وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ فَوَلَدَتِ ابْناً:
هذا الزمان الّذي يتكلّم لوقا عنه هو ليس فقط أشهر حمل التسعة، بل هي حياة أليصابات بأسرها، فقد بقيت تنتظر حتى فقدت الأمل. زمان أليصابات هو مخطّط الله لها. فحين تمّ زمانها ولدت يوحنّا، لم يكن دورها أن تقرّر متى يأتي ابنها الى الوجود، بل هو الله الّذي يعرف ما هو الأنسب والأحسن لنا. لقدّ تمّ زمان أليصابات، وتمام زمنها هو إعلان لتمام الأزمنة كلّها، هو مقدّمة تمهيديّة لحلول ملء الزمن، أي مجئ المسيح. لقد بدأ يوحنّا إعلان وصول المخلّص منذ الحشا عندما ارتكض في حشا أمّه فرحاً لوصول المخلّص في بطن مريم، والآن بولادته يعلن اقتراب ولادة المخلّص. على ضفة الأردن سوف يعلن عن وصول حمل الله الّذي يحمل خطيئة العالم، وبموته سوف يعلن مسبقاً عن موت المسيح فداءاً لشعبه.
بولادة يوحنّا المعمدان تحقّق الوعد لإليصابات، هي التي انتظرت سنوات طويلة حتى فقدت الأمل وخضعت لحقيقتها القاسية، حقيقة عقم مرير يتخطّى مجرّد الإنجاب لينعكس على معنى حياتها وغاية وجودها. إنجاب ولد في إسرائيل القديمة يتخطّى منطق الإستمراريّة العائلية، ويرتبط مباشرة بالبركة الإلهيّة. كان كلّ شعب إسرائيل ينتظر المسيح، وكلّ مولود جديد قد يكون المسيح المنتظر. عدم إعطاء الولد كان يعني أن الرّب قد فصل العاقر عن إنتظارات الشعب، فهي لن تعطي إسرائيل الخلاص. لذلك كانت العاقر محتقرة، فالرّب قد أقصاها عن رحمته.
إنّما الألم الأكبر كان في نطرة العاقر لنفسها، إن احتقار الآخرين لها كان أسهل من نظرتها لنفسها، تظن نفسها غير محصاة في مخطّط الله الخلاصيّ، مهمّشة محتقرة من الله، من المجتمع، من زوجها وإن لم يقلها صراحة، وخاصّة من ذاتها.
إن ولادة يوحنّا هي إعادة اعتبار لقيمة أليصابات ولدورها في مخطّط الله الخلاصي، هي إعلان لها ولمجتمعها أن لا أحد مستثنى من مخطط الله وأن الخلاص هو للجميع.
هي رسالة رجاء لإليصابات وزكريّا، ولنا كلّنا، فالله يتدخّل ويعمل في حياتنا، حتى عندما نفقد الأمل ونخضع لواقعنا، فالله لا يخضع لبرامجنا، وهو القادر على كلّ شيء.
وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ الرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا فَفَرِحُوا مَعَهَا:
إنّهم الجيران والأقرباء نفسهم الّذين نظروا الى اليصابات نظرة الإحتقار أو الفوقيّة، أو ربّما الشفقة، هم الّذين ظنوّا أنّ لا مستقبل لها في تاريخ إسرائيل، هم الآن يأتون بعد أن سمعوا بولادة يوحنّا. ألم يسمعوا بحبل أليصابات أوّلاً؟ هل أخفت الأمر عنهم؟ لماذا كانت مريم وحدها قرب النسيبة العجوز؟ هل لأنّهم لم يصدّقوا أن هذا يمكن أن يحصل لمن اعتبروها دوماً عاقراً دون أي نفع؟ إنّهم الجيران والأقرباء يظهرون الآن فقط، يعودون الى عجوز كانت دون نفع، لا قيمة لها، فقدت شبابها ومع شبابها فقدت قيمتها. إنّهم صورة لمن يختصر قيمة الإنسان فقط في شكله الخارجي، في جماله العابر، في قدرته الجسديّة أو في اكتمال صحّته، إنّهم عيّنة من مجتمع مريض، يعجز عن رؤية جمال الله في وجه العجوز، يتحاشى عن النظر الى تجاعيد وجهه، لأنّه بدلاّ من رؤية غنى الإختبار الطويل والحكمة المكتسبة من أفراح وأحزان، من آلام وتضحيات، يرون فقط اقتراب الموت والعودة الى التراب. وجود مريم الشّابة قرب الأمّ العجوز هي شهادة لقيمة الحياة ولكرامة العجوز، هو إعلان لقدرة الله على العمل في حياتنا منذ لحظة تكوّنها حتى لحظة انتقالها الى بيت الآب.
إن عودة الأقارب والجيران الى بيت أليصابات كان "لكي يفرحوا معها". إن الرّب يتدّخل ليس فقط في حياة الأم الخاصّة، بل الى حياتها الأجتماعيّة أيضاً: لقد لمس الله جرح العجوز الوالدة فشفاها، ولمس قلب أقاربها وجيرانها، فأعادهم الى العلاقة الطبيعيّة معها، لا علاقة الشفقة والفوقيّة، بل علاقة المشاركة في فرح الآخرين.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. فَقَالَتْ أُمُّهُ: «لاَ بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا». فَقَالُوا لَهَا: «لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهَذَا الاِسْمِ».
إن ختانة الطفل قد تمّت تماماً بحسب ما يقتضيه ناموس موسى، في اليوم الثامن كما نجد في تك 17، 11-12؛ لا 12، 3؛ هو يوم دخول يوحنّا في عداد شعب الله وفي بالتالي صار من الواجب عليه أن يعيش بحسب ناموس الله وعهده. لقد كان من عادات اليهود إعطاء الإسم في يوم الختان، وكان الإسم يحمل هويّة الطفل المستقبليّة.
من المثير للإستغراب أن يسارع الأقارب والجيران الى إعطاء إسم للمولود، هم الّذين على ما يبدو لم يكونوا على علم بحبل أليصابات، بل نجدهم يظهرون للمرّة الأولى يوم مولد يوحنّا، وها هم الآن يسرعون ليأخذوا مكان الوالدين.
إن هذه الإشارة الى تدخّل الآخرين ينطوي على رسالة يريد لوقا إيصالها، رسالة تتخطى مجرّد الحشريّة أو تدخّل الآخرين في ما لا يعنيهم. إن الأقارب والجيران هنا يمثّلون الجماعة التي لم تدخل في منطق مخطّط الله الخلاصيّ: يريدون من يوحنّا أن يبقى كاستمراريّة لزكريّا، أن يشكّل جزءاً من ماضي شعب الله، أن ينغلق على تاريخ والده، أن يصبح ربّما كاهناً مثله بما أنّه من سبط لاوي. أراد المجتمع أن يطبع يوحنا بطابعه الخاص، ونسي أن ليوحنّا قصّته الخاصّة. زكريّا يعني "الله تذكّر"، ويوحنّا "الله تحنّن"، لقد تذكّر الله زكريّا برأفته وأرسل يوحنّا السابق من نسله ليعلن مجئ المسيح، ولكن إرادة الله لم تكن أن يبقى يوحنّا مغلقاً في قصّة زكريّا، بل أراده أن يكون علامة لرحمة الله لشعبه.
كم من المرّات نطبع أولادنا وأبناء مجتمعنا بطابعنا الخاص، نفرض عليهم مخّططنا، نريدهم أن يصبحوا كما نريد، وننسى أن لكلٍّ منهم قصّته مع الرّب، وأن الله هو السّيد الوحيد على حياتهم، وهو الّذي يشركهم في مخطّطه بالطريقة التي يراها حسنة.
أمّا أليصابات فسارت عكس التيّار: "ما من أحد في عشيرتك يدعى بهذا الإسم" قالوا لها. "إن كنت لا تريدين إعطاء الولد اسمَ أبيه، فسمّه باسم واحد من عشيرتك". فاليصابات تنتمي الى واحدة من أرفع أسباط إسرائيل كرامة: إنّه سبط لاوي، عشيرة الكهنة خدّام الهيكل، ومنها خرج العديد من أبطال إسرائيل وقوّادها، فلماذا لا يحمل يوحنّا اسم واحد منهم. إن لم يكن ممكناّ أن يكون يوحنّا استمراريّة لأبيه، فليكن على الأقلّ استمراريّة لشعبه، لمحيطه، ليكن نسخة عن آخرين دون هويّة خاصّة ودون دعوة تميّزه.
لقد علمت اليصابات أن الرّب يدعو ابنها الى المشاركة في مخطّط يتخطّى جبال اليهوديّة ووظيفة زكريّا أبيه، هو معدّ ليكون بأسره لله، مثل اسحق الّذي وُلد لسارة العجوز، مثل صموئيل الّذي وُلد لحنّة العاقر، لذلك فضّلت أن تقدّم إرادة الله على مخطّطها الخاص لإبنها، لأنّها علمت أن ابنها هو عطيّة الله، وأن الله يحضّر له الأفضل.
كم من المرّات نحن نقرّر مستقبل أولادنا، نريدهم أن يكونوا نسخة عنّا، أو أن يحقّقوا أحلامنا الخاصّة، ننسى أن اولادنا هم عطيّة الله، وهو الّذي يرسم مخطّطه الخلاصيّ في حياتهم. إن ثقتنا بالله يجب أن تنعكس ثقة باولادنا، فاحترامنا لدعوتهم، وثقتنا بقدرتهم على تحقيق أحلامهم، بمرافقتنا ودعمنا وصلاتنا، بالنصح لا بالفرض، بالحوار لا بالإكراه، هي إعلان للجميع أنّنا نؤمن بالله، وبحضوره في حياتنا وحياة أبنائنا وبمرافقته لنا.
ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى. فَطَلَبَ لَوْحاً وَكَتَبَ: «ﭐسْمُهُ يُوحَنَّا». فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ.
لقد التجأ الأقارب الى زكريّا كحلّ أخير ليبتّ بأمر الإسم، علّه هو أيضاً يسير في خطّتهم، يساعدهم في رسم مستقبل ابنه وهوّيته. إنّما زكريّا الّذي دخل في صمت الوجود بعد شكّه بقدرة الله على تغيير حياته وإعطاء وجوده معنى، لم يشأ أن يخالف وصيّة الله هذه المرّة، بل أطاع إرادة الله في حياته. بقبوله مخطّط الله وعمله في مستقبل يوحنا، إنتقل زكريّا من حالة الصمت الداخلي، لا صمت التأمّل والصلاة، صمت اللّقاء بالله في المخدع الداخليّ، بل صمت الموت والعدم، فرفضنا لإرادة الله تغلقنا على ذاتنا، على فراغنا، على عقمنا. لقد قبل الله في حياته فانطلق لسانه وبارك الله، تماماً كما انطلق لسان مريم بنشيد التمجيد حين قبلت إرادة الله في حياتها. لقد دخل زكريّا في منطق الله الخلاصي، وعلم إن ارادة الخالق هي محورية في حياته وفي مستقبل اسمه.
فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهَذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ الْيَهُودِيَّةِ فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: «أَتَرَى مَاذَا يَكُونُ هَذَا الصَّبِيُّ؟» وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ.
لا يجب أن نفهم أن سبب هذا الخوف هو انطلاق لسان زكريّا فقط، فلوقا يستعمل هذه العبارة ليصف ردّة فعل من لم يعرف المسيح في حياته إزاء تدخّل إلهيّ، فنجد هذه العبارة في أع 5، 15. 11؛ وفي لو 5، 26؛ 7، 16؛ 8، 37؛ أع 2، 43؛ 5،5.
إن هذا الخوف هو رعدة الحضور الإلهيّ، حين يلمس الإنسان عمل الله في حياته، حين يعلم أنّه ليس وحده في هذا الكون، ولا يمكنه أن يتّخذ قراراته ويقوم بخياراته بمعزل عن الله. هذا الخوف هو فعل يقظة، حين يعلم الإنسان أن خياراته لا بدّ أن تتمّ على ضوء إرادة الله في التاريخ وفي الإنسان.
إن خروج زكريّا من صمته قد أصبح أكثر من معجزة شفاء، صار علامة لكلّ سكان جبال اليهوديّة، لم يتكلّموا عنها فقط بل أودعوها قلوبهم. لقد نجح الله في كسر قساوة قلوبهم، دخل الى حياتهم وأودع فيها رسالته، رسالة لن يفهما الشعب الاّ في المستقبل، حين يخرج يوحنّا الى الصحراء ليعلن أن قد اقترب الملكوت، داعياً الى التوبة والعودة على الله الملك الأوحد، ويعلن أمام الجميع أن ها قد وصل يسوع، تتمّة النبوءات ومُنتَظر الشعوب، "حمل الله الّذي جاء يحمل خطيئة العالم".