حديث عن سبت الأموات الواقع قبل أحد العنصرة
اليوم سبت الأموات والحديث عن الموت مصير، ويهمنا أن نعرف شيئاً لماذا هو سبت الأموات؟ وبالتالي ماذا يمكننا أن نتحدث؟ نتحدث عن الموضوع الذي هو مجهول كلياً ومهما تكلمنا سيبقى مجهول بالنسبة لنا، ولكن سنأخذ من معطيات الكتاب المقدس، وبعض المفاهيم التي يسعفها إيماننا، حتى يجعلها تتجاوز حدود المفهوم، وننطلق بمعرفتها بما نحمله من إيمان لنتجه نحو العالم الآخر، حيث مكان سكنانا ومسكن كل البشرية في ذلك المكان المجهول.
إن سبت الأموات هذا هو تتمة لسبت الأموات السابق، الذي يقع كل سنة يوم السبت قبل أحد مرفع اللحم، واسمه سبت الدينونة، لأن به نهيء أنفسنا ليوم الأحد الذي فيه نقرأ إنجيل الدينونة: "كنت جائعاً فأطعمتموني..." الله سيديننا حسب هذا التعليم ليسوع المسيح فبقدر ما نكون محبين ومعاملين ومعطائين لبعضنا البعض، وخاصة لمن هو محتاج لعون مادي ومعنوي يجب أن تقف معه، بهذا القدر نكون محظيين بالعون الإلهي والسكنى في عالم الملكوت.
لهذا السبب وُضع السبت السابق ليوم أحد الدينونة، حسب ما هو مذكور في كتاب (تعاليم الرسل)، الذي يؤكد على هذه الصلاة وخاصةً أننا نذكر فيه أمواتنا. ولكن المسيحي يتجاوز نطاق عائلته وأقاربه...المسيحي يتعاطف مع كل إنسان في الكون، فكم بالحري إذا كان هذا الآخر هو مؤمن. ومن جهة أخرى تقع أحداث لا يتاح فيها أن يصلى على أموات بسبب غريق أو حريق أو اضطهادات... فكان الحس عند الآباء القديسين تستوجب الصلاة لهم. فذكرانا لهم كل سبت وبصورة خاصة في يومي سبت الأموات: الأول في سبت مرفع اللحم والثاني في سبت ما قبل العنصرة، يجعل حياة الإيمان والحب والتقدير لمثل هؤلاء مرتبط بصميم حياتنا.
في سبت ما قبل مرفع اللحم يبدأ الصوم الأربعيني المقدس بشكل استعداد روحي بدءاً من أحد الفريسي والعشار الذي به نتهيأ لكي نكون مثل العشار متواضعين، وبعيدين عن ألا يقبلنا الله. وبكلمة واحدة أن لا نكون متكبرين. هذه هي التهيئة. ثم يأتي مرفع اللحم وبه نحدد ماذا يجب أن لا نأكل. وفي أحد مرفع الجبن يبدأ الصوم الرسمي. إذاً هناك أسبوع تهيئة به يبدأ سبت الأموات، وكأننا أمام تهيئة لتغير نختبره بالتوبة من أجل أن نولد من جديد، من أجل أن يكون لنا تكوين بالمسيح عن طريق ارتباطنا الكنسي. بالصوم، ارتباطاً مغيِّراً؛ وهذا التغير له علاقة دائمة بمفهوم الموت. الموت هو تغير ونحن ندخل بالتغير بصورة أخرى مع بداية الصوم. إذاً هناك تغير منظور أثناء الموت، وغير منظور أثناء الصوم. من هنا ندرك أن الصوم بعيد كل البعد عن أحاديث الناس، ماذا نأكل؟ وماذا يجب أن لا نأكل؟ متناسين أن هناك شيء أكثر أهمية، وهو كيف نصلي؟ وكيف نرتبط بالله؟ وببعضنا؟ ثم يأتي الطعام ليكون ملحق ضعيف جداً أمام ما يجب أن نتقوى. فتقوينا بالمفهوم الأول هو تغير أنفسنا وحياتنا لكي نرتبط بالله وبالإنسان، وتصير أشخاصنا كأنها مرئية بصورة جديدة. وإن كان الشخص ذاته يظهر على ما هو عليه.
بالنسبة للعنصرة أيضاً نحن مُقبِلون على ولادة جديدة، لأن روح الله بكامله سيحل بنا لكي ننطلق بغياب المسيح على أن نكون شهود للمسيح بالروح القدس الذي سينزل علينا ونناله، وبه سنتابع تغيرنا ورسالتنا. إذاً هنا تغير مهم جداً، لذلك وضع آباؤنا القديسون هذين السبتين المميزين نقيم فيها صلاة من أجل الموتى.
يستعمل الكتاب المقدس أحياناً كلمة الموتى بمعنى الانتقال فإذاً نحن أمام واقع جديد، يسكن في مكان جديد، له أنظمته الجديدة، وقوانينه وعلاقاته الجديدة، بهذا المفهوم نتهيأ أن نكشفه فنعرف أن لنا حياة أخرى. وعندما نتلمس هذه الحياة الأخرى يزول الخوف كلياً من حياتنا أمام حدث الموت الرهيب. الموت، مهما حاولنا أن نلطف من واقع هذه الكلمة، فهو حدث مخيف. فغياب حياة إنسان دائماً تصعقنا وتجعل من عواطفنا جياشة لكي نعبر بصورة عشوائية ما لا نريده. ولكن دائماً المعرفة تجعل من أي حدث أقل هولاً من عدم معرفتنا له، لهذا السبب يقول بولس الرسول في رسالته الأكثر شهرة عن الموت: "لا تحزنوا كباقي الناس الذين لا رجاء لهم" (1تس4: 13) هو لا يقول لا تحزنوا ويقف، بل يقول لا تحزنوا كباقي الناس الذين لا رجاء لهم، أي تستطيعوا أن تحزنوا ولكن بطريقة ممتلئة رجاء. الآباء القديسون عبروا بأن المائت نحزن عليه بطريقة فيها نوع من التعزية التي فيها حزن لكن برجاء. وإذا كان المائت مؤمن، وكلمة مؤمن تعني قديس بلغة الكتاب المقدس وليس مثل ما نعتقد بأن القديس فقط هو المطوَّب! المؤمن هو القديس، فنحمل الفرح لأن هذا الإنسان انتقل بالإيمان. لهذا السبب يُكتب في ورقة النعوة "فلان متمم واجباته الدينية" أي أنه اعترف وتناول، ولكن هذا ليس صحيحاً دائماً، لكن هذه العبارة تعزينا بأنه تمم واجباته الدينية ووصل إلى ذروة الإيمان وحقق القداسة. الآن عندما تكون نظرتنا لهذا الراحل أنه بالفعل هكذا، عندها يجب أن نودعه بفرح ورجاء، عكس ما يفعل بعض الناس الذين تضطرب قلوبهم، ويتصرفون تصرفات تدل على ضعفهم إيمانياً ومنطقياً، فيجدفون أحياناً على الله.
فالمؤمن بانتقاله هو إنسان فرح ونحن فرحون مع فرحه لأنه سيقابل ربه وهو راضٍ عن هذه النقلة.
بصورة عامة هذه المقدمة كافية لنضع أنفسنا أمام أزمة الموت من خلال ما يقدمه لنا الكتاب المقدس، لن أدخل بموضوع الموت وكل تفاصيله لأننا نتكلم عن سبت الأموات،
أهم ما يلفت نظرنا بالنسبة لموضوع الموت أنه مرتبط دائماً بحدث عن أحداث يسوع المسيح الرئيسية العقائدية ألا وهو المجيء الثاني للسيد المسيح. لماذا؟ لأن الحديث عن الموت مرتبط بما بعد، أي بالمجهول. البشرية بكاملها بشرت بالمجيء الأول للسيد المسيح ونحن كلنا مدعوون لنعيش الرسالة التي سلمنا إياها والتي مضمونها أشياء كثيرة تشير إلى بحيث أنه لا يوجد موت، أي تصحيح لخطيئة آدم في الفردوس، آدم كان خالداً لا يموت وكذا حواء. لكن بسبب الخطيئة التي ارتُكبت ضد الله، نالا الموت. إذا كان يسوع المسيح أتى ليصحح هذه الخطيئة، يجب أن لا يكون هناك موت ويبقى خلود. ولكن يسوع دخل إلى التاريخ وحافظ عليه بمجرياته، وصحح جوهره، فالموت بقي قائماً، وصار أكثر من ذلك، أن المسيح بذاته قد مات أيضاً لتعود الحياة الدائمة عن طريق قيامته المجيدة، هذه القيامة لها مدلول لأنه أخذ جسدنا ليقول لنا أنكم ستكونون أنتم أيضاً هكذا، من أجل أن يرينا بأن أجسادنا ستقوم أيضاً. نحن في المجتمع نسمع أن أرواحنا ستذهب إلى الله، وأجسادنا فانية اعتماداً على جملة هي "من التراب وإلى التراب نعود". هذه تستعمل لكن لمرحلة ما قبل المجيء الثاني للسيد أما عند المجيء الثاني للمسيح فستقوم أجساد الموتى ونكون نحن الأحياء حاضرين معهم، لأن أجسادهم تعود إليهم بصورتها الجديدة، فكما يقول بولس الرسول أن الموت الشامل سيكون للكل بشكل اختطاف في الجو. ويحدث أمر هام جداً هو التغير بالطبيعة البشرية, فالجسد القائم بعد الموت هو جسد نقدر أن نتلمس صفاته، وإن كنا نجهل الكثير عنه. لكن من خلال ما عرفناه عن جسد المسيح بالرغم أنه يحمل طبيعة مادية ولكن بصفة نورانية هكذا أيضاً نستطيع أن نتلمس أن أجسادنا ستحمل طبيعة مادية ولكن نورانية. بالعلم نستطيع أن نقرب هذا الأمر، فبالأشعة نستطيع أن نخترق الإسمنت المسلح ونخترق أي شيء مادي فبالعلم نستطيع معرفة مالا يعرف، وما لا يعرف كان مقبولاً بالإيمان. واليوم مع الإيمان صار العلم شاهداً لمضمون الوحي الإلهي الذي أُعلن لنا. إذاً، موضوع أن الإنسان بالمجيء الثاني سيتم إنهاء العالم. و هذا أيضاً يقوله العلم أنه سيأتي وقت تنتهي الحياة على الأرض بحسب اللغة العلمية. ومن هنا تجدنا نؤمن بأهمية العلم في حياتنا. وهذا ما أكد عليه الكتاب المقدس بأن سيكون هناك نهاية للحياة على الأرض. ربما يدخل العلم في تفصل النهاية، لكن الكتاب المقدس لا يدخل بهذه التفاصيل لكن يدخل في نتائج هذه النهاية، ويعطينا المعلومة التالية، وهي أنه سيتكون بمعنى سيتشخصن هذا الإنسان الذي سيكون حاملاً مع نفسه المائتة جسده الذي انحل، وسيتركب من جديد بصورة جديدة، وسيحيا حياة جديدة، هذه الحياة الجديدة لها مكانة عند الله. وهنا ممكن أن يبرز سؤال بالإيمان نقول فيه هذه معجزة ونحن نؤمن بها, فإذا كان يسوع مات و قام وهذه معجزة بسيطة، ولكن نعرف أيضاً أن يسوع أقام موتى، إذاً يقدر أن يقيم كل البشرية, إذاً بالإيمان نستطيع أن ندرك ذلك. فالذي يصدِّق أن يسوع أقام لعازر، يصدِّق أن يسوع سينهض البشرية برمتها بحسب سر قيامته المجيدة، وذلك في يوم المجيء الثاني .
إذاً كل شيء فينا سيحمل هذا التغير الذي يشكل شخصنا الجديد بدءاً من المجيء الثاني، وهذا الأمر نؤمن به برجاء كبير, وكلمة رجاء تستعمل أصلاَ في اللغة الأدبية بكلمة (أمل), فأنا أرجو لحياتي أن تتحقق لي كل مواعيد الله ويستمر رجائي، وتستمر ثقتي الإيمانية بأن الله سيحقق كل هذا, فأنا إذاً أحمل مصداقية هذا الرجاء.
الجواب صعب من ناحية الدقة, ولكننا نستعين بمثل الغني ولعازر, حيث كانوا بنفس الأجساد، ولكن ليس بنفس الحالة, كانوا موجودين ويروا بعضهم ولكن كان يوجد بينهم هوة كبيرة. هذا دليل أن القضية قضية حالة وليست مكان ( جنة أو نار) فالحالة في قولي مثلاً: أنا أشعر بالإيمان الذي انتقلت فيه, إنني ساكن في عشرة الله و هذا ما عبرنا عنه بكلمة المجد, المجد الإلهي الذي أناله، وإنجيل يوحنا الإصحاح (17-18) يتكلمان عن كم نحن محظيين بهذا المجد الإلهي, إذاَ بقدر ما نكون أُهلنا لنكون ممجدين وبقدر ما يُمكِّننا إيماننا أن نسبِّح ونمجد الله. بهذا القدر نحن بالحالة السليمة والصحيحة التي نعيش فيها هذا السلام والفرح. أي أننا اكتسبنا شخصية جديدة لنحياها، هذه الشخصية الجديدة هي التي يُرى فيها الإنسان بحقيقته. وبقدر ما نحن خاسرين كل تلك المعطيات من سلام وفرح بقدر ما نرى هذا الجمود في أشخاصنا، بالرغم من أننا حاملين نفس المكونات أي نفس الجسد فالتغير الذي طرأ على الشريحة الأولى لم تنلهه الشريحة الثانية.
زيارتنا وصلاتنا للموتى فيها إحساس بالتعاطف وإحساس بأن الإيمان يدفعني لكي أتذكر وأصلي. وربنا يقول لنا صلوا دون تحديد لمن ولماذا, نحن نطيع الكلمة الإلهية ونصلي, ربنا يقبل ونحن يجب أن نقوم بواجبنا. إضافة لما سبق فهذه الصلاة تنفع الذي يصلي فعندما يحمل محبة بصلاته إلى الرب من أجل شخص ما, بإيمان ومحبة كبيرين فإن ربنا بسر تدبيره . إذاً صلاتنا ليست هي أخذ مقابل عطاء, ولا بيع وشراء، كلا، هي ثقة مطلقة بالله، إن ما يعمله وسيعمله هو لخير الإنسان.
يقول بولس الرسول: أن هناك ثلاث فضائل أساسية (إيمان, ورجاء، ومحبة), وأن فضيلة الإيمان ستتوقف لأننا سنرى الله وجهاً لوجه. وأيضاً الرجاء سيتوقف لأننا ماذا سنرجو؟ لقد وصلنا إلى معاينة الله, تبقى فقط فضيلة المحبة وهي التي تستمر ولا يوجد نمو للقامة الروحية إلا بقدر ما المحبة بذاتها تنميّ أي نحن في حالة حركة حب، إذاً لا يوجد تنمية للقامة لا بالجسد ولا بالتنمية الروحية إنما فقط بديناميكية المحبة التي تنوب عن الفضيلتين الباقيتين .
الله أعطى آدم وحواء كل الكمال الذي يجعل كل منهما قديس القديسين. ولكن أعطاهما الحرية ليكون لهما قدرة الاختيار، بعكس الحيوان الذي ليس له هذه القدرة ويعيش بالغريزة. أي بمقومات الحياة، كالنحل والنمل المنظم تنظيم رائع ولكن ليس لهم فضل لأنهم يسيرون ضمن نظام طبيعي ليس فيه روح .
الإنسان أُعطي كل البعد الروحي ليكون إله بالنعمة وليس بالجوهر، وأيضاً أعطي الحرية ليرفض أو يقبل. بالعصيان رفض الإنسان وشكك بالله، وقرر بأن يكون له خط ثان موازٍ لخط الله ليكتسب عظمة لوجوده وحريته التي هي أعظم عطاء لنا من الله وهي سبب تهلكتنا لكن بدونها ليس لنا قيمة ولا نستطيع أن نعرف ما هو مجد أو نعيم، ولا نعرف كيف نستطيع أن نعيش بحب أبدي في عالم الألوهة.
كل ذلك وليد الحرية. إذاً ثمن الحرية غالي، فممكن نخسر حياتنا بسببه، ولكن كل إنسان مسؤول عن فعله وقراراته. فالإنسان مدعو من الله أن ينتقل من مجد إلى مجد. أي أنه يتحول بالمجد ليصير هذا الشخص الجديد. كمثل حالة بولس الرسول عندما وصل إلى السماء الثالثة فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا تسمع به أذن. إذاً هناك نرى الأمور الإلهية "وجهاً لوجه بدون مرآة بدون لغز" وهذا ما سماه بعض الآباء التنمية، ولكن ليس بالمعنى التربوي أو اللاهوتي للكلمة بل بالمعنى الجذري للتغير الذي يحصل للإنسان من حالة إلى حالة، أي أنه وصل إلى ذروة التأله.
Comment