الكنيسة المقدّسة لخدمة ما للطّائفة! في مسألة الزّواج، مثلاً، نحن مضطَرّون، ضمن الواقع الرّاهن، لأن نقيم خدمة الزّواج الكنسيّ للّذين إيمانهم فاعل وللّذين إيمانهم غير فاعل، للّذين يؤمنون بالرّبّ يسوع وللّذين لا يؤمنون به، سواء بسواء، طالما هم من أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، ومحسوبون على الكنيسة؛ لأنّ نظام الأحوال الشّخصيّة يفرض ولا بديل! وفي ذلك وجع كبير لأنّ في تعاطي الأمور، على هذا النّحو، مَسْرَحةً حتميّةً للخدمة الكنسيّة وعبثًا ومَسْخًا لإيمان الكنيسة وتعهيرًا للقدسات، ومن ثمّ كفْرًا مبينًا! طابع القدسيّة، والحال هذه، شئنا أم أبينا، ينتزح عن الخدمة الكنسيّة، فتستحيل جملة طقوس جوفاء، مهما أتقنّاها وجمّلناها خارجيًّا، طالما بتنا نقيمها لغايات تشريعيّة، واستطرادًا، في مناخات بشريّة دهريّة غير إيمانية!
تماهي الزّواج الكنسيّ والزّواج الشّرعيّ المدنيّ، مُقامًا ضمن غلاف من الشّعارات الطّائفيّة والطّقوس الدّينيّة الجوفاء، فاسدٌ جملةً وتفصيلاً، شكلاً ومضمونًا، ولا يجوز أن يستمرّ! هذه معثرة؛ والمعثرة الكبرى أنّنا لم نعد نشعر بالمعثرة! بات القويم أعوج، في الأفهام، والأعوج قويمًا! الدّولة بحاجة، لا بل ملزَمَة، باسترداد حقّها الشّرعيّ التّشريعيّ في مجال الأحوال الشّخصيّة! كذلك من حقّ الكنيسة أن تتحرّر من عبءٍ لا ينسجم البتّة وطبيعتها الإيمانيّة! تنجح الدّولة أو لا تنجح في وضع الأمور في نصابها، هذا يبدو مثار جدل وتصلّب لدى الكثيرين! ليس في الأفق، بكلّ أسف، ما يشير إلى أنّ الأمور آيلة إلى تقويم! لذا علينا، نحن الأرثوذكس، ولأسباب مبدئيّة، في نطاق السّلطة المخوّلة لنا، كطائفة أرثوذكسيّة، أن نفكِّر، جدِّيًّا، انسجامًا مع أنفسنا ككنيسة، بوضع الكادرات والأحكام الّتي تتيح لنا الإفساح في المجال لأبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، من الّذين لا يبالون بالالتزام الإيمانيّ الفعليّ بكنيستهم، لأن يتعاطوا الزّواج المدنيّ لدينا، احترامًا لنظرتهم المدنيّة لأمور الزّواج، من جهة، ورفعًا للمهانة والكفر عن الكنيسة، من جهة أخرى
يتبع
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
Comment