"الشعب السائر في الظلمة أبصر نُوراً عظيمـاً، والمقيمون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم النُور" (متّى 4/16، أش 9/1).
لقد تمّت هذه النبوءة في ميلاد السيّد المسيح، فإذا "بمجد الربّ يُشرق" حول الرعاة، ويظهر لعلماء الفلك نجم في مشارق السماء، ويقول سِمعان الشيخ في الطفل المولود: "نُور يتجلّى للأُمم".
لقد أتى النُور الإلهيّ إلى العالَم في ليلة الميلاد "والنُور يُشرق في الظلمات" (يو 1/5).
أنا نُور العالَم
ولمّا بدأ السيّد المسيح البشارة برسالته أعلن نَفْسه، قولاً وعملاً، أنّه "نُور العالَم" (يو 9/5).
"جئتُ أنا إلى العالَم نُوراً، فكلّ مَن آمَن بي لا يبقى في الظلام" (يو 12/46).
ومنذ يوم مولده على الأرض، وحتّى موته على الصليب، ظلّ النُور الإلهيّ الذي كان يحمله مختفياً وراء تجسّده.
إلاّ أنّ ثمّة مناسبات تجلّى فيها نُور المسيح في إشراقة خاصّة. فعلى جبل طابور "أشعّ وجهه كالشمس، وتلألأت ثيابه كالنُور" (متّى 17/2).
ويوم قيامته تغلّب النُور على الظلام، وغمر الضياء حالة المسيح، القائم من بين الأموات، الذي سيظهر لبولس في نُور ساطع على طريق دمشق (رُسُل 9/3، 22/6)، ويدعوه للمناداة بهذا النُور (رُسُل 13/47 ، 26/18-23).
نُور من نُور
يجتاز موضوع النُور صفحات الكتاب المقدَّس كلّها. وأوّل عمل قام به الخالق، هو الفصل بين النُور والظلام (تك 1/3). وفي ختام تاريخ الخلاص سيكون الله نَفْسه نُور الخليقة الجديدة (رؤ 21/23).
وقد قال يوحنّا الرسول: "إنّ الله نُور لا ظلامَ فيه" (1يو 1/5).
وعندما نتحدّث عن ولادة المسيح الأزليَّة نقول: "نُور من نُور"، أي إنّها ولادة روحانيَّة قبل الزمان. فالمسيح هو ابن الله، ليس بولادة جسديَّة، وإنّما بصورة مجازيَّة، كما يولد النُور من النُور من دون أن يفقد الأصل جوهره، ومن دون أن يختلف النُور الجديد في طبيعة الأصل.
وكما يلد النُور ضياء، كذلك كان المسيح ضياء الله الآب.
والنُور الذي أشعّ به وجه المسيح هو، في الواقـع، نُور مجد الله ذاتـه (راجع 2قور 4/6). فبصفته ابن الله "هو شعاع مجده" (عب 1/3). وعلى هذا النحو، فإنّه، من خلال المسيح - النُور، يظهر شيء ما من الجوهر الإلهيّ.
يتحدّث ابن العربيّ، من دون قصد، عن طبيعة السيّد المسيح في وصفه الإنسان الكامل فيقول: "إنّ الإنسان الكامل هو الذي يجمع في ذاته، على نحو تامّ، وفي توافق، السماء والأرض، ضمن علاقة إدراك لوحدة الوجود. فهو، في وقت واحد، العين التي يرى فيها الشخص الإلهيّ ذاته، والمرآة الصافية التي تعكس بإتقان النُور الإلهيّ".
هذا المنطق الصوفيّ تعبير رائع عمّا يؤمن به المسيحيّون، كما ورد في العهد الجديد: إنّ يسوع المسيح "هو صورة الله الذي لا يُرى... فقد حَسُنَ لدى الله أن يَحِلّ به الكمال كلُّه" (قول 1/15-19).
وإنّنا ننشد في صلاة الفجر، بحسب الطقس الأرمنيّ:
"يا نُوراً من نُور، يا ضياء الحقّ،
يا مولوداً من الآب بفائق الإدراك
قبل الشمس نمجّد اسمك مع الآب
عند انبلاج نُور الصباح، أشرِقْ في نفوسنا نُورَك الكلّيّ الإدراك".
نحن أبناء النُور
لم يكتفِ المسيح بإعلان نَفْسه نُوراً وحسب، وإنّما دعا الناس للسير في نُوره "مَن يتبعْني لا يمشِ في الظلام، بل يكون له نُورُ الحياة" (يو 8/12).
وجاءت تعاليمه لتُبرز بوضوح ما بين الظلمات والنُور من تناقض، وذلك لا في نظرة عقائديَّة فلسفيَّة، بل على المستوى الأخلاقيّ.
ويجد الإنسان نَفْسه محصوراً بين الاثنين: الظلمة والنُور، ولا مفرَّ له من الاختيار، بحيث يصير، إمّا "ابناً للظلمة"، وإمّا "ابناً للنُور".
"فكلّ مَن يعملُ السيّئات يُبغض النُور، فلا يُقبِل إلى النُور لئلاّ تُفضحَ أعمالُه. وأمّا الذي يعمل للحقّ، فيُقبل إلى النُور لتُظهَرَ أعمالُه وقد صُنعتْ في الله" (يو 3/20).
أيّها الأبناء الأحبّاء،
هل أنتم أبناء الظلمة، أم أنتم أبناء النُور؟
إن أردتم معرفة موقعكم فانظروا إلى موقفكم!
إذا كانت أعمالكم سيّئة فأنتم في ظلام،
وإذا كانت أعمالكم صالحة فأنتم في نُور!
وليس للمسيحيّ حقٌّ في أن يكون في ظلام.
فيوم نلنا المعموديَّة أضاء لنا المسيح (أف 5/14)، وانتعشنا بنُوره (عب 6/4)
فانقشع عنّا الظلام، وأصبحنا في نُور الربّ (أف 5/8).
ويقول القدِّيس يُسطينُس: "الغسل بماء المعموديَّة يسمّى أيضاً استنارة، لأنّ الذين يتلقّونه يستنير به ذهنهم".
وهذا ما يحمّلنا مسؤوليَّة خاصّة في سلوكنا: أن نسير "سيرة أبناء النُور" (أف 5/8، 1تس 5/5).
ألم يوصِنا السيّد المسيح بذلك يوم قال:
"النُور باقٍ معكم وقتاً قليلاً فامشوا ما دام لكم النُور، لئلاّ يُدركَكُمُ الظلام.
لأنّ الذي يمشي في الظلام لا يدري إلى أين يسير. آمنوا بالنُور، ما دام لكم النُور لتصيروا أبناءَ النُور"
(يو 12/35-36)؟
الأهمّيَّة القصوى أن يسهر الإنسان لكي لا يغشى الظلامُ نُورَه الباطنيّ. وعليه أن يسهر أيضاً على عينه، مصباح جسده، كما يقول الربّ يسوع: "سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك سليمة، كان جسدك كلُّه نيّراً، وإن كانت عينك مريضة، كان جسدك كلُّه مظلماً. فإذا كان النُور الذي فيك ظلاماً، فيا لَه من ظلام!" (متّى 6/22-26).
وكثيراً ما يكرّر لنا القدِّيس بولس هذه التوصية في رسائله:
"فلنخلعْ أعمال الظلام ولنلبَس سلاح النُور.
لنسرْ سيرة كريمة كما نسير في وَضَحِ النهار، لا قصفٌ ولا سُكْر، ولا فاحشةٌ ولا فجور، ولا خصامٌ ولا حَسَد" (روم 13/12-13).
ويُضيف يوحنّا الرسول أنّه علينا أن نسير في النُور لنكون في رضى الله الذي هو نُور. "فإذا قلنا: "لنا مشاركة معه" ونحن نسير في الظلام كنّا كاذبين ولم نعمل للحقّ" (1يو 1/6).
وإذا سألنا أنفسنا: ما يميّز السائرَ في الظلام عن السائر في النُور؟
يأتينا الجواب على لسان يوحنّا الرسول مُشيراً إلى المعيار وهو المحبّة الأخويَّة:
"مَن أحبّ أخاه أقام في النُور..
أمّا مَن أبغض أخاه فهو في الظلام..
ومَن قال إنّه في النُور وهو يبغض أخاه لم يزل في الظلام إلى الآن" (راجع 1يو 2/7-11).
أرأيتم إلى هذا المعيار الذي يحدّد وجودنا في النُور من خلال تعاملنا مع الآخَرين؟
أنتم نُور العالَم
لم يدعُنا السيّد المسيح لنمضي في موكب النُور وحسب، بل دعانا أيضاً لكي نكون، بدَورنا، "نُوراً للعالَم".
"هكذا فليضىء نُوركم للناس، ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجّدوا أباكم الذي في السموات" (متّى 5/14-16).
هذه هي الرسالة المُلقاة على عاتق كلّ واحد منّا، في أيّ موقع وُجد وفي أيّ ظرف عاش.
علينا أن نُشعّ بين الناس النُور الإلهيّ الذي اؤتمنّا عليه، بالعمل الصالح والكلام الطاهر.
علينا أن نعيش ليومنا وكأنّنا نعيش أبداً، وأن نعيش لآخِرتنا وكأنّنا نموت غداً.
لذلك، فإنّ آخِر ما يترجّاه المؤمن بعد هذه الحياة الفانية أن ينعم بالنُور السماويّ حيث "الصدّيقون يُشعّون حينئذٍ كالشمس في ملكوت أبيهم" (متّى 13/43) فنردّد في ابتهالاتنا: "بنُورك نُعاين النُور".
إنّ الله سينشر حينذاك على المختارين نُوره، في حين أنّهم يشاهدون وجهه (راجع رؤ 22/4-5).
ذلك هو رجاء أبناء النُور، وتلك أيضاً الصلاة التي ترفعها الكنيسة من أجل الذين فارقوا الأرض: "أعطهم، يا ربّ، الراحة الدائمة ونُورك الأبديّ فليضئ لهم".
الإنجيل هُدىً ونُور
ما أروع كلمات الشاعر المعبِّرة عن لحظات ميلاد السيّد المسيح النُورانيَّة:
وسرتْ آيةُ المسيح كما يسـ |
ري من الفجر في الوجود الضياءُ |
|
تملأ الأرضَ والعوالمَ نُوراً |
فالثرى مائجٌ بَهاً وضّاءُ |
|
لا وعيدٌ، لا صولةٌ، لا انتقامٌ |
لا حُسامٌ، لا غزوةٌ، لا دماءُ! |
أجل، إنّه النُور الحقيقيّ الذي يُنير كلّ إنسان آتٍ إلى العالَم (1يو 4 و9). ولكنّ المأساة أنّ الناس فضّلوا الظلام على النُور! ولا تزال هذه المأساة مستمرّة. فالناس، أفراداً وشعوباً، اليوم كما في الأمس، يفضّلون الظلمة على النُور لأنّ أعمالهم شرّيرة (يو 3/19).
في عالَم يسوده الحقد، والإرهاب، والخوف، وتتحكّم فيه مطامع الدول القويَّة ومصالح المجتمَعات الغنيَّة، وتتفشّى فيه الأمراض المستعصية والأخلاق المتردِّية والمبادئ الفاسدة.. نحن في حاجة إلى نُور المسيح ليَهدينا إلى سبيل الخير والحّق. في إنجيله هُدىً ونُور لكلّ مَن أراد أن يستنير.
خاتمة ودعاء
إليكم بعض ما حمله البيان الذي أصدره بطاركة الشرق الكاثوليك، في ختام مؤتمرهم الثالث عشر، الذي عُقد الشهر الجاري (كانون الأول 2003) في القاهرة:
"حَمَل الآباء البطاركة في صلاتهم وتفكيرهم هموم شعوبهم وآلامها وآمالها، وتدارسوا أوضاع بلدانهم الراهنة، وما تعاني من أزَمات سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وأمنيَّة(..)
لتعلمِ الدول التي تنادي بالديمُقراطيَّة أنّه لا يمكن أن تُفرض الديمُقراطيَّة بالقوّة والقيود، ولا يمكن أن تُفرض على أيّ بلد من بلداننا لتصبح نُسخة عن أيّ نظام غريب عن تراثنا، بل لنا خصوصيّاتنا وتقاليدنا التي تتأسّس عليها حرّيّتنا. إنّ الطريق إلى السلام بين الشعوب يمرّ عبر احترام حقوقها. ونحن نؤمن بحوار الحضارات، وليس بالصراع في ما بينها. ونؤمن بأنّ الديانات هي مصدر التعايش والمحبّة(...)
إنّ الآباء البطاركة، إذ يهنّئون أبناءهم وإخوانهم بميلاد الربّ يسوع (...) يتمنّون لهم فَيض النِعم والخيرات من "الشارق من العُلى" (لو 1/78").
وإنّه لَمن دواعي الاعتزاز أن تكون سورية في طليعة الدول التي أصدرت هذا العام، في الذكرى الخامسة والعشرين لتنصيب قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، طابعاً بريديّاً يمثّل وجهه السمح على خلفيَّة توثيقيَّة يظهر فيها الجامع الأمويّ وتتألّق حوله الكنائس الدمشقيَّة وهي، كلّها، أوابد زارها قداسته خلال إقامته في سورية في العام 2001.
ويطيب لنا هنا أن نذكر الصرخة التي أطلقها قداسته من نافذة مكتبه في حاضرة الفاتيكان، ودوّى صداها في أرجاء ساحة القدِّيس بطرس، على مسمع من آلاف المؤمنين المحتشدين مستنكراً، يومذاك، معاناة الشعب الفلسطينيّ وسائر الشعوب المقهورة: "لا نريد أسواراً، بل نريد جسوراً"!
ما أجمله نداء!
نريد جسوراً تربط بين الشعوب والدول،
نريد جسوراً تربط بين الكنائس والأديان،
نريد جسوراً تربط بين الأفراد والمجتمَعات،
نريد جسوراً تربط بين الأولاد والعائلات،
نريد جسوراً تربط بين الأرض والسماء.
حينئذٍ، يُشرق النُور ويولد السلام.
أطلَّ علينا، يا ربّ، بنُورك وارفعْ عنّا غشاوة الظلام.
واجعلنا لدرب الخير سالكين، لا إلى درك المعاصي هابطين.
وازرعْ في قلوبنا محبّتك فتُشعَّ محبّةً نحو الناس أجمعين.
وسدّدْ خطانا لنسير سيرة أبناء النُور،
وننعم بضياء مجدك، في ملكوتك السماويّ، آمين.