صموئيل الثانى
الباب الأول
انتصارات داود النبى
فى السفر السابق ظهر داود النبى كرجل الله الحق ، الذى غلب وانتصر ، لا على الآخرين ، بل فى حياته الداخلية . لقد سقط شاول الملك مطارده بين يديه على الأقل مرتين ولم يقبل أن يمد يده على مسيح الرب . وعندما ثار على نابال الأحمق وعزم أن ينتقم لنفسه سمع لمشورة أبيجابل الحكيمة وباركها لأنها منعته عن الأنتقام لنفسه . الآن سقط شاول وبنيه فى الحرب ، فانكشف بالأكثر اتساع قلب داود بالحب الخالص . لقد نسى إساءات شاول واضطهاداته المستمرة ، كما لم ينشغل بنفسه بكونه مستحقا أن يتولى عرش المملكة ، إنما رثى شاول ويوناثان ، متذكرا الجوانب الطيبة فيهما ، فحسبهما حلوين . وكان يرثيهما بقلبه ودموعه كما بلسانه وشفتيه .
استحق صاحب هذا القلب الكبير أن يتمتع بنصرات مستمرة على الأمم المحيطة به والمقاومة حيث ثبتت مملكته ، لا ليتسلمها سليمان ابنه من بعده فحسب ، وإنما بالحرى ليأتى من نسله المسيا المخلص يملك إلى الأبد على قلوب مؤمنيه ، مقيما ملكوت الله داخلهم .
+ + +
الأصحاح الأول
داود يرثى شعبه
انتصر داود على عماليق ورد المسبيين وعاد يحمل الغنائم الوافرة ليوزع منها على شيوخ يهوذا ، ويجدد المساكن بعد حرق صقلغ ( 1 صم 30 ) ، أما قلبه فكان ملتهبا من جهة شعبه ، إذ يعلم كيف ضعف الجيش وفارق روح الرب شاول بينما اتسم جيش الفلسطينيين بالقوة والنظام .. فى اليوم الثالث من وصوله إلى صقلغ جاء عماليقى يبشره بموت شاول مسيح الرب ، وكان ينتظر مكافأة مدعيا أنه ضرب شاول فى أنفاسه الأخيرة فنال عقوبة ، ورثى داود شاول ويوناثان وكل الشعب .
( 1 ) عماليقى يبشر بموت شاول
فى اليوم الثالث من وصول داود إلى صقلغ بينما كان مهتما بإعادة بنائها كان قلبه يئن مع ضيقة شعبه . متوقعا بين لحظة وأخرى أن تصله أنباء عن المعركة ، وإن كانت الأنباء متوقعة مقدما . جاء غلام بثياب ممزقة وعلى رأسه تراب يخبره بنتائج المعركة .
أما قصة هذا الغلام العماليقى ، فبحسب التقليد اليهودى هو ابن دواغ الأدومى : شعر أن داود سيملك لا محالة ، أراد أن يكون أول مبشر بخبر موت شاول ويوناثان ، غالبا ما رواه الغلام كان كذبا ، لكنه أراد أن يكسب ود داود . أخبره بأن شاول ويوناثان قد ماتا وكأنه لم يصر هناك وارث للعرش سوى داود ، قال عن شاول فقط : " فوقفت عليه وقتلته " . رأى علامات الضيق والحزن على وجه داود فأكمل حديثه : " لأنى علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه " . أخيرا أراد أن يهنئه بالملك كوارث لشاول ، فقدم له إكليل شاول وسواره لأنه هو أولى من يستلمهما .
فى الآثار الأشورية غالبا ما يصور المحاربون وقد لبسوا حليا خاصة أسورة على أذرعتهم .
واضح من القصة أنها مختلقة وذلك بمراجعة 1 صم 31 : 3 .... الخ .
صورة مؤلمة لقصة أحكم الغلام حبكها لكى يكسب ود داود ! لكن داود الحلو فى حبه وإخلاصه حكم على الغلام من فمه كقاتل لمسيح الرب . لقد كذب العماليقى ، وجنى ثمرة كذبه قتله لنفسه ، كما دفع حياته الجسدية للهلاك عوض المكافأة .
( 2 ) داود يبكى شعبه
لم يفكر داود ولا رجاله فى التشفى فى شاول المقاوم لهم زمانا طويلا ، ولا فيمن يستلم الحكم من بعده ، .....الخ وإنما ندبوا وبكوا وصاموا إلى المساء من أجل موت شاول ويوناثان ومن أجل موت الكثير من الشعب وانكساره .
تعلم سليمان الحكيم هذه المشاعر الرقيقة من أبيه ، فقال : " لا تفرح بسقوط عدوك ، ولا يبتهج قلبك إذا عثر ، لئلا يرى الرب ويسوء ذلك فى عينيه فيرد عنه غضبه " أم 24 : 17 ، 18 ؛ " الفرحان ببلية لا يتبرأ " أم 17 : 5 .
لم يوجد من يبكى شاول ويرثيه من الأعماق إلا ذاك الرجل الذى أبغضه شاول لسنوات طويلة ومعه رجاله، لقد حمل داود ظلا للسيد المسيح الذى بكى على أورشليم الساقطة بينما كانت تستخدم كل طاقاتها لقتله ( مت 23 : 37 ؛ لو 13 : 34 ) !
( 3 ) داود يعاقب العماليقى
تعجب داود كيف يتجاسر إنسان مفتخرا أنه قتل مسيح الرب وهو جريح فى المعركة ، لذا سأل الغلام : " من أين أنت ؟ " فقال له : " أنا ابن رجل غريب عماليقى " ..... عاد ليسأله : " كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب ؟ " . إذ لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال صمت ، فحكم بصمته على نفسه : " دمك على رأسك لأن فمك شهد عليك قائلا : أنا قتلت مسيح الرب " .
( 4 ) مرثاة لشاول ويوناثان
تقف كل نفس أمينة أمام هذه المرثاة العجيبة فى خشوع لتحيى الحب الصادق النابع من قلب داود تجاه مضطهده شاول وصديقه يوناثان . تهتز كل مشاعر داود أمام نبأ قتلهما فلم يقدر أن يحبس دموعه ولا أن يصمت بلسانه فسجل لنا هذه المرثاة .
عبر داود النبى عن مشاعره الأمينة بمرثاة لشاول ويوناثان ، وقد طلب من بنى يهوذا أن يتعلموها لكى تبقى ذكراهما دائمة . سجلت فى كتاب شعرى مشهور فى ذلك الحين يسمى " سفر ياشر " وهو كتاب أدبى وليس سفرا من أسفار الكتاب المقدس ( يش 10 : 13 ؛ 1 مل 8 : 35 )
دعا داود مرثاته " نشيد القوس " ربما من أجل ذكره قوس يوناثان المحبوب لديه ( 2 صم 1 : 22 ) .
هذا النشيد أو هذه المرثاة ليست مزمورا موحى به بل هى قصيدة شعرية تكشف عن مشاعر حب وإخلاص .
+ " الظبى يا إسرائيل مقتول على شوامخك " 2 صم 1 : 19 : ربما قصد بالظبى يوناثان ، إذ كانت سرعة الحركة من أعظم سمات المحارب ، فكان يوناثان سريعا فى حركته كالظبى ، لكنه وجد مقتولا على شوامخ إسرائيل ، أى على جبال حلبوع الشامخة .
+ " كيف سقط الجبابرة ؟!" : ربما كان هذا القول قرارا فى النشيد ، فقد دعى شاول وابنه ورجالهما جبابرة لم ينتظر سقوطهم ، كانوا سندا للكثيرين ، لكنهم سقطوا فسقط الجميع وراءهم .
+ " لا تخبروا فى جت ، لا تبشروا فى أسواق أشقلون ، لئلا تفرح بنات الفلسطينيين ، لئلا تشمت بنات الغلف " 2 صم 1 : 20 . اختار جت بكونها أعظم مدن الفلسطينيين وأشقلون المدينة التى فيها أعظم هياكل عشتاروت ربما أرسل إليها سلاح شاول ويوناثان ( 1 صم 31 : 10 ) .
+ " يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن ولا حقول تقدمات ، لأنه هناك طرح مجن الجبابرة مجن شاول بلا مسح بالدهن . من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء وسيف شاول لم يرجع خائبا " 2 صم 1 : 21 ، 22 . هذه جميعها اصطلاحات شعرية تصور خطورة الكارثة التى حلت على جبال جلبوع حيث تلطخت بدماء ملوكية ، دماء جبابرة بأس ، يطلب ألا يكون عليها طل ولا مطر فتجف وتصير قفرا بعد موت الجبابرة ، ولا يكون بها حقول تأتى بثمار يقدم منها تقدمات للرب أو ما يستحق أن يقدم عنها عشور أو بكور حيث حل بها الخراب ، فقد سقطت أسلحة الجبابرة ، سيف شاول لم يمسح بالدهن ليقاتل به ( كانت العادة أن يمسح السيف قبل استعماله ) ، لقد سقط عليه وتلطخ بدمه عوض الدهن ، كانت قوس يوناثان وأيضا سيف شاول دائمى العمل فى قتل الجبابرة أما الآن فتوقفا !
تذكر داود انتصارات شاول الكثيرة وغلبته على أعدائه ( 1 صم 14 : 47 ) .
+" شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان فى حياتهما لم يفترقا فى موتهما ، أخف من النسور وأشد من الأسود " 2 صم 1 : 23 . أظهر داود نقاوة قلبه الداخلية فإنه لم ينطق بكلمة واحدة تسىء إلى شاول ، ولا حتى بالتلميح ، إنما امتدحه مع محبوبه يوناثان . تطلع إليهما كمحبوبين ، فقد أحب يوناثان أباه شاول وبقى سندا له فى البلاط ، أمينا فى عمله ، حلوا فى تصرفاته ، ملاصقا له حتى الموت وإن كان لم يسترح لحسد أبيه نحو داود ولم يشترك معه فى التصرفات الخاطئة .
مدحهما داود على سرعتهما فى الحركة وشجاعتهما فى القتال مشبها إياهما بالنسور والأسود .
+ " يا بنات إسرائيل أبكين شاول الذى ألبسكن قرمزا بالتنعم ، وجعل الذهب على ملابسكن " 2 صم 1 : 24 .
كانت لشاول خطاياه من عصيان وعناد وجنون وحسد لكن داود تجاهل هذا كله فى مرثاته ، مذكرا النسوة الباكيات بأعماله الجبارة ، فقد حارب وغلب ، واستقرت البلاد فى أيامه حتى لبست النساء القرمز متنعمات وتحلين بالذهب لأنهن فى أمان من الأعداء والسبى .
+ " قد تضايقت عليك يا أخى يوناثان ، كنت حلوا لى جدا ، محبتك لى أعجب من محبة النساء " 2 صم 1 : 26 ، محبة النساء لرجالهن عجيبة ، إذ يتركن بيوت آبائهن وأهلهن ويلتصقن برجالهن ، ... أما حب يوناثان فكان أعذب وأحلى . لقد بقى فى بيت أبيه محتملا التعييرات بسبب داود ، كان يعلم أن داود يحتل عرشه ، فكان يهيىء له الطريق بفرح مقدما حياته فدية عنه ، كان بحق حلوا فى حبه ! أى شىء أعذب من الحب الأخوى الخالص الذى لا يطلب ما لنفسه بل ما لصديقه ! .
+ + +
الأصحاح الثانى
داود يملك على يهوذا
لقد أيقن داود أنه هو الملك المختار من قبل الرب ، لكنه استشار الرب أولا إن كان يصعد إلى إحدى مدن يهوذا .
وبعد سؤال الرب صعد داود إلى حبرون حيث مسح ملكا على بيت يهوذا ، لم ينس داود المعروف الذى صنعه رجال يابيش جلعاد مع شاول بعد موته ، أقام أبنير أيشبوشت بن شاول ملكا على جلعاد والأشيريين ويزرعيل وافرايم وبنيامين وكل إسرائيل . بدأ أبنير بالحرب ضد رجال داود حيث غلبه رجال داود ؛ عاد فطلب أبنير أن تتوقف هذه الحرب الأهلية فقبل الطرفان إلى حين
( 1 ) مسح داود ملكا على يهوذا
مات شاول ويوناثان ، وكانت الخلافة لأيشبوشت بن شاول ، اسمه الأصلى " أشبعل " 1 أى 8 : 33 ، أى " رجل البعل " أو " رجل ذو سيادة " . ولما كانت كلمة " بعل " قد تخصصت لإله الفينيقيين لذا تغير اسمه إلى أيشبوشت لتعنى " رجل الخزى " ، إذ كان ضعيفا غير قادر على العمل ، يحركه أبنير رئيس جيش شاول كيفما يريد .
أما داود الذى سبق فمسحه صموئيل ملكا سرا وسط إخوته ( 1 صم 16 ) ، فكان عند موت شاول ويوناثان فى صقلغ فى أرض الفلسطينيين ، وقد خلا له الجو إلى حد كبير ليستلم العرش ، أما هو فبحكمة واتزان لم يتسرع طالبا الحكم وإنما رأى أنه لا داعى لبقائه خارج وطنه .
داود – كرجل الله – سأل الرب فجاءت الأجابة الإلهية بالتوجه إلى :
" حبرون " من أعظم مدن يهوذا المقامة بين الجبال كحصون طبيعية . هناك جاءه رجال يهوذا ومسحوه ملكا علانية .
إن كانت " حبرون " تعنى " اقترانا " ، فإنه ما كان يمكن لداود أن يمسح ملكا ما لم يصعد هو وأسرته ورجاله إليها ليأتيه رجال يهوذا هناك . أقول إننا لن ننعم بالمسحة المقدسة لنحسب " ملوكا وكهنة " رؤ 1 : 6 ؛ 5 : 10 ما لم ننعم بالأتحاد مع ربنا يسوع " ملك الملوك " ، نقدم له حياتنا كلها ، النفس مع الجسد بكل إمكانياتهما وقدراتهما ومواهبهما ... لننعم بشركة مع الله فى ابنه يسوع المسيح ، فنملك معه .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم : أنه فى العهد القديم كان الروح القدس يهب مسحة للبعض فيقيم ملوكا أو كهنة أو أنبياء ، أما فى العهد الجديد – ففى المسيح يسوع – نلنا جميعا مسحة ليكون كل واحد منا ملكا وكاهنا ونبيا ، ملكا من حيث تنعمنا بالملكوت ،
وكهنة إذ نقدم أجسادنا ذبيحة ( رو 12 : 1 ) ،
وأنبياء إذ يعلن لنا ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن ( 1 كو 2 : 9 ) .
يرى البعض أن فى مسح داود ملكا على بيت يهوذا ( 2 صم 2 : 4 ) بواسطة رجال يهوذا كشفا عن نقطة ضعف اتسم بها سبط يهوذا ألا وهى ميله نحو الأنعزالية والأنفراد عن بقية الأسباط مما سبب متاعب كثيرة فيما بعد وانقسامات فى الشعب ، بل وانقسمت المملكة إلى أثنتين : مملكة إسرائيل ( 10 أسباط ) ومملكة يهوذا ( يهوذا وبنيامين ) إلى أيام السبى .
هذا ويلاحظ أن داود مسح ملكا ثلاث مرات :
( أ ) سرا فى بيت أبيه ( 1 صم 16 : 13 ) .
( ب ) مسحه على بيت يهوذا ( 2 صم 2 : 4 ) .
( ج ) مسحه على كل إسرائيل ( 2 صم 5 : 3 ) .
( 2 ) داود يمتدح أهل يابيش جلعاد
أول عمل قام به داود بعد مسحه ملكا على بيت يهوذا هو اهتمامه بمن قاموا بدفن شاول ويوناثان ، لقد عرف أنهم أهل يابيش جلعاد فأرسل إليهم يمتدحهم قائلا لهم :
" مباركون أنتم من الرب ...
والآن ليصنع الرب معكم احسانا وحقا ،
وأنا أيضا أفعل معكم هذا الخير ...
والآن فلتتشدد أيديكم وكونوا ذوى بأس ، لأنه قد مات سيدكم شاول وإياى مسح بيت يهوذا ملكا عليهم " 2 صم 2 : 5 – 7 .
هذا التصرف من جانب داود يستحق التقدير فقد قدم البركة ، والمكافأة ، وأستفاد من طاقات الآخرين لبنيان المملكة ، إنها صفات القائد الناجح .
( 3 ) أبنير يقيم إيشبوشت ملكا
أقام الله داود ملكا حيث مسحه بيت يهوذا ليقيم فى حبرون سبع سنوات ونصف ( 2 صم 2 : 11 ) بعدها مسح ملكا على جميع الأسباط . من الجانب الآخر انشغل أبنير رئيس جيش شاول فى استرجاع بعض المدن التى فقدت فى معركة جلبوع ؛ صار يجاهد لمدة خمس سنوات ونصف بعدها أقام ايشبوشت بن شاول ملكا على إسرائيل ( ما عدا سبط يهوذا ) ، وعبر به إلى محنايم كعاصمة للمملكة . كان أبنير خائفا من داود لئلا يطرده من منصبه كرئيس جيش .
( 4 ) أبنير يثير حربا أهلية
بقى داود أمينا ومخلصا لشاول ويوناثان ، لم يفكر قط فى اغتصاب العرش رغم مسحه ملكا مرتين ، مكتفيا أن يعمل وسط سبطه يهوذا ، لكن أبنير عم شاول أراد أن يخضع يهوذا إيشبوشث ، فخرج ومعه رجال إيشبوشث من محنايم إلى جبعون ، واضطر يوآب وعبيد داود أن يخرجوا أيضا دون داود ، والتقى الطرفان على بركة جبعون كل على جانب مقابل الآخر ، يبدو أن رجال كل طرف من الطرفين لم يستريحوا لمقاتلة إخوتهم .... ولو ترك الأمر هكذا لرجع الطرفان كما قال يوآب فيما بعد لأبنير ( 2 صم 2 : 27 ) . لقد جلس الجميع على طرفى البركة ( 2 صم 2 : 13 ) ولم يتأهبوا للقتال ، أراد أبنير أن يلهب الجو فطلب أن يتقاتل بعض الغلمان ، قام 12 غلاما من كل طرف ، فأمسك كل واحد برأس صاحبه وضرب سيفه فى جنب صاحبه وسقط الأربعة وعشرين غلاما ، ودعى هذا الموضع " حلقث هصوريم " أى " صقل السيوف " .
أثار هذا المنظر الطرفين فقام الكل يتقاتلون ، وانكسر أبنير ورجاله أمام عبيد داود .
( 5 ) أبنير يقتل عسائيل
هزم أبنير ورجاله ، فهرب ، لكن عسائيل أراد أن يلحق به ويقتله ، وكان رئيسا لإحدى فرق الجيش ، خفيف الرجلين كالظبى لكنه لم يكن قويا فى الحرب كأخيه يوآب ولا كأبنير .
كلمة " عسائيل " معناها " الله يعمل " وهو ابن صروبة أخت داود ، أخو يوآب وابيشاى . ربما أخذه الحماس ليلحق بأبنير ليضع حدا فاصلا للحرب ، ويسرع بتسليم خاله داود الملك .
تطلع أبنير وراءه فشاهد عسائيل ، أراد أن يثنيه عن ملاحقته ، بدون جدوى ، فضربه أبنير بزج الرمح ضربة خفيفة كى لا يقتله ، أى ضربه بخلف الرمح ، ومع ذلك دخل الرمح فى بطنه وخرج من خلفه ، وسقط عسائيل ميتا .
إذ كان الجميع يحبونه هو وأخاه يوآب ، كان كل من يأتى إلى الموضع الذى سقط فيه يقف .
( 6 ) سعى يوآب وراء أبنير
سعى يوآب وأبيشاى وراء أبنير لينتقما لأخيهما عسائيل حتى الغروب عندما جاء أبنير إلى تل أمة الذى تجاه جيح .
اجتمع بنو بنيامين الين كانوا يطلبون نجاح إيشبوشث وقائده أبنير ، واستعدوا لمقاومة يوآب . فنادى أبنير يوآب ، وقال له : " هل إلى الأبد يأكل السيف ؟! ألم تعلم أنها تكون مرارة فى الأخير ؟! فحتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم ؟! " 2 صم 2 : 26 . هكذا شعر أبنير أن القتال لن يتوقف والخراب سيحل بالجميع لذا طلب من يوآب أن يرجع هو ورجاله عن مقاتلة إخوتهم . أجابه يوآب محملا إياه مسئولية ما حدث ...
أما قبول يوآب وقف الحرب بالرغم من قتل أخيه ، إنما لأنه يدرك ما فى قلب خاله داود الملك ، إنه لا يسعى ليملك بمقاتلة إخوته ، إنما ينتظر عمل الله الهادىء .
دفن القتلى فى أرض المعركة ، أما عسائيل فدفن فى بيت لحم فى مقبرة أبيه ( 2 صم 2 : 32 ) .
عبر أبنير الأردن إلى محنايم ، وذهب يوآب إلى حبرون حيث يملك داود .
+ + +
الأصحاح الثالث
أبنير ينضم إلى داود
( 1 ) حرب بين بيت شاول وبيت داود
إذ ملك ابنير نسيب شاول إيشبوشث على إسرائيل ( ما عدا سبط يهوذا ) بقى داود صامتا ينتظر يد الله ومواعيده الأمينة والصادقة ، فإنه لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت حكمه ولا مقاومة الملك الجديد ، بدأ إيشبوشث حربه بتحريض وقيادة أبنير الذى كان يصر على أن يبقى الملك فى يد شاول بالرغم من ادراكه أن الله حلف لداود أن يهبه الملك ( 2 صم 3 : 10 ، 11 ) .
كانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود المصر على عدم مقاومة الملك أو الأساءة إلى بيت شاول . قيل : " وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود ، وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف " 2 صم 3 : 1 . خلال هذه الفترة كان الله يعمل وسط شعبه ليجتذبهم تدريجيا نحو داود لا خلال القهر والألزام بل خلال حياته المقدسة الهادئة .
( 2 ) أبنير يقاوم إيشبوشث
كان داود يملك على القليل ( سبط واحد ) وإيشبوشث يملك على الكثير ( بقية الأسباط ) ، لكن داود حمل مجده فى داخله خلال إيمانه بالله العامل فيه ، أما إيشبوشث فارتكزت قوته على أبنير نسيبه ورئيس جيشه ، لذا كان الأول يزداد مجدا من يوم إلى يوم والثانى يزداد انهيارا من وقت إلى آخر .
دخل أبنير على سرية شاول فعاتبه إيشبوشث الضعيف الشخصية بعنف ، ليس دفاعا عن الحياة المقدسة وإنما لأنه حسب أنه بذلك يريد أن ينسب الملك إلى نفسه . لم يقبل أبنير هذا العتاب لأنه هو الذى أقامه ملكا . فى عنف وبخ الملك قائلا لـه : " ألعلى أنا رأس كلب ليهوذا ؟! أليوم أصنع معروفا مع بيت شاول أبيك مع إخوته ومع أصحابه ولم أسلمك ليد داود وتطالبنى بإثم امرأة ؟!
ربما أراد أبنير أن يستغل الفرصة لينحاز إلى داود عندما رأى أن يد الرب معه . إذ قال لإيشبوشث : " كما حلف الرب لداود كذلك أصنع له . لنقل المملكة من بيت شاول وإقامة كرسى داود على إسرائيل وعلى يهوذا من دان إلى بئر سبع " ( أى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ) .
كان أبنير معتدا بذاته ، يظن أنه يستطيع أن يتعامل مع داود مثلما يتعامل مع إيشبوشث ؛ يقيم ويعزل ملوكا ، لكنه لم يدرك أنه قبلما يتحقق مسح داود ملكا على كل الأسباط يموت ابنير ، إنه يمثل الذراع البشرى المتشامخ الذى يظن أن الأمور تجرى بيده بدون المعونة الإلهية .
لذا يقول داود النبى فى المزمور : " لا تتكلوا على الرؤساء ، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده ، تخرج روحه فيعود إلى ترابه .... طوبى لمن إله يعقوب معينه ورجاؤه على الرب إلهه " مز 146 : 3 – 5 .
( 3 ) إقامة عهد بين أبنير وداود .
لقد صمت إيشبوشث أمام تهديدات أبنير ولم ينطق بكلمة لأنه نال الملك من يده لا من يد الله ، معتمدا على ذراع بشر ، أما أبنير فلم يكن محتاجا إلى وقت للتفكير فى الأمر ، إذ يبدو أن فكرة التخلى عن إيشبوشث قد سيطرت عليه تماما ، لهذا " أرسل أبنير من فوره رسلا إلى داود قائلا : لمن هى الأرض ؟! يقولون اقطع عهدك معى وهوذا يدى معك لرد جميع إسرائيل إليك " 2 صم 3 : 12 ، هكذا يتعهد أبنير – خلال رسله – أن يرد جميع الأسباط إلى داود على أن يقيله فى خدمته ويعفو عن كل ما فعله من عصيان .
قبل داود الملك هذا العرض مشترطا لإقامة العهد أن ترد إليه زوجته الأولى ، ميكال ابنة شاول التى أعطاها والدها لفلطئيل بن لايش ( 1 صم 25 : 44 ) .
لماذا وضع داود هذا الشرط ؟
يرى البعض أن داود طلبها ليس حبا فيها وإنما لأسباب سياسية ، وهو ابراز أنه أولا وقبل كل شىء نسيب شاول الملك فينال أمام الأسباط نوعا من الشرعية فى تولى الملك ، ورأى آخرون فى هذا التصرف ردا لكرامة داود الذى اغتصبت زوجته وسلمت لآخر .
هناك رأى آخر ، فهو يستطيع أن يرد ميكال بعد تولى العرش ، ولكنه فى هذه الحالة سيحسب عنيفا ومستغلا لسلطاته ، إنما أراد داود أن يبرز أنه أمين لزوجته ميكال التى أحبها ، هذه الأمانة فى نظره أولى من تسلمه الملك . إن لم يكن أمينا مع زوجته فكيف يرعى هذا الشعب كله .
بناء على طلب أبنير : قام إيشبوشث برد ميكال ( أخته ) إلى داود ، وكان رجلها يسير معها ويبكى وراءها إلى بحوريم .
( 4 ) يوآب يغدر بأبنير
كنا نتوقع من داود النبى والملك أن يتحرك فرحا ليستغل الفرصة ليجمع الأسباط تحت سلطته ، لكن ما حدث أنه وقف فى حب وثقة بالله يتأمل عمل الله معه ، فكان المتحرك هو أبنير ، إذ بادر بالوفاء بوعده ، متحدثا مع شيوخ إسرائيل عن إقامة داود ملكا كطلبهم السابق وتحقيقا لمشيئة الله . أخذ أبنير عشرين رجلا من شيوخ الأسباط ، وانطلقوا إلى داود الذى أقام لهم وليمة علامة الأتحاد وإقامة عهد معهم .
تأثر أبنير بلقاء داود مع العشرين شيخا لذا طلب من داود أن يسمح له بالذهاب إلى الأسباط لتدبير الأمور الخاصة بتجليسه رسميا ملكا ( 1 أى 11 : 1 – 3 ) .
عاد يوآب مع رجاله وسمع بما تم بين داود وأبنير فثارت ثائرته ، ربما لأنه كان يخشى أن يحتل ابنير مركزه ، لقد انتهر داود الملك متهما ابنير أنه جاسوس جاء ليخدع الملك حتى يخرج ويثير الأسباط لمحاربته ، أما داود فصمت ليس خوفا من يوآب كما صمت إيشبوشث أمام أبنير ، وإنما استخفافا بفكر يوآب ، وتصرفاته المتهورة فى مواقف كثيرة .
استدعى يوآب أبنير سرا ( دون علم داود الملك ) ، وإذ مال إليه اغتاله انتقاما لأخيه عسائيل ، ولأنه خشى أن يحتل مركزه كرئيس جيش داود .
لم يكن لائقا برجل حرب كيوآب أن يقتل إنسانا أئتمنه على نفسه وجاءه يتفاوض معه ، إنما كان يجب أن يصارحه ويبارزه إن أراد ... فقد أوصى موسى الشعب : " ملعون من يقتل قريبه فى الخفاء " تث 27 : 24 .
( 5 ) داود يحزن على أبنير
كم كان داود شهما ونبيلا عندما أعلن رسميا وشخصيا براءته من قتل أبنير ورفضه هذا الغدر من جانب يوآب ، معلنا للجميع أن ما صنعه يوآب لا يليق برجل إيمان ولا برجل حرب وأن تأديب الرب سيحل به ( 2 صم 3 : 29 ) .
أعلن داود رأيه رسميا بسيره وراء نعش أبنير وطلبه من الشعب أن يمزقوا ثيابهم ويتمنطقوا بالمسوح ويلطموا أمام جثمان ابنير ، كما أعلن عن براءته من قتل أبنير بسلوكه الشخصى فقد بكى عليه وصام النهار كله . لقد تأثر به الشعب جدا وبكوا معه ، نسى داود أن ابنير عدوه الذى كان يثير الحرب بينه وبين إيشبوشث وتذكر أنه قائد عظيم كان يمكن الأنتفاع منه فى محاربة الوثنيين .
فى مرثاته قال : " هل كموت أحمق يموت أبنير ؟! يداك لم تكونا مربوطتين ورجلاك لم توضعا فى سلاسل نحاس . كالسقوط أمام بنى الإثم سقطت " 2 صم 3 : 33 ، 34 .
لم يعزل داود يوآب من عمله ربما لأنه لم يجد مثله كرجل حرب وربما لأنه رأى أن ما فعله يوآب كان يهدف إلى الدفاع عن مملكة داود حاسبا أبنير جاسوسا ومخادعا .
+ + +
الأصحاح الرابع
نهاية مملكة شاول
بقتل ابنير غدرا بيد يوآب انتهت مملكة شاول إذ كان إيشبوشث ملكا صوريا ، قتله أخوان " بعنة وركاب " غدرا وهو على سرير فراشه نائما ، ولم يبق وارثا للمملكة إلا مفيبوشث بن يوناثان ، كان أعرج يعجز عن تولى العرش .
( 1 ) انهيار ايشبوشث
" ولما سمع ابن شاول أن ابنير قد مات فى حبرون ارتخت يداه وارتاع جميع إسرائيل " 1 صم 4 : 1 . عدم ذكر اسمه هو نوع من الأحتقار ، فقد خسر إيشبوشث كرامته وقوته لأن مملكته قامت على ابنير الذى غدر به يوآب ، خبر خيانة أبنير لإيشبوشث والغدر بأبنير حطم نفسية الملك الشكلى فارتخت يداه ، بل وارتاع الشعب كله ، فقد مات القائد الشجاع ولا يعرفون ماذا يفعل بهم داود .
( 2 ) قتل إيشبوشث
غدر به بعنة وركاب ابنا رمون من بئيروت التى للجبعونيين ، من بنى بنيامين ( 2 صم 4 : 2 ) . هذان كانا فى خدمة الملك ، انتهزا الأحداث ، وشعرا بانهيار الملك وتخلى الشعب عنه ، فأرادا اللحاق بخدمة داود الملك بتقديم رأس منافسه إيشبوشث . هذان خانا الملك الذى أقامهما فى البلاط للخدمة ، بجانب أنهما من ذات سبطه ، مما يجعل جريمتهما أكثر بشاعة .
لقد دخلا بيت إيشبوشث بحجة أنهما يطلبان حنطة وكان ذلك فى وقت الظهيرة – ما بين الساعة الثانية عشرة والثالثة بعد الظهر ؛ وجدا الملك نائما على سريره فقطعا رأسه وجاءا بها إلى داود مقدمين تعليلا لاهوتيا : " قد أعطى الرب لسيدى الملك انتقاما فى هذا اليوم من شاول ومن نسله " 2 صم 4 : 8 .
بقتل إيشبوشث خلى الجو تماما لداود إذ لم يعد من بيت شاول سوى مفيبوشث بن يوناثان ، كان ابن خمس سنين حينما قتل أبوه وجده فى الحرب ، فحملته مربيته وهربت ، وإذ كانت مسرعة وقع فانكسرت عظام رجليه والتحمت خطأ فى غير موضعهما فصار أعرج ( 2 صم 4 : 4 ) ، غير قادر على تولى العرش لعجزه الجسدى ولصغر سنه ( حوالى 12 سنة ) .
( 3 ) الأنتقام لإيشبوشث
أكد داود النبى للخائنين الشريرين أنه ليس فى حاجة إلى عون الأشرار مثلهما بل هو متكل على الله الذى فدى نفسه ( 2 صم 4 : 9 ) . إنه لم يستحسن قتل شاول ولا ابنير فكيف يقبل قتل رجل على سرير فراشه ؟!
طلب الدم البرىء منهما ، فقطعت أياديهما التى قتلت ؛ والأرجل الى هربت ، وعلقت جثتاهما على بركة حبرون حتى يدرك القادمون للأستقاء أن داود لا يملك خلال هرق دم برىء ، وأنه لا يسر بهذين الخائنين ، أما رأس إيشبوشث فدفنت بتكريم فى مقبرة ابنير فى حبرون .
هذا التصرف يفرح قلب الله الذى أقام داود ملكا كما يسر قلوب البنياميين وأتباعهم ، إذ يرون داود لا يحمل عداوة تجاه بيت شاول بل محبة وإخلاصا .
+ + +
الأصحاح الخامس
مسح داود ملكا
أخيرا مسح داود ملكا على جميع الأسباط فى الوقت المناسب ، بعد أن تعلم فى السنوات الماضية حياة الجهاد بلا ملل ، والأتضاع فلا يطلب لنفسه مجدا زمنيا ، والحب فلا ينتقم لنفسه .
لقد مارس داود أعمال محبة تسندها مشاعر صادقة فملك وغلب بالرغم من مقاومة الأعداء له .
( 1 ) مسح داود ملكا
هذه هى المرة الثالثة التى فيها مسح داود ملكا حيث خضع الكل له ، لقد حان الوقت لتوليه الملك باختياره وإجماع الشعب عليه ، جاء إليه الشيوخ :
" هوذا عظمك ولحمك نحن ، ومنذ أمس وما قبله حين كان شاول ملكا علينا قد كنت أنت تخرج وتدخل إسرائيل ، وقد قال لك الرب : أنت ترعى شعبى إسرائيل وأنت تكون رئيسا على إسرائيل " 2 صم 5 : 1 – 2
لقد تدرب داود على الجهاد والحب ، عرف كيف يقاوم حسد شاول بسماحة فى أدب ورقة ، وكيف يقابل موت شاول وأبنير وإيشبوشث بغير شماتة إنما بنبل وحب يرثيهم وينتقم لكل دم برىء ، قبل مشورة أبيجابل الحكيمة بفرح عندما طلبت منه ألا ينتقم لنفسه إذ ينتظر الكل منه أن يعطى ويبذل لا أن يطلب ما لنفسه .... بهذه الروح التى عاشها لسنوات طويلة وخبرات متلاحقة فى الرب قابل الشيوخ فى حبرون بمحبة ، دون أن يعاتبهم بكلمة أو يحمل مشاعر ضيق تجاههم ، برغم مطاردتهم لـه لسنوات سابقة ...! لقد كان داود رمزا للملك الحقيقى رب المجد يسوع ، الذى مسح أزليا ليملك ، لكنه جاء فى ملء الزمان يسلك طريق الصليب فى اتضاع ، صالحنا ونحن بعد أعداء ( رو 5 : 10 ) دون أن يجرح مشاعرنا بسبب جحودنا السابق أو مقاومتنا له . إنه فى رقة الحب الحقيقى يقرع باب القلب ليدخل ويملك إن فتحنا له بكامل حريتنا دون قهر أو إلزام من جانبه علينا !
( 2 ) نصرة داود على اليبوسيين
كانت يبوس – تمثل مساحة صغيرة إن قورنت بأورشليم فى أيام سليمان . كانت تناسب أن تكون العاصمة لداود أكثر من حبرون ، لأن موقعها منيع للغاية ، فهى مرتفعة ( مز 48 : 2 ) ، حولها جبال ( مز 125 : 2 ) تحيط بها وديان عميقة من ثلاثة جوانب يبلغ عمق بعضها 800 قدم ؛ ولأنها على تخم يهوذا وبنيامين فترضى السبطين ( يهوذا الذى خرج منه داود ، وبنيامين الذى يضم بيت شاول الملك ) .
كان اليبوسيون واثقين أن داود لن يستطيع الأستيلاء على حصنهم بسبب مناعته ، حتى لوكان من بداخله عمى وعرج ، لذا فى استخفاف قالوا له :
" لا تدخل إلى هنا ما لم تنزع العميان والعرج " 2 صم 5 : 6 .
أعلن داود عن المكافأة لمن يضرب المدينة حتى يبلغ إلى القناة ، أى إلى النفق تحت الأرض من الوادى إلى فوق ، فإن من يبلغ القناة يدخل الحصن ، لم يذكر ما هى لأنها لا تحتاج إلى ذكر ، إذ عنى أن يصير المنتصر " رأسا وقائدا " 1 أى 11 : 6 ؛ وقد حقق يوآب ابن صروية ذلك .
دخل يوآب المدينة وصار رأسا ( 1 أى 11 : 6 ) ، وسكن داود ورجاله القلعة أو الحصن ودعاه " مدينة داود " .
استولى داود على يبوس وجعل منها مدينته الخاصة ، تحمل اسمه ، قيل :
" وبنى داود مستديرا من القلعة فداخلا " 2 صم 5 : 9 ، ماذا تعنى الأستدارة إلا أن المدينة صارت كما فى شكل دائرة ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية ، بمعنى أنها حملت سمة جديدة هى الأرتفاع فوق الزمن لتصير مدينة سماوية خالدة لا يقدر الموت أن ينهى كيانها ، هذه هى كنيسة العهد الجديد التى كانت مدوسة بالأقدام ( يبوسا ) صارت بعريسها السماوى وملكها ابن داود سماوية .
" فكان داود يتزايد متعظما والرب إله الجنود معه " 2 صم 5 : 10 ، كان داود يتزايد فى العظمة لأن الرب " إله الجنود " معه . هنا يدعى الرب :
" إله الجنود " وكأنه هو القائد الحقيقى لشعبه وهو المحارب عنهم ليهبهم النصرة والمجد . هذه هى خبرة داود النبى التى عبر عنها فى مزاميره فجاء فيها : " الرب نورى وخلاصى ممن أخاف ؟! الرب حصن حياتى ممن ارتعب ؟! مز 27 : 1 .
( 3 ) صداقة حيرام له
مع كل نصرة حقيقية يواجه المؤمن أمرين : مقاومة من العدو تؤول به إلى نصرة جديدة ، وأيضا انجذاب البعض لله العامل فيه ، هكذا إذ تزايد داود متعاظما لأن رب الجنود كان معه أثار ذلك بعض الأعداء لمقاومته بالأكثر ، وفى نفس الوقت انجذبت إليه بعض الممالك المجاورة تمجد الله فيه ، كما يظهر ذلك من نصرف حيرام ملك صور .
كانت صور فى ذلك الوقت قد بلغت العظمة ، بعث ملكها رسلا إلى داود وتكونت بينهما صداقة دامت حتى أيام سليمان ، بل وقامت هذه الصداقة بين الدولتين فى أيام عاموس النبى ( عا 1 : 9 ) .
تعاونت المملكتان معا وصارتا فى ود ، كانت إسرائيل تستخدم صور كبلد ساحلى لتحقيق وارداتها وتوزيع مصنوعاتها ، بينما استخدمت صور مملكة إسرائيل كطريق لتجارتها تشترى أيضا منها الغلال والمحاصيل .
سلامنا مع الله فى داخلنا يثمر سلاما مع الغير ويحول الظروف المحيطة بنا لخدمتنا وبنياننا ، حتى مقاومة الأشرار يحولها الله لنمونا وفرحنا الداخلى .
( 4 ) تثبيت مملكته
بعد حوالى 20 عاما من مسحه سرا فى بيت لحم قيل : " وعلم داود أن الرب قد أثبته ملكا على إسرائيل ، وأنه قد رفع ملكه من أجل شعبه إسرائيل " 2 صم 5 : 12 .
انتظر داود هذه السنوات الطويلة فى إيمان وبصبر ليتدرب بنعمة الله على رعاية شعب الله ، والآن يثبت الله مملكته من أجل شعبه ، هكذا يليق بنا – مهما بلغت مواهبنا وقدراتنا ومهما تعاظم نجاحنا – أن ندرك أنها عطايا إلهية قدمت لنا من أجل بنيان الجماعة المقدسة .
من أجل البشرية تجسد السيد المسيح ومن أجلها ملك على خشبة وقام وصعد إلى السموات ومن أجلها يأتى على السحاب ليجمع مؤمنيه ويرفعهم إلى حضن الآب ، هكذا نحن كأعضاء جسده يليق بنا أن نحمل ذات فكره فنضرم كل موهبة فينا لبنيان الغير ، يقول القديس بولس : " المحبة ...... لا تطلب ما لنفسها " 1 كو 13 : 5
( 5 ) مقاومة الأعداء وهزيمتهم
إن كان نجاح داود أعطاه نعمة فى عينى حيرام ملك صور ليرسل له خشب أرز وبنائين علامة الصداقة العملية إلا أنه فى الجانب المقابل ، ضاعف نجاحه هذا من مقاومة الأعداء ، مع كل نصرة نتوقع مقاومة وحربا إن لم تكن من الخارج فمن الداخل ، لذا قيل فى سفر أبن سيراخ : " يا بنى إذا تقدمت لخدمة الرب أعدد نفسك للتجربة " 2 : 1
رأى الأعداء فى مسح داود ملكا على كل الأسباط وتزايده فى المجد خطرا عليهم خاصة أن الشعب كله صار بقلب واحد معه ، لم يخشونه فى حبرون لكونه ملكا على سبط واحد فاستهانوا به ، ولأنه فى حبرون كان خاضعا لهم ، أما فى يبوس فصار مستقلا ومحصنا وصار نجمه يلمع ويتلألأ ، لذا فتشوا عليه للخلاص منه ، أما هو فلم يكن متوقعا الحرب لذا نزل مع حرسه الخاص إلى حصنه القديم " عدلام " ، فتش عنه الأعداء المنتشرون فى وادى الرفائيين .... فى الحصن انحاز إليه بنو جاد ، وكان العدد قليلا جدا إن قورن بجيش الأعداء ، سأل الرب خلال أبياثار الكاهن ( 1 صم 23 : 11 ؛ 30 : 7 ، 8 ) الذى سمح له بالحرب ...
ما أحوجنا أن نتكل على راعى نفوسنا الذى يتقدم قطيعه ليسير الكل وراءه ومعه ، قائلين مع المرتل : " جعلت الرب أمامى فى كل حين ، لأنه عن يمينى فلا أتزعزع " مز 16 : 8 .
جاء داود برجاله ليقف وراء العدو ويقاومه مقابل أشجار البكاء ، عندما شعر بحضرة الرب وتقدمه ليحمله فى طريق الجهاد ، واهبا له النصرة بنعمته .
نزل داود ورجاله إلى وادى الدموع لكى يتقبل نعمة الله المجانية أكثر فأكثر ، فينطلق من قوة إلى قوة ، فى وادى الدموع انفتحت بصيرته ليرى الله يتقدمه ممهدا له طريق النصرة ، ومحطما العدو أمامه ، وكأن الحضرة الإلهية التى تملأنا تعزية وسط الدموع ، ترعب العدو وتحطمه تماما .
هرب الأعداء تجاه الشمال الشرقى وليس نحو أرضهم فى الغرب لكى يحتموا فى الحصن الموجود فى جبع ( 1 صم 13 : 3 ) . وإذ لم يحميهم هذا ساروا نحو أرضهم حتى جبعون ، ومنها ساروا فى طريق عقبة بيت حورون إلى مدخل جازر أى طريق جازر . ، وهى على تخم أرضهم وتبعد حوالى 18 ميلا شمال غربى أورشليم .
+ + +
الأصحاح السادس
إحضار تابوت العهد
إذ كان داود يتعظم وكان رب الجنود معه يهبه النصرة والغلبة حتى استقر فى أورشليم كعاصمة لمملكته ، أراد أن يؤكد أن الرب هو الملك الحقيقى مدبر أمور الشعب وواهبهم الغلبة ، لذا فكر فى إحضار تابوت العهد إلى أورشليم كعلامة منظورة لقوة الله غير المنظورة
( 1 ) موكب التابوت
جمع داود ثلاثين ألفا من المنتخبين ، لا ليحاربوا ، بل ليحتفلوا بإحضار التابوت إلى أورشليم ، اشترك هذا العدد الضخم فى الأحتفال تكريما لله سر فرح شعبه . هنا تبرز حكمة داود الروحية ، إذ لم يرد أن ينشغل الشعب بالنصرة على الأعداء كمجد شخصى له وإنما سحب قلوبهم إلى الله نفسه ، لكى تتهلل بالرب مخلصهم الحقيقى .
تابوت العهد كممثل للحضرة الإلهية حمل اسم رب الجنود كقائد حقيقى لشعبه الأبطال روحيا ، الرب الجالس على الكروبيم ( 2 صم 6 : 2 ) ؛ الله هو رب الجنود المهوب ، مركبته سماوية هم جماعة الكاروبيم الملتهبون نارا ، يحل وسط شعبه برحمته أبا مترفقا يسندهم ويفرح أعماقهم .
بدأ الموكب من " بعلة يهوذا " ، وهى إحدى مدن الجبعونيين ( يش 9 : 17 ) على تخم يهوذا وبنيامين ، وضع فيها التابوت بعد إرجاعه من أرض الفلسطينيين ( 1 صم 6 : 19 ) .
وضعوا التابوت على عجلة جديدة ، ربما مقتدين بما فعله الفلسطينيون ، لكنهم بهذا خالفوا الناموس إذ كان يجب أن يحمله بنو قهات ( عد 1 : 51 ) على الأكتاف وليس على عجلة .
كانا عزة وأخيو ابنا ابيناداب ( غالبا كانا حفيديه ) يسوقان العجلة ، أخيو يتقدمهما ليقودهما بينما كان داود وكل بيت إسرائيل يلعبون بفرح ورقص يعزفون بكل أنواع آلات الطرب أمام الرب ، بالرباب والدفوف والصنوج والجنوك ( آلة موسيقية ) .
( 2 ) ضرب عزة
تحرك الموكب حتى بلغ بيدر ناخون أو كيدون ( 1 أى 13 : 9 ) ، عند موضع دراسة غلال رجل يدعى ناخون أو نكون أو كيدون ، هناك أنشمصت الثيران ، أى ذعرت وأخذت تركض وترفس ، فمد عزة يده إلى تابوت الله وأمسكه كى لا يسقط ، فضربه الله هناك ومات .
لماذا أماته الرب ؟ أما تحسب هذه قسوة فى التأديب ؟
( أ ) كان يجب أن يحمل التابوت على أكتاف اللاويين لا على عجلة ، لقد سمح الله للوثنيين أن يضعوه على عجلة جديدة تجرها بقرتان ، إذ كانت ترمز لكنيسة العهد الجديد الحاملة لشخص المسيح فى داخلنا بكونه رأسها ، تضم الكنيسة شعبين : من اليهود ومن الأمم ، لم يكن الوثنيون فى ذلك الوقت قد تهيأوا لحمل تابوت العهد ، إذ لا شركة بين الله وبليعال ( 2 كو 6 : 14 ) . أما بنو قهات فكانوا يمثلون جماعة المؤمنبن الذين تأهلوا ليكونوا سماء ثانية يحملون الله فى داخلهم ، لذلك كان يلزمهم أن يصروا على التمتع بحقهم فى حمل التابوت دون العجلة الجديدة .
الله لا يطلب عجلة جديدة ولا تقدمات هذا العالم بل الأكتاف الداخلية المقدسة التى تصير كالشاروبيم تحمل الله ، الله يريد قلوبنا لا إمكانياتنا .
( ب ) كان يجب على عزة أن يعرف الناموس ، خاصة وأن التابوت وجد فى بيت أبيه وجده لمدة حوالى 70 سنة ، وأنه لا يليق لمسه . قيل " لا يمسوا القدس لئلا يموتوا " عد 4 : 15 .
( ج ) ربما اعتاد عزة أن يمد يده إلى التابوت بغير وقار ، وقد تجاسر بالأكثر حين فعل ذلك علانية أمام كل الجماعة .
( د ) أراد الله تأكيد الحاجة إلى " مخافة الرب " جنبا إلى جنب مع " الحب الإلهى " ، كى يعيش داود وكل الشعب فى مخافة ووقار مع حب ودالة .
لقد كان الدرس قاسيا لكى يتعلم الجميع منه ، وذلك كما حدث مع حنانيا حين كذب على الرسل ( أع 5 : 5 ) .
اغتاظ داود لأن فرح الجماعة تحول إلى حزن وخوف ، ولأن ارتباكا ملأ الجميع واضطر الكل أن ينصرفوا ... وخاف داود أن ينتقل التابوت إلى مدينته قبل التيقن من سر غضب الله على عزة
مال داود بالتابوت إلى بيد عوبيد آدوم الجتى ، غالبا من جت رمون فى نصيب دان فى الجنوب ( يش 19 : 45 ) أعطيت لبنى قهات ( يش 21 : 24 ) ، كان عوبيد آدوم [ اسمه يعنى " آدوم يعبد " ] من القورحيين من نسل قهات ( عد 16 : 1 ) ، تمتع ببركة بقاء التابوت فى بيته لمدة ثلاثة أشهر .
نود هنا أن نشير إلى أن داود لم يستشر الرب عندما رغب فى نقل التابوت إلى مدينته ، ربما بسبب الفرح من فكرة نقل التابوت ونوال البركة الإلهية ...
( 3 ) إحضار التابوت إلى أورشليم
قبل عوبيد آدوم تابوت العهد فى بيته بوقار وخشوع لذلك بارك الرب بيته ( 1 أى 13 : 13 ، 2 صم 6 : 12 ) ، وبارك كل ما له ، لذلك فكر داود النبى فى إحضاره إلى أورشليم كما ورد ذلك بالتفصيل فى ( 1 أى 15 ) .
تم ذبح ثيران وعجول .. شكرا لله الذى أعانهم ولم يصبهم ما حل بعزة .
أرتدى داود أفودا من الكتان تحت الجبة ، لكى يعلن عن أتضاعه وعن نقاوة القلب ، لقد رقص داود أمام التابوت معبرا بذلك عن أعماقه الداخلية التى تهتز فى تهليل أمام الرب ، عبر داود عن فرحه بالتابوت فى مزموره الثلاثين ( 29 حسب الترجمة السبعينية ) ، جاء فيه :
" لأن للحظة غضبه ، حياة فى رضاه ،
عند المساء يبيت البكاء وفى الصباح الترنم ،
حولت نوحى إلى رقص لى .
حللت مسحى ومنطقتنى فرحا ،
لكى تترنم لك روحى ولا تسكت ،
يارب إلهى إلى الأبد أحمدك " مز 30 : 5 – 11 .
وضع داود مزمورا خاصا بالأحتفال بقدوم تابوت العهد إلى مدينته ، افتتحه بالصيغة التقليدية : " يقوم الله ، يتبدد أعداؤه ، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه مز 68 : 1 .... عبر هذا المزمور بقوة عن بركات حلول الله وسط شعبه كسر فرح وتهليل ( مز 68 : 3 ، 4 ) ...
وضع أيضا المزمور 24 ليعلن أن بهجته الشديدة بتابوت العهد لا تعنى حصر سكنى الرب فى موضع معين ، إنما هو لرعاية الرب للبشرية كلها ، إذ يقول : " للرب الأرض وملؤها ؛ المسكونة وكل الساكنين فيها " مز 24 : 1 ..... الخ
فى ختام هذا المزمور الرائع يرى داود النبى فى دخول التابوت إلى أورشليم صورة رمزية لصعود السيد المسيح إلى أورشليم العليا بعد نصرته فى معركة الصليب ، إذ يقول :
" أرفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد ، من هو هذا ملك المجد ؟
الرب القدير الجبار ، الرب الجبار فى القتال ... رب الجنود هو ملك المجد " مز 24 : 7 – 10 .
( 4 ) احتقار ميكال له
كانت ميكال تحب داود ( 1 صم 18 : 20 ) ، أنقذته من يد أبيها ( 1 صم 19 : 13 ) ، لكنها لم تكن قادرة أن تشاركه حبه لله وغيرته وإيمانه ، لذا رأت فى خلعه لجبته الملوكية ورقصه أمام التابوت نوعا من السفاهة ، استقبلته باحتقار قائلة له : ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حيث تكشف اليوم فى أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء " 2 صم 6 : 20 .
ميكال تمثل الأنا القابعة فى داخل النفس ، المتقوقعة والمغلقة ، تطلب ما للأنا ، ولا تنفتح على الله والناس ، لذا أصيبت بعمى البصيرة الداخلية وتحجر القلب وفقدان الحس الداخلى تجاه العمل الإلهى الفائق . أما داود النبى فيمثل النفس التى تخلع حب العظمة الزمنية ، وتنفتح بالأتضاع المملوء حبا نحو الله والناس ، فتتحول عن مسوح الحزن إلى منطقة الفرح ، وتعبر من بكاء المساء إلى صباح القيامة !
بارك داود الشعب وأعطى كل واحد رغيف خبز وكأس خمر وقرص زبيب ، رغيف الخبز يشير إلى وحدة الكنيسة وتبادل الحب بين أعضائها إذ تجتمع الحنطة معا فى رغيف خبز ، وكأس الخمر يشير إلى شركة الفرح بالروح ، أما قرص الزبيب فيشير إلى عذوبة الكنيسة وحلاوتها باتحادها .
لم ينس داود بيته فجاء ليباركه ، لكن ميكال انتهرته ، أما هو ففى حزم وبخها على نظرتها غير الأيمانية .
يختم الأصحاح بالقول بأنه لم يكن لميكال ولد من داود ، .... عقر ميكال ربما كان ثمرة لتمردها على الرب ولكبريائها .
+ + +
الأصحاح السابع
اشتياق داود لبناء بيت الرب
شعر داود النبى والملك بإحسانات الرب إليه فأراد أن يبنى له بيتا ، إذ حسب أنه ليس من اللائق أن يسكن هو فى بيت من الأرز بينما يسكن تابوت العهد فى خيمة من الشقق
( 1 ) رغبة داود فى بناء بيت الرب
لم يتبع الكاتب التسلسل الزمنى ، إذ أراد الكشف عما ورد فى قلب داود النبى والملك من جهة بناء بيت للرب عوض الخيمة مباشرة بعد ذكره إحضار التابوت إلى مدينة داود ، بينما ما جاء هنا غالبا ما تحقق بعد الحرب التى وردت فى الأصحاح التالى ، لقد قيل هنا : " وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه " 2 صم 7 : 1 .
بلا شك ظهر هذا الفكر فى أعماق داود النبى عندما بدأ فى بناء بيته ، وربما اشتهى أن يبنى بيت الرب قبل بيته ، حاسبا الله أولا فى كل أمور حياته ، هذا الفكر تزايد بالأكثر بعدما أحضر التابوت إلى مدينته ، لكنه لم يتحدث مع ناثان النبى إلا بعدما استراح من الحروب ، قاصدا أن يبنى بيتا ضخما جدا يحتاج بناؤه إلى أزمنة سلام ، أى إلى تفرغ للبناء دون ارتباك بالحروب .
كان ناثان نبيا أمينا لله وللملك وله وقاره الخاص ، قام بحزم وشجاعة لكنه فى أدب بتوبيخ الملك عندما أرتكب الخطية مع امرأة أوريا الحثى ( 2 صم 12 : 1 – 15 ) . قام هو وجاد الرائى بترتيب خدمة بيت الرب ( 2 أى 29 : 25 ) . عمل مع بثشبع على إقامة سليمان ملكا ( 1 م 8 – 45 ) .
وافق ناثان فى البداية على طلب داود الخاص ببناء بيت الرب ، إذ حسبه طلبا صالحا ولائقا ، لكنه إذ استشار الرب ألا يعمل ذلك بل يترك الأمر لأبنه من بعده .
( 2 ) ابن داود هو الذى يبنى البيت
يبدو أن الله تحدث مع ناثان خلال رؤيا الليل ( 2 صم 7 : 4 ، 17 ) ، وقد رفض الله أن يبنى داود بيتا مقدما له هذا التعليل بأن الله لم يسكن فى بيت منذ إخراجه للشعب من مصر ، ولا طلب ذلك منهم . أكد الله ذلك لئلا يظن شعبه أنه حقق لهم انتصارات لأجل إقامة هيكل عظيم له ، هم أنفسهم بيته الحى . يود أن يسكن فى وسطهم معلنا حضوره الدائم فيهم خلال الحياة المقدسة . هذا ما كشفه العهد الجديد بأكثر وضوح ، عندما طلب التلاميذ من السيد المسيح أن ينظر الأبنية العظيمة التى للهيكل . أكد لهم أنه لن يبقى حجر على حجر إلا وينقض ( مت 24 : 1 ، 2 ) ؛ إن ما يمجد الله ليس فى المبانى الضخمة المادية ، بل فى النفوس الحية التى أقامها السيد المسيح من الأموات ، لذلك أبرز الله معاملاته مع داود كيف أقامه الله من المربض من وراء الغنم ليصير رئيسا لشعبه ، كيف كان معه أينما وجد واهبا له النجاح والغلبة ، وكأنه مع كل نصرة روحية وكل نجاح داخلى يعلن بيت الرب المجيد فينا .
على أى الأحوال ، لم يحرم الله داود سؤل قلبه ، إنما وعده بتحقيق ذلك خلال ابنه الذى يخرج من أحشائه ، مقدما تبريرا لذلك كما جاء فى ( 1 أى
22 : 8 ) بأن داود سفك دما كثيرا وعمل حروبا عظيمة ، لذلك يليق بناء بيت الرب فى أيام سليمان حيث تكون أيامه سلاما .
يقول القديس اغسطينوس :
[ من يظن أن هذا الوعد العظيم ( 2 صم 7 : 12 – 16 ) قد تحقق فى سليمان يخطىء خطأ عظيما ، إذ يسمع القول " هو يبنى لى بيتا " لكنه لا يسمع للقول : " بيته يبقى أمينا وتكون مملكته أمامى إلى الأبد " ليته ينصت ويتأمل بيت سليمان المملوء نساء غريبات يتعبدن لآلهة غريبة ، بل والملك نفسه الذى كان حكيما قد خدع بواسطتهن وسقط فى عبادة الأوثان نفسها ، ليته لا يتجاسر أحد فيظن أن الله قد وعد بذلك باطلا أو أنه كان غير قادر أن يعرف ما سيكون عليه سليمان هذا وبيته .
إذن ، يليق بنا ألا نشك فى أن هذه الأمور قد تحققت فى المسيح ربنا الذى جاء من نسل داود حسب الجسد ( رو 1 : 3 ) ، لئلا تكون نظرتنا هنا باطلة مثل اليهود الجسدانيين الذين يدركون أن الأبن المذكور هنا والموعود به لداود ليس سليمان ومع ذلك فبعماهم العجيب عن الموعود به ( المسيح ) والمعلن عنه يقولون إنهم ينتظرون آخر .
( 3 ) داود يشكر الله
جلس داود غالبا على الأرض وأحنى رأسه أمام الرب ليشكره من أجل هذا الوعد الذى أنعم به عليه قائلا : " من أنا يا سيدى ؟! وما هو بيتى ؟! حتى أوصلتنى إلى هنا ؟! 2 صم 7 : 18 . لقد أدرك أنه ليس عن اشتحقاق شخصى ولا عن كرامة لبيت أبيه نال هذا الوعد الإلهى ، إنما هو نعمة إلهية فائقة جاءت به إلى كرسى الملك ليكون فى حضرة الرب ينعم بسكناه وحلوله معه وسخاء نعمه عليه .
ما أحوجنا أن نجلس فى هدوء داخلى أمام الرب نسمع مواعيده المفرحة ونتحدث معه ، مدركين عظمة عطيته المجانية ، فقد أقامنا من الفساد وجعلنا له ملوكا وكهنة ، وحسبنا أبناء له ننعم بشركة أمجاده .
" وبماذا يعود داود يكلمك وأنت قد عرفت عبدك يا سيدى الرب " 2 صم 7 : 20 . شعر داود بالخجل أن يتحدث مع الله الذى يعرفه تماما ؛ يعرف ضعفات داود وخطاياه ومذلته كما يعرف محبته وغيرته وجهاده وصبره ... ليس شىء مخفيا عن الله .
" فمن أجل كلمتك وحسب قلبك فعلت هذه العظائم كلها لتعرف عبدك " 2 صم 7 ك 21 . ما تقدمه من عطايا فائقة ليس من أجل بر ذاتى فى الأنسان وإنما من أجل وعدك الإلهى ، وكلمتك الثابتة إلى الأبد ، حسب محبتك السرمدية تقدم المواعيد العظمى لعبدك .
من أجل وعده لشعبه أعطى داود هبات كثيرة ، فقد ثبت الله لنفسه شعبا يفتديه بكونه إلههم الذى يتمجد فيهم . من أجل الكنيسة المقدسة التى تحمل اسم المسيح يمنح أسراره الفائقة لمؤمنيه .
يختم داود صلاته بطلب البركة : " فالآن ارتض وبارك بيت عبدك ليكون إلى الأبد أمامك ، لأنك أنت يا سيدى الرب قد تكلمت ، فليبارك بيت عبدك ببركتك إلى الأبد " 2 صم 7 : 29 .
هذه هى البركة ، أن يكون الأنسان أمام الله على الدوام .
+ + +
الأصحاح الثامن
انتصارات داود المستمرة
لم يكن داود منشغلا بمجده الذاتى ولا باتساع رقعة مملكته وإنما كان مهتما بملكوت الله ، لهذا لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت سلطانه إنما كان مشغولا بخدمة الجميع ورعايتهم بكونهم شعب الله ، الآن دخل داود النبى فى حروب كثيرة وتكررت العبارة : " وكان الرب يخلص داود حيثما توجد " 2 صم 8 : 6 ، 14 . حصل على هدايا وغنائم كرسها لخدمة بيت الرب .
كإنسان حكيم مهتم بملكوت الله لم تشغله الحروب الخارجية عن الأهتمام بتدبير أمور مملكته الداخلية بحكمة واتزان .
( 1 ) نصرته على الأمم المجاورة
كانت حروب داود النبى ضد الأمم الوثنية التى انجرفت تماما فى الرجاسات مع العنف والقسوة ، تشير إلى جهاد المؤمن ضد الخطية بكل رجاساتها وعنفها .
لقد ضرب داود :
( أ ) الفلسطينيين : " أخذ زمام القصبة من يد الفلسطينيين " 2 صم 8 : 1 ؛ أى أخذ جت وقراها ، بكونها قصبتهم وزمام دولتهم المتسلطة على يهوذا ودان ، إذ كانت جت على تخم يهوذا وبالقرب من دان .
( ب ) الموآبيين : سبق أن أودع داود والديه لدى ملك موآب ( 1 صم 22 : 3 ، 4 ) ، لسنا نعرف متى تحولت هذه الصداقة إلى عداوة لتستمر بعد ذلك . ربما كان موآب يسند داود عندما كان شاول يقاومه ، يهدف بذلك إلى مقاومة شاول كملك رسمى ، لكن إذ صار داود ملكا واتحدت الأسباط معا تحت قيادته واستقرت مملكته ثار موآب ضده .
ضرب داود المدينة ، قتل الثلثين ، واستبقى الثلث يدبرون أمورهم الداخلية مقابل دفع جزية ، وقد تحققت ببوة بلعام : " يقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفى موآب " عد 24 : 17 .
بقى موآب يدفع الجزية حتى موت آخاب حيث ثار ملك موآب ضد إسرائيل وعصاه ( 2 مل 3 : 3 ، 4 ) .
( جـ ) السوريين أو الأراميين : كانت آرام تضم فى الشمال مملكتين عظيمتين متمايزتين : آرام صوبة ( يظن البعض أنها حمص ) تسيطر على عدة ملوك ؛ وآرام النهرين ( عاصمتها دمشق )
بدأ داود بمحاربة هدد ( هدر ) عزر ملك آرام صوبة ، ضربه داود من الغرب فى حماه ( 1 أى 18 : 13 ) ، من الوراء فجاء ملك آرام دمشق لنجدته فضربه داود [ يرى البعض أن آرام دمشق هى ذاتها آرام النهرين ، موقعها فدان آرام حيث عاش الآباء ابراهيم واسحق ويعقوب ] .
بضرب داود آرام صوبة وآرام دمشق حطم كل ممالك آرام العظيمة ؛ ولكى لا تتجمع جيوشهم ثانية لمحاربته أقام محافظين فى صوبة ودمشق ، وألزمهم بدفع جزية .
استولى داود على أتراس الذهب ( مطلية بالذهب ) ، وهى أتراس حراس الملك ، وجاء بها إلى أورشليم ، كما جاء بنحاس كثير جدا من مدينتى هدد .. استخدم سليمان الحكيم النحاس الذى أخذ من هاتين المدينتين فى صنع بحر النحاس والأعمدة والآنية النحاسية .
( 2 ) توعى ملك حماة يقدم هدايا لداود
أرسل توعى أو توعو ملك حماة ابنه إلى داود ليسأل عن سلامته ويباركه بسبب ضربه هدد عزر ، الذى كان عدوا لتوعى . قدم الأبن هدايا : آنية فضة ، آنية ذهب ، آنية نحاس ، قدسها داود لحساب بيت الرب . هكذا قبل داود هذه الأرسالية ، معلنا أنه لا يهوى الحرب بل يطلب السلام .
( 3 ) تقديس الغنائم والهدايا
كان داود الملك يهيىء الطريق لسليمان ابنه لبناء بيت الرب من جانبين :
( أ ) إخضاع الأمم المقاومة مثل آرام النهرين وآرام صوبة وآدوم ، وإقامة علاقات ود مع الأمم المسالمة مثل مملكة حماة ... حتى يعيش سليمان متفرغا لبناء بيت الرب فى جو من السلام .
( ب ) إعداد الأمكانيات للبناء ، إذ لم يستخدم داود الغنائم والهدايا لصالحه الخاص ولا لإثراء أسرته وسبطه وإنما قدم الغنائم مع الهدايا لحساب بيت الرب .
ميز داود النبى بين التماثيل الذهبية والآنية الذهبية ، الأولى حرقها ( 2 صم 5 : 21 ) والثانية خصصها لخدمة بيت الرب . الأولى أى الأصنام تشير إلى الشر الذى يجب تحطيمه تماما ، فإن الله ليس فى حاجة إلى الذهب والفضة ... والثانية تشير إلى تحويل الطاقات والمواهب المستخدمة للشر إلى طاقات ومواهب لحساب ملكوت الله . الله يرفض الشر ويقدس ما دنسناه خلال الشر ، يكره الخطية لا الخطاة .
قيل أيضا : " ونصب داود تذكارا عند رجوعه من ضربه ثمانية عشر ألفا من آدوم فى وادى الملح " 2 صم 8 : 13 . هكذا أقام نصبا تذكاريا يعلن تحطيمه آدوم ( أى ما هو أرضى ) ... ما هو هذا النصب إلا صليب ربنا يسوع المسيح الذى حولنا عن الزمنيات إلى السماويات .
( 4 ) تدبير أمور المملكة الداخلية
كما نجح داود فى حروبه ضد الأمم المقاومة وكسب صداقات الأمم المسالمة نجح أيضا فى الأهتمام بشئون مملكته الداخلية ورعاية شعب الله على خلاف شاول الذى كان قويا فى الحروب وفاشلا فى سياسته الداخلية .
أولا : اهتم بكل الشعب وبالقضاء لهم بالعدل : " وملك داود على جميع إسرائيل ، وكان داود يجرى قضاء وعدلا لكل شعبه " 2 صم 8 : 15
ثانيا : نجح فى توزيع المسئوليات على قادة يسندونه ، فأقام :
يوآب على الجيش - يهوشفاط بن أخيلود مسجلا يكتب أحكام الملك ويحفظها - صادوق بن أخيطوب ، وأخيمالك بن أبياثار كاهنين – سرايا كاتبا – بناياهو بن يداع رئيسا على الجلادين – بنو داود حسبوا كهنة وهذا لا يعنى ممارستهم للعمل الكهنوتى بل كشفعاء عن الشعب أمام داود ، يقدمون لداود طلبات الشعب الحقيقية ....
+ + +
الأصحاح التاسع
داود ومفيبوشث
عادة إذ يستريح الأنسان ويستقر ينسى الماضى بالآمه ويتجاهل مشاعر الغير ، أما داود النبى والملك صاحب القلب الكبير فنجاحه واستقراره دفعه بالأكثر إلى بحثه عن راحة الآخرين ، لقد أراحه الله من جميع أعدائه ، وبعد موت شاول ويوناثان بحوالى 15 سنة لم ينس عهده مع يوناثان ( 1 صم 20 : 14 – 17 ) ، فبدأ يسأل إن كان قد بقى أحد من بيت شاول لكى يصنع معه إحسانا من أجل يوناثان . سمع عن مفيبوشث بن يوناثان ، الأعرج الرجلين ، فاستدعاه ليرد له حقول جده شاول ويقيمه ضيفا دائما يأكل معه على مائدته كأحد أفراد أسرته .
( 1 ) داود يستدعى مفيبوشث
من العادات القديمة أن يقتل الملك الجديد كل نسل الملك السابق لئلا يقاوموه ويطلبوا الملك لأنفسهم ( 2 مل 11 : 1 ) ، أما داود النبى فأدرك أنه لم يستلم الملك من يد إنسان بل من الله ، ولأنه لم يضع قلبه على المجد الزمنى بل مجد الله لذا لم يخف على كرسيه ولا طلب قتل نسل شاول ، إنما على العكس إذ استقر بدأ يبحث عمن بقى من نسل شاول ليصنع معه معروفا ( 2 صم 9 : 1 ) .
استدعى صيبا عبد شاول ووكيله قبل موته ، فامتثل أمام داود الملك وأخبره بأنه يوجد بعد أبن ليوناثان أعرج الرجلين ( 2 صم 9 : 3 ) ، وأنه فى بيت رجل غنى يدعى ماكير بن عميئيل فى لودبار بجلعاد شرقى الأردن .
( 2 ) داود يرد حقول شاول لحفيده
كان داود النبى والملك نبيلا للغاية فى تعامله مع مفيبوشث ، كريما فى عطائه له :
( أ ) تحدث معه وهو صبى صغير السن وأعرج كإنسان معجب به ، يسر بالحديث معه ، ذى كرامة ... لقاء داود معه كان أثمن بكثير وأعظم من الحقول التى ردت إليه ، إذ أعطاه هذا اللقاء ما يريح نفسه الداخلية ويشبعها ، الأمر الذى لا تقدر كل مقتنيات العالم أن تهبها للإنسان .
( ب ) يبدو أن مفيبوشث كان خائفا أن يقتله الملك ، لذا طمأنه داود قائلا له : " لا تخف ، فإنى لأعملن معك معروفا من أجل يوناثان أبيك " 2 صم 9 : 7 . ما زرعه يوناثان من حب خالص وأمانة فى صداقته لداود يجنيه أبنه مفيبوشث بعد موت أبيه بسنوات .
( جـ ) قدم داود حبا عمليا له : " أرد لك كل حقول شاول أبيك " 2 صم 9 : 7 ، وطلب من صبيا ( يبدو أنه رجل طماع وخبيث أراد فيما بعد عندما طرد داود أن يغتصب هذه الممتلكات ) أن يعمل هو وبنوه وعبيده فى حقول شاول لحساب حفيده مفيبوشث .
( د ) أخيرا حسبه كأهل بيته : " وأنت تأكل خبزا على مائدتى دائما " 2 صم 9 : 7 ... لم يحتمل مفيبوشث هذا الكرم الشديد والحب المتدفق والرقة غير المتوقعة حتى وهو أعرج : " سجد وقال : من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلى ؟! " 2 صم 9 : 8 .
سبق أن سجد داود ليوناثان بكونه ولى العرش ( 1 صم 20 : 41 ) ، وها هو ابن يوناثان يسجد لداود كملك .
داود فى سخائه يرمز إلى السيد المسيح ، الذى يدعونا إليه لنلتقى معه كأحباء ؛ ينزع عنا الخوف ، ويرد لنا ما قد فقد منا ( الطبيعة الصالحة التى خلقنا عليها ) كما وهبنا أن نجلس على مائدته السماوية نتناول جسده ودمه المبذولين سر خلاص وتمتع بالحياة الأبدية .
+ + +
الأصحاح العاشر
تآمر الرؤساء على داود
أراد داود صاحب القلب الكبير أن يصنع معروفا مع حانون ملك عمون من أجل ما فعله أبوه ناحاش معه ، لكن المشيرين أساءوا الفهم وأثاروا الملك ضده مدعين أن داود أرسل جواسيس – ولا معزين – ليقتحم المدينة ، فتحالف حانون مع الملوك المحيطين به لمحاربة داود ... لكن داود انتصر عليهم .
كانت هذه الحروب وأمثالها فرصة ليسجل لنا داود النبى بعض مزاميره ( مز 2 ، 20 ، 21 ، 60 ، 110 ) التى تنبأت عن ثورة الأمم ، وتآمر الرؤساء على السيد المسيح حتى يصلب ، ويبقى الأشرار يتحالفون ضد كنيسته فيتمجد السيد المسيح فى الكنيسة المضطهدة .
( 1 ) حانون يهين رسل داود
أساء مشيرو حانون ملك بنى عمون الظن بداود إذ حسبوا أن رسله للتعزية جواسيس لأقتحام المدينة ، وبمشورتهم الشريرة أثاروا حربا عظيمة أدت إلى هلاك الكثيرين ، ما أخطر إساءة الظن على حياتنا .
جاء رسل داود إلى مدينة ربة أو ربة عمون ، اسمها الحديث عمان ، عاصمة شرق الأردن ، يمر بها الطريق التجارى بين دمشق وشبه الجزيرة العربية .
استمع حانون لمشيريه الأشرار فحلق نصف لحى الرسل وشق ثيابهم .... يعتبر هذا العمل عند العبرانيين إهانة عظيمة ، سمع داود الملك فذهب إليهم وطلب منهم ألا يرجعوا إلى أورشليم حتى لا يخجلوا من لقائهم مع رجال البلاط ، هكذا حمل داود مشاعر رقيقة ، إذ يهتم بمشاعر كل إنسان ويخشى أن تجرح !
( 2 ) الغلبة على بنى عمون وملوك آرام
شعر بنو عمون أن إهانة سفراء داود موجهة إلى الدولة كلها ، ملكا وشعبا ، وأنه لا بد أن ينتقم داود منهم ، فاستأجروا آراميين من ممالك آرام وتحالفوا معهم على محاربة داود ، هكذا دفعت إساءة الظن إلى حرب طاحنة بين دول وممالك كثيرة !
إذ سمع داود بتحالف هذه الممالك معا ضده لم يخف وإنما بالأكثر تمسك بوعود الله له ، فاستعد للحرب متكئا على قوة الرب نفسه ، قائلا :
" لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب فى الباطل ..
قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه ..
الساكن فى السموات يضحك ، الرب يستهزىء بهم ..
إنى أخبر من جهة قضاء الرب .
قال لى : أنت أبنى ، أنا اليوم ولدتك ، أسألنى فأعطيك الأمم ميراثا لك وأقاصى الأرض ملكا لك ...
فالآن أيها الملوك تعقلوا ..... " مز 2
لم يكن ممكنا لداود برجاله المشاة أن يقاوم هذه الممالك المجتمعة التى تحاربه من بنى عمون والآراميين ، والتى خرجت بمركبات وخيل .. إنما اتكل على قوة الله ، قائلا :
" يارب بقوتك يفرح الملك ، وبخلاصك كيف لا يبتهج جدا ؟! " مز 21 : 1
" هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ، أما نحن فأسم الرب إلهنا نذكر " مز 21: 1
رأى داود خلال هذه المعركة التى طرفاها الله نفسه وقوات الظلمة أى ابليس ، معركة الصليب حيث تجمعت قوات الظلمة ضد الأبن الوحيد الجنس ، لذا أنشد قائلا :
" قال الرب لربى أجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك " مز 110 : 1
خرج بنو عمون واصطفوا للحرب عند مدخل المدينة ، غالبا " ربة " ، بينما كان الآراميون ( السوريون ) فى السهل ( الحقل ) مقابل ميديا ( 1 أى 19 : 7 ) حتى يسهل تحرك مركباتهم .
بحكمة قسم يوآب رجاله قسمين ، أخذ الجبابرة معه متجها نحو الآراميين بينما ذهب أخوه أبيشاى متجها نحو بنى عمون ، واتفقا معا أنه إن ضعف طرف يسنده الآخر .
خاف بنو عمون وهربوا ، والآراميون لم يستطيعوا الوقوف أمام يوآب ورجاله الأبطال ، عاد يوآب وأبيشاى مستحسنين تأجيل الحرب لمدة سنة كاملة ( 2 صم 11 : 1 ) .
اتفاق يوآب مع أخيه ابيشاى أن يكون كل منهما مستعدا لنجدة الآخر يكشف عن أحد ملامح الجهاد الروحى ، وهى مساندة العضو لأخيه .
( 3 ) الغلبة على هدر عزر
حاول الآراميون أن يردوا اعتبارهم وسمعتهم فتجمعوا من جديد لمحاربة رجال داود ؛ وقد بعث إليهم هدر عزر ملك آرام صوبا ( 2 صم 8 : 3 ) شوبك رئيس جيشه ، لكن داود غلبه وقتل شوبك فى الحرب ، فخاف الملوك الخاضعون لهدر عزر وتصالحوا مع داود واستعبدوا له ولم يعودوا يساندون بنى عمون بعد .
+ + +
قصـــــــة سقـــــوط داود النبى ، وتوبتــــــــــه [ صموئيـــــل الثــــــانى ]
الأصحــاح الحــادى عشــر
سقوط داود مع بثشبع
بينما ذهب جيش إسرائيل للحرب بقيادة يوآب ، نجد أن داود أقام فى أورشليم . استسلم داود للتراخى وتمشى على السطح وترك العنان لعينيه تتطلعان إلى امرأة ... فانحدر تدريجيا حتى ارتكب خطايا بشعة .
( 1 ) تراخى داود
الخطوة الأولى فى السقوط هى التهاون والأسترخاء ، لم يسقط داود فى مثل هذه الخطية ( الزنا ) حين كان يجاهد فى صباه وشبابه وهو يرعى الغنم ، وحين عمل فى البلاط الملكى لدى شاول ، وحين صار طريدا أمام الملك ، وأيضا حين كان ملكا على سبط واحد ، وحين اهتم بخلاص الأسباط جميعها ، أما الآن وقد استقرت مملكته وتزايد فى المجد وصار له بيت من الأرز ترك الحرب ليوآب رئيس جيشه واسترخى فى بيته فى أورشليم .
فى وقت المساء عوض الصلاة من أجل المجاهدين قام عن سريره وتمشى على سطح البيت :
" فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدا " 2 صم 11 : 2 ...
حياة التراخى خلقت فراغا فى القلب والحواس ليطلب الأنسان شبعا لحواسه بجمال خارجى .
( 2 ) السقوط التدريجى
" فأرسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثى .. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهى مطهرة من طمثها ، ثم رجعت إلى بيتها " 2 صم 11 : 3 ، 4 .
كان داود قويا ، لم يسقط قط منذ صباه فى الزنا ، ولا قتل أحدا بظلم ، ولا مال يمينا أو يسارا عن الشريعة اللهم إلا فى بعض لحظات ضعف بسيطة ، كيف يسقط الآن وهو ملك قوى ونبى مختار وقاض عادل للشعب ؟!
لعل داود لم يكن يتوقع فى نفسه أنه ينحدر يوما إلى هذا السقوط الشنيع ، لكن الخطية خاطئة جدا ومخادعة للغاية ، تعرف كيف تلقى شباكها وفخاخها لتصطاد الجبابرة تدريجيا ...
لقد نسى داود الآتى :
- أنه مسيح الرب ونبيه الذى نال نعما إلهية عظيمة ...
- أنه فى حالة حرب ، وكان يليق به أن ينزل المعركة ....
- يغتصب امرأة متزوجة كاسرا الشريعة التى تطلب قتل الأثنين ( لا 20 : 10 ) .
- يخون بطلا أمينا يدافع عن مملكته ، وهو رجل غريب الجنس متهود .
لقد كان الوقت مساء ( 2 صم 11 : 2 ) حين قام داود عن سريره يتمشى على سطح بيته ويتطلع نحو امرأة تستحم . كان الوقت ملائما للسقوط ، لأن " شمس البر " قد غرب عنه ، وحلت الظلمة حوله ، فعاش كما فى ليل .
( 3 ) علاجه البشرى
بحسب الشريعة كانت بثشبع مستوجبة القتل ، لذلك أرسلت إلى الملك ليدبر أمر خلاصها من الموت ، أرسل داود إلى رجلها يطلبه من الحرب لينزل إلى بيته ، فيحسب الحمل منه وتختفى آثار الجريمة ، لكن أوريا لم يرض أن ينام فى بيته مادام إخوته يجاهدون فى الميدان !
لقد وبخ الله داود على لسان أوريا دون أن يدرى ، إذ قال له :
" إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون فى الخيام وسيدى يوآب وعبيد سيدى نازلون على وجه الصحراء ، وأنا آتى إلى بيتى لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتى ؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر " 2 صم 11 : 11 .
لقد حسب أوريا أن إيمانه بالله وقدسية حياته بل وشهامته كرجل حرب بل وإنسانيته ، هذه جميعها تمنعه عن أن يدخل بيته فى ذلك الوقت ليأكل ويشرب بينما المعركة دائرة .
استخدم داود كل وسيلة إخفاء جريمته ، دعا الرجل حاسبا أنه يجد فى هذه الدعوة فرصة لممارسة العلاقات الجسدية مع زوجته الجميلة ، وأصدر الأمر إليه أن يدخل بيته فرفض حبا فى الله وداود وشعبه وتكريما لإخوته فى الحرب ، وأخيرا أسكره ... وحتى بعد سكره لم ينزل إلى بيته ( 2 صم 11 : 13 ) .
( 4 ) تسليم أوريا الحثى
ضاق الأمر جدا بداود الجبار ، فأحدرته الخطية إلى السقوط فى سلسلة مرة من الخطايا البشعة ، إذ سلم بطله الأمين خطابا يحمل رسالة خفية بقتله على يدى الأعداء دون ذنب .
استهان داود بالعدل واحتقر روح الأمانة والأخلاص مسلما القائد الأمين ومعه نفوسا بريئة للموت بأيدى الأعداء لا لسبب سوى ستر فضيحته وإخفاء الحقيقة عن الأعين .
هل أدرك يوآب سر هذه الرسالة المختومة ؟
ربما لم يدركها فى البداية وكان عليه أن يطيع أمر سيده . لكنه قطعا فهم ما وراءها عندما تزوج داود بأمرأة الرجل بعد انقضاء فترة الحزن مباشرة .
كانت بالنسبة ليوآب فرصة ثمينة ليحقق طلب الملك فلا يعود الملك يذله على قتله لمنافسه أبنير ( 2 صم 3 ) . شعر داود بنوع من المذلة أمام يوآب ، لهذا نجد يوآب يتجاسر ويتحدث مع داود بعد قتله أبشالوم كما بسلطان ( 2 صم 19 : 5 – 8 ) ، وقد حاول عزله من منصبه فلم يقدر فأوصى ابنه سليمان بقتله ( 1 مل 2 : 5 ، 6 )
هكذا التحمت قساوة نفس داود مع النجاسة ، فالأنسان الساقط تحت ثقل النجاسة تجده عنيفا وقاسيا فى أعماقه حتى وإن كان له مظهر الرقة والوداعة ، والأنسان العنيف فى أعماقه ينهار أمام شهوة الجسد فى مذلة .
نعود إلى داود لنجده قد اشتعل غضبا بسبب محاولة يوآب اقتحام المدينة والأقتراب منها جدا ، أخبروه بأن أوريا الحثى مات فسكن غضبه !
سمعت بثشبع عن موت رجلها فندبته سبعة أيام حسب العادة القديمة ، ثم ضمها داود الملك زوجة له ، حاسبا أن ستارا قد أسدل على جريمته إلى الأبد ، فاستراح ضميره إلى عام كامل .
" وأما الأمر الذى فعله داود فقبح فى عينى الرب " 2 صم 11 : 27 .
الله ليس عنده محاباه ، فإن كان داود قد جاهد كثيرا من أجل الله ولبنيان شعبه لكنه لا يتستر على جريمته هذه ، ولا يقبل هذا الفعل الشرير ... إنه ينتظر توبته ، فإن استكان ضميره يرسل له من يوقظه ويوبخه .
كانت المرأة بعيدة لكن الشهوة قريبة ؛ وكأن ما نرتكبه من خطايا ليس هو ثمرة الظروف إنما لأننا نملك الخطية فينا ، تقودنا وتسحبنا إلى حيث تشاء .
الأصحاح الثانى عشر
اعتراف داود النبى
عاش داود النبى عاما كاملا مع خطيته لم يبكته ضميره عليها بالرغم من خبراته الروحية القديمة ومعرفته للناموس وعمله كقاض للشعب يحكم بالعدل ، كان محتاجا إلى ناثان ليبكته على عمله ويحفزه على الأعتراف بما أرتكبه .
( 1 ) ناثان يوبخ داود
أرسل الرب ناثان إلى داود ليوقظ ضميره ، فروى له قصة الرجل الغنى الذى أبى أن يذبح إحدى نعاجه لضيفه ، مغتصبا نعجة الفقير الوحيدة الصغيرة التى اقتناها لنفسه ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعا ، أكلت من لقمته وشربت من كأسه ، ونامت فى حضنه وكانت له كأبنة . حمى غضب داود على هذا الغنى المغتصب أخاه الفقير وأصدر حكمه :
" حى هو الرب أن يقتل الرجل الفاعل ذلك ، ويرد النعجة أربعة أضعاف ، لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق " 2 صم 12 : 6
أجابه ناثان النبى : " أنت هو الرجل " 2 صم 12 : 7
الضيف الجائع هى شهوة داود التى ثارت فيه خلال تراخيه وتهاونه مع الخطية ، فأراد أن يشبعها باغتصابه بثشبع الصغيرة الوحيدة المحبوبة جدا لدى رجلها ، هذه التى عاشت معه تشاركه حياته وأكله وشربه وسرير نومه ، رافقته زمانا بكل أحاسيسها ومشاعرها ، والآن يغتصبها الغنى جدا داود الذى أقامه الله ملكا والذى تهاون بالناموس بزواجه كثيرات ، فى كل يوم كان داود يتعظم جدا لأن رب الجنود كان معه ( 2 صم 15 : 10 ) . كان الله يود أن يقدم له أكثر فأكثر لكنه بخطيته أغلق على نفسه دون فيض النعم المجانية .
بحسب الشريعة لا يقتل السارق إنما يرد أربعة أضعاف ، لكن ظروف السرقة كما وصفها ناثان ( وتنطبق على داود ) أغضبت داود جدا فطلب قتل الرجل دون أن يدرك أنه يحكم على نفسه ، خاصة وأنه لم يسرق نعجة وحيدة بل امرأة إنسان مخلص وأمين ، اغتصبها فى ظروف حرب وقتل رجلها .... فماذا يستحق ؟
كان يمكن أن يتعرض ناثان لذات مصير أوريا الحثى ، كان صريحا وحازما وأيضا مملوءا حبا .... فتح أبواب الرجاء أمام داود الملك .
جاء ناثان ليتحدث مع داود خفية دون أن يقف ليشهر به علانية ، وإن كان الله قد سمح بنشر كل ما حدث لأجل خلاصنا ، هكذا يليق بنا عند توبيخنا للغير أن نلتقى بهم خلال دائرة الحب والصداقة ، لا التشهير العلنى أمامهم أو فى غيبتهم .
( 2 ) تأديب داود
محبة الله لداود دفعته أن يرسل له ناثان لإيقاظ ضميره ولتأديبه علانية ، فمن الأفضل له أن يفضح هنا فى الزمان الحاضر فيتوب ويرجع إلى الله عن أن يغطى على جراحات النفس فيهلك الأنسان فى خطيته أبديا ، لذلك قال ناثان لداود :
" والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد ، لأنك احتقرتنى وأخذت امرأة أوريا الحثى لتكون لك امرأة . هكذا قال الرب ، هانذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك فى عين هذه الشمس ، لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس " 2 صم 12 : 10 – 12
يبدو أن هذ التأديب كان قاسيا للغاية لكنه كان ضروريا لخلاص نفسه وخلاص الآخرين :
( أ ) أوضح أن هذا التأديب هو الثمر الطبيعى للخطية ، فما يجتنيه داود إنما القليل من ثمار فعله : فمن جهة مات ابنه الذى من بثشبع ، واغتصب أمنون بن داود ثامار أخته ( 2 صم 13 : 1 – 22 ) فقتله أخوه أبشالوم ( 2 صم 13 : 23 – 38 ) ، وقام أبشالوم على أبيه داود ليغتصب منه الملك واضطجع مع سراريه أمام جميع إسرائيل ( 2 صم 16 : 22 ) وطلب قتل والده ( 2 صم 17 : 2 ) فقتل هو ( 2 صم 18 : 14 ، 15 ) ، وقتل أدونيا بأمر أخيه سليمان ( 1 مل 2 : 25 ) .... هذه جميعا تمت داخل بيت داود لكن يؤكد الله أن ما تم إنما هو ثمر طبيعى داخلى للفساد الذى قبله داود بإرادته .
( ب ) خلال تأديبات داود التى حلت ببيته أوضح الكتاب المقدس خطورة دور الأسرة وقدسيتها ، فما أرتكبه داود أثمر فى حياة أولاده ، وإن كانوا لا يعاقبون على خطئه ، إنما يذوقون هنا مرارة ما ورثوه عن أبيهم ، الآباء الفاسدون يقدمون لأبنائهم فسادا ، والمباركون يقدمون لهم البركة .
( جـ ) كانت العقوبة قاسية بالنسبة لداود لأنه قائد ؛ كان يليق به أن يكون مثالا لشعبه ، لذا صارت عقوبته مضاعفة . فالعقوبة ليست ثمنا معادلا للخطية ، لكنها تأديب لإصلاح المخطىء ومن هم حوله ، تختلف حسب ظروف كل إنسان .
( د ) لتأكيد أنه ليس عند الله محاباه ، فإنه وإن كان قد أقامه نبيا وملكا وقاضيا ، وله تاريخ مجيد فى حياة مقدسة لكنه متى أخطأ يستوجب التأديب .
( 3 ) توبة داود
دخل داود النبى إلى أعماقه ليكتشف ضعفاته دون تقديم أى مبررات خارجية لنفسه . شعر أنه أخطأ بلا عذر ، وحسب خطيته موجهة ليس ضد أوريا الحثى ولا بثشبع وإنما أولا وقبل كل شىء ضد الله نفسه . لم يخجل كملك عظيم ونبى وقاض ومنظم لأمور العبادة أن يعترف لله فى حضرة ناثان النبى قائلا :
قــد أخطــأت إلى الــرب 2 صم 12 : 13
شعر أن الخطية فى داخله مرة للغاية لذا وجب عليه أن يتقيأها ، وكما يقول ماراسحق السريانى : [ تذكر أن كل لذة يتبعها غثيان ومرارة كصديقين متلازمين ] . لقد تقيأ المر الذى فى داخله فى خجل من نفسه ومن خطيته لا من الأعتراف أمام ناثان .
جاءت إجابة ناثان تعلن حب الله الفائق : [ الرب قد نقل عنك خطيتك ، لا تموت ] ...
بحسب الشريعة كان يجب أن يقتل لكن الله فى رحمته عفا عنه فلا يقتل ، كما بالتوبة ينعم بالخلاص – خلال الذبيحة المقدسة – فلا يموت بل يتمتع بالحياة الغالبة للموت .
خلال هذه التوبة الصادقة سجل لنا داود النبى الكثير من " مزامير التوبة " مثل مز 6 ، 32 ، 38 ، 51 ، 102 ، 130 ، 143 يتوجها المزمور الخمسون ( مز 51 ) الذى ننشده مع كل صلاة طالبين مراحم الله بالتوبة الصادقة :
" ارحمنى يا الله كعظيم رحمتك ،
ومثل كثرة رأفتك تمحو إثمى ، تغسلنى كثيرا من إثمى ،
ومن خطيتى تطهرنى ، لأنى عارف بإثمى ، وخطيتى أمامى فى كل حين ........... " .
+ أيا كنت أنت يا من تخطىء وتتردد فى ممارسة التوبة عن خطاياك ، يائسا من خلاصك ، اسمع داود يتنهد ، لم يرسل إليك ناثان ، إنما داود نفسه مرسل لك .
اسمعه يصرخ ، واصرخ معه !
اسمعه يتنهد ، وتنهد معه !
اسمعه يبكى ، واخلط دموعك بدموعه !
اسمعه وهو يصلح نفسه ، وافرح معه !
إن كانت الخطية لم تنزع عنك ، فلا تنزع الرجاء فى المغفرة !
لم تكن خطية داود قبلا أمامه بل خلف ظهره ، لم يكن يعرف إثمه .... لكن جاء النبى بهذا الهدف أن يأخذ خطيته من وراء ظهره ويضعها أمام عينيه ، ......
( 4 ) موت ابن بثشبع
مرض الطفل جدا فتذلل داود من أجل محبته للطفل ، وأيضا لأنه شعر أن موت الطفل علامة غضب الله على والديه . كان يترجى أن الله يشفق على الطفل وعلى والديه ، فكان يصلى صائما واضطجع على الأرض ( 2 صم 12 : 16 ) .
" قام شيوخ بيته عليه ليقيموه عن الأرض فلم يشأ ولم يأكل معهم خبزا " 2 صم 12 : 17 .
فى اليوم السابع مات الطفل ، وخاف عبيد داود أن يخبروه لما رأوا فيه من تذلل . رآهم يتناجون فأدرك ما حدث ، ولما سألهم أجابوه إن الطفل مات . قام داود عن الأرض واغتسل وتدهن وبدل ثيابه ودخل بيت الرب وسجد ثم جاء إلى بيته يطلب أن يأكل !!.
ما أعجب داود النبى الذى أعلن تسليمه الكامل لإرادة الله ، لقد تذلل قبلا طالبا الرحمة ، أما وقد مات الولد فيخضع لإرادة الله قائلا : " الآن قد مات فلماذا أصوم ؟ هل أقدر أن أرده بعد ؟! أنا ذاهب إليه وأما هو فلا يرجع إلى " 2 صم 12 : 23 .
القلب المنفتح على السماء لا يخاف الموت بل يقبله بفرح كانطلاق نحو المسيح .
+ لا تخاف الموت ، فقد دبر الله إعدادات لتقوم غالبا الموت .
( 5 ) ميلاد سليمان
عزى داود بثشبع ، فإنه لم يطردها بكونها علة أحزانه ومتاعبه ؛ وأنجب منها سليمان ( معناه " سالم " أو " صانع سلام " ) ، إذ فى أيامه استراحت المملكة من الحروب ( 1 أى 22 : 9 ) .
أحب الله هذا الطفل ، وأرسل ناثان حيث دعاه " يديديا " أى " محبوب الله " ، ليؤكد الله لوالديه أنه وإن مات الطفل الأول للتأديب فالثانى يعلن محبة الله لهما وغفرانه خطيتهما .
( 6 ) داود يهزم ربة
عاد الكاتب إلى خبر الحرب مع بنى عمون الذى بدأه فى 2 صم 11 : 1 حيث هزم يوآب ربة عاصمة بنى عمون ، أرسل إلى داود الملك ليأتى ويدخل المدينة حتى تحسب النصرة لداود وتنسب إليه المدينة كغالب ومنتصر . بالفعل خرج داود وحاربها وأخذ تاج ملكها الذى يزن وزنة ذهب ( حوالى 18 رطلا ) مع حجر كريم ، لبسه داود ، وذلك بأن أمسكه أثنان من العظماء ورفعاه على رأسه بعض الوقت علامة تسلطه على مملكة بنى عمون . تمتع داود بغنائم كثيرة بعد أن قتل شعب المدينة .
الأصحاح الثالث عشر
أمنون وثامار
أخطأ داود فى الخفاء مع بثشبع ، وبقى الأمر مخفيا إلى حين ، لتظهر رائحة الفساد القاتلة علانية فى بيت داود ، لقد سقط أمنون بكامل حريته فى الشهوة وأحب أخته التى من أبيه دون أمه ، أحبها جدا لجمالها حتى مرض وإذ تمكن منها أذلها ثم طردها لأنه أبغضها جدا ولم يطق أن يراها !
لنتصور ماذا كان حال داود ومركزه بين قواده ورؤساء الشعب حين بلغهم هذا الخبر ؟!
هذا التصرف من جانب أمنون اثار سخط أبشالوم من أجل أخته ثامار ، وبعد سنتين دبر أمر قتله وهرب ففقد داود الأثنين !
( 1 ) سقوط أمنون فى حب ثامار
تبقى قصة أمنون وثامار عبر الأجيال تمثل صورة حية للتمييز بين الحب والشهوة ، الحب تحرر من الأنا ليعطى الأنسان ذاته لبنيان نفسه والآخرين فيتعامل مع الغير – خاصة الجنس الآخر – كأشخاص لهم تقديرهم ، أما الشهوة فهى تقوقع حول الأنا ليطلب الأنسان إشباع لذاته أو كرامته الخ .... ، يتعامل مع الغير كأدوات لتحقيق شبعه ، أحب أمنون ثامار جدا ، بمعنى آخر أحب جمالها وجسدها لا إنسانيتها وشخصها ، أو أحب أن يشبع شهوته بجمالها ، وإذ كانت أخته لم تستطع أن يتزوجها ، لذلك عسر فى عينيه أن يفعل لها شيئا ، وكانت ثامار عذراء تقيم فى جناح النساء .
حطمت الشهوة أمنون فصار يضعف يوما فيوما ، حار جدا الأمر الذى أزعج صديقه الحميم وأبن عمه يوناداب بن شمعى أو شمة أخى داود ( 1 صم 16 : 9 ) ، وكان الرجل ذكيا جدا ، قادرا على التفكير للخير كما للشر ، سأل يوناداب أمنون عما يفكر فيه ، فأجاب : " إنى أحب ثامار أخت أبشالوم أخى " 2 صم 13 : 4 . قدم لــه يوناداب مشورة لأغتصابها :
" اضطجع على سريرك وتمارض ، وإذا جاء أبوك ليراك فقل له : دع ثامار أختى فتأتى وتطعمنى خبزا وتعمل أمامى الطعام لأرى فآكل من يدها " 2 صم 13 : 5 .
نفذ أمنون هذه المشورة الشريرة ، وجاءت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع ، فأخذت العجين وعملت كعكعا أمامه وخبزته ، وأخذت المقلاة وسكبت أمامه ، فأبى أن يأكل ، طلب أن يخرجوا كل إنسان عنه ثم أمسكها ليغتصبها ، أما هى ففى عفة قالت له :
" لا يا أخى لا تذلنى ، لأنه لا يفعل هكذا فى إسرائيل ،
لا تعمل هذه القباحة ،
أما أنا فأين أذهب بعارى ؟!
وأما أنت فتكون كواحد من السفهاء فى إسرائيل .
والآن كلم الملك لأنه لا يمنعنى عنك " 2 صم 13 : 12 الخ .
سألته أن يطلبها من الملك زوجة ، لعلها بهذا أرادت أن تفلت من يديه ، أو لأنها حسبت الزواج بأخ من أم أخرى أهون من السقوط فى الزنا .
لم يستمع أمنون لصوت أخته ، إذ أفسدت الشهوة تفكيره ونزعت عنه إنسانيته فأغتصبها عنوة .
( 2 ) كراهية أمنون لثامار
إذ حقق أمنون شهوة جسده أبغض ثامار " بغضة شديدة جدا حتى إن البغضة التى أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التى أحبها إياها " 2 صم 13 : 15 . قام بطردها عوض أن يتزوجها شرعا . فتذللت أمامه ليتزوجها ولا يلقيها للعار ، أما هو فطلب من الخادم أن يطردها عنوة .
إن الشهوة والعنف صنوان ، كلاهما ثمرة انتزاع النعمة الإلهية من الأنسان وحرمانه من الوجود مع الله .
هكذا ولدت الشهوة عنفا فى حياة أمنون ، فأصدر أمره لخادمه أن يطرد سيدته ويغلق الباب وراءها ؛ أما هى فوضعت رمادا على رأسها علامة الحزن الشديد كمن فى جنازة ، ومزقت الثوب الملون ( الجبة الخاصة ببنات الملوك العذارى ) علامة فقدها كل مجد والتصاق الخزى بها ، ووضعت يدها على رأسها وكانت تسير صارخة .
إنها صورة مرة للنفس التى تحطمها الخطية ، فإنها تهيم فى الطريق فى مذلة كمن هى مطرودة من البيت ، تفقد النفس سكناها فى حضن الله لتهيم كما فى عزلة ، ليس من يسندها ولا يشاركها أعماق مشاعرها ! تتطلع من خلفها لتجد الكل قد أغلق الباب فى وجهها .
تضع يدها على رأسها علامة عجزها عن العمل والتصرف !
تهيم صارخة فى الطريق كمن فقد الطريق الملوكى المفرح .
( 3 ) أبشالوم يدبر للأنتقام
طلب أبشالوم من أخته أن تلتزم الصمت ، وكان يريد بذلك أن يهدىء الجو ليخطط للأنتقام ؛ فقد قال لها : " فالآن يا أختى اسكتى ، أخوك هو . لا تضعى قلبك على هذا الأمر " 2 صم 13 : 20 .
حقا ما أعذب الصمت والسكون إن حملا هدوءا داخليا ، أما متى كان ستارا لمرارة داخلية فغالبا ما يكون أكثر عنفا وقسوة من الكلام الجارح ، لذا يميز الآباء بين الصمت المقدس البناء والصمت الشرير المهلك ، كما يميزون بين الكلام الصالح والكلام المهلك .
انتظر أبشالوم سنتين دون أن يتحرك بالأنتقام حتى يظن أمنون وداود أن الأمر قد نسى ، ولما جاء وقت جز الغنم ، وهو وقت فرح ، وذلك فى بعل حاصور ، دبر أبشالوم أمر اغتيال أخيه .
دعا أبشالوم أباه وإخوته جميعا لكى يخفى ما فى قلبه ، وإذ استعفى الملك طلب إليه بإلحاح أن يرسل أمنون كولى العهد ونائب عنه ، أخيرا وافق داود ، ربما بعد تخوف من نية أبشالوم .
( 4 ) قتل أمنون
أعد أبشالوم الخطة ، ولما طاب قلب أخيه أمنون بالخمر والسكر قتله غلمان أبشالوم كطلب سيدهم . عندئذ ركب بنو الملك بغالهم وهربوا ، وفيما هم فى الطريق بلغ داود أن أبشالوم قتل جميع بنيه . قام الملك ومزق ثيابه واضطجع على الأرض وكان جميع عبيده واقفين بثياب ممزقة ، لكن يوناداب أدرك الأمر فأخبر داود أن أبشالوم انتقم لأخته من أمنون وحده .
( 5) هروب أبشالوم
هرب أبشالوم إلى جده تلماى بن عميهود ملك جشور ، كلمة " جشور " معناها " جسر " ، وهى مقاطعة تقع بين حرمون وباشان تتاخم أرجوب ، تقع شرقى الأردن ، على حدودها يوجد جسر على نهر الأردن بين طبرية والحولة يعرف بجسر بنات يعقوب .
إذ هدأ داود اشتاق أن يرى أبشالوم ، إذ كان يحبه حبا شديدا ( 2 صم 18 : 5 ، 33 ) ، لكن خشى نقد الناس له لأنه قاتل أمنون ولى العهد .
+ + +
الأصحاح الرابع عشر
العفو عن أبشالوم
لأسباب كثيرة أراد يوآب أن يقوم بمصالحة داود على ابنه المحبوب لديه جدا أبشالوم ، لذا دبر خطة يكسب بها كل الأطراف : الملك وابنه والشعب ليحضر أبشالوم من جشور إلى أورشليم . لكن الملك صمم ألا يرى ابنه لمدة عامين حتى اضطر أبشالوم أن يستخدم العنف للضغط على يوآب ليصالحه مع أبيه .
( 1 ) إرسال امرأة حكيمة إلى داود
أراد يوآب أن يكون هو الواسطة لمصالحة داود على ابنه أبشالوم ، وكان دافعه فى ذلك هو :
- كان يعلم أن داود يحب أبشالوم جدا ، مشتاقا أن يرده إلى أورشليم ، لكنه يخشى نقد الشعب له .
- أدرك أنه وإن طال الزمن لابد أن يتصالح داود مع ابنه ، فبقيامه هو بهذا الدور يكسب صداقة الطرفين .
- يعلم أن لأبشالوم شعبية كبيرة ، فإن مات الملك داود ينقسم الشعب على نفسه ،....
- رجوع أبشالوم قاتل أخيه ، وصفح داود عنه ، ينزع مشاعر الضيق من داود تجاه يوآب بكونه قاتل منافسه أبنير
هذه الأسباب جميعها دفعت يوآب أن يلجأ إلى أمرأة حكيمة من تقوع ، وهى قرية فى يهوذا قرب بيت لحم ، جنوب شرقى أورشليم ، لجأ إليها يوآب ودبر لها الخطة حتى لا يكتشفها داود الملك .
طلب من المرأة أن تقوم بدور أرملة حزينة للغاية وفى ضيق شديد ، فجاءت إليه كمن تنوح على ميت ، وأخذت نروى للملك قصتها المزعومة لتطابق حالة أبشالوم من جوانب متعددة حتى تسحب من فمه وعدا بل وقسما بالعفو فينطبق على أبنه أبشالوم .
خرت المرأة أمام الملك على وجهها إلى الأرض وسجدت ثم طلبت منه أن يعينها ، عرضت قضيتها أنها أرملة مات رجلها ، ولها أبنان تخاصما فى الحقل وليس من يفصل بينهما فضرب أحدهما الآخر وقتله ، قامت العشيرة كلها عليها لتسلم ضارب أخيه فيقتلوه بنفس أخيه ، بهذا تهلك الوارث أيضا .
إنها تطلب الرحمة لها والعفو عن ابنها ، ليس من أجله هو ، وإنما من أجل ترملها ، ابنها يمثل جمرة تضطرم منها النار ، ولغاية فى نفوس العشيرة تود أن تطفىء الجمرة لكى تستولى على الميراث ، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنه الوارث الوحيد الذى يحمل اسم رجلها ويقيم اسم الميت .
ترآف داود جدا عليها ووعدها أنه يوصى بها كى لا يموت ابنها ( 2 صم 14 : 8 ) .
لم تكتف المرأة بتوصية داود من أجلها ومن أجل ابنها ، بل أرادت تأكيدا بالعفو على أن تتحمل هى إثم إلغاء حكم الشريعة الموسوية الخاص بقتل القاتل ، وكان ذلك جائزا من أجل الرحمة ( تث 9 : 13 ؛ 12 : 7 ) ، إذ قالت له : " على الإثم يا سيدى الملك وعلى بيت أبى ، والملك وكرسيه نقيان " 2 صم 14 : 9 . عندئذ وعدها الملك بالعفو قائلا لها : " إذا كلمك أحد فأت به إلى فلا يعود يمسك بعد " 2 صم 14 : 10 .
لم تكتف بتوصية الملك وبوعده إذ تظاهرت بالخوف من ولى الدم لئلا يهلكوا ابنها ، عندئذ قدم لها قسما : " حى هو الرب أنه لا تسقط شعرة من شعر ابنك إلى الأرض " 2 صم 14 : 11 . بهذا القسم صدر الحكم من فم داود الملك بالعفو على ابنه أبشالوم قاتل أخيه أمنون !
نجحت المرأة المتظاهرة بالحزن أن تغتصب من داود تدريجيا الآتى :
( أ ) وعدا أن يوصى بأمرها ويترفقوا بها ( 2 صم 14 : 8 ) .
( ب ) أن تنال حكما فوريا لصالحها من فمه .
( جـ ) ألا يتعرض لها أحد بأذية ، ويقوم بحمايتها .
( د ) أن ينال ابنها العفو ويقوم الملك بحمايته .
( هـ ) قسما بالعفو الشامل لأبنها .
( 2 ) المرأة تصارح الملك
نجحت المرأة التقوعية فى تمثيل الفصل الأول من المسرحية ، حيث انتزعت كل ما تريده من فم الملك ، ... عندئذ نزعت المرأة قناعها لتصارح الملك فى الفصل الثانى من المسرحية أنه إن كان الملك يحكم هكذا بالنسبة لشعب الله فلماذا لا يرد منفيه ، أى ابنه أبشالوم .
دهش الملك لما فعلته المرأة ، وقد وجد هذا العمل نوعا من الأستطابة فى قلبه من أجل محبته لأبنه أبشالوم ، شبهت المرأة الشعب بالأم المحبة لأبنها أبشالوم دون تجاهل للقتيل ابنها أمنون ، والملك هو ولى الدم من حقه يطالب بالدم ، لكنه يلزم أن يترفق بالشعب المحب والذى يطلب العفو عن أبشالوم بالنسبة لقتلة أمنون .
بحكمة ختمت المرأة حديثها بمدحها له : " ليكن كلام سيدى الملك عزاء ، لأن سيدى الملك إنما هو كملاك الله لفهم الخير والشر ، والرب إلهك يكون معك " 2 صم 14 : 17 .
أدرك داود النبى أن يوآب وراء المرأة ، وإذ سألها أجابته بالحق فى اتضاع وحكمة حتى لا يثور الملك عليه : " هو وضع فى فم جاريتك كل هذا الكلام ، لأجل تحويل وجه الكلام فعل عبدك يوآب هذا الأمر ، وسيدى حكيم كحكمة ملاك الله ليعلم كل ما فى الأرض " 1 صم 14 : 20 .
( 3 ) يوآب يشفع فى أبشالوم
طلب الملك من يوآب أن يتمم هذه المهمة التى من أجلها أرسل المرأة إليه ، عبر يوآب عن شكره للملك بالسجود أمامه إلى الأرض على وجهه ، إذ حسب ذلك كرما من الملك أن يستجيب لطلبة عبده وأن يطلب منه أن يتمم هذه المهمة بنفسه
طلب الملك رده إلى أورشليم على ألا يرى وجهه ( 2 صم 19 : 24 ) لأسباب تتعلق بالشعب ، وبأبشالوم ، وبشعبية الحكم ونظام وراثة الملك إذ كانت بثشبع تطلب أن يتولى ابنها سليمان العرش .
( 4 ) جمال أبشالوم
لم يمدح أبشالوم إلا فى جمال جسده الذى جذب قلوب الشعب ، قيل : " ولم يكن فى إسرائيل رجل جميل وممدوح جدا كابشالوم من باطن قدمه حتى هامته لم يكن فيه عيب " 2 صم 14 : 25 .
اكتسب أبشالوم شعبيته خلال جمال جسده وليس خلال قدسية نفسه ونقاوة قلبه ، لهذا لم تدم هذه الشعبية ولا انتفع بمديح الناس له ، وإنما على العكس هذا سبب هلاكه .
( 5 ) أبشالوم يضغط على يوآب
بقى أبشالوم عامين فى أورشليم لم يستطع خلالها أن يرى وجه الملك ، لكنه لم يتعلم خلالها كيف يقتنى العفو بالأتضاع إنما بقى عنيفا فى أعماقه .
يبدو أن يوآب خشى أن يأتى إلى أبشالوم لئلا يغضب داود عليه ؛ كرر أبشالوم الطلب لكن يوآب لم يتحرك لمصالحة أبشالوم على داود أبيه . عندئذ أرسل أبشالوم عبيده وأحرقوا حقل يوآب بالنار ، فخاف وجاء إليه ، طلب منه أن يتدخل لدى الملك لينظر فى دعواه ، إما أن يحكم ببراءته فيلتقى به أو يقتله .
عرف أبشالوم نقطة ضعف أبيه ، إنه لن يقبل قتل أبنه ، ولعله خشى إن حكم على ابنه يشهر ابنه به بسبب قتله أوريا الحثى .
جاء يوآب إلى الملك وأخبره بكلمات أبشالوم ، فدعى الملك ابنه وأعلن العغو عنه بتقبيله .
لقد نجح أبشالوم فى العودة إلى القصر ، ربما بهدف التخطيط لأغتصاب العرش من أبيه .
+ + +
الأصحاح الخامس عشر
عقوق أبشالوم
عاد أبشالوم إلى أورشليم ليس من أجل شوقه لصفح أبيه عن قتله لأخيه أمنون ، ولا حبا فى والده ، وإنما ليهىء الطريق لنفسه كى يغتصب الملك من والده مهما كلفه الأمر .
( 1 ) أبشالوم يعد الطريق لنفسه
" وكان بعد ذلك أن أبشالوم اتخذ مركبة وخيلا وخمسين رجلا يجرون قدامه " 2 صم 15 : 1
يكشف هذا التصرف عن هدف أبشالوم من العودة إلى أورشليم ، فقد حمل فى داخله لهيب نار محبة المجد الباطل . تصالح مع والده لا لينال رضاه ، ولا ليقابل حبه الأبوى بالحب البنوى الخالص ، وإنما ليخطط كى يغتصب منه العرش بروح العجرفة والعقوق ، مظهرا نفسه كرجل عظيم يستخدم مركبة ملوكية وخيلا ويجرى أمامه خمسون رجلا .
لقد أعد الله لداود الملك خلال الضيق والتعب لسنوات طويلة أما أبشالوم فهيأ نفسه للملك خلال المظاهر الخارجية والمجد الباطل ، اقتدى أبشالوم بملوك الأمم فى العظمة بينما كان والده يمتطى بغلا فى بساطة مظهر واتضاع ، لم يدر أبشالوم أنه إنما يجرى وراء هلاكه الروحى والجسدى أيضا ، ليفقد أبديته كما وحياته الزمنية .
من أقوال الآباء عن أهمية الأتضاع :
+ كن وضيعا فى عينى نفسك فترى مجد الله فى داخلك .
حيث ينبت الأتضاع هناك يتفجر مجد الله .
إن جاهدت لكى يستهين بك كل بشر ، فالله يمجدك .
إن كان لك اتضاع فى قلبك ، فسيظهر الله لك مجده فى قلبك .
كن مزدرى فى عظمتك ولا تكن عظيما فى تفاهتك !
لا تطلب أن تكون مكرما بينما داخلك مملوء جراحات ..
ارفض الكرامة فتصير مكرما ، ولا تحبها فلا تهان ..
من يطلب الكرامة تهرب منه ، ومن يهرب من الكرامة تطارده ، ويعلن كل بشر عن اتضاعه .
أهرب من المجد الباطل فتتمجد ، خف من الكبرياء فتتعظم .
+ إننى أثق أن العمل الروحى البسيط حين نمارسه باتضاع ، فإنه يبلغ بنا أن نكون مع القديسين الذين جاهدوا كثيرا وصاروا خداما حقيقيين لله .
+ يوجد طريق حقيقى للنمو : بالنمو فى الأتضاع يبلغ الأنسان المجد الإلهى الحقيقى .
( 2 ) أبشالوم يمالىء الشعب
لكى يسحب أبشالوم الكرسى من تحت والده لم يقف عند اهتمامه بجماله الجسدى ومظاهر الأبهة والعظمة وإنما فى خداع صار يمالىء الشعب ... كان يبكر ويقف بجانب طريق باب المدينة ليمنع المتقاضين من الوصول إلى موضع اجتماع أبيه ، يعطى اهتماما لكل شخص فيسأله عن مدينته وسبطه ، ليقول له فى خداع دون فحص لقضيته : " أنظر أمورك صالحة ومستقيمة ، ولكن ليس من يسمع لك من قبل الملك " 2 صم 15 : 3 .
هكذا يتحدث أبشالوم بذات القول للطرفين المتخاصمين لا ليقضى وإنما ليثير الكل على والده ويحثهم على إقامته هو ملكا وقاضيا ، إذ كان يردد القول : " من يجعلنى قاضيا فى الأرض فيأتى إلى كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه ؟! " 2 صم 15 : 4 .
هكذا استرق أبشالوم قلوب الكثيرين ، أمالهم إليه ليكسب ودهم واحترامهم وطاعتهم له حتى يقيموه ملكا عوضا عن أبيه
( 3 ) المناداه به ملكا
تم ذلك فى نهاية أربعين سنة من مسح داود ملكا على يدى صموئيل ( 1 صم 16 : 1 ) . يرى البعض أنه فى نهاية أربعة أعوام من مصالحة أبشالوم لأبيه أعد الطريق لنفسه كى يملك .
طلب من أبيه السماح له بالذهاب إلى حبرون ليفى نذرا تعهد به وهو فى جشور قائلا : " إن أرجعنى الرب إلى أورشليم فإنى أعبد الرب " 2 صم 15 : 8 . ، أباه الذى يطلب استقامة ابنه فرح جدا أن يسمع منه أنه يريد أن يعبد الرب فى حبرون بلد مولده ، لذا سمح له بالذهاب بكامل حريته .
وضع أبشالوم الخطة ربما مع بعض المشيرين ، وقد أحكمها تماما ، وكانت كالآتى :
( أ ) أن يعلن توليه الحكم فى حبرون ، إحدى مدن يهوذا ، حيث يستطيع أبشالوم أن يجمع حوله كل الطاقات والشخصيات التى تسنده ضد والده لأن رجال يهوذا كانوا قد غضبوا لأنتقال داود من حبرون إلى أورشليم .
( ب ) بعث أبشالوم إلى جميع الأسباط رسلا حتى ينادوا به ملكا فى وقت واحد ، فلا يجد داود أمامه ملجأ للهروب .
( جـ ) أخذ أبشالوم معه مائتين من عظماء الرجال ، ليوحى للأسباط بأن عظماء المملكة تركوا داود الملك تأييدا لأبشالوم .
( د ) استعان أبشالوم بأخيتوفل الجيلونى ( 2 صم 15 : 12 ) ، إذ توسم فيه الرغبة مع القدرة على خيانة داود ، وهو فى هذا يشبه يهوذا فى خيانة سيده السيد المسيح ، كما يشبهه فى طريقة موته ( مز 41 : 9 ؛ يو 13 : 18 ) .
هكذا أحكم أبشالوم الخطة بطريقة بشرية ولم يكن أمام داود طريق إلا الهروب أو الأستسلام فيتعرض للقتل على يدى أبنه .
( 4 ) هروب داود ورجاله .
أدرك داود الخطر مبكرا ، ولعله تذكر خطيته وقول الرب له : " والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتنى .... هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك " 2 صم 12 : 10 – 11
أشفق داود على المدينة ، وخشى أن يضربها أبشالوم بالسيف بسببه ، لذا قال لجميع عبيده : " قوموا بنا نهرب ، لأنه ليس نجاة من وجه أبشالوم ، أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف " 2 صم 15 : 14 .
تمررت نفس داود لخيانة ابنه له وثورته ضده ، لكن قلبه امتلأ رجاء فى الرب مخلصه ، بروح النبوة أدرك داود أن ما حل به من خيانة أبشالوم وأخيتوفل له إنما يرمز لخيانة يهوذا للسيد المسيح .
عندما هرب داود ترنم بالمزمور الثالث :
" يارب لماذا كثر الذين يحزنوننى ؟!
كثيرون قاموا على .
كثيرون يقولون لنفسى : ليس له خلاص بإلهه .
أنت يارب ، أنت هو ناصرى ، مجدى ، ورافع رأسى .
أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت .... "
إن كلمات هذا المزمور تفهم بالأكثر فى شخص السيد المسيح ، فإنها تنطبق على آلام ربنا وقيامته أكثر منها على تاريخ هروب داود من وجه ابنه العاق
وكما هرب الحق من ذهن أبشالوم ؛ هكذا هرب الحق من ذهن يهوذا عندما توقف الحق عن إنارته .
( 5 ) هروب إتاى الجتى
عندما هرب داود من وجه شاول أقام فى جت ونظم جيشا قوامه ستمائة جندى وأقام إتاى الجتى قائدا لهم ، دام هذا الجيش معه حين صار ملكا فى حبرون وأيضا فى أورشليم ، وكانوا إسرائيليين لكن دخل بينهم بعض الجتيين .
لعل من أحلى السمات التى أتصف بها داود هى عدم تفكيره فى صالحه الخاص حتى فى لحظات الضيق المرة ، إذ لم يطلب تسخير الغير لحسابه . لهذا طلب من إتاى أن يبقى مع أبشالوم كملك جديد ، إذ لا يريد أن يحمل إتاى فوق طاقته ، لأنه غريب الجنس . لقد قال له : " ارجع واقم مع الملك ، لأنك غريب ومنفى أيضا من وطنك ، أمسا جئت واليوم أتيهك بالذهاب معنا ، وأنا انطلق حيث أنطلق ، أرجع ورجع اخوتك ، الرحمة والحق معك " 2 صم 15 : 19 لكن إتاى غريب الجنس رفض أن يترك داود وقت ضيقه ، إنما تحدث معه بروح الحب والأخلاص والوفاء ، متشبها فى ذلك براعوث الموآبية فى حديثها مع حماتها نعمى ( را 1 : 16 ) .
أراد الله أن يعزى قلب داود ، بينما كان ابنه يخونه ويسلب ملكه طالبا قتله إذا بغريب الجنس يتعلق به فى ضيقته ويشاركه متاعبه .
إتاى المذكور هنا غير إتاى المذكور فى 2 صم 23 : 29 ، 1 أى 11 : 31 – الذى من جبعة بنى بنيامين ، وكان أحد أبطال داود .
عبر الملك ورجاله الوادى الذى بين أورشليم وجبل الزيتون ، حيث لا يكون فيه ماء إلا فى فصل الشتاء ، وقد عبر المسيح ذات الوادى فى ليلة آلامه ليدخل بستان جثسيمانى ( يو 18 : 1 ) .
( 6 ) بقاء التابوت فى أورشليم
أراد داود النبى أن تكون كل تحركاته تحت ظل الرب نفسه كمخلص له لذا طلب من صادوق الكاهن واللاويين أن يأتوا بالتابوت حتى يعبر الشعب ، وإذ تم العبور لم يقبل أن يأخذه معه خارج أورشليم بل طلب إرجاعه مؤمنا بأن الله يسمح له بالعودة إلى حيث التابوت رمز الحضرة الإلهية – إن أراد الرب .
( 7 ) رجوع حوشاى الأركى
صعد داود جبل الزيتون شرقى مدينة أورشليم ، قمته على بعد ميل منها ، وكان يصعد باكيا ورأسه مغطى ويمشى حافيا ، وجميع الشعب يتمثلون به . وإذ بلغ القمة " سجد لله " 2 صم 15 : 32 ، فقد اعتاد أن يسجد لله ويشكره فى وسط الضيقات .
على ذات الجبل وقف رب المجد يسوع يتطلع نحو أورشليم باكيا بسبب رفض أولادها أبوة الله ورعايته ( مت 23 : 37 ؛ لو 13 : 34 ) .
مما زاد حزن داود الملك جدا سماعه أن أخيتوفل أفضل أصدقائه يخونه ، إذ هو بين الفاتنين مع أبشالوم ، لذا صرخ إلى الرب أن يبدد مشورته ، لأنه معروف بحكمته وتدابيره .
كان حوشاى الآركى من المقربين المخلصين لداود النبى ، عبر داود النبى عن مرارة نفسه من جهة خيانة أخيتوفل وعن تهلله فى نفس الوقت من أجل إخلاص حوشاى الآركى فى المزمور 41 .
" طوبى للرجل الذى ينظر إلى المسكين ، فى يوم الشر ينجيه الرب .......
الرب يعضده وهو على فراش الضعف ، مهدت مضجعه كله فى مرضه ....
أيضا رجل سلامتى الذى وثقت به آكل خبزى رفع على عقبه "
لعله عنى بالمسكين : " نفسه "
أما رجل سلامته فهو أخيتوفل الذى أنعم عليه داود بالحب والصداقة مع نعم وعطايا وها هو يحطم الثقة ويرفع عليه عقبه لأذيته فيصير رمزا ليهوذا الخائن .
+ + +
الأصحاح السادس عشر
داود الهارب
كانت نفس داود مرة للغاية فى هذه المرة فإنه ليس هاربا من أمام شاول الملك الذى يخشى داود لئلا يغتصب ملكه وإنما أمام ابنه العاق الذى اغتصب كرسيه وأثار الشعب ضده ، ومما يزيد نفسيته مرارة أن البعض وجد فرصتهم لإهانته وسبه ، هذا بجانب شعوره الخفى أن ما حل به هو ثمرة ما أرتكبه فى حق الله وضد أوريا الحثى
على أية الأحوال تكشف المزامير التى أنشدها داود أثناء هروبه أنه لم يفقد رجاءه فى الرب ، مدركا أن ما حل به تأديب أبوى من قبل الرب مخلصه .
( 1 ) لقاؤه مع صيبا
كان صيبا يطمع فى اغتصاب أملاك مفيبوشث بن يوناثان غير مكتف بأن يقوم هو وبنوه وعبيده بإدارتها ، وقد وجد الفرصة سانحة لإثارة داود ضد مفيبوشث حتى يصدر داود أمره بنقل الملكية إليه عوض مفيبوشث .
لقد أدرك صيبا أن داود رجل حكيم وقوى ، وأن الضيقة التى يجتازها عابرة ، وأن الأنتصار حليفه فى النهاية ، لذا أسرع إلى اللقاء معه وسط الضيقة حينما كان داود على قمة جبل الزيتون حيث قدم له حمارين مشدودين عليهما مائتا رغيف خبز ومئة عنقود زبيب ومئة قرص تين وزق خمر ، قال له إن الحمارين لبيت الملك كما أن الأكل والشرب لمن يصاب بإعياء فى البرية .
سأل داود عن مفيبوشث ، وفى مكر أجاب صيبا : " هوذا هو مقيم فى أورشليم ، لأنه قال : اليوم يرد لى بيت إسرائيل مملكة أبى " 2 صم 16 : 3
هكذا شوه صيبا صورة سيده أمام داود الذى قدم كل إحسان وحب وتكريم لمفيبوشث . كلمات صيبا غير مقبولة ، لأنه لم يكن لمفيبوشث الأعرج أن يستلم الحكم من أبشالوم بكل جماله وقوته وسلطانه ، لكن داود كان مهتما بأمور كثيرة وعاجلة ، مدركا أن مفيبوشث لن يمثل خطرا عليه أو على ابنه ، إنما فى عجلة وبغير تدقيق أغتاظ وحسب مفيبوشث خائنا وناكرا للجميل ، وأصدر قراره لصيبا : " هوذا لك كل ما لمفيبوشث " 2 صم 16 : 4 . سجد له صيبا وقال : " ليتنى أجد نعمة فى عينيك يا سيدى الملك " 2 صم 16 : 4 .
لقد سمح الله لداود أن يجتاز هذه التجربة القاسية ، وهو شعوره بخيانة مفيبوشث ضده ، الأمر الذى لم يكن يتوقعه قط ، وكان ذلك لخيره وبنيانه من جوانب كثيرة ، منها :
( أ ) كان لداود أن يشرب من ذات الكأس التى ملأها بيده ، فقد خان أوريا الحثى ، وها هو يذوق خيانة أبنه له ، وأيضا خيانة أخيتوفل ، وهوذا مفيبوشث وغيرهم ، الذين أحسن إليهم يسيئون إليه أكثر مما أساء إليه الأعداء !
( ب ) استخدم الله هذه التجربة لخيره ، فقد كان داود بحاجة ومن معه إلى الهدية التى قدمها له صيبا !
( جـ ) اكتشف داود فيما بعد خداع صيبا له ، وتعلم ألا يصدر أحكامه بعجلة ...
( 2 ) شمعى يسب داود
خرج من بحوريم شمعى بن جيرا من بيت شاول ، وكان بينه وبين داود ورجاله وادى ، فكان يرشقهم بالحجارة ، غالبا لم تكن تصلهم إنما هى علامة على غيظه واحتقاره لهم ، أما كلماته فكانت مسموعة .
كان يسب داود قائلا :
" اخرج اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال ،
لقد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذى ملكت عوضا عنه ،
وقد دفع الرب المملكة ليد أبنك ،
وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء " 2 صم 16 : 7 ، 8
كانت كلماته كالسهام القاتلة ، تحمل كراهية وضغينة مع كذب ، فإن داود لم يقاتل بيت شاول ليغتصب منهم الملك . على النقيض من هذا قابل مطاردة شاول بالسماحة ، لم يمد يده على شاول قط ولا على بنيه أو أحفاده وإنما كان يسعى ليصنع معهم معروفا .
فى غيرة أراد أبيشاى أن يعبر ليقتل هذا الرجل حاسبا إياه كلبا ميتا ، أما داود فمنعه حاسبا هذه الأهانة تأديبا من قبل الرب بسبب خطيته ، إذ قال :
" مالى ولكم يا بنى صروية ،
دعوه يسب ، لأن الرب قال له : سب داود .
ومن يقول : لماذا تفعل هكذا ؟ " 2 صم 16 : 10 .
" هوذا ابنى الذى خرج من أحشائى يطلب نفسى ، فكم بالحرى الآن بنيامينى ؟! دعوه يسب لأن الرب قال له ....
لعل الرب ينظر إلى مذلتى ويكافئنى الرب خيرا عوض مسبته بهذا اليوم " 2 صم 16 : 11 ، 12 .
لم يكن ممكنا لهذه الشتائم أن تؤذى داود بل هى بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كى يغتصب المراحم الإلهية ، كلمات التملق التى نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكما خاطئا ومتعجلا فى غضب ضد مفيبوشث أما كلمات شمعى المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكما صادقا على نفسه .
( 3 ) المناداة بأبشالوم ملكا
جاء أبشالوم ومعه الرجال من كل الأسباط ، جاء ليملك دون أن يسفك دما ، فقد هرب داود ورجاله حتى لا يهلك أحد بسببه .
فوجىء أبشالوم بتقدم حوشاى الأركى صديق داود إليه وهو يقول : " ليحيا الملك ، ليحيا الملك " ، إذ لاحظ حوشاى تعجب أبشالوم قال بحكمة : " الذى اختاره الرب وهذا الشعب وكل رجال إسرائيل فله أكون ومعه أقيم ، وثانيا : من أخدم ؟ أليس بين يدى ابنه ؟! كما خدمت بين يدى أبيك كذلك أكون بين يديك " 2 صم 16 : 18 ، 19 .
هكذا قدم حوشاى مبررات لعدم هروبه ، حتى يثق به أبشالوم فيكون سندا لداود فى داخل القصر .
( 4 ) أبشالوم يدخل على سرارى أبيه
كان أخيتوفل مشيرا لأبشالوم ، يسمع له الملك الجديد كما لله ، حاسبا مشورته كمن يسأل كلام الله ( 2 صم 16 : 23 ) ، مع أنها كانت مشورات شريرة من قبل إبليس ، تحمل حكمة أرضية شهوانية .
أول مشورة قدمها له أخيتوفل هى أن يدخل على سرارى أبيه اللواتى تركهن داود لحفظ البيت ، صنع أبشالوم ذلك على السطح حتى يتأكد الكل أن الكراهية ضد داود قد بلغت أشدها وأنه لا مصالحة بينه وبين أبيه .
تم ذلك على السطح الذى سبق فتمشى عليه داود ليختلس نظرة شريرة لأمرأة غريبة ، هوذا ابنه يضطجع مع سراريه علانية فى ذات الموقع !
الأصحاح السابع عشر
إحباط مشورة أخيتوفل
( 1 ) مشورة أخيتوفل
تقدم أخيتوفل كمشير للملك إلى أبشالوم بخطة لتحقيق أهدافه ، وهى سرعة اللحاق بداود وهو متعب مع الشعب الذى معه ، لكى يضطرب داود ويتركه من معه ، فيبقى داود وحده ، يقتلونه ويرجع الشعب إلى أبشالوم دون مجهود يذكر . فى رأيه أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من أثنى عشر الف رجل منتخبين ينحركون فى ذات الليلة ليرجعوا فورا بنصرة أكيدة .
هذه المشورة حسبها الكتاب صالحة ( 2 صم 17 : 14 ) لا بمعنى أنها تحمل صلاحا وإنما لأنها قادرة على تحقيق هدف أبشالوم ، يلاحظ فيها الآتى :
أنها جاءت رمزا لمشورة رئيس الكهنة قيافا ضد ابن داود إذ قال : " أنتم لستم تعرفون شيئا ، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها " ...
( 2 ) حوشاى يبطل المشورة
يرسل الله مع التجربة المنفذ ، فى كل عصر وجد المقاومون للحق كما أقام الله من يحطمون مقاومتهم أو يحولونها للبنيان .
مع استصواب أبشالوم مشورة أخيتوفل استدعى حوشاى الآركى يطلب أيضا مشورته ليأخذ قراره النهائى ، بحكمة تظاهر بأن أخيتوفل لم يصب فى هذه المرة ، مقدما مشورة أخرى تبدو أكثر صلاحا ، غايتها فى الواقع إنقاذ داود وخطوطها العريضة هى كالآتى :
( أ ) أن داود رجل حرب وأنه يتوقع ما أشار به أخيتوفل لهذا فهو لن يبيت الليلة مع الشعب وإنما يختفى فى مكان مجهول ، فى مغارة أو شق ، ولن يبلغ إليه رجال أبشالوم ، لذا تقوم حرب طاحنة يقتل فيها الكثيرون من الطرفين ويبقى داود على قيد الحياة ينغص حياة أبشالوم .
( ب ) التسرع ليس فى صالح أبشالوم أمام رجل حرب مثل الملك داود .
( جـ ) أن أبشالوم له إمكانيات جبارة ، شعبه ممتد من دان إلى بئر سبع بلا عدد ، فلماذا لا ينتفع بهذه الأمكانيات مكتفيا بأثنى عشر ألف رجل ؟!
( د ) أن الأمر لا يحتاج إلى قتل داود وحده وإنما الخلاص من كل رجاله حتى لا يسببون لأبشالوم كدرا ، إذ قال له : " لا يبقى منه ولا من جميع الرجال الذين معه واحد " 2 صم 17 : 12 . هذا الرأى يجد أستطابة فى قلب أبشالوم إذ لا يريد أيضا رجال داود .
( هـ ) هذه هى الحرب الأولى التى يقوم بها أبشالوم كملك فكيف لا يخرج مع رجاله ، لذا أشار عليه حوشاى : " وحضرتك سائر فى الوسط " 2 صم 17 : 11 . لعله هدف بهذا أن يموت أبشالوم فى الحرب فلا توجد بعد فرصة أخرى للمقاومة .
هذا ما قدمه حوشاى ، لكن السر الخفى وراء ذلك هو الله العامل الحقيقى لإنقاذ داود ، فقد أعطى لمشورة حوشاى نعمة فى عينى أبشالوم ، إذ قيل : " فإن الرب أمر بإبطال مشورة أخيتوفل الصالحة لكى ينزل الرب الشر بابشالوم " 2 صم 17 : 14
( 3 ) بعث رسولين إلى داود
كان لابد لحوشاى أن يخبر داود بما حدث خلال الكهنة ، وقد استخدم الله الشعب والكهنة ، الرجال والنساء ، الشيوخ والشبان لتحقيق هذا الهدف ، ليعلن أن الكنيسة جسد واحد يتحرك كل أعضائها بروح واحدة ، كل عضو له دوره الفعال .
( أ ) أرسل حوشاى إلى الكاهنين صادوق وأبياثار يخبرهما بما حدث من جهة أخيتوفل ومن جانبه ، حتى يتحركا للعمل ( 2 صم 15 : 28 )
( ب ) انطلقت جارية من قبل الكاهنين الشيخين صادوق وأبياثار إلى ابنيهما الكاهنين الشابين : يوناثان ، وأخيمعص ، اللذين كانا واقفين عند عين روجيل ينتظران الرسالة
( جـ ) لم يكن الشابان قادرين على الظهور فى أورشليم ( 2 صم 17 : 17 ) لأنهما معروفان أنهما من تابعى داود ، ومع ذلك فقد رآهما غلام وأخبر أبشالوم بما حدث ، وكأن مع كل عمل نتوقع مقاومة من عدو الخير من حيث لا ندرى ، لذا لن تنجح أية خطة بشرية مهما أحكمت ما لم تتدخل عناية الله ونعمته .
( د ) انطلق الشابان إلى بيت رجل فى بحوريم ، وهى ذات المدينة التى خرج منها شمعى بن جيرا البنيامينى ليسب داود ويرشقه بالحجارة ، المدينة التى أخرجت رجلا يقاوم داود وجد فيها امرأة مؤمنة تعمل لحسابه ، إذ أخفت الرجلين فى بئر جافة وغطتها بسجف الباب وسطحت عليه سميذا ، يمكننا القول إن المدينة التى أخرجت إنسانا يهين داود فيحتمله باتساع قلب وجدت فيها امرأة متسعة القلب نحو داود ورجاله ، لقد سمع الرب لكلمات داود التى نطق بها هناك : " لعل الرب ينظر مذلتى ويكافئنى خيرا عوض مسبته بهذا اليوم " 2 صم 16 : 11 .
حيث يوجد احتمال الأهانة والسب برضى يقوم الخلاص !
( هـ ) فتش عبيد أبشالوم عن الكاهنين الشابين فلم يجدوهما ، فقالت لهما : " قد عبرا قناة الماء " 2 صم 17 : 20 . هذا الكذب هو ضعف بشرى لا يمكن تبريره !
( و ) خرجا من البئر وأنطلقا إلى داود يخبرانه أن يعبر هو وشعبه الماء ( نهر الأردن ) سريعا بالرغم من صعوبة الأمر ، وبالفعل تم العبور طوال الليل متجهين نحو المشرق ، حتى لم يبق فى الصباح أحد لم يعبر الأردن ( 2 صم 17 : 22 ) .
( 4 ) انتحار أخيتوفل
لم يعمل أبشالوم بمشورة أخيتوفل المتعجرف ، لهذا انطلق إلى بيته حيث خنق نفسه ومات بعدما أوصى لبيته أى رتب أمور أسرته .
صار أخيتوفل رمزا ليهوذا الخائن الذى خنق نفسه أيضا .
( 5 ) استعداد أبشالوم للحرب
عبر داود ورجاله نهر الأردن إلى محنايم ، وهى مدينة للاويين عند تخم جاد الشمالى ( 2 صم 2 : 8 ) ، وكانت مدينة مناسبة لداود بسبب حصونها .
عبر أبشالوم الأردن ومعه رجال إسرائيل تحت قيادة عماسا ، الذى يحمل ذات القرابة لأبشالوم مثل يوآب ابن خالته ، وقد صار عماسا ثقلا على أبشالوم وليس معينا له ، إذ قتل أبشالوم فى المعركة الوحيدة التى قادها مع عماسا ضد أبيه .
( 6 ) داود فى محنايم
جاء داود ورجاله إلى محنايم حيث قدم لهم شوبى بن ناحاش وماكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاى الجلعادى أثاثات وطعاما ليأكلوا ، تقدمة محبة تقبلها داود وسط ضيقه ومتاعبه ، لذا ترنم بالمزمور 23 قائلا : " ترتب قدامى مائدة تجاه مضايقى " .
تلقى محبة عملية فى محنايم البعيدة عن عاصمة ملكه فى وقت قام فيها كثيرون من أصدقائه بمقاومته وخيانته .
+ + +
الأصحاح الثامن عشر
نهاية أبشالوم
مسح أبشالوم العاق والمتعجرف ملكا على كل إسرائيل ، ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى جمع جيشه الضخم ليقتل داود .... دخل فى معركة كانت ظلا لمعركة الصليب ، فيها خرج داود ورجاله منتصرين بينما تحطم أبشالوم ورجاله . كان داود رمزا للمسيح الحى الغالب ، وكان أبشالوم رمزا لأبليس الذى قتله الرب على الصليب وحطم سلطانه
( 1 ) تنظيم رجال داود
مسح أبشالوم العاق ملكا ، وجمع جيشه الضخم وعبر الأردن لمحاربة داود ورجاله ، طالبا قتل داود بالذات ، وكان فى هذا يرمز لأبليس الذى بخداعه وكبريائه مع عصيانه لله صار رئيس هذا العالم ( يو 14 : 30 ) . وقد جمع كل رجاله الخاضعين له للخلاص من المسيا .
فى ذات الوقت كان داود يحصى رجاله لا لمعرفة عددهم وإنما لتنظيم جيشه فى محنايم ، ويقدر المؤرخ اليهودى يوسيفوس عددهم بحوالى 4000 نسمة ، وهو عدد قليل جدا بالنسبة لجيش أبشالوم ، أقام داود رؤساء ألوف ورؤساء مئات كنظام موسى النبى ( خر 18 : 25 ) ونظام شاول ( 1 صم 22 : 7 ) . كما قام بتوزيع الجيش على ثلاث فرق : الثلث تحت قيادة إتاى الجتى الذى أظهر إخلاصه وقت الضيق رافضا البقاء فى أورشليم مع أبشالوم ليشارك داود آلامه وتغربه ( 2 صم 15 : 18 – 23 ) ، والثلث تحت قيادة يوآب رئيس جيش داود ، والثلث تحت قيادة أبيشاى أخى يوآب . ويبدو أنه أراد أن يكون القائد العام للثلاث فرق يقودهم بنفسه ، لكن الشعب الذى سمع عن مشورة أخيتوفل وأدرك نية أبشالوم ألا وهى التركيز على قتل داود ، طلبوا منه ألا يخرج ، لأنه بقتله يسقط الجيش كله ( 2 صم 21 : 17 ) ، وإن بقى فى المدينة يرسل لهم نجدة ويسندهم بمشورته وتدبيره .
أطاع داود أمرهم وبقى فى المدينة ، وفى حنان طلب من القادة الثلاثة : " ترفقوا لى بالفتى أبشالوم " 2 صم 18 : 5 . لم تكن هذه وصية ملك ولا قائد حرب بل وصية أب حنون يتطلع إلى ابنه العاق كصبى يحتاج إلى حنان الأبوة . هذه نظرة كثير من آباء الكنيسة تجاه كل إنسان غضوب ، إنه مشبه بصبى صغير يحتاج إلى حب لعلاجه لا إلى مقاومته .
إذا كانت هذه هى مشاعر أب بشرى تجاه أبنه ؛ فكم تكون مشاعر أبينا السماوى ربنا يسوع المسيح نحو الخطاة ؟! إنه يبحث عنا جميعا ويترفق بنا منتظرا إشارة منا ليستلم حياتنا ويستريح فى أحشائنا ويسكن فى قلوبنا ، لقد أعد الوليمة وأمسك بالحلة الأولى وخاتم البنوة ، منتظرا كل ابن عاق يرجع إليه .
( 2 ) انكسار اسرائيل
إذ تحرك أبشالوم للقتال اضطر داود أن يطلب من رجاله أن يتحركوا خارج محنايم ، إذ لم يرد أن يسبب لشعبها اضطرابا ، وقد استضافوه هو ورجاله .
تم اللقاء فى وعر أفرايم شرقى الأردن ، انهزم أبشالوم مع رجاله أمام عبيد داود الذين يحسبون قلة قليلة أمام جيش أبشالوم ، تشتت إسرائيل فى الوعر فتبعهم رجال داود وقتلوا 20000 نسمة ، أما الذين أهلكهم الوعر فكانوا أكثر من الذين قتلهم السيف ، وكأن الطبيعة ذاتها ثارت ضد هذا الشرير ، كما حدث أثناء الصلب .
( 3 ) نهاية أبشالوم
كان أبشالوم راكبا على بغل ، وفى وسط الأحراش تعلقت رأسه ، أو تشابك شعره بأغصان بطمة عظيمة ، وذلك بسبب طول شعره وغزارته ، وإذ سار البغل بقى معلقا بين السماء والأرض . أسرع رجل يخبر يوآب بما رآه فانتهره لأنه لم يضربه إذ كان مستعدا أن يعطيه عشرة شواقل فضة ومنطقة مطرزة . أجابه الرجل : " فلو وزنت فى يدى ألف من الفضة لما كنت أمد يدى إلى ابن الملك ، لأن الملك أوصاك فى آذاننا أنت وأبيشاى وإتاى قائلا : احترزوا أيا كان منكم على الفتى أبشالوم " 2 صم 18 – لم يصبر يوآب رئيس الجيش على ذلك فنشب 3 سهام فى قلب أبشالوم وهو بعد حى فى قلب البطمة ، وأحاط به عشرة غلمان حاملوا سلاح يوآب وضربوا أبشالوم حتى مات . لقد خالف يوآب وصية داود لأنه شعر أن حياة أبشالوم تمثل خطرا على داود نفسه كما على كل المملكة .
( 4 ) رجوع عبيد داود
ضرب يوآب بالبوق لينهى القتال بموت أبشالوم ، انه بوق كلمة الله التى ينطق بها المؤمنون كما ببوق ليعلنوا خلال الكلمة حياة الغلبة ونهاية عدو الخير .
طرح أبشالوم فى أقرب جب وجد هناك فاقدا كرامته كأبن للملك ، طلب الكرامة الزمنية وسعى إليها بكل طاقاته ففقدها فى موته وحتى بعد موته ، فصار عبرة لكل نفس فى عقوق نحو الله أبيها ، كانوا يرمونه بالحجارة وكأنهم يرجمونه بسبب عقوقه كحكم الشريعة ( تث 21 : 20 ، 21 ) . لا تزال توجد فى بعض بلاد الشرق عادة أن يلقى العابرون حجارة على مقبرة المجرمين .
( 5 ) داود يحزن على ابنه
أدرك يوآب أن الملك المتعلق بأبنه أبشالوم لن يتقبل خبر النصرة بفرح بسبب موت أبنه لذلك لم يرد أن يقوم أخيمعص بن صادوق الكاهن بإبلاغ الخبر للملك ، فبعث برسول آخر كوشى ، ربما كان عبدا ليوآب من بلاد كوش ، نزل أخميعص إلى الغور أى إلى وادى الأردن وسار فيه ثم صعد إلى محنايم ليبشر داود بالنصرة ، أما الكوشى فأخذ طريقا أسهل لكنه أطول .
بشر أخيمعص داود بالنصرة ، دون أن ينطق بكلمة بخصوص أبشالوم حتى جاء الكوشى ، وفهم داود من حديثه أن ابنه مات فحزن جدا ، وكان يبكيه بمرارة ، ولعل سر يكائه هو :
- مشاعر الأبوة الحانية الطبيعية ، ...
- كان يكن لأبشالوم معزة خاصة ، متوقعا أن تنضج شخصيته مع الزمن
- لم يكن أبشالوم مستعدا للموت بالتوبة ...
- شعوره خطئه فى تربيته لبنه
- شعر أن ما حل به هو ثمرة خطأه هو ..
الأصحاح التاسع عشر
عودة داود للملك
عقوق أبشالوم ودخول إسرائيل فى حرب مع رجال داود سبب جراحات كثيرة على مستوى بعض الشخصيات الهامة كما بين الأسباط وبعضها البعض ، فقد انكشفت نية البعض كخونة لداود بينما سقط البعض فى الخيانة تحت الضغط ...
كان أمر رجوع داود إلى المملكة يحتاج إلى حكمة فى التصرف ولقاءات هامة ...
( 1 ) يوآب يخرج داود من حزنه
اعتبر يوآب حزن داود المفرط على أبنه العاق أبشالوم إهانة للشعب الذين خاطروا بحياتهم فى الحرب من أجله ، وكانوا يتوقعون كلمة شكر وأحتفالا بالنصرة بفرح وبهجة ، لهذا دخل يوآب إلى الملك ليتحدث معه بكلمات جارحة وفى غير لياقة قائلا له : " قد أخزيت اليوم وجوه جميع عبيدك منقذى نفسك وأنفس بنيك وبناتك وأنفس نسائك وأنفس سراريك بمحبتك لمبغضيك وبغضك لمحبيك ، لأنك أظهرت اليوم أنه ليس لك رؤساء ولا عبيد ، لأنى علمت اليوم أنه لو كان أبشالوم حيا وكلنا اليوم موتى لحسن حينئذ الأمر فى عينيك "
بالغ يوآب فى الحديث ، عندما ذكر أن داود أحب مبغضيه لأنه لو أنتصر أبشالوم لقتل داود وبنيه ونساءه ورجاله خاصة الجبابرة مثل يوآب ، لكن داود لم يبغض محبيه كما أدعى يوآب .
فى جسارة طلب يوآب من الملك قائلا : " قم واخرج وطيب قلوب عبيدك " 2 صم 19 : 7 . لقد خشى أن يتركه الكل ويطلبوا ملكا آخر لأنه فضل ابنه العاق عن كل رجاله ، فيحل الشر بداود .
لسنا ننكر رقة مشاعر داود مع الجميع خاصة أبنه أبشالوم ، لكن كان يليق به أن يتخطى العلاقات الشخصية والعائلية من أجل حبه ورعايته للشعب ، حزنه الشديد على ابنه العاق حطم نفسية رجاله ، لأنهم ما كانوا يتوقعون فيه ذلك .
( 2 ) يهوذا يلتقى بداود
صار الموقف مربكا فكل الأسباط تذكر دور داود منذ صباه فى الدفاع عنهم أيام شاول الملك ، وكيف قابل عداوة شاول بالسماحة ، وأيضا خدمته الناجحة كملك . ومع هذا إذ ثار عليه ابنه وانضم إليه كثيرون حزن على موت ابنه العاق .. والآن مات أبشالوم وصاروا بلا ملك ، ولا يعرفون ماذا يفعلون خاصة سبط يهوذا الذى كان يساند أبشالوم فى فتنته وخشوا نقمة داود منهم .
أرسل داود الكاهنين صادوق وأبياثار إلى يهوذا ليسرعوا إلى داود ، يعلنون خضوعهم له . ولكى لا يتحرجوا من الموقف ذكرهم داود أنهم إخوته من عظمه ولحمه كما أرسل إلى عماسا رئيس جيش أبشالوم ليعده بأن يقيمه رئيسا على الجيش عوض يوآب لكى يكسب الشعب الذى تعلق بأبشالوم ، ومن جانب آخر ربما أراد أن يستريح من يوآب لدالذى قتل أبنير وأبشالوم وتحدث بخشونة مع داود ، ولأنه يحمل ذلة على داود بخصوص قتل أوريا الحثى .
بالفعل جاء داود إلى الأردن بينما جاء رجال يهوذا إلى الجلجال ( بين أريحا والأردن ) لملاقاة الملك وحراسته أثناء عبوره الأردن .
كما اهتم داود الملك بيهوذا كسبط وأيضا بعماسا كشخص هكذا يهتم السيد المسيح بكنيسته كجماعة مقدسة عروسه الواحدة دون تجاهل لكل عضو فيها .
بنيان الكنيسة هو لحساب نمو كل عضو فيها ، وبنيان كل عضو إنما لحساب نمو الجماعة ككل ، بلا فضل بين الحياة الكنسية الجماعية والخبرة الشخصية لكل عضو فيها .
( 3 ) شمعى وصيبا يلتقيان بداود
أسرع شمعى وصيبا لمقابلة داود ، الأول سبه عند هروبه من أورشليم ( 2 صم 16 : 5 – 13 ) ، والثانى كذب عليه حينما أدعى أن مفيبوشث يطمع فى الكرسى الملكى ( 2 صم 16 : 1 – 4 ) . خرج الأول معه ألف رجل من بنيامين وجاء الثانى معه بنوه الخمسة عشر وعبيده العشرون ، خاضوا الأردن ليلتقوا بالملك .
رأى أبيشاى أن الوقت مناسب للأنتقام من شمعى ، أما داود فحسب أن الوقت هو وقت فرح وتضميد جراحات واتساع قلب للجميع ، وقت حب وسماحة وعفو !
ما أعجب شخصية داود ، مع كل نجاح أو نصرة لا يطلب سلطة وإن نالها لا يسىء استغلالها ، بل يحول السلطة إلى حب ورعاية . يرى فى الكرسى الملوكى مجالا للجمع والمصالحة والأتحاد لا لإثارة تصديع وانشقاقات ، بعفوه عن شمعى كسب كل سبط بنيامين بل واستراحت قلوب الأسباط الأخرى من أجل هذه الروح السمحة !
( 4 ) مفيبوشث يلتقى بداود
نزل مفيبوشث من بيته فى جبعة بنيامين إلى أورشليم ليلتقى بالملك داود ، حيث لم يعتن برجليه ولا بلحيته منذ ترك داود الكرسى ، فوجد باب الملك مفتوحا أمامه ! لقد عاتبه داود عن عدم خروجه معه ، لكنه ترك له المجال للدفاع دون أخذ حكم مسبق ، وحينما أدرك أن صيبا قد وشى بسيده صفح عن مفيبوشث وحكم بتقسيم الحقول – ربما قصد محاصيل الحقول – بين مفيبوشث وصيبا .
( 5 ) برزلاى يلتقى بداود
أعتذر برزلاى عن الذهاب مع داود الملك إلى أورشليم لكبر سنه ، اكتفى بأن يرسل ابنه كمهام مع الملك ليفعل معه الملك ما أراد بالنسبة لأبيه برزلاى ، وقد أوصى داود به سليمان ( 1 مل 2 : 7 ) . يبدو أنه جعله حاكما فى بيت لحم ( إر 41 : 17 ) ، ويظن البعض أن السيد المسيح ولد فى منزله .
خلال اللقاءات المذكورة فى هذا الأصحاح نرى فى داود رمزا للسيد المسيح الذى أهتم بتوبة الخطاة وعودتهم للحظيرة ، وبالأهتمام بالنفوس المحطمة مثل مفيبوشث .
( 6 ) ثورة الأسباط على يهوذا
أرسل الملك إلى سيط يهوذا الكاهنين صادوق وابياثار ليسرعوا بمقابلة الملك ، أما بقية الأسباط البعيدة فى الغرب فجاءت متأخرة ، وحسبت ذهاب يهوذا قبلهم دون انتظارهم إهانة واستخفافا بهم ، أجابهم سبط يهوذا أنهم لم يفعلوا هذا لمصلحة خاصة بالسبط وإنما لمجرد قربهم منه من جهة الموقع ، إذ قالوا : " هل أكلنا شيئا من الملك ؟! أو وهبنا هبة ؟! " .
الأصحاح العشرون
ثورة شبع بن بكرى
كان لابد للسيف ألا يفارق مملكة داود تأديبا له على قتل أوريا الحثى ، لهذا بلا سبب حقيقى ثار شعب بن بكرى البنيامينى ضده وأثار إسرائيل بسرعة فائقة ليبقى رجال يهوذا وحدهم مع داود ، أعلن الله يده القوية إذ تحقق الأنتصار لداود بطريقة غير متوقعة ودون سفك دم ، سوى قطع رأس شبع نفسه ، هكذا سمح الله لداود بالتجربة للتأديب وهو الذى أوجد المنفذ أيضا .
( 1 ) ثورة شبع بن بكرى
كان شبع بنيامينيا حسب المولد ( 2 صم 20 : 1 ) ، مسكنه فى جبل افرايم ( 2 صم 20 : 21 ) ، وهو وشمعى من سبط شاول ، ربما كان لشبع دور ظاهر أو خفى فى فتنة أبشالوم ضد داود أبيه .
لسبب تافه ضرب شمعى بالبوق ليعود رجال إسرائيل ( 10 أسباط ) إلى بلادهم فى تمرد ضد داود ، لكنهم عوض الرجوع إلى بلادهم عادوا فتجمعوا لإثارة حرب جديدة بقيادة شبع ( 1 مل 12 : 16 ) .
واضح أن ما يحدث ليس بالأمر الطبيعى ، فالشعب يتقلب بسرعة عجيبة ، كانوا قبلا مع داود ، ثم تبعوا أبشالوم ثم رجعوا إلى داود ، وه هم يتركونه ليتبعوا شبع . غالبا ما كان السواد الأعظم لا يدرى السبب للألتفاف حول شخص ما ثم مفارقته .... هناك يد خفية تحرك هذا كله هو " السماح الإلهى " لأجل تأديب داود .
لم يسترح داود من فتنة أبنه أبشالوم حتى قام شبع بذات الدور ليجمع عشرة أسباط حوله ، وكأن الله لم يرد لداود أن يستريح من الضيق حتى تبقى الخطية التى سقط فيها مرة فى فمه .
عاد داود مع رجال يهوذا إلى أورشليم ، وأخذ السرارى العشر وتركهن تحت الحجز لأنه لم يكن لائقا أن يرجعن إليه بعدما دخل عليهن أبشالوم ( 2 صم 16 : 22 ) .
( 2 ) غدر يوآب بعماسا
طلب داود الملك من عماسا ( ابن عم يوآب ) أن يجمع له رجال يهوذا فى ثلاثة أيام ، وهى مدة غير كافية ، لكن الأمر كان خطيرا لا يحتمل أى تأخير ، إذ يريد أن يضرب شبع بن بكرى بسرعة حتى لا تضيع المملكة كلها .
تجاهل داود الملك يوآب وأقام عماسا رئيسا للجيش لأسباب كثيرة :
( أ ) اعتاد داود أن يفى بوعده مهما كانت الظروف ، وقد سبق فأرسل له لكى يرجع إليه فيقيمه رئيسا للجيش ( 2 صم 19 : 13 ) .
( ب ) إن تعيين عماسا رئيس جيش أبشالوم يعنى فى أذهان الشعب أن داود غير منحاز لسبطه ، وأنه لا زال يفتح يديه للجميع لكى يعمل معهم وبهم .
( ج ) الخلافات القديمة بين داود ويوآب التى سبق لنا الحديث عنها ( 2 صم 19 ) .
التقى يوآب بعماسا فى عودته ومعه رجال يهوذا وبنيامين عند الصخرة العظيمة التى فى جبعون ، أمسك يوآب بلحية عماسا بيده اليمنى كمن يقبله – وعن عمد – أغمد سيفه الذى أمسكه بيده اليسرى ليقتل به عماسا ، وتركه يتمرغ بدمه فى وسط الطريق
نادى يوآب وسط الشعب : " من سر بيوآب ومن هو لداود فوراء يوآب " 2 صم 20 : 11 كأنه أراد أن يؤكد لهم أن قتل عماسا بسبب خيانته لداود ، وأنه هو رجل داود الأول والأمين له ، بهذا اجتذب حتى رجال عماسا وراءه هو وأبيشاى لأدراك شبع ، تاركين عماسا بدمه بعد نقله من الطريق العام إلى حقل وطرح ثوب عليه حتى لا يقف أحد بجواره .
تبقى شخصية يوآب محيرة ، فمن جانب كان صادقا فى أمانته لداود ... لكنه كان متسرعا يريد تحقيق سلام داود بتصرفات يراها داود الملك متهورة مثل قتله أبنير وعماسا ... وأيضا قتل أبشالوم متجاهلا تحذيرات الملك !
( 3 ) قتل شبع
عبر الشعب تحت قيادة يوآب وأخيه أبيشاى نحو الشمال حتى بلغ مدينة " آبل بيت معكة " ، أقام الشعب بقيادة يوآب مترسة ( حائطا ترابيا ) يحميهم ، وحاصروا المدينة ، وكان الشعب ينقب مع يوآب ليهدم سور المدينة .
أدرك أهل المدينة بالخطر يحدق بهم ، وكانوا معروفين بالحكمة . نادت امرأة حكيمة : " اسمعوا اسمعوا قولوا ليوآب تقدم إلى ههنا فأكلمك " 2 صم 20 : 16 . تحدثت معه قائلة : " كانوا يتكلمون أولا قائلين : سؤالا يسألون فى آبل وهكذا كانوا انتهوا " 2 صم 20 : 18 . هذا مثل مشهور عن آبل معناه أنها مدينة مشهورة بالحكمة ، يلجأ إليها كثيرون يسألونها المشورة المصيبة المقنعة ، فينالون إجابة قاطعة . كأنها تقول له : لماذا لم تأت إلينا بالتفاوض والتفاهم ونحن أناس مسالمون وحكماء ؟ قالت له : " لماذا تبلع نصيب الرب ؟ " بمعنى إنك تهاجم مدينة هى هبة قدمها الله لأهلها ، وها أنت تخربها [ بحسب الشريعة كان يلزمه أن يقدم السلام ويدخل فى حوار قبل أن يهاجم ( تث 10 : 10 ) ] .
أجابها يوآب : " حاشاى حاشاى أن أبلع وأن أهلك ؛ الأمر ليس كذلك ، لأن رجلا من جبل أفرايم اسمه شبع بن بكرى رفع يده على الملك داود ؛ سلموه وحده فأنصرف عن المدينة " 2 صم 10 : 21 . استطاعت بحكمتها أن تقنع أهل المدينة ، فقطعت رأس شبع وألقتها إلى يوآب الذى ضرب بالبوق لينصرف الجيش عن محاصرة المدينة .
" شبع " يرمز إلى الكبرياء حيث يظن الأنسان أنه فى حالة استغناء ، وهو المرض الذى أصاب أسقف كنيسة لاودكية فوبخه الرب .. رؤ 3 : 17 .
الشعور بالشبع الداخلى وعدم الحاجة إلى الله يحطم كل إمكانياته ليصير هكذا شقيا وبائسا الخ .... هذا ما فعله شبع إذ جمع الأسباط حوله ليثيرها ضد داود ويقيم مملكة مقاومة له . لكن وجدت المرأة الحكيمة التى قطعت رأسه لتلقيها خارج الأسوار فيرجع للمملكة سلامها .
+ + +
الأصحاح الحادى والعشرون
مجاعة بسبب الجبعونيين
أخطأ شاول بمقاتلته الجبعونيين الذين سبق فحلف لهم يشوع بن نون ألا يقتلهم ، وقد جنى الشعب الثمرة فى أيام داود الملك إذ حدث جوع لمدة ثلاث سنوات ، فلما سأل داود الرب كشف له عن السبب ، ولم يكن هناك حل لذلك سوى تسليم سبعة رجال من بنى شاول للجبعونيين ، قاموا بصلبهم .
( 1 ) تأديب بسبب الجبعونيين
حدثت مجاعة بسبب انقطاع المطر لمدة ثلاث سنوات ، فطلب داود وجه الرب ، كانت الأجابة : " هو لأجل شاول ولأجل بيت الدماء لأنه قتل الجبعونيين " 2 صم 21 : 1 . قتلهم عن غيرة وبجهالة لكى يستولى سبطه على مالهم دون مراعاة لقسم يشوع لهم ( يش 9 ) .
هذه المجاعة غالبا ما حدثت بعد أحداث الأصحاح التاسع ، قبل فتنة أبشالوم ( 2 صم 15 ) . ربما لهذا السبب عير شمعى داود قائلا له : " يا رجل الدماء " 2 صم 16 : 7 ، مشيرا إلى الرجال السبعة من بنى شاول الذين سلمهم داود للجبعونيين ليصلبوهم .
لم يذكر الكتاب المقدس من قبل عن قتل الجبعونيين فى أيام شاول ، لأن الكتاب لم يهدف إلى تسجيل تاريخ مفصل للملوك وإنما تقديم ما يمس تعليمنا وخلاصنا .
حقا لقد أدرك داود النبى والملك أن وراء المجاعة سرا ، لهذا سأل الرب عن سببها ، لكنه تأخر فى السؤال ، لو أنه سأل فى بداية المجاعة ، لعرف السبب وانتهت المجاعة سريعا ، للأسف لا نلجأ سريعا للرب بل ننتظر حتى تفرغ كل حيلنا وحكمتنا وتبيد كل قواتنا ولا نجد حلا ، حينئذ فقط نلجأ إلى الله أبينا المهتم بنا ، ما أقسى قلوبنا ، فإننا ننسى الله فى أفراحنا بل وحتى فى ضيقاتنا حتى تخور قوتنا .
( 2 ) داود يسترضى الجبعونيين
شعر داود بالحاجة إلى استرضاء الجبعونيين الأمميين حتى يستجيب الرب له فقال : " ماذا أفعل لكم ؟ وبماذا أكفر فتباركوا نصيب الرب ؟ " 2 صم 21 : 3 ...... يطلب داود النبى منهم أن يباركوا شعب الرب !!
لقد طلب الجبعونيين تأديب بيت شاول فقط ، لأن القاتل هو شاول وبيته ، فمن بيته يقدم سبعة رجال ليعلقوا على الخشبة لعنة !
يلاحظ فى هذه الطلبة أنهم لم يريدوا وضع داود الملك فى حرج :
فلم يحددوا الرجال ، ليعطوا الفرصة لداود ألا يسلم مفيبوشث بن يوناثان من أجل أبيه والقسم الذى حلف به ، كما أنهم يعفون داود من قيامه بالصلب حتى لا يتحرج لأنهم من شعبه وهم أمميون . وأن يتم الصلب فى جبعة شاول ، فى مدينة مختار الرب ، لكى يدرك الشعب أن ما حدث ليس عن نقمة ضد الشعب كله بل ضد شاول ..
( 3 ) صلب أبناء شاول
سلم داود الملك سبعة رجال من بنى شاول للجبعونيين لصلبهم لا كذبائح بل لتحقيق العدالة . هؤلاء السبعة هم أرمونى ومفيبوشث لشاول من إحدى سراريه تدعى رصفة ، وخمسة رجال أبناء ميكال التى لم تنجب ولدا من داود ( 2 صم 16 : 23 ) بل من عدريئيل بن برزلاى المحولى ؛ وهناك رأى أن هؤلاء الأولاد هم لأختها الميتة ميراب وقد تبنتهم هى .
جاءت رصفة سرية شاول إلى ذلك الموضع وجلست على المسوح على الصخر ، غالبا ما نصبت خيمة مع خدمها هناك ، وكانت تحرس الأجساد المصلوبة حتى لا تدع طيور السماء تنزل عليها ولا حيوانات الحقل تقترب إليها .
تأثر داود الملك جدا بما فعلته هذه الأم العجوز ، ولكى يظهر أنه لا يحمل حقدا أو كراهية ضد بيت شاول أخذ عظام شاول ويوناثان التى دفنت خفية تحت شجرة ( 1 صم 31 : 12 ، 13 ) فى يابيش جلعاد حتى لا ينكل بها الأعداء ، وقام بدفنها فى قبر قيس فى أرض بنيامين فى صيلع ..
( 4 ) حرب مع الفلسطينيين
انحدر داود من جبال يهوذا إلى سهل الفلسطينيين ، حيث دارت الحرب وكاد أن يقتل داود إذ كان قد أعيا – ولم يترك المعركة – لو لم ينقذه أبيشاى ، حينئذ حلف رجال داود ألا يخرج معهم بعد إلى الحرب ، فإنه إن قتل يطفىء سراج الشعب كله .
ليتنا نحفظ رعاتنا بالصلاة من أجلهم فإنهم إن سقطوا تهلك الرعية معهم .
تكررت الحرب أيضا فى جوب حيث قتل ألحانان جليات الجتى ، وهو أخو جليات الذى قتله داود ( 1 أى 20 : 5 ) .
+ + +
الأصحاح الثانى والعشرون
نشيـــــد النصـــــرة
كنا نتوقع عرض النشيد المطابق تقريبا للمزمور الثامن عشر فى نهاية الحديث عن نصرات داود النبى ، وكنا نتوقع أن يقدم لنا هنا المزمور الحادى والخمسون الخاص بالتوبة والأعتراف .. لكن الوحى الإلهى أراد أن يؤكد أن حياة التسبيح والشعور بالنصرة كانت ممتدة حتى النفس الأخير بالنسبة لداود .
لقد سقط لكنه بالتوبة والأعتراف مع التسليم بقى ينشد مزمور النصرة .
فى تفسير القديس أغسطينوس للمزمور 18 الذى هو بعينه نشيد النصرة هنا يقول إن هذا المزمور يخص السيد المسيح نفسه الذى يتحدث بأسمه واسم الكنيسة بكونه رأسها وهى جسده ، ما يتمتع به من نصرة إنما لحسابها .
نستطيع الآن أن نقول إنه نشيد الكنيسة المنتصرة بالمسيح قائد موكبها الغالب حيث ترى فى الله سر خلاصها ونورها وقوتها ..... به تجتذب الأمم إلى الأيمان ليختبروا بهجة الخلاص فيها .
( 1 ) مناسبة النشيد
يبدو أن داود النبى كان يكرر هذا النشيد مع غيره من أناشيد أو مزامير النصرة فى كل غلبة ، إذ قيل : " وكلم داود الرب بكلام هذا النشيد فى اليوم الذى أنقذه فيه الرب من أيدى كل أعدائه ومن يد شاول فقال ....... " 2 صم 22 : 1 ، 2
( 2 ) الرب صخرتى
" الرب صخرتى وحصنى ومنقذى
إله صخرتى به أحتمى
ترسى وقرن خلاصى
ملجأى ومناصى ، مخلصى من الظلم تخلصنى
أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائى " 2 صم 22 : 2 – 4
( 3 ) أمواج الموت اكتنفتنى
الله – فى محبته لداود – لم ينزع عنه مقاومة الأعداء له ، وإنما على العكس يسمح له فتحل به الضيقات حتى يكاد الموت يحاصره ، فيتجلى الله واهب الحياة والقيامة فيه ، لهذا يصرخ قائلا :
" لأن أمواج الموت اكتنفتنى ،
سيول الهلاك أفزعتنى ،
جبال الهاوية أحاطت بى ،
شرك الموت أصابتنى ،
فى ضيقى دعوت الرب وإلى إلهى صرخت فسمع من هيكله صوتى وصراخى دخل أذنيه " 2 صم 22 : 5 – 7
( 4 ) طأطأ السموات ونزل
خلال الضيق يتجلى الله بحبه فى حياة الأنسان ليجده الأب المحب والمخلص ، خلال مقاومة الأعداء شاهد داود بروح النبوة ما حل بالأنسان من هلاك بحسد إبليس وكيف نزل الله الكلمة ذاته من السماء ليعلن حبه النارى نحو البشر ، الأمر الذى أدهش المسكونة كلها : السماء والأرض . يقول : " فأرتجت الأرض وارتعشت . أسس السموات ارتعدت وارتجت لأنه غضب " 2 صم 22 : 8 ، لقد غضب لما فعلته الخطية بحياة الأنسان وبطبيعته وذلك بحسد إبليس ، فارتجت الأرض وارتعدت السموات أمام هذا الحب الفائق ، إذ " طأطأ السموات ونزل " 2 صم 22 : 10 .
( 5 ) تحقيق الخلاص
يعلن داود النبى فى نشيد النصرة غاية نزول الرب من السماء أو تجسده ، ألا وهى خلاص الأنسان من الضيق والأرتفاع به إلى رحب السماء ، إلى حضن الآب : " أرسل من العلى فأخذنى ، نشلنى من مياة كثيرة . أنقذنى من عدوى القوى ...... أخرجنى إلى الرحب " 2 صم 22 : 17 – 20
( 6 ) السلوك بالكمال
لا نعجب أن نرى داود الذى عرف باتضاعه الشديد حتى أمام شاول مطارده ، فيدعو نفسه برغوثا واحدا وكلبا ميتا ( 1 صم 24 : 41 ) ، نراه هنا يتحدث كبار ، طاهر اليدين ، حافظ طريق الرب ، كامل لدى الرب ...
من هو هذا البار ، الطاهر اليدين ، الحافظ طرق الرب ، الذى لم يحد عن الأحكام الإلهية والفرائض ، الطاهر أمام الآب إلا الأبن الذى بلا خطية وحده .... فداود يتحدث بروح النبوة على لسان المخلص ! الآن صار لكنيسته – بكونها جسده المقدس – أن تنطق بذات كلماته لأنها مخفية فيه .
( 7 ) كما نفعل يفعل بنا
..... الآن ندخل فى علاقة جديدة مع الآب ، قائلين له : " مع الرحيم تكون رحيما ، مع الرجل الكامل تكون كاملا ، مع الطاهر تكون طاهرا ومع الأعوج تكون ملتويا ، وتخلص الشعب البائس وعيناك على المرتفعين فتضعهم " 2 صم 22 : 26 – 28
( 8 ) الله سراج النفس
" لأنك أنت سراجى يارب ، والرب يضيىء ظلمتى " 2 صم 22 : 29 .
( 9 ) الله قوة النفس وغلبتها
" لأنى بك اقتحمت جيشا ،
بإلهى تسورت سورا ..
ترس هو لجميع المحتمين به ..
الذى يجعل رجلى كالأيل وعلى مرتفعاتى يقيمنى .
الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس ...
توسع خطواتى تحتى فلا تتقلقل كعباى .
ألحق أعدائى فأهلكهم .. " 2 صم 24 : 30 – 39
( 10 ) دعوة الأمم للخلاص
" وتنقذنى من مخاصمات شعبى وتحفظنى رأسا للأمم .
شعب لم أعرفه يتعبد لى
بنو الغرباء يتذللون لى .
من سماع الأذن يسمعون لى ...
لذلك أحمدك يارب فى الأمم ولأسمك أرنم " 2 صم 22 : 44 – 50
يختم المرتل نشيد النصرة بدعوة الأمم للتمتع بالخلاص ، هذا ما أفرح قلب داود ، إن قتاله ضد إبليس لم يخلصه وحده وإنما خلص الأمم منه ليأتى إلى المسيا شعب لم يكن يعرفه .
+ + +
الأصحاح الثالث والعشرون
كلمات داود الأخيرة
كان يمكن لداود النبى أن يقدم لنا الكثير فى كلماته الأخيرة فى كل جوانب الحياة ، عاش تحت ظروف كثيرة : اختبر الغنى وذاق الفقر . تمتع بالمجد ولحقه الهوان ، أحبه الكثيرون وحقد عليه البعض فصار طريدا ، سلك الحياة البارة واختبر السقوط فالتوبة والتأدب . عاش كنبى وملك وقاض ورجل حرب وصاحب مزامير وكزوج وأب وكراع لغنمات قليلة كما لمملكة ممتدة .. لكنه اختصر الحديث الختامى جدا ، وذيله بأسماء أبطاله الجبابرة وأعمالهم ( 2 صم 23 : 8 – 39 ) ، ولم يكن هذا بلا سبب ، وإنما أراد الكتاب تأكيد أن من أهم سمات داود النبى هو تشغيله للطاقات التى بين يديه . هذا هو دور النبى وكل قائد روحى حقيقى ، كما هو دور الأب والأم ، حتى الشاب والطفل ، يلزم أن يتدرب الكل على عدم التمركز بل على تشغيل الغير فى غير انعزالية فكر أو انفرادية وأنانية !
( 1 ) داود المرنم الحلو
" فهذه هى كلمات داود الأخيرة ، وحى داود بن يسى ووحى الرجل القائم فى العلا مسيح إله يعقوب ومرنم إسرائيل الحلو " 2 صم 23 : 1
إنه بن يسى ، لن ينسى أصله ومركزه ، أصغر الأبناء ، عاش راعيا لغنم أبيه مجهولا من الناس وغير معتبر حتى فى اسرته ( 1 صم 16 : 10 ، 11 ) . كان مجهولا من الناس لكنه معروف لدى الله : " القائم فى العلا " ، له رسالته وعمله من قبل الرب ، إنه مسيح إله يعقوب ، فقد قال الرب لصموئيل : " قم امسحه لأن هذا هو " 1 صم 16 : 12 دعى " مرنم إسرائيل الحلو " فقد كان حلوا فى مزاميره ، لأنها تسبيح وشكر وصلاة مقدمة بوحى الروح لتعيشها الكنيسة خلال العهدين القديم والجديد وتترنم بها فى صلواتها . جاءت حياة داود فى جملتها قيثارة روحية لعب على أوتارها روح الرب فقدم لنا فيض تسبيح يصلح أن يكون رصيدا مفرحا للمؤمنين ، يبعث فيهم روح البهجة فى الرب .
( 2 ) سلطة خلال مخافة الله
إن كان داود قد تمجد ونال سلطانا ، ذلك من خلال مخافته للرب ، الذى وهبه استنارة ليضىء كشمس مشرقة فى الصباح بعد فترة ظلام ، وكتربة بدأت تنبت عشبا رواه المطر الإلهى ، ما فيه من قوة وعظمة وثمار إنما هو عطية شمس البر ( السيد المسيح ) والمطر الإلهى ( الروح القدس ) التى تمتع بهما خلال مخافة الله ، إذ يقول : " إذا تسلط على الناس بار يتسلط بخوف الله ، وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس ، كعشب من الأرض فى صباح صحو مضىء غب المطر " 2 صم 23 : 4 .
بمعنى آخر لن يتمتع مؤمن بإشراق شمس البر فيه ولا بثمار الروح ( المطر ) ما لم يتمتع بمخافة الله .
( 3 ) دخول فى عهد أبدى
يقول داود فى كلماته الأخيرة : " أليس هكذا بيتى عند الله لأنه وضع لى عهدا أبديا متقنا فى كل شىء ومحفوظا ؟! أفلا يثبت كل خلاصى وكل مسرتى ؟! " 2 صم 23 : 5 . يترجمها البعض : " مع أنه ليس هكذا بيتى عند الله وضع لى عهدا أبديا ... " إذ شعر داود النبى أنه لا يستحق التمتع بهذا العهد الأبدى مع الله فإن بيته – والديه وإخوته وربما قصد أولاده بالذات – لا يسلك بمخافة الله . العهد الإلهى هو هبة إلهية مجانية !
( 4 ) هلاك بنى بليعال
" ولكن بنى بليعال جميعهم كشوك مطروح لأنهم لا يؤخذون بيد ، والرجل الذى يمسهم يتسلح بحديد وعصا رمح ، فيحترقون بالنار فى مكانهم " 2 صم 23 : 6 ، 7 .
لقد خشى داود النبى أن يصير أحد من نسله أو ممن يخلفه على الكرسى ابنا لبليعال ، فإنه لن يشفع فيه نسبه لداود ولا مركزه كملك على شعب الله ، إنما يطرح خارجا كالشوك لا يصلح لشىء بل يحرق بالنار للخلاص منه ، إنهم بعدل إلهى يهلكون .
يرى القديس جيروم أن أشرار الأرض ( بنى بليعال ) يقتلعون فلا يكون لهم موضع فى الكنيسة مدينة الرب ، فيقول : [ مدينة الرب هى كنيسة القديسين ، مجمع الأبرار ]
( 5 ) أبطال داود الجبابرة
إن كان داود فى كثير من الأحداث يشير إلى السيد المسيح ، فإن أبطاله يشيرون أيضا إلى رجال الإيمان المنسوبين للسيد المسيح . وقد وردت أسماؤهم ( تختلف من وقت إلى آخر ) ، قال السيد المسيح لتلاميذه :
" افرحوا بالحرى أن أسماءكم كتبت فى السموات " لو 10 : 20 .
من يلتصق بربنا يسوع كجندى صالح ويجاهد قانونيا يتمتع بهذه الكرامة : تسجيل اسمه فى سفر الحياة .
الأصحاح الرابع والعشرون
الأحصاء والوباء
فى الأصحاحات 11 – 21 تحدث الكاتب عن سقوط داود بسبب تهاونه مع الخطية لمدة لحظات فبقى سنوات طويلة يجنى ثمارها المرة وإن كانت هذه المرارة تحولت إلى مجده وبنيان الكثيرين خلال توبته المستمرة . الآن يختتم السفر بخطأ خطير ارتكبه داود الملك وهو إحصاء الشعب لمعرفة عدد رجال الحرب دون استشارة الرب ، فحل على الشعب تأديب قاس هز أعماق نفس داود ، غير أنه عرف كيف يغتصب مراحم الله .
( 1 ) إحصاء الشعب
غضب الرب على داود ليس لأجل قيامه بالأحصاء فى حد ذاته ، فقد سبق أن أحصاهم موسى ثلاث مرات أو أكثر ( خر 38 : 26 ؛ عد 1 : 2 ، 3 ؛ عد 26 ) ، إلهنا إله نظام لا تشويش . إنما غضب الرب للأسباب التالية أو بعضها :
( أ ) لم يستشر الرب كعادته
( ب ) بدأ داود يعتمد على عدد رجاله وإمكانياته مع أنه لو تطلع إلى حياته كلها منذ صبوته لوجد نفسه قد انطلق من رعاية الغنيمات القليلة التى لأبيه إلى استلام المملكة كلها بقوة إلهية ، وليس بذراعه أو ذراع بشر .
( جـ ) ربما قصد داود بهذا الإحصاء إثارة حروب جديدة لتوسيع مملكته وازدياد مجده .
( د ) لعله أراد تسخير الشعب بوضع جزية مالية ثقيلة لحسابه الخاص أو حساب الخزانة وليس لحساب خيمة الأجتماع .
( هـ ) يبدو أن الدافع الرئيسى هو الأعلان عن عظمته وقدراته وإمكانياته ، كما كان يفعل ملوك الأمم حوله ليرعب الأمم المجاورة ، وقد شاركه الشعب هذه الروح لهذا كانت الخطية على الجميع .
( و ) كان الشعب محتاجا إلى تأديب ، فالله يسمح أحيانا بخطأ الراعى لتأديب الرعية ، لأنها مستحقة للتأديب .
لقد أدرك يوآب خطأ داود فحاول تنبيهه إلى ذلك لكن داود أصر .
( 2 ) إدراك داود للخطأ
لعل من أجمل سمات داود النبى والملك أنه متى أدرك خطأه فلا يغطى عليه ، ولا يقدم لله مبررات ، إنما فى بساطة قلب مع صراحة وفى رجاء يعترف حالا دون أى تردد : " فقال داود للرب : لقد أخطأت جدا فى ما فعلت ، والآن يارب أزل إثم عبدك لأنى انحمقت جدا " 2 صم 24 : 10 . هذا هو القلب النقى الذى لا يحتمل أى غبار ، إنما فى الحال يصرخ معترفا بخطيته .
( 3 ) جاد يستعرض التأديبات الإلهية
دفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك ( 2 صم 24 : 9 ) ، وعوض أن يفكر داود فى الرقم وغايته من التعرف عليه إذا بقلبه يضربه فى داخله ( 2 صم 24 : 10 ) ، وبقى الليل كله فى مرارة يترقب ثمر الخطأ الذى ارتكبه .
فى الصباح جاءه جاد النبى يعرض عليه حق إختيار العصا التى يضرب بها من قبل الرب للتأديب : [ سبع سنوات جوع ، هروب ثلاثة شهور أمام أعدائه وهم يتبعونه ، ثلاثة أيام وباء فى أرضه ] .
عندما ترك الرب لداود النبى أمر اختيار التأديب الذى يسقط تحته ضاقت نفسه ، ولكنه قال : " قد ضاق بى الأمر جدا ، فلنسقط فى يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط فى يد إنسان " 2 صم 24 : 14 . فجعل الرب وباء فى إسرائيل من الصباح إلى المساء ، فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع 70000 رجل . بسط الملاك يده ليهلك أورشليم ، لكن الرب ندم وقال للملاك : " كفى الآن رد يدك " .
يرى البعض أن الملاك كان على ذات جبل المريا الذى قدم فيه إبراهيم إسحق ذبيحة ... وكأن توقف الهلاك كان من خلال ذبيحة الأبن الحبيب !
( 4 ) حلول الوباء
وسط التأديب القاسى المر كشف الكتاب المقدس عن حب داود الفائق لشعبه ، فإنه إذ رأى شعبه تحت الضيق صرخ طالبا أن تحل الضيقة به وببيت أبيه لا بالشعب . إنه مستعد كسيده ( رب المجد يسوع ) أن يتقدم الرعية ليحتمل المخاطر عنهم ، لا أن يختبىء فى وسطهم طالبا عنايتهم به .
( 5 ) إرسال جاد لداود
سمع الله لضرخات داود المملوءة حبا تجاه شعب الله واستجاب له ، فقد ارسل إليه جاد النبى ليقيم مذبحا فى الموضع الذى ظهر له فيه الملاك ، فى بيدر أرونة اليبوسى ، مؤكدا له الآتى :
أنه قد تم التصالح بين الله وداود ، لأن إقامة مذبح وتقديم ذبيحة وقبولها من جانب الله يعنى تحقيق المصالحة ، وأن المصالحة تتم خلال الذبيحة ، رمز ذبيحة المسيح الكفارية .
رأى أرونة وهو رجل أجنبى يبوسى الملاك ، ثم عاد فرأى الملك قادما فارتبك جدا وتحير ، لذا سجد أمام داود الملك على وجهه إلى الأرض ، وسأله عن سر مجيئه . طلب منه أن يشترى منه البيدر ليقيم المذبح فيه فتكف الضربة عن الشعب . أراد أرونة أن يقدم البيدر مجانا لبناء المذبح وبقره محرقات ونوارجه وأدوات البقر حطبا للمحرقات ، لكن داود رفض أن يقدم تقدمات مجانية للرب وأصر أن يدفع الثمن 50 شاقلا من الفضة .
على ذات الموضع أقيم فيما بعد هيكل سليمان .
كان أرونة أمميا ، لكنه تمتع برؤية الملاك ، اتسم بالأتضاع والحب مع البذل والعطاء ، لذا أقيم الهيكل فى أرضه .... ليت إنساننا الداخلى يكون كأرونة فيقيم الرب هيكله فينا .
================================================== ========
تم في 19-9-2006
Hunter: الأخ
الله محبة
الباب الأول
انتصارات داود النبى
فى السفر السابق ظهر داود النبى كرجل الله الحق ، الذى غلب وانتصر ، لا على الآخرين ، بل فى حياته الداخلية . لقد سقط شاول الملك مطارده بين يديه على الأقل مرتين ولم يقبل أن يمد يده على مسيح الرب . وعندما ثار على نابال الأحمق وعزم أن ينتقم لنفسه سمع لمشورة أبيجابل الحكيمة وباركها لأنها منعته عن الأنتقام لنفسه . الآن سقط شاول وبنيه فى الحرب ، فانكشف بالأكثر اتساع قلب داود بالحب الخالص . لقد نسى إساءات شاول واضطهاداته المستمرة ، كما لم ينشغل بنفسه بكونه مستحقا أن يتولى عرش المملكة ، إنما رثى شاول ويوناثان ، متذكرا الجوانب الطيبة فيهما ، فحسبهما حلوين . وكان يرثيهما بقلبه ودموعه كما بلسانه وشفتيه .
استحق صاحب هذا القلب الكبير أن يتمتع بنصرات مستمرة على الأمم المحيطة به والمقاومة حيث ثبتت مملكته ، لا ليتسلمها سليمان ابنه من بعده فحسب ، وإنما بالحرى ليأتى من نسله المسيا المخلص يملك إلى الأبد على قلوب مؤمنيه ، مقيما ملكوت الله داخلهم .
+ + +
الأصحاح الأول
داود يرثى شعبه
انتصر داود على عماليق ورد المسبيين وعاد يحمل الغنائم الوافرة ليوزع منها على شيوخ يهوذا ، ويجدد المساكن بعد حرق صقلغ ( 1 صم 30 ) ، أما قلبه فكان ملتهبا من جهة شعبه ، إذ يعلم كيف ضعف الجيش وفارق روح الرب شاول بينما اتسم جيش الفلسطينيين بالقوة والنظام .. فى اليوم الثالث من وصوله إلى صقلغ جاء عماليقى يبشره بموت شاول مسيح الرب ، وكان ينتظر مكافأة مدعيا أنه ضرب شاول فى أنفاسه الأخيرة فنال عقوبة ، ورثى داود شاول ويوناثان وكل الشعب .
( 1 ) عماليقى يبشر بموت شاول
فى اليوم الثالث من وصول داود إلى صقلغ بينما كان مهتما بإعادة بنائها كان قلبه يئن مع ضيقة شعبه . متوقعا بين لحظة وأخرى أن تصله أنباء عن المعركة ، وإن كانت الأنباء متوقعة مقدما . جاء غلام بثياب ممزقة وعلى رأسه تراب يخبره بنتائج المعركة .
أما قصة هذا الغلام العماليقى ، فبحسب التقليد اليهودى هو ابن دواغ الأدومى : شعر أن داود سيملك لا محالة ، أراد أن يكون أول مبشر بخبر موت شاول ويوناثان ، غالبا ما رواه الغلام كان كذبا ، لكنه أراد أن يكسب ود داود . أخبره بأن شاول ويوناثان قد ماتا وكأنه لم يصر هناك وارث للعرش سوى داود ، قال عن شاول فقط : " فوقفت عليه وقتلته " . رأى علامات الضيق والحزن على وجه داود فأكمل حديثه : " لأنى علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه " . أخيرا أراد أن يهنئه بالملك كوارث لشاول ، فقدم له إكليل شاول وسواره لأنه هو أولى من يستلمهما .
فى الآثار الأشورية غالبا ما يصور المحاربون وقد لبسوا حليا خاصة أسورة على أذرعتهم .
واضح من القصة أنها مختلقة وذلك بمراجعة 1 صم 31 : 3 .... الخ .
صورة مؤلمة لقصة أحكم الغلام حبكها لكى يكسب ود داود ! لكن داود الحلو فى حبه وإخلاصه حكم على الغلام من فمه كقاتل لمسيح الرب . لقد كذب العماليقى ، وجنى ثمرة كذبه قتله لنفسه ، كما دفع حياته الجسدية للهلاك عوض المكافأة .
( 2 ) داود يبكى شعبه
لم يفكر داود ولا رجاله فى التشفى فى شاول المقاوم لهم زمانا طويلا ، ولا فيمن يستلم الحكم من بعده ، .....الخ وإنما ندبوا وبكوا وصاموا إلى المساء من أجل موت شاول ويوناثان ومن أجل موت الكثير من الشعب وانكساره .
تعلم سليمان الحكيم هذه المشاعر الرقيقة من أبيه ، فقال : " لا تفرح بسقوط عدوك ، ولا يبتهج قلبك إذا عثر ، لئلا يرى الرب ويسوء ذلك فى عينيه فيرد عنه غضبه " أم 24 : 17 ، 18 ؛ " الفرحان ببلية لا يتبرأ " أم 17 : 5 .
لم يوجد من يبكى شاول ويرثيه من الأعماق إلا ذاك الرجل الذى أبغضه شاول لسنوات طويلة ومعه رجاله، لقد حمل داود ظلا للسيد المسيح الذى بكى على أورشليم الساقطة بينما كانت تستخدم كل طاقاتها لقتله ( مت 23 : 37 ؛ لو 13 : 34 ) !
( 3 ) داود يعاقب العماليقى
تعجب داود كيف يتجاسر إنسان مفتخرا أنه قتل مسيح الرب وهو جريح فى المعركة ، لذا سأل الغلام : " من أين أنت ؟ " فقال له : " أنا ابن رجل غريب عماليقى " ..... عاد ليسأله : " كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب ؟ " . إذ لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال صمت ، فحكم بصمته على نفسه : " دمك على رأسك لأن فمك شهد عليك قائلا : أنا قتلت مسيح الرب " .
( 4 ) مرثاة لشاول ويوناثان
تقف كل نفس أمينة أمام هذه المرثاة العجيبة فى خشوع لتحيى الحب الصادق النابع من قلب داود تجاه مضطهده شاول وصديقه يوناثان . تهتز كل مشاعر داود أمام نبأ قتلهما فلم يقدر أن يحبس دموعه ولا أن يصمت بلسانه فسجل لنا هذه المرثاة .
عبر داود النبى عن مشاعره الأمينة بمرثاة لشاول ويوناثان ، وقد طلب من بنى يهوذا أن يتعلموها لكى تبقى ذكراهما دائمة . سجلت فى كتاب شعرى مشهور فى ذلك الحين يسمى " سفر ياشر " وهو كتاب أدبى وليس سفرا من أسفار الكتاب المقدس ( يش 10 : 13 ؛ 1 مل 8 : 35 )
دعا داود مرثاته " نشيد القوس " ربما من أجل ذكره قوس يوناثان المحبوب لديه ( 2 صم 1 : 22 ) .
هذا النشيد أو هذه المرثاة ليست مزمورا موحى به بل هى قصيدة شعرية تكشف عن مشاعر حب وإخلاص .
+ " الظبى يا إسرائيل مقتول على شوامخك " 2 صم 1 : 19 : ربما قصد بالظبى يوناثان ، إذ كانت سرعة الحركة من أعظم سمات المحارب ، فكان يوناثان سريعا فى حركته كالظبى ، لكنه وجد مقتولا على شوامخ إسرائيل ، أى على جبال حلبوع الشامخة .
+ " كيف سقط الجبابرة ؟!" : ربما كان هذا القول قرارا فى النشيد ، فقد دعى شاول وابنه ورجالهما جبابرة لم ينتظر سقوطهم ، كانوا سندا للكثيرين ، لكنهم سقطوا فسقط الجميع وراءهم .
+ " لا تخبروا فى جت ، لا تبشروا فى أسواق أشقلون ، لئلا تفرح بنات الفلسطينيين ، لئلا تشمت بنات الغلف " 2 صم 1 : 20 . اختار جت بكونها أعظم مدن الفلسطينيين وأشقلون المدينة التى فيها أعظم هياكل عشتاروت ربما أرسل إليها سلاح شاول ويوناثان ( 1 صم 31 : 10 ) .
+ " يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن ولا حقول تقدمات ، لأنه هناك طرح مجن الجبابرة مجن شاول بلا مسح بالدهن . من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء وسيف شاول لم يرجع خائبا " 2 صم 1 : 21 ، 22 . هذه جميعها اصطلاحات شعرية تصور خطورة الكارثة التى حلت على جبال جلبوع حيث تلطخت بدماء ملوكية ، دماء جبابرة بأس ، يطلب ألا يكون عليها طل ولا مطر فتجف وتصير قفرا بعد موت الجبابرة ، ولا يكون بها حقول تأتى بثمار يقدم منها تقدمات للرب أو ما يستحق أن يقدم عنها عشور أو بكور حيث حل بها الخراب ، فقد سقطت أسلحة الجبابرة ، سيف شاول لم يمسح بالدهن ليقاتل به ( كانت العادة أن يمسح السيف قبل استعماله ) ، لقد سقط عليه وتلطخ بدمه عوض الدهن ، كانت قوس يوناثان وأيضا سيف شاول دائمى العمل فى قتل الجبابرة أما الآن فتوقفا !
تذكر داود انتصارات شاول الكثيرة وغلبته على أعدائه ( 1 صم 14 : 47 ) .
+" شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان فى حياتهما لم يفترقا فى موتهما ، أخف من النسور وأشد من الأسود " 2 صم 1 : 23 . أظهر داود نقاوة قلبه الداخلية فإنه لم ينطق بكلمة واحدة تسىء إلى شاول ، ولا حتى بالتلميح ، إنما امتدحه مع محبوبه يوناثان . تطلع إليهما كمحبوبين ، فقد أحب يوناثان أباه شاول وبقى سندا له فى البلاط ، أمينا فى عمله ، حلوا فى تصرفاته ، ملاصقا له حتى الموت وإن كان لم يسترح لحسد أبيه نحو داود ولم يشترك معه فى التصرفات الخاطئة .
مدحهما داود على سرعتهما فى الحركة وشجاعتهما فى القتال مشبها إياهما بالنسور والأسود .
+ " يا بنات إسرائيل أبكين شاول الذى ألبسكن قرمزا بالتنعم ، وجعل الذهب على ملابسكن " 2 صم 1 : 24 .
كانت لشاول خطاياه من عصيان وعناد وجنون وحسد لكن داود تجاهل هذا كله فى مرثاته ، مذكرا النسوة الباكيات بأعماله الجبارة ، فقد حارب وغلب ، واستقرت البلاد فى أيامه حتى لبست النساء القرمز متنعمات وتحلين بالذهب لأنهن فى أمان من الأعداء والسبى .
+ " قد تضايقت عليك يا أخى يوناثان ، كنت حلوا لى جدا ، محبتك لى أعجب من محبة النساء " 2 صم 1 : 26 ، محبة النساء لرجالهن عجيبة ، إذ يتركن بيوت آبائهن وأهلهن ويلتصقن برجالهن ، ... أما حب يوناثان فكان أعذب وأحلى . لقد بقى فى بيت أبيه محتملا التعييرات بسبب داود ، كان يعلم أن داود يحتل عرشه ، فكان يهيىء له الطريق بفرح مقدما حياته فدية عنه ، كان بحق حلوا فى حبه ! أى شىء أعذب من الحب الأخوى الخالص الذى لا يطلب ما لنفسه بل ما لصديقه ! .
+ + +
الأصحاح الثانى
داود يملك على يهوذا
لقد أيقن داود أنه هو الملك المختار من قبل الرب ، لكنه استشار الرب أولا إن كان يصعد إلى إحدى مدن يهوذا .
وبعد سؤال الرب صعد داود إلى حبرون حيث مسح ملكا على بيت يهوذا ، لم ينس داود المعروف الذى صنعه رجال يابيش جلعاد مع شاول بعد موته ، أقام أبنير أيشبوشت بن شاول ملكا على جلعاد والأشيريين ويزرعيل وافرايم وبنيامين وكل إسرائيل . بدأ أبنير بالحرب ضد رجال داود حيث غلبه رجال داود ؛ عاد فطلب أبنير أن تتوقف هذه الحرب الأهلية فقبل الطرفان إلى حين
( 1 ) مسح داود ملكا على يهوذا
مات شاول ويوناثان ، وكانت الخلافة لأيشبوشت بن شاول ، اسمه الأصلى " أشبعل " 1 أى 8 : 33 ، أى " رجل البعل " أو " رجل ذو سيادة " . ولما كانت كلمة " بعل " قد تخصصت لإله الفينيقيين لذا تغير اسمه إلى أيشبوشت لتعنى " رجل الخزى " ، إذ كان ضعيفا غير قادر على العمل ، يحركه أبنير رئيس جيش شاول كيفما يريد .
أما داود الذى سبق فمسحه صموئيل ملكا سرا وسط إخوته ( 1 صم 16 ) ، فكان عند موت شاول ويوناثان فى صقلغ فى أرض الفلسطينيين ، وقد خلا له الجو إلى حد كبير ليستلم العرش ، أما هو فبحكمة واتزان لم يتسرع طالبا الحكم وإنما رأى أنه لا داعى لبقائه خارج وطنه .
داود – كرجل الله – سأل الرب فجاءت الأجابة الإلهية بالتوجه إلى :
" حبرون " من أعظم مدن يهوذا المقامة بين الجبال كحصون طبيعية . هناك جاءه رجال يهوذا ومسحوه ملكا علانية .
إن كانت " حبرون " تعنى " اقترانا " ، فإنه ما كان يمكن لداود أن يمسح ملكا ما لم يصعد هو وأسرته ورجاله إليها ليأتيه رجال يهوذا هناك . أقول إننا لن ننعم بالمسحة المقدسة لنحسب " ملوكا وكهنة " رؤ 1 : 6 ؛ 5 : 10 ما لم ننعم بالأتحاد مع ربنا يسوع " ملك الملوك " ، نقدم له حياتنا كلها ، النفس مع الجسد بكل إمكانياتهما وقدراتهما ومواهبهما ... لننعم بشركة مع الله فى ابنه يسوع المسيح ، فنملك معه .
يرى القديس يوحنا الذهبى الفم : أنه فى العهد القديم كان الروح القدس يهب مسحة للبعض فيقيم ملوكا أو كهنة أو أنبياء ، أما فى العهد الجديد – ففى المسيح يسوع – نلنا جميعا مسحة ليكون كل واحد منا ملكا وكاهنا ونبيا ، ملكا من حيث تنعمنا بالملكوت ،
وكهنة إذ نقدم أجسادنا ذبيحة ( رو 12 : 1 ) ،
وأنبياء إذ يعلن لنا ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن ( 1 كو 2 : 9 ) .
يرى البعض أن فى مسح داود ملكا على بيت يهوذا ( 2 صم 2 : 4 ) بواسطة رجال يهوذا كشفا عن نقطة ضعف اتسم بها سبط يهوذا ألا وهى ميله نحو الأنعزالية والأنفراد عن بقية الأسباط مما سبب متاعب كثيرة فيما بعد وانقسامات فى الشعب ، بل وانقسمت المملكة إلى أثنتين : مملكة إسرائيل ( 10 أسباط ) ومملكة يهوذا ( يهوذا وبنيامين ) إلى أيام السبى .
هذا ويلاحظ أن داود مسح ملكا ثلاث مرات :
( أ ) سرا فى بيت أبيه ( 1 صم 16 : 13 ) .
( ب ) مسحه على بيت يهوذا ( 2 صم 2 : 4 ) .
( ج ) مسحه على كل إسرائيل ( 2 صم 5 : 3 ) .
( 2 ) داود يمتدح أهل يابيش جلعاد
أول عمل قام به داود بعد مسحه ملكا على بيت يهوذا هو اهتمامه بمن قاموا بدفن شاول ويوناثان ، لقد عرف أنهم أهل يابيش جلعاد فأرسل إليهم يمتدحهم قائلا لهم :
" مباركون أنتم من الرب ...
والآن ليصنع الرب معكم احسانا وحقا ،
وأنا أيضا أفعل معكم هذا الخير ...
والآن فلتتشدد أيديكم وكونوا ذوى بأس ، لأنه قد مات سيدكم شاول وإياى مسح بيت يهوذا ملكا عليهم " 2 صم 2 : 5 – 7 .
هذا التصرف من جانب داود يستحق التقدير فقد قدم البركة ، والمكافأة ، وأستفاد من طاقات الآخرين لبنيان المملكة ، إنها صفات القائد الناجح .
( 3 ) أبنير يقيم إيشبوشت ملكا
أقام الله داود ملكا حيث مسحه بيت يهوذا ليقيم فى حبرون سبع سنوات ونصف ( 2 صم 2 : 11 ) بعدها مسح ملكا على جميع الأسباط . من الجانب الآخر انشغل أبنير رئيس جيش شاول فى استرجاع بعض المدن التى فقدت فى معركة جلبوع ؛ صار يجاهد لمدة خمس سنوات ونصف بعدها أقام ايشبوشت بن شاول ملكا على إسرائيل ( ما عدا سبط يهوذا ) ، وعبر به إلى محنايم كعاصمة للمملكة . كان أبنير خائفا من داود لئلا يطرده من منصبه كرئيس جيش .
( 4 ) أبنير يثير حربا أهلية
بقى داود أمينا ومخلصا لشاول ويوناثان ، لم يفكر قط فى اغتصاب العرش رغم مسحه ملكا مرتين ، مكتفيا أن يعمل وسط سبطه يهوذا ، لكن أبنير عم شاول أراد أن يخضع يهوذا إيشبوشث ، فخرج ومعه رجال إيشبوشث من محنايم إلى جبعون ، واضطر يوآب وعبيد داود أن يخرجوا أيضا دون داود ، والتقى الطرفان على بركة جبعون كل على جانب مقابل الآخر ، يبدو أن رجال كل طرف من الطرفين لم يستريحوا لمقاتلة إخوتهم .... ولو ترك الأمر هكذا لرجع الطرفان كما قال يوآب فيما بعد لأبنير ( 2 صم 2 : 27 ) . لقد جلس الجميع على طرفى البركة ( 2 صم 2 : 13 ) ولم يتأهبوا للقتال ، أراد أبنير أن يلهب الجو فطلب أن يتقاتل بعض الغلمان ، قام 12 غلاما من كل طرف ، فأمسك كل واحد برأس صاحبه وضرب سيفه فى جنب صاحبه وسقط الأربعة وعشرين غلاما ، ودعى هذا الموضع " حلقث هصوريم " أى " صقل السيوف " .
أثار هذا المنظر الطرفين فقام الكل يتقاتلون ، وانكسر أبنير ورجاله أمام عبيد داود .
( 5 ) أبنير يقتل عسائيل
هزم أبنير ورجاله ، فهرب ، لكن عسائيل أراد أن يلحق به ويقتله ، وكان رئيسا لإحدى فرق الجيش ، خفيف الرجلين كالظبى لكنه لم يكن قويا فى الحرب كأخيه يوآب ولا كأبنير .
كلمة " عسائيل " معناها " الله يعمل " وهو ابن صروبة أخت داود ، أخو يوآب وابيشاى . ربما أخذه الحماس ليلحق بأبنير ليضع حدا فاصلا للحرب ، ويسرع بتسليم خاله داود الملك .
تطلع أبنير وراءه فشاهد عسائيل ، أراد أن يثنيه عن ملاحقته ، بدون جدوى ، فضربه أبنير بزج الرمح ضربة خفيفة كى لا يقتله ، أى ضربه بخلف الرمح ، ومع ذلك دخل الرمح فى بطنه وخرج من خلفه ، وسقط عسائيل ميتا .
إذ كان الجميع يحبونه هو وأخاه يوآب ، كان كل من يأتى إلى الموضع الذى سقط فيه يقف .
( 6 ) سعى يوآب وراء أبنير
سعى يوآب وأبيشاى وراء أبنير لينتقما لأخيهما عسائيل حتى الغروب عندما جاء أبنير إلى تل أمة الذى تجاه جيح .
اجتمع بنو بنيامين الين كانوا يطلبون نجاح إيشبوشث وقائده أبنير ، واستعدوا لمقاومة يوآب . فنادى أبنير يوآب ، وقال له : " هل إلى الأبد يأكل السيف ؟! ألم تعلم أنها تكون مرارة فى الأخير ؟! فحتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم ؟! " 2 صم 2 : 26 . هكذا شعر أبنير أن القتال لن يتوقف والخراب سيحل بالجميع لذا طلب من يوآب أن يرجع هو ورجاله عن مقاتلة إخوتهم . أجابه يوآب محملا إياه مسئولية ما حدث ...
أما قبول يوآب وقف الحرب بالرغم من قتل أخيه ، إنما لأنه يدرك ما فى قلب خاله داود الملك ، إنه لا يسعى ليملك بمقاتلة إخوته ، إنما ينتظر عمل الله الهادىء .
دفن القتلى فى أرض المعركة ، أما عسائيل فدفن فى بيت لحم فى مقبرة أبيه ( 2 صم 2 : 32 ) .
عبر أبنير الأردن إلى محنايم ، وذهب يوآب إلى حبرون حيث يملك داود .
+ + +
الأصحاح الثالث
أبنير ينضم إلى داود
( 1 ) حرب بين بيت شاول وبيت داود
إذ ملك ابنير نسيب شاول إيشبوشث على إسرائيل ( ما عدا سبط يهوذا ) بقى داود صامتا ينتظر يد الله ومواعيده الأمينة والصادقة ، فإنه لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت حكمه ولا مقاومة الملك الجديد ، بدأ إيشبوشث حربه بتحريض وقيادة أبنير الذى كان يصر على أن يبقى الملك فى يد شاول بالرغم من ادراكه أن الله حلف لداود أن يهبه الملك ( 2 صم 3 : 10 ، 11 ) .
كانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود المصر على عدم مقاومة الملك أو الأساءة إلى بيت شاول . قيل : " وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود ، وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف " 2 صم 3 : 1 . خلال هذه الفترة كان الله يعمل وسط شعبه ليجتذبهم تدريجيا نحو داود لا خلال القهر والألزام بل خلال حياته المقدسة الهادئة .
( 2 ) أبنير يقاوم إيشبوشث
كان داود يملك على القليل ( سبط واحد ) وإيشبوشث يملك على الكثير ( بقية الأسباط ) ، لكن داود حمل مجده فى داخله خلال إيمانه بالله العامل فيه ، أما إيشبوشث فارتكزت قوته على أبنير نسيبه ورئيس جيشه ، لذا كان الأول يزداد مجدا من يوم إلى يوم والثانى يزداد انهيارا من وقت إلى آخر .
دخل أبنير على سرية شاول فعاتبه إيشبوشث الضعيف الشخصية بعنف ، ليس دفاعا عن الحياة المقدسة وإنما لأنه حسب أنه بذلك يريد أن ينسب الملك إلى نفسه . لم يقبل أبنير هذا العتاب لأنه هو الذى أقامه ملكا . فى عنف وبخ الملك قائلا لـه : " ألعلى أنا رأس كلب ليهوذا ؟! أليوم أصنع معروفا مع بيت شاول أبيك مع إخوته ومع أصحابه ولم أسلمك ليد داود وتطالبنى بإثم امرأة ؟!
ربما أراد أبنير أن يستغل الفرصة لينحاز إلى داود عندما رأى أن يد الرب معه . إذ قال لإيشبوشث : " كما حلف الرب لداود كذلك أصنع له . لنقل المملكة من بيت شاول وإقامة كرسى داود على إسرائيل وعلى يهوذا من دان إلى بئر سبع " ( أى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ) .
كان أبنير معتدا بذاته ، يظن أنه يستطيع أن يتعامل مع داود مثلما يتعامل مع إيشبوشث ؛ يقيم ويعزل ملوكا ، لكنه لم يدرك أنه قبلما يتحقق مسح داود ملكا على كل الأسباط يموت ابنير ، إنه يمثل الذراع البشرى المتشامخ الذى يظن أن الأمور تجرى بيده بدون المعونة الإلهية .
لذا يقول داود النبى فى المزمور : " لا تتكلوا على الرؤساء ، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده ، تخرج روحه فيعود إلى ترابه .... طوبى لمن إله يعقوب معينه ورجاؤه على الرب إلهه " مز 146 : 3 – 5 .
( 3 ) إقامة عهد بين أبنير وداود .
لقد صمت إيشبوشث أمام تهديدات أبنير ولم ينطق بكلمة لأنه نال الملك من يده لا من يد الله ، معتمدا على ذراع بشر ، أما أبنير فلم يكن محتاجا إلى وقت للتفكير فى الأمر ، إذ يبدو أن فكرة التخلى عن إيشبوشث قد سيطرت عليه تماما ، لهذا " أرسل أبنير من فوره رسلا إلى داود قائلا : لمن هى الأرض ؟! يقولون اقطع عهدك معى وهوذا يدى معك لرد جميع إسرائيل إليك " 2 صم 3 : 12 ، هكذا يتعهد أبنير – خلال رسله – أن يرد جميع الأسباط إلى داود على أن يقيله فى خدمته ويعفو عن كل ما فعله من عصيان .
قبل داود الملك هذا العرض مشترطا لإقامة العهد أن ترد إليه زوجته الأولى ، ميكال ابنة شاول التى أعطاها والدها لفلطئيل بن لايش ( 1 صم 25 : 44 ) .
لماذا وضع داود هذا الشرط ؟
يرى البعض أن داود طلبها ليس حبا فيها وإنما لأسباب سياسية ، وهو ابراز أنه أولا وقبل كل شىء نسيب شاول الملك فينال أمام الأسباط نوعا من الشرعية فى تولى الملك ، ورأى آخرون فى هذا التصرف ردا لكرامة داود الذى اغتصبت زوجته وسلمت لآخر .
هناك رأى آخر ، فهو يستطيع أن يرد ميكال بعد تولى العرش ، ولكنه فى هذه الحالة سيحسب عنيفا ومستغلا لسلطاته ، إنما أراد داود أن يبرز أنه أمين لزوجته ميكال التى أحبها ، هذه الأمانة فى نظره أولى من تسلمه الملك . إن لم يكن أمينا مع زوجته فكيف يرعى هذا الشعب كله .
بناء على طلب أبنير : قام إيشبوشث برد ميكال ( أخته ) إلى داود ، وكان رجلها يسير معها ويبكى وراءها إلى بحوريم .
( 4 ) يوآب يغدر بأبنير
كنا نتوقع من داود النبى والملك أن يتحرك فرحا ليستغل الفرصة ليجمع الأسباط تحت سلطته ، لكن ما حدث أنه وقف فى حب وثقة بالله يتأمل عمل الله معه ، فكان المتحرك هو أبنير ، إذ بادر بالوفاء بوعده ، متحدثا مع شيوخ إسرائيل عن إقامة داود ملكا كطلبهم السابق وتحقيقا لمشيئة الله . أخذ أبنير عشرين رجلا من شيوخ الأسباط ، وانطلقوا إلى داود الذى أقام لهم وليمة علامة الأتحاد وإقامة عهد معهم .
تأثر أبنير بلقاء داود مع العشرين شيخا لذا طلب من داود أن يسمح له بالذهاب إلى الأسباط لتدبير الأمور الخاصة بتجليسه رسميا ملكا ( 1 أى 11 : 1 – 3 ) .
عاد يوآب مع رجاله وسمع بما تم بين داود وأبنير فثارت ثائرته ، ربما لأنه كان يخشى أن يحتل ابنير مركزه ، لقد انتهر داود الملك متهما ابنير أنه جاسوس جاء ليخدع الملك حتى يخرج ويثير الأسباط لمحاربته ، أما داود فصمت ليس خوفا من يوآب كما صمت إيشبوشث أمام أبنير ، وإنما استخفافا بفكر يوآب ، وتصرفاته المتهورة فى مواقف كثيرة .
استدعى يوآب أبنير سرا ( دون علم داود الملك ) ، وإذ مال إليه اغتاله انتقاما لأخيه عسائيل ، ولأنه خشى أن يحتل مركزه كرئيس جيش داود .
لم يكن لائقا برجل حرب كيوآب أن يقتل إنسانا أئتمنه على نفسه وجاءه يتفاوض معه ، إنما كان يجب أن يصارحه ويبارزه إن أراد ... فقد أوصى موسى الشعب : " ملعون من يقتل قريبه فى الخفاء " تث 27 : 24 .
( 5 ) داود يحزن على أبنير
كم كان داود شهما ونبيلا عندما أعلن رسميا وشخصيا براءته من قتل أبنير ورفضه هذا الغدر من جانب يوآب ، معلنا للجميع أن ما صنعه يوآب لا يليق برجل إيمان ولا برجل حرب وأن تأديب الرب سيحل به ( 2 صم 3 : 29 ) .
أعلن داود رأيه رسميا بسيره وراء نعش أبنير وطلبه من الشعب أن يمزقوا ثيابهم ويتمنطقوا بالمسوح ويلطموا أمام جثمان ابنير ، كما أعلن عن براءته من قتل أبنير بسلوكه الشخصى فقد بكى عليه وصام النهار كله . لقد تأثر به الشعب جدا وبكوا معه ، نسى داود أن ابنير عدوه الذى كان يثير الحرب بينه وبين إيشبوشث وتذكر أنه قائد عظيم كان يمكن الأنتفاع منه فى محاربة الوثنيين .
فى مرثاته قال : " هل كموت أحمق يموت أبنير ؟! يداك لم تكونا مربوطتين ورجلاك لم توضعا فى سلاسل نحاس . كالسقوط أمام بنى الإثم سقطت " 2 صم 3 : 33 ، 34 .
لم يعزل داود يوآب من عمله ربما لأنه لم يجد مثله كرجل حرب وربما لأنه رأى أن ما فعله يوآب كان يهدف إلى الدفاع عن مملكة داود حاسبا أبنير جاسوسا ومخادعا .
+ + +
الأصحاح الرابع
نهاية مملكة شاول
بقتل ابنير غدرا بيد يوآب انتهت مملكة شاول إذ كان إيشبوشث ملكا صوريا ، قتله أخوان " بعنة وركاب " غدرا وهو على سرير فراشه نائما ، ولم يبق وارثا للمملكة إلا مفيبوشث بن يوناثان ، كان أعرج يعجز عن تولى العرش .
( 1 ) انهيار ايشبوشث
" ولما سمع ابن شاول أن ابنير قد مات فى حبرون ارتخت يداه وارتاع جميع إسرائيل " 1 صم 4 : 1 . عدم ذكر اسمه هو نوع من الأحتقار ، فقد خسر إيشبوشث كرامته وقوته لأن مملكته قامت على ابنير الذى غدر به يوآب ، خبر خيانة أبنير لإيشبوشث والغدر بأبنير حطم نفسية الملك الشكلى فارتخت يداه ، بل وارتاع الشعب كله ، فقد مات القائد الشجاع ولا يعرفون ماذا يفعل بهم داود .
( 2 ) قتل إيشبوشث
غدر به بعنة وركاب ابنا رمون من بئيروت التى للجبعونيين ، من بنى بنيامين ( 2 صم 4 : 2 ) . هذان كانا فى خدمة الملك ، انتهزا الأحداث ، وشعرا بانهيار الملك وتخلى الشعب عنه ، فأرادا اللحاق بخدمة داود الملك بتقديم رأس منافسه إيشبوشث . هذان خانا الملك الذى أقامهما فى البلاط للخدمة ، بجانب أنهما من ذات سبطه ، مما يجعل جريمتهما أكثر بشاعة .
لقد دخلا بيت إيشبوشث بحجة أنهما يطلبان حنطة وكان ذلك فى وقت الظهيرة – ما بين الساعة الثانية عشرة والثالثة بعد الظهر ؛ وجدا الملك نائما على سريره فقطعا رأسه وجاءا بها إلى داود مقدمين تعليلا لاهوتيا : " قد أعطى الرب لسيدى الملك انتقاما فى هذا اليوم من شاول ومن نسله " 2 صم 4 : 8 .
بقتل إيشبوشث خلى الجو تماما لداود إذ لم يعد من بيت شاول سوى مفيبوشث بن يوناثان ، كان ابن خمس سنين حينما قتل أبوه وجده فى الحرب ، فحملته مربيته وهربت ، وإذ كانت مسرعة وقع فانكسرت عظام رجليه والتحمت خطأ فى غير موضعهما فصار أعرج ( 2 صم 4 : 4 ) ، غير قادر على تولى العرش لعجزه الجسدى ولصغر سنه ( حوالى 12 سنة ) .
( 3 ) الأنتقام لإيشبوشث
أكد داود النبى للخائنين الشريرين أنه ليس فى حاجة إلى عون الأشرار مثلهما بل هو متكل على الله الذى فدى نفسه ( 2 صم 4 : 9 ) . إنه لم يستحسن قتل شاول ولا ابنير فكيف يقبل قتل رجل على سرير فراشه ؟!
طلب الدم البرىء منهما ، فقطعت أياديهما التى قتلت ؛ والأرجل الى هربت ، وعلقت جثتاهما على بركة حبرون حتى يدرك القادمون للأستقاء أن داود لا يملك خلال هرق دم برىء ، وأنه لا يسر بهذين الخائنين ، أما رأس إيشبوشث فدفنت بتكريم فى مقبرة ابنير فى حبرون .
هذا التصرف يفرح قلب الله الذى أقام داود ملكا كما يسر قلوب البنياميين وأتباعهم ، إذ يرون داود لا يحمل عداوة تجاه بيت شاول بل محبة وإخلاصا .
+ + +
الأصحاح الخامس
مسح داود ملكا
أخيرا مسح داود ملكا على جميع الأسباط فى الوقت المناسب ، بعد أن تعلم فى السنوات الماضية حياة الجهاد بلا ملل ، والأتضاع فلا يطلب لنفسه مجدا زمنيا ، والحب فلا ينتقم لنفسه .
لقد مارس داود أعمال محبة تسندها مشاعر صادقة فملك وغلب بالرغم من مقاومة الأعداء له .
( 1 ) مسح داود ملكا
هذه هى المرة الثالثة التى فيها مسح داود ملكا حيث خضع الكل له ، لقد حان الوقت لتوليه الملك باختياره وإجماع الشعب عليه ، جاء إليه الشيوخ :
" هوذا عظمك ولحمك نحن ، ومنذ أمس وما قبله حين كان شاول ملكا علينا قد كنت أنت تخرج وتدخل إسرائيل ، وقد قال لك الرب : أنت ترعى شعبى إسرائيل وأنت تكون رئيسا على إسرائيل " 2 صم 5 : 1 – 2
لقد تدرب داود على الجهاد والحب ، عرف كيف يقاوم حسد شاول بسماحة فى أدب ورقة ، وكيف يقابل موت شاول وأبنير وإيشبوشث بغير شماتة إنما بنبل وحب يرثيهم وينتقم لكل دم برىء ، قبل مشورة أبيجابل الحكيمة بفرح عندما طلبت منه ألا ينتقم لنفسه إذ ينتظر الكل منه أن يعطى ويبذل لا أن يطلب ما لنفسه .... بهذه الروح التى عاشها لسنوات طويلة وخبرات متلاحقة فى الرب قابل الشيوخ فى حبرون بمحبة ، دون أن يعاتبهم بكلمة أو يحمل مشاعر ضيق تجاههم ، برغم مطاردتهم لـه لسنوات سابقة ...! لقد كان داود رمزا للملك الحقيقى رب المجد يسوع ، الذى مسح أزليا ليملك ، لكنه جاء فى ملء الزمان يسلك طريق الصليب فى اتضاع ، صالحنا ونحن بعد أعداء ( رو 5 : 10 ) دون أن يجرح مشاعرنا بسبب جحودنا السابق أو مقاومتنا له . إنه فى رقة الحب الحقيقى يقرع باب القلب ليدخل ويملك إن فتحنا له بكامل حريتنا دون قهر أو إلزام من جانبه علينا !
( 2 ) نصرة داود على اليبوسيين
كانت يبوس – تمثل مساحة صغيرة إن قورنت بأورشليم فى أيام سليمان . كانت تناسب أن تكون العاصمة لداود أكثر من حبرون ، لأن موقعها منيع للغاية ، فهى مرتفعة ( مز 48 : 2 ) ، حولها جبال ( مز 125 : 2 ) تحيط بها وديان عميقة من ثلاثة جوانب يبلغ عمق بعضها 800 قدم ؛ ولأنها على تخم يهوذا وبنيامين فترضى السبطين ( يهوذا الذى خرج منه داود ، وبنيامين الذى يضم بيت شاول الملك ) .
كان اليبوسيون واثقين أن داود لن يستطيع الأستيلاء على حصنهم بسبب مناعته ، حتى لوكان من بداخله عمى وعرج ، لذا فى استخفاف قالوا له :
" لا تدخل إلى هنا ما لم تنزع العميان والعرج " 2 صم 5 : 6 .
أعلن داود عن المكافأة لمن يضرب المدينة حتى يبلغ إلى القناة ، أى إلى النفق تحت الأرض من الوادى إلى فوق ، فإن من يبلغ القناة يدخل الحصن ، لم يذكر ما هى لأنها لا تحتاج إلى ذكر ، إذ عنى أن يصير المنتصر " رأسا وقائدا " 1 أى 11 : 6 ؛ وقد حقق يوآب ابن صروية ذلك .
دخل يوآب المدينة وصار رأسا ( 1 أى 11 : 6 ) ، وسكن داود ورجاله القلعة أو الحصن ودعاه " مدينة داود " .
استولى داود على يبوس وجعل منها مدينته الخاصة ، تحمل اسمه ، قيل :
" وبنى داود مستديرا من القلعة فداخلا " 2 صم 5 : 9 ، ماذا تعنى الأستدارة إلا أن المدينة صارت كما فى شكل دائرة ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية ، بمعنى أنها حملت سمة جديدة هى الأرتفاع فوق الزمن لتصير مدينة سماوية خالدة لا يقدر الموت أن ينهى كيانها ، هذه هى كنيسة العهد الجديد التى كانت مدوسة بالأقدام ( يبوسا ) صارت بعريسها السماوى وملكها ابن داود سماوية .
" فكان داود يتزايد متعظما والرب إله الجنود معه " 2 صم 5 : 10 ، كان داود يتزايد فى العظمة لأن الرب " إله الجنود " معه . هنا يدعى الرب :
" إله الجنود " وكأنه هو القائد الحقيقى لشعبه وهو المحارب عنهم ليهبهم النصرة والمجد . هذه هى خبرة داود النبى التى عبر عنها فى مزاميره فجاء فيها : " الرب نورى وخلاصى ممن أخاف ؟! الرب حصن حياتى ممن ارتعب ؟! مز 27 : 1 .
( 3 ) صداقة حيرام له
مع كل نصرة حقيقية يواجه المؤمن أمرين : مقاومة من العدو تؤول به إلى نصرة جديدة ، وأيضا انجذاب البعض لله العامل فيه ، هكذا إذ تزايد داود متعاظما لأن رب الجنود كان معه أثار ذلك بعض الأعداء لمقاومته بالأكثر ، وفى نفس الوقت انجذبت إليه بعض الممالك المجاورة تمجد الله فيه ، كما يظهر ذلك من نصرف حيرام ملك صور .
كانت صور فى ذلك الوقت قد بلغت العظمة ، بعث ملكها رسلا إلى داود وتكونت بينهما صداقة دامت حتى أيام سليمان ، بل وقامت هذه الصداقة بين الدولتين فى أيام عاموس النبى ( عا 1 : 9 ) .
تعاونت المملكتان معا وصارتا فى ود ، كانت إسرائيل تستخدم صور كبلد ساحلى لتحقيق وارداتها وتوزيع مصنوعاتها ، بينما استخدمت صور مملكة إسرائيل كطريق لتجارتها تشترى أيضا منها الغلال والمحاصيل .
سلامنا مع الله فى داخلنا يثمر سلاما مع الغير ويحول الظروف المحيطة بنا لخدمتنا وبنياننا ، حتى مقاومة الأشرار يحولها الله لنمونا وفرحنا الداخلى .
( 4 ) تثبيت مملكته
بعد حوالى 20 عاما من مسحه سرا فى بيت لحم قيل : " وعلم داود أن الرب قد أثبته ملكا على إسرائيل ، وأنه قد رفع ملكه من أجل شعبه إسرائيل " 2 صم 5 : 12 .
انتظر داود هذه السنوات الطويلة فى إيمان وبصبر ليتدرب بنعمة الله على رعاية شعب الله ، والآن يثبت الله مملكته من أجل شعبه ، هكذا يليق بنا – مهما بلغت مواهبنا وقدراتنا ومهما تعاظم نجاحنا – أن ندرك أنها عطايا إلهية قدمت لنا من أجل بنيان الجماعة المقدسة .
من أجل البشرية تجسد السيد المسيح ومن أجلها ملك على خشبة وقام وصعد إلى السموات ومن أجلها يأتى على السحاب ليجمع مؤمنيه ويرفعهم إلى حضن الآب ، هكذا نحن كأعضاء جسده يليق بنا أن نحمل ذات فكره فنضرم كل موهبة فينا لبنيان الغير ، يقول القديس بولس : " المحبة ...... لا تطلب ما لنفسها " 1 كو 13 : 5
( 5 ) مقاومة الأعداء وهزيمتهم
إن كان نجاح داود أعطاه نعمة فى عينى حيرام ملك صور ليرسل له خشب أرز وبنائين علامة الصداقة العملية إلا أنه فى الجانب المقابل ، ضاعف نجاحه هذا من مقاومة الأعداء ، مع كل نصرة نتوقع مقاومة وحربا إن لم تكن من الخارج فمن الداخل ، لذا قيل فى سفر أبن سيراخ : " يا بنى إذا تقدمت لخدمة الرب أعدد نفسك للتجربة " 2 : 1
رأى الأعداء فى مسح داود ملكا على كل الأسباط وتزايده فى المجد خطرا عليهم خاصة أن الشعب كله صار بقلب واحد معه ، لم يخشونه فى حبرون لكونه ملكا على سبط واحد فاستهانوا به ، ولأنه فى حبرون كان خاضعا لهم ، أما فى يبوس فصار مستقلا ومحصنا وصار نجمه يلمع ويتلألأ ، لذا فتشوا عليه للخلاص منه ، أما هو فلم يكن متوقعا الحرب لذا نزل مع حرسه الخاص إلى حصنه القديم " عدلام " ، فتش عنه الأعداء المنتشرون فى وادى الرفائيين .... فى الحصن انحاز إليه بنو جاد ، وكان العدد قليلا جدا إن قورن بجيش الأعداء ، سأل الرب خلال أبياثار الكاهن ( 1 صم 23 : 11 ؛ 30 : 7 ، 8 ) الذى سمح له بالحرب ...
ما أحوجنا أن نتكل على راعى نفوسنا الذى يتقدم قطيعه ليسير الكل وراءه ومعه ، قائلين مع المرتل : " جعلت الرب أمامى فى كل حين ، لأنه عن يمينى فلا أتزعزع " مز 16 : 8 .
جاء داود برجاله ليقف وراء العدو ويقاومه مقابل أشجار البكاء ، عندما شعر بحضرة الرب وتقدمه ليحمله فى طريق الجهاد ، واهبا له النصرة بنعمته .
نزل داود ورجاله إلى وادى الدموع لكى يتقبل نعمة الله المجانية أكثر فأكثر ، فينطلق من قوة إلى قوة ، فى وادى الدموع انفتحت بصيرته ليرى الله يتقدمه ممهدا له طريق النصرة ، ومحطما العدو أمامه ، وكأن الحضرة الإلهية التى تملأنا تعزية وسط الدموع ، ترعب العدو وتحطمه تماما .
هرب الأعداء تجاه الشمال الشرقى وليس نحو أرضهم فى الغرب لكى يحتموا فى الحصن الموجود فى جبع ( 1 صم 13 : 3 ) . وإذ لم يحميهم هذا ساروا نحو أرضهم حتى جبعون ، ومنها ساروا فى طريق عقبة بيت حورون إلى مدخل جازر أى طريق جازر . ، وهى على تخم أرضهم وتبعد حوالى 18 ميلا شمال غربى أورشليم .
+ + +
الأصحاح السادس
إحضار تابوت العهد
إذ كان داود يتعظم وكان رب الجنود معه يهبه النصرة والغلبة حتى استقر فى أورشليم كعاصمة لمملكته ، أراد أن يؤكد أن الرب هو الملك الحقيقى مدبر أمور الشعب وواهبهم الغلبة ، لذا فكر فى إحضار تابوت العهد إلى أورشليم كعلامة منظورة لقوة الله غير المنظورة
( 1 ) موكب التابوت
جمع داود ثلاثين ألفا من المنتخبين ، لا ليحاربوا ، بل ليحتفلوا بإحضار التابوت إلى أورشليم ، اشترك هذا العدد الضخم فى الأحتفال تكريما لله سر فرح شعبه . هنا تبرز حكمة داود الروحية ، إذ لم يرد أن ينشغل الشعب بالنصرة على الأعداء كمجد شخصى له وإنما سحب قلوبهم إلى الله نفسه ، لكى تتهلل بالرب مخلصهم الحقيقى .
تابوت العهد كممثل للحضرة الإلهية حمل اسم رب الجنود كقائد حقيقى لشعبه الأبطال روحيا ، الرب الجالس على الكروبيم ( 2 صم 6 : 2 ) ؛ الله هو رب الجنود المهوب ، مركبته سماوية هم جماعة الكاروبيم الملتهبون نارا ، يحل وسط شعبه برحمته أبا مترفقا يسندهم ويفرح أعماقهم .
بدأ الموكب من " بعلة يهوذا " ، وهى إحدى مدن الجبعونيين ( يش 9 : 17 ) على تخم يهوذا وبنيامين ، وضع فيها التابوت بعد إرجاعه من أرض الفلسطينيين ( 1 صم 6 : 19 ) .
وضعوا التابوت على عجلة جديدة ، ربما مقتدين بما فعله الفلسطينيون ، لكنهم بهذا خالفوا الناموس إذ كان يجب أن يحمله بنو قهات ( عد 1 : 51 ) على الأكتاف وليس على عجلة .
كانا عزة وأخيو ابنا ابيناداب ( غالبا كانا حفيديه ) يسوقان العجلة ، أخيو يتقدمهما ليقودهما بينما كان داود وكل بيت إسرائيل يلعبون بفرح ورقص يعزفون بكل أنواع آلات الطرب أمام الرب ، بالرباب والدفوف والصنوج والجنوك ( آلة موسيقية ) .
( 2 ) ضرب عزة
تحرك الموكب حتى بلغ بيدر ناخون أو كيدون ( 1 أى 13 : 9 ) ، عند موضع دراسة غلال رجل يدعى ناخون أو نكون أو كيدون ، هناك أنشمصت الثيران ، أى ذعرت وأخذت تركض وترفس ، فمد عزة يده إلى تابوت الله وأمسكه كى لا يسقط ، فضربه الله هناك ومات .
لماذا أماته الرب ؟ أما تحسب هذه قسوة فى التأديب ؟
( أ ) كان يجب أن يحمل التابوت على أكتاف اللاويين لا على عجلة ، لقد سمح الله للوثنيين أن يضعوه على عجلة جديدة تجرها بقرتان ، إذ كانت ترمز لكنيسة العهد الجديد الحاملة لشخص المسيح فى داخلنا بكونه رأسها ، تضم الكنيسة شعبين : من اليهود ومن الأمم ، لم يكن الوثنيون فى ذلك الوقت قد تهيأوا لحمل تابوت العهد ، إذ لا شركة بين الله وبليعال ( 2 كو 6 : 14 ) . أما بنو قهات فكانوا يمثلون جماعة المؤمنبن الذين تأهلوا ليكونوا سماء ثانية يحملون الله فى داخلهم ، لذلك كان يلزمهم أن يصروا على التمتع بحقهم فى حمل التابوت دون العجلة الجديدة .
الله لا يطلب عجلة جديدة ولا تقدمات هذا العالم بل الأكتاف الداخلية المقدسة التى تصير كالشاروبيم تحمل الله ، الله يريد قلوبنا لا إمكانياتنا .
( ب ) كان يجب على عزة أن يعرف الناموس ، خاصة وأن التابوت وجد فى بيت أبيه وجده لمدة حوالى 70 سنة ، وأنه لا يليق لمسه . قيل " لا يمسوا القدس لئلا يموتوا " عد 4 : 15 .
( ج ) ربما اعتاد عزة أن يمد يده إلى التابوت بغير وقار ، وقد تجاسر بالأكثر حين فعل ذلك علانية أمام كل الجماعة .
( د ) أراد الله تأكيد الحاجة إلى " مخافة الرب " جنبا إلى جنب مع " الحب الإلهى " ، كى يعيش داود وكل الشعب فى مخافة ووقار مع حب ودالة .
لقد كان الدرس قاسيا لكى يتعلم الجميع منه ، وذلك كما حدث مع حنانيا حين كذب على الرسل ( أع 5 : 5 ) .
اغتاظ داود لأن فرح الجماعة تحول إلى حزن وخوف ، ولأن ارتباكا ملأ الجميع واضطر الكل أن ينصرفوا ... وخاف داود أن ينتقل التابوت إلى مدينته قبل التيقن من سر غضب الله على عزة
مال داود بالتابوت إلى بيد عوبيد آدوم الجتى ، غالبا من جت رمون فى نصيب دان فى الجنوب ( يش 19 : 45 ) أعطيت لبنى قهات ( يش 21 : 24 ) ، كان عوبيد آدوم [ اسمه يعنى " آدوم يعبد " ] من القورحيين من نسل قهات ( عد 16 : 1 ) ، تمتع ببركة بقاء التابوت فى بيته لمدة ثلاثة أشهر .
نود هنا أن نشير إلى أن داود لم يستشر الرب عندما رغب فى نقل التابوت إلى مدينته ، ربما بسبب الفرح من فكرة نقل التابوت ونوال البركة الإلهية ...
( 3 ) إحضار التابوت إلى أورشليم
قبل عوبيد آدوم تابوت العهد فى بيته بوقار وخشوع لذلك بارك الرب بيته ( 1 أى 13 : 13 ، 2 صم 6 : 12 ) ، وبارك كل ما له ، لذلك فكر داود النبى فى إحضاره إلى أورشليم كما ورد ذلك بالتفصيل فى ( 1 أى 15 ) .
تم ذبح ثيران وعجول .. شكرا لله الذى أعانهم ولم يصبهم ما حل بعزة .
أرتدى داود أفودا من الكتان تحت الجبة ، لكى يعلن عن أتضاعه وعن نقاوة القلب ، لقد رقص داود أمام التابوت معبرا بذلك عن أعماقه الداخلية التى تهتز فى تهليل أمام الرب ، عبر داود عن فرحه بالتابوت فى مزموره الثلاثين ( 29 حسب الترجمة السبعينية ) ، جاء فيه :
" لأن للحظة غضبه ، حياة فى رضاه ،
عند المساء يبيت البكاء وفى الصباح الترنم ،
حولت نوحى إلى رقص لى .
حللت مسحى ومنطقتنى فرحا ،
لكى تترنم لك روحى ولا تسكت ،
يارب إلهى إلى الأبد أحمدك " مز 30 : 5 – 11 .
وضع داود مزمورا خاصا بالأحتفال بقدوم تابوت العهد إلى مدينته ، افتتحه بالصيغة التقليدية : " يقوم الله ، يتبدد أعداؤه ، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه مز 68 : 1 .... عبر هذا المزمور بقوة عن بركات حلول الله وسط شعبه كسر فرح وتهليل ( مز 68 : 3 ، 4 ) ...
وضع أيضا المزمور 24 ليعلن أن بهجته الشديدة بتابوت العهد لا تعنى حصر سكنى الرب فى موضع معين ، إنما هو لرعاية الرب للبشرية كلها ، إذ يقول : " للرب الأرض وملؤها ؛ المسكونة وكل الساكنين فيها " مز 24 : 1 ..... الخ
فى ختام هذا المزمور الرائع يرى داود النبى فى دخول التابوت إلى أورشليم صورة رمزية لصعود السيد المسيح إلى أورشليم العليا بعد نصرته فى معركة الصليب ، إذ يقول :
" أرفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد ، من هو هذا ملك المجد ؟
الرب القدير الجبار ، الرب الجبار فى القتال ... رب الجنود هو ملك المجد " مز 24 : 7 – 10 .
( 4 ) احتقار ميكال له
كانت ميكال تحب داود ( 1 صم 18 : 20 ) ، أنقذته من يد أبيها ( 1 صم 19 : 13 ) ، لكنها لم تكن قادرة أن تشاركه حبه لله وغيرته وإيمانه ، لذا رأت فى خلعه لجبته الملوكية ورقصه أمام التابوت نوعا من السفاهة ، استقبلته باحتقار قائلة له : ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حيث تكشف اليوم فى أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء " 2 صم 6 : 20 .
ميكال تمثل الأنا القابعة فى داخل النفس ، المتقوقعة والمغلقة ، تطلب ما للأنا ، ولا تنفتح على الله والناس ، لذا أصيبت بعمى البصيرة الداخلية وتحجر القلب وفقدان الحس الداخلى تجاه العمل الإلهى الفائق . أما داود النبى فيمثل النفس التى تخلع حب العظمة الزمنية ، وتنفتح بالأتضاع المملوء حبا نحو الله والناس ، فتتحول عن مسوح الحزن إلى منطقة الفرح ، وتعبر من بكاء المساء إلى صباح القيامة !
بارك داود الشعب وأعطى كل واحد رغيف خبز وكأس خمر وقرص زبيب ، رغيف الخبز يشير إلى وحدة الكنيسة وتبادل الحب بين أعضائها إذ تجتمع الحنطة معا فى رغيف خبز ، وكأس الخمر يشير إلى شركة الفرح بالروح ، أما قرص الزبيب فيشير إلى عذوبة الكنيسة وحلاوتها باتحادها .
لم ينس داود بيته فجاء ليباركه ، لكن ميكال انتهرته ، أما هو ففى حزم وبخها على نظرتها غير الأيمانية .
يختم الأصحاح بالقول بأنه لم يكن لميكال ولد من داود ، .... عقر ميكال ربما كان ثمرة لتمردها على الرب ولكبريائها .
+ + +
الأصحاح السابع
اشتياق داود لبناء بيت الرب
شعر داود النبى والملك بإحسانات الرب إليه فأراد أن يبنى له بيتا ، إذ حسب أنه ليس من اللائق أن يسكن هو فى بيت من الأرز بينما يسكن تابوت العهد فى خيمة من الشقق
( 1 ) رغبة داود فى بناء بيت الرب
لم يتبع الكاتب التسلسل الزمنى ، إذ أراد الكشف عما ورد فى قلب داود النبى والملك من جهة بناء بيت للرب عوض الخيمة مباشرة بعد ذكره إحضار التابوت إلى مدينة داود ، بينما ما جاء هنا غالبا ما تحقق بعد الحرب التى وردت فى الأصحاح التالى ، لقد قيل هنا : " وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه " 2 صم 7 : 1 .
بلا شك ظهر هذا الفكر فى أعماق داود النبى عندما بدأ فى بناء بيته ، وربما اشتهى أن يبنى بيت الرب قبل بيته ، حاسبا الله أولا فى كل أمور حياته ، هذا الفكر تزايد بالأكثر بعدما أحضر التابوت إلى مدينته ، لكنه لم يتحدث مع ناثان النبى إلا بعدما استراح من الحروب ، قاصدا أن يبنى بيتا ضخما جدا يحتاج بناؤه إلى أزمنة سلام ، أى إلى تفرغ للبناء دون ارتباك بالحروب .
كان ناثان نبيا أمينا لله وللملك وله وقاره الخاص ، قام بحزم وشجاعة لكنه فى أدب بتوبيخ الملك عندما أرتكب الخطية مع امرأة أوريا الحثى ( 2 صم 12 : 1 – 15 ) . قام هو وجاد الرائى بترتيب خدمة بيت الرب ( 2 أى 29 : 25 ) . عمل مع بثشبع على إقامة سليمان ملكا ( 1 م 8 – 45 ) .
وافق ناثان فى البداية على طلب داود الخاص ببناء بيت الرب ، إذ حسبه طلبا صالحا ولائقا ، لكنه إذ استشار الرب ألا يعمل ذلك بل يترك الأمر لأبنه من بعده .
( 2 ) ابن داود هو الذى يبنى البيت
يبدو أن الله تحدث مع ناثان خلال رؤيا الليل ( 2 صم 7 : 4 ، 17 ) ، وقد رفض الله أن يبنى داود بيتا مقدما له هذا التعليل بأن الله لم يسكن فى بيت منذ إخراجه للشعب من مصر ، ولا طلب ذلك منهم . أكد الله ذلك لئلا يظن شعبه أنه حقق لهم انتصارات لأجل إقامة هيكل عظيم له ، هم أنفسهم بيته الحى . يود أن يسكن فى وسطهم معلنا حضوره الدائم فيهم خلال الحياة المقدسة . هذا ما كشفه العهد الجديد بأكثر وضوح ، عندما طلب التلاميذ من السيد المسيح أن ينظر الأبنية العظيمة التى للهيكل . أكد لهم أنه لن يبقى حجر على حجر إلا وينقض ( مت 24 : 1 ، 2 ) ؛ إن ما يمجد الله ليس فى المبانى الضخمة المادية ، بل فى النفوس الحية التى أقامها السيد المسيح من الأموات ، لذلك أبرز الله معاملاته مع داود كيف أقامه الله من المربض من وراء الغنم ليصير رئيسا لشعبه ، كيف كان معه أينما وجد واهبا له النجاح والغلبة ، وكأنه مع كل نصرة روحية وكل نجاح داخلى يعلن بيت الرب المجيد فينا .
على أى الأحوال ، لم يحرم الله داود سؤل قلبه ، إنما وعده بتحقيق ذلك خلال ابنه الذى يخرج من أحشائه ، مقدما تبريرا لذلك كما جاء فى ( 1 أى
22 : 8 ) بأن داود سفك دما كثيرا وعمل حروبا عظيمة ، لذلك يليق بناء بيت الرب فى أيام سليمان حيث تكون أيامه سلاما .
يقول القديس اغسطينوس :
[ من يظن أن هذا الوعد العظيم ( 2 صم 7 : 12 – 16 ) قد تحقق فى سليمان يخطىء خطأ عظيما ، إذ يسمع القول " هو يبنى لى بيتا " لكنه لا يسمع للقول : " بيته يبقى أمينا وتكون مملكته أمامى إلى الأبد " ليته ينصت ويتأمل بيت سليمان المملوء نساء غريبات يتعبدن لآلهة غريبة ، بل والملك نفسه الذى كان حكيما قد خدع بواسطتهن وسقط فى عبادة الأوثان نفسها ، ليته لا يتجاسر أحد فيظن أن الله قد وعد بذلك باطلا أو أنه كان غير قادر أن يعرف ما سيكون عليه سليمان هذا وبيته .
إذن ، يليق بنا ألا نشك فى أن هذه الأمور قد تحققت فى المسيح ربنا الذى جاء من نسل داود حسب الجسد ( رو 1 : 3 ) ، لئلا تكون نظرتنا هنا باطلة مثل اليهود الجسدانيين الذين يدركون أن الأبن المذكور هنا والموعود به لداود ليس سليمان ومع ذلك فبعماهم العجيب عن الموعود به ( المسيح ) والمعلن عنه يقولون إنهم ينتظرون آخر .
( 3 ) داود يشكر الله
جلس داود غالبا على الأرض وأحنى رأسه أمام الرب ليشكره من أجل هذا الوعد الذى أنعم به عليه قائلا : " من أنا يا سيدى ؟! وما هو بيتى ؟! حتى أوصلتنى إلى هنا ؟! 2 صم 7 : 18 . لقد أدرك أنه ليس عن اشتحقاق شخصى ولا عن كرامة لبيت أبيه نال هذا الوعد الإلهى ، إنما هو نعمة إلهية فائقة جاءت به إلى كرسى الملك ليكون فى حضرة الرب ينعم بسكناه وحلوله معه وسخاء نعمه عليه .
ما أحوجنا أن نجلس فى هدوء داخلى أمام الرب نسمع مواعيده المفرحة ونتحدث معه ، مدركين عظمة عطيته المجانية ، فقد أقامنا من الفساد وجعلنا له ملوكا وكهنة ، وحسبنا أبناء له ننعم بشركة أمجاده .
" وبماذا يعود داود يكلمك وأنت قد عرفت عبدك يا سيدى الرب " 2 صم 7 : 20 . شعر داود بالخجل أن يتحدث مع الله الذى يعرفه تماما ؛ يعرف ضعفات داود وخطاياه ومذلته كما يعرف محبته وغيرته وجهاده وصبره ... ليس شىء مخفيا عن الله .
" فمن أجل كلمتك وحسب قلبك فعلت هذه العظائم كلها لتعرف عبدك " 2 صم 7 ك 21 . ما تقدمه من عطايا فائقة ليس من أجل بر ذاتى فى الأنسان وإنما من أجل وعدك الإلهى ، وكلمتك الثابتة إلى الأبد ، حسب محبتك السرمدية تقدم المواعيد العظمى لعبدك .
من أجل وعده لشعبه أعطى داود هبات كثيرة ، فقد ثبت الله لنفسه شعبا يفتديه بكونه إلههم الذى يتمجد فيهم . من أجل الكنيسة المقدسة التى تحمل اسم المسيح يمنح أسراره الفائقة لمؤمنيه .
يختم داود صلاته بطلب البركة : " فالآن ارتض وبارك بيت عبدك ليكون إلى الأبد أمامك ، لأنك أنت يا سيدى الرب قد تكلمت ، فليبارك بيت عبدك ببركتك إلى الأبد " 2 صم 7 : 29 .
هذه هى البركة ، أن يكون الأنسان أمام الله على الدوام .
+ + +
الأصحاح الثامن
انتصارات داود المستمرة
لم يكن داود منشغلا بمجده الذاتى ولا باتساع رقعة مملكته وإنما كان مهتما بملكوت الله ، لهذا لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت سلطانه إنما كان مشغولا بخدمة الجميع ورعايتهم بكونهم شعب الله ، الآن دخل داود النبى فى حروب كثيرة وتكررت العبارة : " وكان الرب يخلص داود حيثما توجد " 2 صم 8 : 6 ، 14 . حصل على هدايا وغنائم كرسها لخدمة بيت الرب .
كإنسان حكيم مهتم بملكوت الله لم تشغله الحروب الخارجية عن الأهتمام بتدبير أمور مملكته الداخلية بحكمة واتزان .
( 1 ) نصرته على الأمم المجاورة
كانت حروب داود النبى ضد الأمم الوثنية التى انجرفت تماما فى الرجاسات مع العنف والقسوة ، تشير إلى جهاد المؤمن ضد الخطية بكل رجاساتها وعنفها .
لقد ضرب داود :
( أ ) الفلسطينيين : " أخذ زمام القصبة من يد الفلسطينيين " 2 صم 8 : 1 ؛ أى أخذ جت وقراها ، بكونها قصبتهم وزمام دولتهم المتسلطة على يهوذا ودان ، إذ كانت جت على تخم يهوذا وبالقرب من دان .
( ب ) الموآبيين : سبق أن أودع داود والديه لدى ملك موآب ( 1 صم 22 : 3 ، 4 ) ، لسنا نعرف متى تحولت هذه الصداقة إلى عداوة لتستمر بعد ذلك . ربما كان موآب يسند داود عندما كان شاول يقاومه ، يهدف بذلك إلى مقاومة شاول كملك رسمى ، لكن إذ صار داود ملكا واتحدت الأسباط معا تحت قيادته واستقرت مملكته ثار موآب ضده .
ضرب داود المدينة ، قتل الثلثين ، واستبقى الثلث يدبرون أمورهم الداخلية مقابل دفع جزية ، وقد تحققت ببوة بلعام : " يقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفى موآب " عد 24 : 17 .
بقى موآب يدفع الجزية حتى موت آخاب حيث ثار ملك موآب ضد إسرائيل وعصاه ( 2 مل 3 : 3 ، 4 ) .
( جـ ) السوريين أو الأراميين : كانت آرام تضم فى الشمال مملكتين عظيمتين متمايزتين : آرام صوبة ( يظن البعض أنها حمص ) تسيطر على عدة ملوك ؛ وآرام النهرين ( عاصمتها دمشق )
بدأ داود بمحاربة هدد ( هدر ) عزر ملك آرام صوبة ، ضربه داود من الغرب فى حماه ( 1 أى 18 : 13 ) ، من الوراء فجاء ملك آرام دمشق لنجدته فضربه داود [ يرى البعض أن آرام دمشق هى ذاتها آرام النهرين ، موقعها فدان آرام حيث عاش الآباء ابراهيم واسحق ويعقوب ] .
بضرب داود آرام صوبة وآرام دمشق حطم كل ممالك آرام العظيمة ؛ ولكى لا تتجمع جيوشهم ثانية لمحاربته أقام محافظين فى صوبة ودمشق ، وألزمهم بدفع جزية .
استولى داود على أتراس الذهب ( مطلية بالذهب ) ، وهى أتراس حراس الملك ، وجاء بها إلى أورشليم ، كما جاء بنحاس كثير جدا من مدينتى هدد .. استخدم سليمان الحكيم النحاس الذى أخذ من هاتين المدينتين فى صنع بحر النحاس والأعمدة والآنية النحاسية .
( 2 ) توعى ملك حماة يقدم هدايا لداود
أرسل توعى أو توعو ملك حماة ابنه إلى داود ليسأل عن سلامته ويباركه بسبب ضربه هدد عزر ، الذى كان عدوا لتوعى . قدم الأبن هدايا : آنية فضة ، آنية ذهب ، آنية نحاس ، قدسها داود لحساب بيت الرب . هكذا قبل داود هذه الأرسالية ، معلنا أنه لا يهوى الحرب بل يطلب السلام .
( 3 ) تقديس الغنائم والهدايا
كان داود الملك يهيىء الطريق لسليمان ابنه لبناء بيت الرب من جانبين :
( أ ) إخضاع الأمم المقاومة مثل آرام النهرين وآرام صوبة وآدوم ، وإقامة علاقات ود مع الأمم المسالمة مثل مملكة حماة ... حتى يعيش سليمان متفرغا لبناء بيت الرب فى جو من السلام .
( ب ) إعداد الأمكانيات للبناء ، إذ لم يستخدم داود الغنائم والهدايا لصالحه الخاص ولا لإثراء أسرته وسبطه وإنما قدم الغنائم مع الهدايا لحساب بيت الرب .
ميز داود النبى بين التماثيل الذهبية والآنية الذهبية ، الأولى حرقها ( 2 صم 5 : 21 ) والثانية خصصها لخدمة بيت الرب . الأولى أى الأصنام تشير إلى الشر الذى يجب تحطيمه تماما ، فإن الله ليس فى حاجة إلى الذهب والفضة ... والثانية تشير إلى تحويل الطاقات والمواهب المستخدمة للشر إلى طاقات ومواهب لحساب ملكوت الله . الله يرفض الشر ويقدس ما دنسناه خلال الشر ، يكره الخطية لا الخطاة .
قيل أيضا : " ونصب داود تذكارا عند رجوعه من ضربه ثمانية عشر ألفا من آدوم فى وادى الملح " 2 صم 8 : 13 . هكذا أقام نصبا تذكاريا يعلن تحطيمه آدوم ( أى ما هو أرضى ) ... ما هو هذا النصب إلا صليب ربنا يسوع المسيح الذى حولنا عن الزمنيات إلى السماويات .
( 4 ) تدبير أمور المملكة الداخلية
كما نجح داود فى حروبه ضد الأمم المقاومة وكسب صداقات الأمم المسالمة نجح أيضا فى الأهتمام بشئون مملكته الداخلية ورعاية شعب الله على خلاف شاول الذى كان قويا فى الحروب وفاشلا فى سياسته الداخلية .
أولا : اهتم بكل الشعب وبالقضاء لهم بالعدل : " وملك داود على جميع إسرائيل ، وكان داود يجرى قضاء وعدلا لكل شعبه " 2 صم 8 : 15
ثانيا : نجح فى توزيع المسئوليات على قادة يسندونه ، فأقام :
يوآب على الجيش - يهوشفاط بن أخيلود مسجلا يكتب أحكام الملك ويحفظها - صادوق بن أخيطوب ، وأخيمالك بن أبياثار كاهنين – سرايا كاتبا – بناياهو بن يداع رئيسا على الجلادين – بنو داود حسبوا كهنة وهذا لا يعنى ممارستهم للعمل الكهنوتى بل كشفعاء عن الشعب أمام داود ، يقدمون لداود طلبات الشعب الحقيقية ....
+ + +
الأصحاح التاسع
داود ومفيبوشث
عادة إذ يستريح الأنسان ويستقر ينسى الماضى بالآمه ويتجاهل مشاعر الغير ، أما داود النبى والملك صاحب القلب الكبير فنجاحه واستقراره دفعه بالأكثر إلى بحثه عن راحة الآخرين ، لقد أراحه الله من جميع أعدائه ، وبعد موت شاول ويوناثان بحوالى 15 سنة لم ينس عهده مع يوناثان ( 1 صم 20 : 14 – 17 ) ، فبدأ يسأل إن كان قد بقى أحد من بيت شاول لكى يصنع معه إحسانا من أجل يوناثان . سمع عن مفيبوشث بن يوناثان ، الأعرج الرجلين ، فاستدعاه ليرد له حقول جده شاول ويقيمه ضيفا دائما يأكل معه على مائدته كأحد أفراد أسرته .
( 1 ) داود يستدعى مفيبوشث
من العادات القديمة أن يقتل الملك الجديد كل نسل الملك السابق لئلا يقاوموه ويطلبوا الملك لأنفسهم ( 2 مل 11 : 1 ) ، أما داود النبى فأدرك أنه لم يستلم الملك من يد إنسان بل من الله ، ولأنه لم يضع قلبه على المجد الزمنى بل مجد الله لذا لم يخف على كرسيه ولا طلب قتل نسل شاول ، إنما على العكس إذ استقر بدأ يبحث عمن بقى من نسل شاول ليصنع معه معروفا ( 2 صم 9 : 1 ) .
استدعى صيبا عبد شاول ووكيله قبل موته ، فامتثل أمام داود الملك وأخبره بأنه يوجد بعد أبن ليوناثان أعرج الرجلين ( 2 صم 9 : 3 ) ، وأنه فى بيت رجل غنى يدعى ماكير بن عميئيل فى لودبار بجلعاد شرقى الأردن .
( 2 ) داود يرد حقول شاول لحفيده
كان داود النبى والملك نبيلا للغاية فى تعامله مع مفيبوشث ، كريما فى عطائه له :
( أ ) تحدث معه وهو صبى صغير السن وأعرج كإنسان معجب به ، يسر بالحديث معه ، ذى كرامة ... لقاء داود معه كان أثمن بكثير وأعظم من الحقول التى ردت إليه ، إذ أعطاه هذا اللقاء ما يريح نفسه الداخلية ويشبعها ، الأمر الذى لا تقدر كل مقتنيات العالم أن تهبها للإنسان .
( ب ) يبدو أن مفيبوشث كان خائفا أن يقتله الملك ، لذا طمأنه داود قائلا له : " لا تخف ، فإنى لأعملن معك معروفا من أجل يوناثان أبيك " 2 صم 9 : 7 . ما زرعه يوناثان من حب خالص وأمانة فى صداقته لداود يجنيه أبنه مفيبوشث بعد موت أبيه بسنوات .
( جـ ) قدم داود حبا عمليا له : " أرد لك كل حقول شاول أبيك " 2 صم 9 : 7 ، وطلب من صبيا ( يبدو أنه رجل طماع وخبيث أراد فيما بعد عندما طرد داود أن يغتصب هذه الممتلكات ) أن يعمل هو وبنوه وعبيده فى حقول شاول لحساب حفيده مفيبوشث .
( د ) أخيرا حسبه كأهل بيته : " وأنت تأكل خبزا على مائدتى دائما " 2 صم 9 : 7 ... لم يحتمل مفيبوشث هذا الكرم الشديد والحب المتدفق والرقة غير المتوقعة حتى وهو أعرج : " سجد وقال : من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلى ؟! " 2 صم 9 : 8 .
سبق أن سجد داود ليوناثان بكونه ولى العرش ( 1 صم 20 : 41 ) ، وها هو ابن يوناثان يسجد لداود كملك .
داود فى سخائه يرمز إلى السيد المسيح ، الذى يدعونا إليه لنلتقى معه كأحباء ؛ ينزع عنا الخوف ، ويرد لنا ما قد فقد منا ( الطبيعة الصالحة التى خلقنا عليها ) كما وهبنا أن نجلس على مائدته السماوية نتناول جسده ودمه المبذولين سر خلاص وتمتع بالحياة الأبدية .
+ + +
الأصحاح العاشر
تآمر الرؤساء على داود
أراد داود صاحب القلب الكبير أن يصنع معروفا مع حانون ملك عمون من أجل ما فعله أبوه ناحاش معه ، لكن المشيرين أساءوا الفهم وأثاروا الملك ضده مدعين أن داود أرسل جواسيس – ولا معزين – ليقتحم المدينة ، فتحالف حانون مع الملوك المحيطين به لمحاربة داود ... لكن داود انتصر عليهم .
كانت هذه الحروب وأمثالها فرصة ليسجل لنا داود النبى بعض مزاميره ( مز 2 ، 20 ، 21 ، 60 ، 110 ) التى تنبأت عن ثورة الأمم ، وتآمر الرؤساء على السيد المسيح حتى يصلب ، ويبقى الأشرار يتحالفون ضد كنيسته فيتمجد السيد المسيح فى الكنيسة المضطهدة .
( 1 ) حانون يهين رسل داود
أساء مشيرو حانون ملك بنى عمون الظن بداود إذ حسبوا أن رسله للتعزية جواسيس لأقتحام المدينة ، وبمشورتهم الشريرة أثاروا حربا عظيمة أدت إلى هلاك الكثيرين ، ما أخطر إساءة الظن على حياتنا .
جاء رسل داود إلى مدينة ربة أو ربة عمون ، اسمها الحديث عمان ، عاصمة شرق الأردن ، يمر بها الطريق التجارى بين دمشق وشبه الجزيرة العربية .
استمع حانون لمشيريه الأشرار فحلق نصف لحى الرسل وشق ثيابهم .... يعتبر هذا العمل عند العبرانيين إهانة عظيمة ، سمع داود الملك فذهب إليهم وطلب منهم ألا يرجعوا إلى أورشليم حتى لا يخجلوا من لقائهم مع رجال البلاط ، هكذا حمل داود مشاعر رقيقة ، إذ يهتم بمشاعر كل إنسان ويخشى أن تجرح !
( 2 ) الغلبة على بنى عمون وملوك آرام
شعر بنو عمون أن إهانة سفراء داود موجهة إلى الدولة كلها ، ملكا وشعبا ، وأنه لا بد أن ينتقم داود منهم ، فاستأجروا آراميين من ممالك آرام وتحالفوا معهم على محاربة داود ، هكذا دفعت إساءة الظن إلى حرب طاحنة بين دول وممالك كثيرة !
إذ سمع داود بتحالف هذه الممالك معا ضده لم يخف وإنما بالأكثر تمسك بوعود الله له ، فاستعد للحرب متكئا على قوة الرب نفسه ، قائلا :
" لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب فى الباطل ..
قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه ..
الساكن فى السموات يضحك ، الرب يستهزىء بهم ..
إنى أخبر من جهة قضاء الرب .
قال لى : أنت أبنى ، أنا اليوم ولدتك ، أسألنى فأعطيك الأمم ميراثا لك وأقاصى الأرض ملكا لك ...
فالآن أيها الملوك تعقلوا ..... " مز 2
لم يكن ممكنا لداود برجاله المشاة أن يقاوم هذه الممالك المجتمعة التى تحاربه من بنى عمون والآراميين ، والتى خرجت بمركبات وخيل .. إنما اتكل على قوة الله ، قائلا :
" يارب بقوتك يفرح الملك ، وبخلاصك كيف لا يبتهج جدا ؟! " مز 21 : 1
" هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل ، أما نحن فأسم الرب إلهنا نذكر " مز 21: 1
رأى داود خلال هذه المعركة التى طرفاها الله نفسه وقوات الظلمة أى ابليس ، معركة الصليب حيث تجمعت قوات الظلمة ضد الأبن الوحيد الجنس ، لذا أنشد قائلا :
" قال الرب لربى أجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك " مز 110 : 1
خرج بنو عمون واصطفوا للحرب عند مدخل المدينة ، غالبا " ربة " ، بينما كان الآراميون ( السوريون ) فى السهل ( الحقل ) مقابل ميديا ( 1 أى 19 : 7 ) حتى يسهل تحرك مركباتهم .
بحكمة قسم يوآب رجاله قسمين ، أخذ الجبابرة معه متجها نحو الآراميين بينما ذهب أخوه أبيشاى متجها نحو بنى عمون ، واتفقا معا أنه إن ضعف طرف يسنده الآخر .
خاف بنو عمون وهربوا ، والآراميون لم يستطيعوا الوقوف أمام يوآب ورجاله الأبطال ، عاد يوآب وأبيشاى مستحسنين تأجيل الحرب لمدة سنة كاملة ( 2 صم 11 : 1 ) .
اتفاق يوآب مع أخيه ابيشاى أن يكون كل منهما مستعدا لنجدة الآخر يكشف عن أحد ملامح الجهاد الروحى ، وهى مساندة العضو لأخيه .
( 3 ) الغلبة على هدر عزر
حاول الآراميون أن يردوا اعتبارهم وسمعتهم فتجمعوا من جديد لمحاربة رجال داود ؛ وقد بعث إليهم هدر عزر ملك آرام صوبا ( 2 صم 8 : 3 ) شوبك رئيس جيشه ، لكن داود غلبه وقتل شوبك فى الحرب ، فخاف الملوك الخاضعون لهدر عزر وتصالحوا مع داود واستعبدوا له ولم يعودوا يساندون بنى عمون بعد .
+ + +
قصـــــــة سقـــــوط داود النبى ، وتوبتــــــــــه [ صموئيـــــل الثــــــانى ]
الأصحــاح الحــادى عشــر
سقوط داود مع بثشبع
بينما ذهب جيش إسرائيل للحرب بقيادة يوآب ، نجد أن داود أقام فى أورشليم . استسلم داود للتراخى وتمشى على السطح وترك العنان لعينيه تتطلعان إلى امرأة ... فانحدر تدريجيا حتى ارتكب خطايا بشعة .
( 1 ) تراخى داود
الخطوة الأولى فى السقوط هى التهاون والأسترخاء ، لم يسقط داود فى مثل هذه الخطية ( الزنا ) حين كان يجاهد فى صباه وشبابه وهو يرعى الغنم ، وحين عمل فى البلاط الملكى لدى شاول ، وحين صار طريدا أمام الملك ، وأيضا حين كان ملكا على سبط واحد ، وحين اهتم بخلاص الأسباط جميعها ، أما الآن وقد استقرت مملكته وتزايد فى المجد وصار له بيت من الأرز ترك الحرب ليوآب رئيس جيشه واسترخى فى بيته فى أورشليم .
فى وقت المساء عوض الصلاة من أجل المجاهدين قام عن سريره وتمشى على سطح البيت :
" فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدا " 2 صم 11 : 2 ...
حياة التراخى خلقت فراغا فى القلب والحواس ليطلب الأنسان شبعا لحواسه بجمال خارجى .
( 2 ) السقوط التدريجى
" فأرسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثى .. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهى مطهرة من طمثها ، ثم رجعت إلى بيتها " 2 صم 11 : 3 ، 4 .
كان داود قويا ، لم يسقط قط منذ صباه فى الزنا ، ولا قتل أحدا بظلم ، ولا مال يمينا أو يسارا عن الشريعة اللهم إلا فى بعض لحظات ضعف بسيطة ، كيف يسقط الآن وهو ملك قوى ونبى مختار وقاض عادل للشعب ؟!
لعل داود لم يكن يتوقع فى نفسه أنه ينحدر يوما إلى هذا السقوط الشنيع ، لكن الخطية خاطئة جدا ومخادعة للغاية ، تعرف كيف تلقى شباكها وفخاخها لتصطاد الجبابرة تدريجيا ...
لقد نسى داود الآتى :
- أنه مسيح الرب ونبيه الذى نال نعما إلهية عظيمة ...
- أنه فى حالة حرب ، وكان يليق به أن ينزل المعركة ....
- يغتصب امرأة متزوجة كاسرا الشريعة التى تطلب قتل الأثنين ( لا 20 : 10 ) .
- يخون بطلا أمينا يدافع عن مملكته ، وهو رجل غريب الجنس متهود .
لقد كان الوقت مساء ( 2 صم 11 : 2 ) حين قام داود عن سريره يتمشى على سطح بيته ويتطلع نحو امرأة تستحم . كان الوقت ملائما للسقوط ، لأن " شمس البر " قد غرب عنه ، وحلت الظلمة حوله ، فعاش كما فى ليل .
( 3 ) علاجه البشرى
بحسب الشريعة كانت بثشبع مستوجبة القتل ، لذلك أرسلت إلى الملك ليدبر أمر خلاصها من الموت ، أرسل داود إلى رجلها يطلبه من الحرب لينزل إلى بيته ، فيحسب الحمل منه وتختفى آثار الجريمة ، لكن أوريا لم يرض أن ينام فى بيته مادام إخوته يجاهدون فى الميدان !
لقد وبخ الله داود على لسان أوريا دون أن يدرى ، إذ قال له :
" إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون فى الخيام وسيدى يوآب وعبيد سيدى نازلون على وجه الصحراء ، وأنا آتى إلى بيتى لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتى ؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر " 2 صم 11 : 11 .
لقد حسب أوريا أن إيمانه بالله وقدسية حياته بل وشهامته كرجل حرب بل وإنسانيته ، هذه جميعها تمنعه عن أن يدخل بيته فى ذلك الوقت ليأكل ويشرب بينما المعركة دائرة .
استخدم داود كل وسيلة إخفاء جريمته ، دعا الرجل حاسبا أنه يجد فى هذه الدعوة فرصة لممارسة العلاقات الجسدية مع زوجته الجميلة ، وأصدر الأمر إليه أن يدخل بيته فرفض حبا فى الله وداود وشعبه وتكريما لإخوته فى الحرب ، وأخيرا أسكره ... وحتى بعد سكره لم ينزل إلى بيته ( 2 صم 11 : 13 ) .
( 4 ) تسليم أوريا الحثى
ضاق الأمر جدا بداود الجبار ، فأحدرته الخطية إلى السقوط فى سلسلة مرة من الخطايا البشعة ، إذ سلم بطله الأمين خطابا يحمل رسالة خفية بقتله على يدى الأعداء دون ذنب .
استهان داود بالعدل واحتقر روح الأمانة والأخلاص مسلما القائد الأمين ومعه نفوسا بريئة للموت بأيدى الأعداء لا لسبب سوى ستر فضيحته وإخفاء الحقيقة عن الأعين .
هل أدرك يوآب سر هذه الرسالة المختومة ؟
ربما لم يدركها فى البداية وكان عليه أن يطيع أمر سيده . لكنه قطعا فهم ما وراءها عندما تزوج داود بأمرأة الرجل بعد انقضاء فترة الحزن مباشرة .
كانت بالنسبة ليوآب فرصة ثمينة ليحقق طلب الملك فلا يعود الملك يذله على قتله لمنافسه أبنير ( 2 صم 3 ) . شعر داود بنوع من المذلة أمام يوآب ، لهذا نجد يوآب يتجاسر ويتحدث مع داود بعد قتله أبشالوم كما بسلطان ( 2 صم 19 : 5 – 8 ) ، وقد حاول عزله من منصبه فلم يقدر فأوصى ابنه سليمان بقتله ( 1 مل 2 : 5 ، 6 )
هكذا التحمت قساوة نفس داود مع النجاسة ، فالأنسان الساقط تحت ثقل النجاسة تجده عنيفا وقاسيا فى أعماقه حتى وإن كان له مظهر الرقة والوداعة ، والأنسان العنيف فى أعماقه ينهار أمام شهوة الجسد فى مذلة .
نعود إلى داود لنجده قد اشتعل غضبا بسبب محاولة يوآب اقتحام المدينة والأقتراب منها جدا ، أخبروه بأن أوريا الحثى مات فسكن غضبه !
سمعت بثشبع عن موت رجلها فندبته سبعة أيام حسب العادة القديمة ، ثم ضمها داود الملك زوجة له ، حاسبا أن ستارا قد أسدل على جريمته إلى الأبد ، فاستراح ضميره إلى عام كامل .
" وأما الأمر الذى فعله داود فقبح فى عينى الرب " 2 صم 11 : 27 .
الله ليس عنده محاباه ، فإن كان داود قد جاهد كثيرا من أجل الله ولبنيان شعبه لكنه لا يتستر على جريمته هذه ، ولا يقبل هذا الفعل الشرير ... إنه ينتظر توبته ، فإن استكان ضميره يرسل له من يوقظه ويوبخه .
كانت المرأة بعيدة لكن الشهوة قريبة ؛ وكأن ما نرتكبه من خطايا ليس هو ثمرة الظروف إنما لأننا نملك الخطية فينا ، تقودنا وتسحبنا إلى حيث تشاء .
الأصحاح الثانى عشر
اعتراف داود النبى
عاش داود النبى عاما كاملا مع خطيته لم يبكته ضميره عليها بالرغم من خبراته الروحية القديمة ومعرفته للناموس وعمله كقاض للشعب يحكم بالعدل ، كان محتاجا إلى ناثان ليبكته على عمله ويحفزه على الأعتراف بما أرتكبه .
( 1 ) ناثان يوبخ داود
أرسل الرب ناثان إلى داود ليوقظ ضميره ، فروى له قصة الرجل الغنى الذى أبى أن يذبح إحدى نعاجه لضيفه ، مغتصبا نعجة الفقير الوحيدة الصغيرة التى اقتناها لنفسه ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعا ، أكلت من لقمته وشربت من كأسه ، ونامت فى حضنه وكانت له كأبنة . حمى غضب داود على هذا الغنى المغتصب أخاه الفقير وأصدر حكمه :
" حى هو الرب أن يقتل الرجل الفاعل ذلك ، ويرد النعجة أربعة أضعاف ، لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق " 2 صم 12 : 6
أجابه ناثان النبى : " أنت هو الرجل " 2 صم 12 : 7
الضيف الجائع هى شهوة داود التى ثارت فيه خلال تراخيه وتهاونه مع الخطية ، فأراد أن يشبعها باغتصابه بثشبع الصغيرة الوحيدة المحبوبة جدا لدى رجلها ، هذه التى عاشت معه تشاركه حياته وأكله وشربه وسرير نومه ، رافقته زمانا بكل أحاسيسها ومشاعرها ، والآن يغتصبها الغنى جدا داود الذى أقامه الله ملكا والذى تهاون بالناموس بزواجه كثيرات ، فى كل يوم كان داود يتعظم جدا لأن رب الجنود كان معه ( 2 صم 15 : 10 ) . كان الله يود أن يقدم له أكثر فأكثر لكنه بخطيته أغلق على نفسه دون فيض النعم المجانية .
بحسب الشريعة لا يقتل السارق إنما يرد أربعة أضعاف ، لكن ظروف السرقة كما وصفها ناثان ( وتنطبق على داود ) أغضبت داود جدا فطلب قتل الرجل دون أن يدرك أنه يحكم على نفسه ، خاصة وأنه لم يسرق نعجة وحيدة بل امرأة إنسان مخلص وأمين ، اغتصبها فى ظروف حرب وقتل رجلها .... فماذا يستحق ؟
كان يمكن أن يتعرض ناثان لذات مصير أوريا الحثى ، كان صريحا وحازما وأيضا مملوءا حبا .... فتح أبواب الرجاء أمام داود الملك .
جاء ناثان ليتحدث مع داود خفية دون أن يقف ليشهر به علانية ، وإن كان الله قد سمح بنشر كل ما حدث لأجل خلاصنا ، هكذا يليق بنا عند توبيخنا للغير أن نلتقى بهم خلال دائرة الحب والصداقة ، لا التشهير العلنى أمامهم أو فى غيبتهم .
( 2 ) تأديب داود
محبة الله لداود دفعته أن يرسل له ناثان لإيقاظ ضميره ولتأديبه علانية ، فمن الأفضل له أن يفضح هنا فى الزمان الحاضر فيتوب ويرجع إلى الله عن أن يغطى على جراحات النفس فيهلك الأنسان فى خطيته أبديا ، لذلك قال ناثان لداود :
" والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد ، لأنك احتقرتنى وأخذت امرأة أوريا الحثى لتكون لك امرأة . هكذا قال الرب ، هانذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك فى عين هذه الشمس ، لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس " 2 صم 12 : 10 – 12
يبدو أن هذ التأديب كان قاسيا للغاية لكنه كان ضروريا لخلاص نفسه وخلاص الآخرين :
( أ ) أوضح أن هذا التأديب هو الثمر الطبيعى للخطية ، فما يجتنيه داود إنما القليل من ثمار فعله : فمن جهة مات ابنه الذى من بثشبع ، واغتصب أمنون بن داود ثامار أخته ( 2 صم 13 : 1 – 22 ) فقتله أخوه أبشالوم ( 2 صم 13 : 23 – 38 ) ، وقام أبشالوم على أبيه داود ليغتصب منه الملك واضطجع مع سراريه أمام جميع إسرائيل ( 2 صم 16 : 22 ) وطلب قتل والده ( 2 صم 17 : 2 ) فقتل هو ( 2 صم 18 : 14 ، 15 ) ، وقتل أدونيا بأمر أخيه سليمان ( 1 مل 2 : 25 ) .... هذه جميعا تمت داخل بيت داود لكن يؤكد الله أن ما تم إنما هو ثمر طبيعى داخلى للفساد الذى قبله داود بإرادته .
( ب ) خلال تأديبات داود التى حلت ببيته أوضح الكتاب المقدس خطورة دور الأسرة وقدسيتها ، فما أرتكبه داود أثمر فى حياة أولاده ، وإن كانوا لا يعاقبون على خطئه ، إنما يذوقون هنا مرارة ما ورثوه عن أبيهم ، الآباء الفاسدون يقدمون لأبنائهم فسادا ، والمباركون يقدمون لهم البركة .
( جـ ) كانت العقوبة قاسية بالنسبة لداود لأنه قائد ؛ كان يليق به أن يكون مثالا لشعبه ، لذا صارت عقوبته مضاعفة . فالعقوبة ليست ثمنا معادلا للخطية ، لكنها تأديب لإصلاح المخطىء ومن هم حوله ، تختلف حسب ظروف كل إنسان .
( د ) لتأكيد أنه ليس عند الله محاباه ، فإنه وإن كان قد أقامه نبيا وملكا وقاضيا ، وله تاريخ مجيد فى حياة مقدسة لكنه متى أخطأ يستوجب التأديب .
( 3 ) توبة داود
دخل داود النبى إلى أعماقه ليكتشف ضعفاته دون تقديم أى مبررات خارجية لنفسه . شعر أنه أخطأ بلا عذر ، وحسب خطيته موجهة ليس ضد أوريا الحثى ولا بثشبع وإنما أولا وقبل كل شىء ضد الله نفسه . لم يخجل كملك عظيم ونبى وقاض ومنظم لأمور العبادة أن يعترف لله فى حضرة ناثان النبى قائلا :
قــد أخطــأت إلى الــرب 2 صم 12 : 13
شعر أن الخطية فى داخله مرة للغاية لذا وجب عليه أن يتقيأها ، وكما يقول ماراسحق السريانى : [ تذكر أن كل لذة يتبعها غثيان ومرارة كصديقين متلازمين ] . لقد تقيأ المر الذى فى داخله فى خجل من نفسه ومن خطيته لا من الأعتراف أمام ناثان .
جاءت إجابة ناثان تعلن حب الله الفائق : [ الرب قد نقل عنك خطيتك ، لا تموت ] ...
بحسب الشريعة كان يجب أن يقتل لكن الله فى رحمته عفا عنه فلا يقتل ، كما بالتوبة ينعم بالخلاص – خلال الذبيحة المقدسة – فلا يموت بل يتمتع بالحياة الغالبة للموت .
خلال هذه التوبة الصادقة سجل لنا داود النبى الكثير من " مزامير التوبة " مثل مز 6 ، 32 ، 38 ، 51 ، 102 ، 130 ، 143 يتوجها المزمور الخمسون ( مز 51 ) الذى ننشده مع كل صلاة طالبين مراحم الله بالتوبة الصادقة :
" ارحمنى يا الله كعظيم رحمتك ،
ومثل كثرة رأفتك تمحو إثمى ، تغسلنى كثيرا من إثمى ،
ومن خطيتى تطهرنى ، لأنى عارف بإثمى ، وخطيتى أمامى فى كل حين ........... " .
+ أيا كنت أنت يا من تخطىء وتتردد فى ممارسة التوبة عن خطاياك ، يائسا من خلاصك ، اسمع داود يتنهد ، لم يرسل إليك ناثان ، إنما داود نفسه مرسل لك .
اسمعه يصرخ ، واصرخ معه !
اسمعه يتنهد ، وتنهد معه !
اسمعه يبكى ، واخلط دموعك بدموعه !
اسمعه وهو يصلح نفسه ، وافرح معه !
إن كانت الخطية لم تنزع عنك ، فلا تنزع الرجاء فى المغفرة !
لم تكن خطية داود قبلا أمامه بل خلف ظهره ، لم يكن يعرف إثمه .... لكن جاء النبى بهذا الهدف أن يأخذ خطيته من وراء ظهره ويضعها أمام عينيه ، ......
( 4 ) موت ابن بثشبع
مرض الطفل جدا فتذلل داود من أجل محبته للطفل ، وأيضا لأنه شعر أن موت الطفل علامة غضب الله على والديه . كان يترجى أن الله يشفق على الطفل وعلى والديه ، فكان يصلى صائما واضطجع على الأرض ( 2 صم 12 : 16 ) .
" قام شيوخ بيته عليه ليقيموه عن الأرض فلم يشأ ولم يأكل معهم خبزا " 2 صم 12 : 17 .
فى اليوم السابع مات الطفل ، وخاف عبيد داود أن يخبروه لما رأوا فيه من تذلل . رآهم يتناجون فأدرك ما حدث ، ولما سألهم أجابوه إن الطفل مات . قام داود عن الأرض واغتسل وتدهن وبدل ثيابه ودخل بيت الرب وسجد ثم جاء إلى بيته يطلب أن يأكل !!.
ما أعجب داود النبى الذى أعلن تسليمه الكامل لإرادة الله ، لقد تذلل قبلا طالبا الرحمة ، أما وقد مات الولد فيخضع لإرادة الله قائلا : " الآن قد مات فلماذا أصوم ؟ هل أقدر أن أرده بعد ؟! أنا ذاهب إليه وأما هو فلا يرجع إلى " 2 صم 12 : 23 .
القلب المنفتح على السماء لا يخاف الموت بل يقبله بفرح كانطلاق نحو المسيح .
+ لا تخاف الموت ، فقد دبر الله إعدادات لتقوم غالبا الموت .
( 5 ) ميلاد سليمان
عزى داود بثشبع ، فإنه لم يطردها بكونها علة أحزانه ومتاعبه ؛ وأنجب منها سليمان ( معناه " سالم " أو " صانع سلام " ) ، إذ فى أيامه استراحت المملكة من الحروب ( 1 أى 22 : 9 ) .
أحب الله هذا الطفل ، وأرسل ناثان حيث دعاه " يديديا " أى " محبوب الله " ، ليؤكد الله لوالديه أنه وإن مات الطفل الأول للتأديب فالثانى يعلن محبة الله لهما وغفرانه خطيتهما .
( 6 ) داود يهزم ربة
عاد الكاتب إلى خبر الحرب مع بنى عمون الذى بدأه فى 2 صم 11 : 1 حيث هزم يوآب ربة عاصمة بنى عمون ، أرسل إلى داود الملك ليأتى ويدخل المدينة حتى تحسب النصرة لداود وتنسب إليه المدينة كغالب ومنتصر . بالفعل خرج داود وحاربها وأخذ تاج ملكها الذى يزن وزنة ذهب ( حوالى 18 رطلا ) مع حجر كريم ، لبسه داود ، وذلك بأن أمسكه أثنان من العظماء ورفعاه على رأسه بعض الوقت علامة تسلطه على مملكة بنى عمون . تمتع داود بغنائم كثيرة بعد أن قتل شعب المدينة .
الأصحاح الثالث عشر
أمنون وثامار
أخطأ داود فى الخفاء مع بثشبع ، وبقى الأمر مخفيا إلى حين ، لتظهر رائحة الفساد القاتلة علانية فى بيت داود ، لقد سقط أمنون بكامل حريته فى الشهوة وأحب أخته التى من أبيه دون أمه ، أحبها جدا لجمالها حتى مرض وإذ تمكن منها أذلها ثم طردها لأنه أبغضها جدا ولم يطق أن يراها !
لنتصور ماذا كان حال داود ومركزه بين قواده ورؤساء الشعب حين بلغهم هذا الخبر ؟!
هذا التصرف من جانب أمنون اثار سخط أبشالوم من أجل أخته ثامار ، وبعد سنتين دبر أمر قتله وهرب ففقد داود الأثنين !
( 1 ) سقوط أمنون فى حب ثامار
تبقى قصة أمنون وثامار عبر الأجيال تمثل صورة حية للتمييز بين الحب والشهوة ، الحب تحرر من الأنا ليعطى الأنسان ذاته لبنيان نفسه والآخرين فيتعامل مع الغير – خاصة الجنس الآخر – كأشخاص لهم تقديرهم ، أما الشهوة فهى تقوقع حول الأنا ليطلب الأنسان إشباع لذاته أو كرامته الخ .... ، يتعامل مع الغير كأدوات لتحقيق شبعه ، أحب أمنون ثامار جدا ، بمعنى آخر أحب جمالها وجسدها لا إنسانيتها وشخصها ، أو أحب أن يشبع شهوته بجمالها ، وإذ كانت أخته لم تستطع أن يتزوجها ، لذلك عسر فى عينيه أن يفعل لها شيئا ، وكانت ثامار عذراء تقيم فى جناح النساء .
حطمت الشهوة أمنون فصار يضعف يوما فيوما ، حار جدا الأمر الذى أزعج صديقه الحميم وأبن عمه يوناداب بن شمعى أو شمة أخى داود ( 1 صم 16 : 9 ) ، وكان الرجل ذكيا جدا ، قادرا على التفكير للخير كما للشر ، سأل يوناداب أمنون عما يفكر فيه ، فأجاب : " إنى أحب ثامار أخت أبشالوم أخى " 2 صم 13 : 4 . قدم لــه يوناداب مشورة لأغتصابها :
" اضطجع على سريرك وتمارض ، وإذا جاء أبوك ليراك فقل له : دع ثامار أختى فتأتى وتطعمنى خبزا وتعمل أمامى الطعام لأرى فآكل من يدها " 2 صم 13 : 5 .
نفذ أمنون هذه المشورة الشريرة ، وجاءت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع ، فأخذت العجين وعملت كعكعا أمامه وخبزته ، وأخذت المقلاة وسكبت أمامه ، فأبى أن يأكل ، طلب أن يخرجوا كل إنسان عنه ثم أمسكها ليغتصبها ، أما هى ففى عفة قالت له :
" لا يا أخى لا تذلنى ، لأنه لا يفعل هكذا فى إسرائيل ،
لا تعمل هذه القباحة ،
أما أنا فأين أذهب بعارى ؟!
وأما أنت فتكون كواحد من السفهاء فى إسرائيل .
والآن كلم الملك لأنه لا يمنعنى عنك " 2 صم 13 : 12 الخ .
سألته أن يطلبها من الملك زوجة ، لعلها بهذا أرادت أن تفلت من يديه ، أو لأنها حسبت الزواج بأخ من أم أخرى أهون من السقوط فى الزنا .
لم يستمع أمنون لصوت أخته ، إذ أفسدت الشهوة تفكيره ونزعت عنه إنسانيته فأغتصبها عنوة .
( 2 ) كراهية أمنون لثامار
إذ حقق أمنون شهوة جسده أبغض ثامار " بغضة شديدة جدا حتى إن البغضة التى أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التى أحبها إياها " 2 صم 13 : 15 . قام بطردها عوض أن يتزوجها شرعا . فتذللت أمامه ليتزوجها ولا يلقيها للعار ، أما هو فطلب من الخادم أن يطردها عنوة .
إن الشهوة والعنف صنوان ، كلاهما ثمرة انتزاع النعمة الإلهية من الأنسان وحرمانه من الوجود مع الله .
هكذا ولدت الشهوة عنفا فى حياة أمنون ، فأصدر أمره لخادمه أن يطرد سيدته ويغلق الباب وراءها ؛ أما هى فوضعت رمادا على رأسها علامة الحزن الشديد كمن فى جنازة ، ومزقت الثوب الملون ( الجبة الخاصة ببنات الملوك العذارى ) علامة فقدها كل مجد والتصاق الخزى بها ، ووضعت يدها على رأسها وكانت تسير صارخة .
إنها صورة مرة للنفس التى تحطمها الخطية ، فإنها تهيم فى الطريق فى مذلة كمن هى مطرودة من البيت ، تفقد النفس سكناها فى حضن الله لتهيم كما فى عزلة ، ليس من يسندها ولا يشاركها أعماق مشاعرها ! تتطلع من خلفها لتجد الكل قد أغلق الباب فى وجهها .
تضع يدها على رأسها علامة عجزها عن العمل والتصرف !
تهيم صارخة فى الطريق كمن فقد الطريق الملوكى المفرح .
( 3 ) أبشالوم يدبر للأنتقام
طلب أبشالوم من أخته أن تلتزم الصمت ، وكان يريد بذلك أن يهدىء الجو ليخطط للأنتقام ؛ فقد قال لها : " فالآن يا أختى اسكتى ، أخوك هو . لا تضعى قلبك على هذا الأمر " 2 صم 13 : 20 .
حقا ما أعذب الصمت والسكون إن حملا هدوءا داخليا ، أما متى كان ستارا لمرارة داخلية فغالبا ما يكون أكثر عنفا وقسوة من الكلام الجارح ، لذا يميز الآباء بين الصمت المقدس البناء والصمت الشرير المهلك ، كما يميزون بين الكلام الصالح والكلام المهلك .
انتظر أبشالوم سنتين دون أن يتحرك بالأنتقام حتى يظن أمنون وداود أن الأمر قد نسى ، ولما جاء وقت جز الغنم ، وهو وقت فرح ، وذلك فى بعل حاصور ، دبر أبشالوم أمر اغتيال أخيه .
دعا أبشالوم أباه وإخوته جميعا لكى يخفى ما فى قلبه ، وإذ استعفى الملك طلب إليه بإلحاح أن يرسل أمنون كولى العهد ونائب عنه ، أخيرا وافق داود ، ربما بعد تخوف من نية أبشالوم .
( 4 ) قتل أمنون
أعد أبشالوم الخطة ، ولما طاب قلب أخيه أمنون بالخمر والسكر قتله غلمان أبشالوم كطلب سيدهم . عندئذ ركب بنو الملك بغالهم وهربوا ، وفيما هم فى الطريق بلغ داود أن أبشالوم قتل جميع بنيه . قام الملك ومزق ثيابه واضطجع على الأرض وكان جميع عبيده واقفين بثياب ممزقة ، لكن يوناداب أدرك الأمر فأخبر داود أن أبشالوم انتقم لأخته من أمنون وحده .
( 5) هروب أبشالوم
هرب أبشالوم إلى جده تلماى بن عميهود ملك جشور ، كلمة " جشور " معناها " جسر " ، وهى مقاطعة تقع بين حرمون وباشان تتاخم أرجوب ، تقع شرقى الأردن ، على حدودها يوجد جسر على نهر الأردن بين طبرية والحولة يعرف بجسر بنات يعقوب .
إذ هدأ داود اشتاق أن يرى أبشالوم ، إذ كان يحبه حبا شديدا ( 2 صم 18 : 5 ، 33 ) ، لكن خشى نقد الناس له لأنه قاتل أمنون ولى العهد .
+ + +
الأصحاح الرابع عشر
العفو عن أبشالوم
لأسباب كثيرة أراد يوآب أن يقوم بمصالحة داود على ابنه المحبوب لديه جدا أبشالوم ، لذا دبر خطة يكسب بها كل الأطراف : الملك وابنه والشعب ليحضر أبشالوم من جشور إلى أورشليم . لكن الملك صمم ألا يرى ابنه لمدة عامين حتى اضطر أبشالوم أن يستخدم العنف للضغط على يوآب ليصالحه مع أبيه .
( 1 ) إرسال امرأة حكيمة إلى داود
أراد يوآب أن يكون هو الواسطة لمصالحة داود على ابنه أبشالوم ، وكان دافعه فى ذلك هو :
- كان يعلم أن داود يحب أبشالوم جدا ، مشتاقا أن يرده إلى أورشليم ، لكنه يخشى نقد الشعب له .
- أدرك أنه وإن طال الزمن لابد أن يتصالح داود مع ابنه ، فبقيامه هو بهذا الدور يكسب صداقة الطرفين .
- يعلم أن لأبشالوم شعبية كبيرة ، فإن مات الملك داود ينقسم الشعب على نفسه ،....
- رجوع أبشالوم قاتل أخيه ، وصفح داود عنه ، ينزع مشاعر الضيق من داود تجاه يوآب بكونه قاتل منافسه أبنير
هذه الأسباب جميعها دفعت يوآب أن يلجأ إلى أمرأة حكيمة من تقوع ، وهى قرية فى يهوذا قرب بيت لحم ، جنوب شرقى أورشليم ، لجأ إليها يوآب ودبر لها الخطة حتى لا يكتشفها داود الملك .
طلب من المرأة أن تقوم بدور أرملة حزينة للغاية وفى ضيق شديد ، فجاءت إليه كمن تنوح على ميت ، وأخذت نروى للملك قصتها المزعومة لتطابق حالة أبشالوم من جوانب متعددة حتى تسحب من فمه وعدا بل وقسما بالعفو فينطبق على أبنه أبشالوم .
خرت المرأة أمام الملك على وجهها إلى الأرض وسجدت ثم طلبت منه أن يعينها ، عرضت قضيتها أنها أرملة مات رجلها ، ولها أبنان تخاصما فى الحقل وليس من يفصل بينهما فضرب أحدهما الآخر وقتله ، قامت العشيرة كلها عليها لتسلم ضارب أخيه فيقتلوه بنفس أخيه ، بهذا تهلك الوارث أيضا .
إنها تطلب الرحمة لها والعفو عن ابنها ، ليس من أجله هو ، وإنما من أجل ترملها ، ابنها يمثل جمرة تضطرم منها النار ، ولغاية فى نفوس العشيرة تود أن تطفىء الجمرة لكى تستولى على الميراث ، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنه الوارث الوحيد الذى يحمل اسم رجلها ويقيم اسم الميت .
ترآف داود جدا عليها ووعدها أنه يوصى بها كى لا يموت ابنها ( 2 صم 14 : 8 ) .
لم تكتف المرأة بتوصية داود من أجلها ومن أجل ابنها ، بل أرادت تأكيدا بالعفو على أن تتحمل هى إثم إلغاء حكم الشريعة الموسوية الخاص بقتل القاتل ، وكان ذلك جائزا من أجل الرحمة ( تث 9 : 13 ؛ 12 : 7 ) ، إذ قالت له : " على الإثم يا سيدى الملك وعلى بيت أبى ، والملك وكرسيه نقيان " 2 صم 14 : 9 . عندئذ وعدها الملك بالعفو قائلا لها : " إذا كلمك أحد فأت به إلى فلا يعود يمسك بعد " 2 صم 14 : 10 .
لم تكتف بتوصية الملك وبوعده إذ تظاهرت بالخوف من ولى الدم لئلا يهلكوا ابنها ، عندئذ قدم لها قسما : " حى هو الرب أنه لا تسقط شعرة من شعر ابنك إلى الأرض " 2 صم 14 : 11 . بهذا القسم صدر الحكم من فم داود الملك بالعفو على ابنه أبشالوم قاتل أخيه أمنون !
نجحت المرأة المتظاهرة بالحزن أن تغتصب من داود تدريجيا الآتى :
( أ ) وعدا أن يوصى بأمرها ويترفقوا بها ( 2 صم 14 : 8 ) .
( ب ) أن تنال حكما فوريا لصالحها من فمه .
( جـ ) ألا يتعرض لها أحد بأذية ، ويقوم بحمايتها .
( د ) أن ينال ابنها العفو ويقوم الملك بحمايته .
( هـ ) قسما بالعفو الشامل لأبنها .
( 2 ) المرأة تصارح الملك
نجحت المرأة التقوعية فى تمثيل الفصل الأول من المسرحية ، حيث انتزعت كل ما تريده من فم الملك ، ... عندئذ نزعت المرأة قناعها لتصارح الملك فى الفصل الثانى من المسرحية أنه إن كان الملك يحكم هكذا بالنسبة لشعب الله فلماذا لا يرد منفيه ، أى ابنه أبشالوم .
دهش الملك لما فعلته المرأة ، وقد وجد هذا العمل نوعا من الأستطابة فى قلبه من أجل محبته لأبنه أبشالوم ، شبهت المرأة الشعب بالأم المحبة لأبنها أبشالوم دون تجاهل للقتيل ابنها أمنون ، والملك هو ولى الدم من حقه يطالب بالدم ، لكنه يلزم أن يترفق بالشعب المحب والذى يطلب العفو عن أبشالوم بالنسبة لقتلة أمنون .
بحكمة ختمت المرأة حديثها بمدحها له : " ليكن كلام سيدى الملك عزاء ، لأن سيدى الملك إنما هو كملاك الله لفهم الخير والشر ، والرب إلهك يكون معك " 2 صم 14 : 17 .
أدرك داود النبى أن يوآب وراء المرأة ، وإذ سألها أجابته بالحق فى اتضاع وحكمة حتى لا يثور الملك عليه : " هو وضع فى فم جاريتك كل هذا الكلام ، لأجل تحويل وجه الكلام فعل عبدك يوآب هذا الأمر ، وسيدى حكيم كحكمة ملاك الله ليعلم كل ما فى الأرض " 1 صم 14 : 20 .
( 3 ) يوآب يشفع فى أبشالوم
طلب الملك من يوآب أن يتمم هذه المهمة التى من أجلها أرسل المرأة إليه ، عبر يوآب عن شكره للملك بالسجود أمامه إلى الأرض على وجهه ، إذ حسب ذلك كرما من الملك أن يستجيب لطلبة عبده وأن يطلب منه أن يتمم هذه المهمة بنفسه
طلب الملك رده إلى أورشليم على ألا يرى وجهه ( 2 صم 19 : 24 ) لأسباب تتعلق بالشعب ، وبأبشالوم ، وبشعبية الحكم ونظام وراثة الملك إذ كانت بثشبع تطلب أن يتولى ابنها سليمان العرش .
( 4 ) جمال أبشالوم
لم يمدح أبشالوم إلا فى جمال جسده الذى جذب قلوب الشعب ، قيل : " ولم يكن فى إسرائيل رجل جميل وممدوح جدا كابشالوم من باطن قدمه حتى هامته لم يكن فيه عيب " 2 صم 14 : 25 .
اكتسب أبشالوم شعبيته خلال جمال جسده وليس خلال قدسية نفسه ونقاوة قلبه ، لهذا لم تدم هذه الشعبية ولا انتفع بمديح الناس له ، وإنما على العكس هذا سبب هلاكه .
( 5 ) أبشالوم يضغط على يوآب
بقى أبشالوم عامين فى أورشليم لم يستطع خلالها أن يرى وجه الملك ، لكنه لم يتعلم خلالها كيف يقتنى العفو بالأتضاع إنما بقى عنيفا فى أعماقه .
يبدو أن يوآب خشى أن يأتى إلى أبشالوم لئلا يغضب داود عليه ؛ كرر أبشالوم الطلب لكن يوآب لم يتحرك لمصالحة أبشالوم على داود أبيه . عندئذ أرسل أبشالوم عبيده وأحرقوا حقل يوآب بالنار ، فخاف وجاء إليه ، طلب منه أن يتدخل لدى الملك لينظر فى دعواه ، إما أن يحكم ببراءته فيلتقى به أو يقتله .
عرف أبشالوم نقطة ضعف أبيه ، إنه لن يقبل قتل أبنه ، ولعله خشى إن حكم على ابنه يشهر ابنه به بسبب قتله أوريا الحثى .
جاء يوآب إلى الملك وأخبره بكلمات أبشالوم ، فدعى الملك ابنه وأعلن العغو عنه بتقبيله .
لقد نجح أبشالوم فى العودة إلى القصر ، ربما بهدف التخطيط لأغتصاب العرش من أبيه .
+ + +
الأصحاح الخامس عشر
عقوق أبشالوم
عاد أبشالوم إلى أورشليم ليس من أجل شوقه لصفح أبيه عن قتله لأخيه أمنون ، ولا حبا فى والده ، وإنما ليهىء الطريق لنفسه كى يغتصب الملك من والده مهما كلفه الأمر .
( 1 ) أبشالوم يعد الطريق لنفسه
" وكان بعد ذلك أن أبشالوم اتخذ مركبة وخيلا وخمسين رجلا يجرون قدامه " 2 صم 15 : 1
يكشف هذا التصرف عن هدف أبشالوم من العودة إلى أورشليم ، فقد حمل فى داخله لهيب نار محبة المجد الباطل . تصالح مع والده لا لينال رضاه ، ولا ليقابل حبه الأبوى بالحب البنوى الخالص ، وإنما ليخطط كى يغتصب منه العرش بروح العجرفة والعقوق ، مظهرا نفسه كرجل عظيم يستخدم مركبة ملوكية وخيلا ويجرى أمامه خمسون رجلا .
لقد أعد الله لداود الملك خلال الضيق والتعب لسنوات طويلة أما أبشالوم فهيأ نفسه للملك خلال المظاهر الخارجية والمجد الباطل ، اقتدى أبشالوم بملوك الأمم فى العظمة بينما كان والده يمتطى بغلا فى بساطة مظهر واتضاع ، لم يدر أبشالوم أنه إنما يجرى وراء هلاكه الروحى والجسدى أيضا ، ليفقد أبديته كما وحياته الزمنية .
من أقوال الآباء عن أهمية الأتضاع :
+ كن وضيعا فى عينى نفسك فترى مجد الله فى داخلك .
حيث ينبت الأتضاع هناك يتفجر مجد الله .
إن جاهدت لكى يستهين بك كل بشر ، فالله يمجدك .
إن كان لك اتضاع فى قلبك ، فسيظهر الله لك مجده فى قلبك .
كن مزدرى فى عظمتك ولا تكن عظيما فى تفاهتك !
لا تطلب أن تكون مكرما بينما داخلك مملوء جراحات ..
ارفض الكرامة فتصير مكرما ، ولا تحبها فلا تهان ..
من يطلب الكرامة تهرب منه ، ومن يهرب من الكرامة تطارده ، ويعلن كل بشر عن اتضاعه .
أهرب من المجد الباطل فتتمجد ، خف من الكبرياء فتتعظم .
+ إننى أثق أن العمل الروحى البسيط حين نمارسه باتضاع ، فإنه يبلغ بنا أن نكون مع القديسين الذين جاهدوا كثيرا وصاروا خداما حقيقيين لله .
+ يوجد طريق حقيقى للنمو : بالنمو فى الأتضاع يبلغ الأنسان المجد الإلهى الحقيقى .
( 2 ) أبشالوم يمالىء الشعب
لكى يسحب أبشالوم الكرسى من تحت والده لم يقف عند اهتمامه بجماله الجسدى ومظاهر الأبهة والعظمة وإنما فى خداع صار يمالىء الشعب ... كان يبكر ويقف بجانب طريق باب المدينة ليمنع المتقاضين من الوصول إلى موضع اجتماع أبيه ، يعطى اهتماما لكل شخص فيسأله عن مدينته وسبطه ، ليقول له فى خداع دون فحص لقضيته : " أنظر أمورك صالحة ومستقيمة ، ولكن ليس من يسمع لك من قبل الملك " 2 صم 15 : 3 .
هكذا يتحدث أبشالوم بذات القول للطرفين المتخاصمين لا ليقضى وإنما ليثير الكل على والده ويحثهم على إقامته هو ملكا وقاضيا ، إذ كان يردد القول : " من يجعلنى قاضيا فى الأرض فيأتى إلى كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه ؟! " 2 صم 15 : 4 .
هكذا استرق أبشالوم قلوب الكثيرين ، أمالهم إليه ليكسب ودهم واحترامهم وطاعتهم له حتى يقيموه ملكا عوضا عن أبيه
( 3 ) المناداه به ملكا
تم ذلك فى نهاية أربعين سنة من مسح داود ملكا على يدى صموئيل ( 1 صم 16 : 1 ) . يرى البعض أنه فى نهاية أربعة أعوام من مصالحة أبشالوم لأبيه أعد الطريق لنفسه كى يملك .
طلب من أبيه السماح له بالذهاب إلى حبرون ليفى نذرا تعهد به وهو فى جشور قائلا : " إن أرجعنى الرب إلى أورشليم فإنى أعبد الرب " 2 صم 15 : 8 . ، أباه الذى يطلب استقامة ابنه فرح جدا أن يسمع منه أنه يريد أن يعبد الرب فى حبرون بلد مولده ، لذا سمح له بالذهاب بكامل حريته .
وضع أبشالوم الخطة ربما مع بعض المشيرين ، وقد أحكمها تماما ، وكانت كالآتى :
( أ ) أن يعلن توليه الحكم فى حبرون ، إحدى مدن يهوذا ، حيث يستطيع أبشالوم أن يجمع حوله كل الطاقات والشخصيات التى تسنده ضد والده لأن رجال يهوذا كانوا قد غضبوا لأنتقال داود من حبرون إلى أورشليم .
( ب ) بعث أبشالوم إلى جميع الأسباط رسلا حتى ينادوا به ملكا فى وقت واحد ، فلا يجد داود أمامه ملجأ للهروب .
( جـ ) أخذ أبشالوم معه مائتين من عظماء الرجال ، ليوحى للأسباط بأن عظماء المملكة تركوا داود الملك تأييدا لأبشالوم .
( د ) استعان أبشالوم بأخيتوفل الجيلونى ( 2 صم 15 : 12 ) ، إذ توسم فيه الرغبة مع القدرة على خيانة داود ، وهو فى هذا يشبه يهوذا فى خيانة سيده السيد المسيح ، كما يشبهه فى طريقة موته ( مز 41 : 9 ؛ يو 13 : 18 ) .
هكذا أحكم أبشالوم الخطة بطريقة بشرية ولم يكن أمام داود طريق إلا الهروب أو الأستسلام فيتعرض للقتل على يدى أبنه .
( 4 ) هروب داود ورجاله .
أدرك داود الخطر مبكرا ، ولعله تذكر خطيته وقول الرب له : " والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتنى .... هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك " 2 صم 12 : 10 – 11
أشفق داود على المدينة ، وخشى أن يضربها أبشالوم بالسيف بسببه ، لذا قال لجميع عبيده : " قوموا بنا نهرب ، لأنه ليس نجاة من وجه أبشالوم ، أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف " 2 صم 15 : 14 .
تمررت نفس داود لخيانة ابنه له وثورته ضده ، لكن قلبه امتلأ رجاء فى الرب مخلصه ، بروح النبوة أدرك داود أن ما حل به من خيانة أبشالوم وأخيتوفل له إنما يرمز لخيانة يهوذا للسيد المسيح .
عندما هرب داود ترنم بالمزمور الثالث :
" يارب لماذا كثر الذين يحزنوننى ؟!
كثيرون قاموا على .
كثيرون يقولون لنفسى : ليس له خلاص بإلهه .
أنت يارب ، أنت هو ناصرى ، مجدى ، ورافع رأسى .
أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت .... "
إن كلمات هذا المزمور تفهم بالأكثر فى شخص السيد المسيح ، فإنها تنطبق على آلام ربنا وقيامته أكثر منها على تاريخ هروب داود من وجه ابنه العاق
وكما هرب الحق من ذهن أبشالوم ؛ هكذا هرب الحق من ذهن يهوذا عندما توقف الحق عن إنارته .
( 5 ) هروب إتاى الجتى
عندما هرب داود من وجه شاول أقام فى جت ونظم جيشا قوامه ستمائة جندى وأقام إتاى الجتى قائدا لهم ، دام هذا الجيش معه حين صار ملكا فى حبرون وأيضا فى أورشليم ، وكانوا إسرائيليين لكن دخل بينهم بعض الجتيين .
لعل من أحلى السمات التى أتصف بها داود هى عدم تفكيره فى صالحه الخاص حتى فى لحظات الضيق المرة ، إذ لم يطلب تسخير الغير لحسابه . لهذا طلب من إتاى أن يبقى مع أبشالوم كملك جديد ، إذ لا يريد أن يحمل إتاى فوق طاقته ، لأنه غريب الجنس . لقد قال له : " ارجع واقم مع الملك ، لأنك غريب ومنفى أيضا من وطنك ، أمسا جئت واليوم أتيهك بالذهاب معنا ، وأنا انطلق حيث أنطلق ، أرجع ورجع اخوتك ، الرحمة والحق معك " 2 صم 15 : 19 لكن إتاى غريب الجنس رفض أن يترك داود وقت ضيقه ، إنما تحدث معه بروح الحب والأخلاص والوفاء ، متشبها فى ذلك براعوث الموآبية فى حديثها مع حماتها نعمى ( را 1 : 16 ) .
أراد الله أن يعزى قلب داود ، بينما كان ابنه يخونه ويسلب ملكه طالبا قتله إذا بغريب الجنس يتعلق به فى ضيقته ويشاركه متاعبه .
إتاى المذكور هنا غير إتاى المذكور فى 2 صم 23 : 29 ، 1 أى 11 : 31 – الذى من جبعة بنى بنيامين ، وكان أحد أبطال داود .
عبر الملك ورجاله الوادى الذى بين أورشليم وجبل الزيتون ، حيث لا يكون فيه ماء إلا فى فصل الشتاء ، وقد عبر المسيح ذات الوادى فى ليلة آلامه ليدخل بستان جثسيمانى ( يو 18 : 1 ) .
( 6 ) بقاء التابوت فى أورشليم
أراد داود النبى أن تكون كل تحركاته تحت ظل الرب نفسه كمخلص له لذا طلب من صادوق الكاهن واللاويين أن يأتوا بالتابوت حتى يعبر الشعب ، وإذ تم العبور لم يقبل أن يأخذه معه خارج أورشليم بل طلب إرجاعه مؤمنا بأن الله يسمح له بالعودة إلى حيث التابوت رمز الحضرة الإلهية – إن أراد الرب .
( 7 ) رجوع حوشاى الأركى
صعد داود جبل الزيتون شرقى مدينة أورشليم ، قمته على بعد ميل منها ، وكان يصعد باكيا ورأسه مغطى ويمشى حافيا ، وجميع الشعب يتمثلون به . وإذ بلغ القمة " سجد لله " 2 صم 15 : 32 ، فقد اعتاد أن يسجد لله ويشكره فى وسط الضيقات .
على ذات الجبل وقف رب المجد يسوع يتطلع نحو أورشليم باكيا بسبب رفض أولادها أبوة الله ورعايته ( مت 23 : 37 ؛ لو 13 : 34 ) .
مما زاد حزن داود الملك جدا سماعه أن أخيتوفل أفضل أصدقائه يخونه ، إذ هو بين الفاتنين مع أبشالوم ، لذا صرخ إلى الرب أن يبدد مشورته ، لأنه معروف بحكمته وتدابيره .
كان حوشاى الآركى من المقربين المخلصين لداود النبى ، عبر داود النبى عن مرارة نفسه من جهة خيانة أخيتوفل وعن تهلله فى نفس الوقت من أجل إخلاص حوشاى الآركى فى المزمور 41 .
" طوبى للرجل الذى ينظر إلى المسكين ، فى يوم الشر ينجيه الرب .......
الرب يعضده وهو على فراش الضعف ، مهدت مضجعه كله فى مرضه ....
أيضا رجل سلامتى الذى وثقت به آكل خبزى رفع على عقبه "
لعله عنى بالمسكين : " نفسه "
أما رجل سلامته فهو أخيتوفل الذى أنعم عليه داود بالحب والصداقة مع نعم وعطايا وها هو يحطم الثقة ويرفع عليه عقبه لأذيته فيصير رمزا ليهوذا الخائن .
+ + +
الأصحاح السادس عشر
داود الهارب
كانت نفس داود مرة للغاية فى هذه المرة فإنه ليس هاربا من أمام شاول الملك الذى يخشى داود لئلا يغتصب ملكه وإنما أمام ابنه العاق الذى اغتصب كرسيه وأثار الشعب ضده ، ومما يزيد نفسيته مرارة أن البعض وجد فرصتهم لإهانته وسبه ، هذا بجانب شعوره الخفى أن ما حل به هو ثمرة ما أرتكبه فى حق الله وضد أوريا الحثى
على أية الأحوال تكشف المزامير التى أنشدها داود أثناء هروبه أنه لم يفقد رجاءه فى الرب ، مدركا أن ما حل به تأديب أبوى من قبل الرب مخلصه .
( 1 ) لقاؤه مع صيبا
كان صيبا يطمع فى اغتصاب أملاك مفيبوشث بن يوناثان غير مكتف بأن يقوم هو وبنوه وعبيده بإدارتها ، وقد وجد الفرصة سانحة لإثارة داود ضد مفيبوشث حتى يصدر داود أمره بنقل الملكية إليه عوض مفيبوشث .
لقد أدرك صيبا أن داود رجل حكيم وقوى ، وأن الضيقة التى يجتازها عابرة ، وأن الأنتصار حليفه فى النهاية ، لذا أسرع إلى اللقاء معه وسط الضيقة حينما كان داود على قمة جبل الزيتون حيث قدم له حمارين مشدودين عليهما مائتا رغيف خبز ومئة عنقود زبيب ومئة قرص تين وزق خمر ، قال له إن الحمارين لبيت الملك كما أن الأكل والشرب لمن يصاب بإعياء فى البرية .
سأل داود عن مفيبوشث ، وفى مكر أجاب صيبا : " هوذا هو مقيم فى أورشليم ، لأنه قال : اليوم يرد لى بيت إسرائيل مملكة أبى " 2 صم 16 : 3
هكذا شوه صيبا صورة سيده أمام داود الذى قدم كل إحسان وحب وتكريم لمفيبوشث . كلمات صيبا غير مقبولة ، لأنه لم يكن لمفيبوشث الأعرج أن يستلم الحكم من أبشالوم بكل جماله وقوته وسلطانه ، لكن داود كان مهتما بأمور كثيرة وعاجلة ، مدركا أن مفيبوشث لن يمثل خطرا عليه أو على ابنه ، إنما فى عجلة وبغير تدقيق أغتاظ وحسب مفيبوشث خائنا وناكرا للجميل ، وأصدر قراره لصيبا : " هوذا لك كل ما لمفيبوشث " 2 صم 16 : 4 . سجد له صيبا وقال : " ليتنى أجد نعمة فى عينيك يا سيدى الملك " 2 صم 16 : 4 .
لقد سمح الله لداود أن يجتاز هذه التجربة القاسية ، وهو شعوره بخيانة مفيبوشث ضده ، الأمر الذى لم يكن يتوقعه قط ، وكان ذلك لخيره وبنيانه من جوانب كثيرة ، منها :
( أ ) كان لداود أن يشرب من ذات الكأس التى ملأها بيده ، فقد خان أوريا الحثى ، وها هو يذوق خيانة أبنه له ، وأيضا خيانة أخيتوفل ، وهوذا مفيبوشث وغيرهم ، الذين أحسن إليهم يسيئون إليه أكثر مما أساء إليه الأعداء !
( ب ) استخدم الله هذه التجربة لخيره ، فقد كان داود بحاجة ومن معه إلى الهدية التى قدمها له صيبا !
( جـ ) اكتشف داود فيما بعد خداع صيبا له ، وتعلم ألا يصدر أحكامه بعجلة ...
( 2 ) شمعى يسب داود
خرج من بحوريم شمعى بن جيرا من بيت شاول ، وكان بينه وبين داود ورجاله وادى ، فكان يرشقهم بالحجارة ، غالبا لم تكن تصلهم إنما هى علامة على غيظه واحتقاره لهم ، أما كلماته فكانت مسموعة .
كان يسب داود قائلا :
" اخرج اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال ،
لقد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذى ملكت عوضا عنه ،
وقد دفع الرب المملكة ليد أبنك ،
وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء " 2 صم 16 : 7 ، 8
كانت كلماته كالسهام القاتلة ، تحمل كراهية وضغينة مع كذب ، فإن داود لم يقاتل بيت شاول ليغتصب منهم الملك . على النقيض من هذا قابل مطاردة شاول بالسماحة ، لم يمد يده على شاول قط ولا على بنيه أو أحفاده وإنما كان يسعى ليصنع معهم معروفا .
فى غيرة أراد أبيشاى أن يعبر ليقتل هذا الرجل حاسبا إياه كلبا ميتا ، أما داود فمنعه حاسبا هذه الأهانة تأديبا من قبل الرب بسبب خطيته ، إذ قال :
" مالى ولكم يا بنى صروية ،
دعوه يسب ، لأن الرب قال له : سب داود .
ومن يقول : لماذا تفعل هكذا ؟ " 2 صم 16 : 10 .
" هوذا ابنى الذى خرج من أحشائى يطلب نفسى ، فكم بالحرى الآن بنيامينى ؟! دعوه يسب لأن الرب قال له ....
لعل الرب ينظر إلى مذلتى ويكافئنى الرب خيرا عوض مسبته بهذا اليوم " 2 صم 16 : 11 ، 12 .
لم يكن ممكنا لهذه الشتائم أن تؤذى داود بل هى بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كى يغتصب المراحم الإلهية ، كلمات التملق التى نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكما خاطئا ومتعجلا فى غضب ضد مفيبوشث أما كلمات شمعى المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكما صادقا على نفسه .
( 3 ) المناداة بأبشالوم ملكا
جاء أبشالوم ومعه الرجال من كل الأسباط ، جاء ليملك دون أن يسفك دما ، فقد هرب داود ورجاله حتى لا يهلك أحد بسببه .
فوجىء أبشالوم بتقدم حوشاى الأركى صديق داود إليه وهو يقول : " ليحيا الملك ، ليحيا الملك " ، إذ لاحظ حوشاى تعجب أبشالوم قال بحكمة : " الذى اختاره الرب وهذا الشعب وكل رجال إسرائيل فله أكون ومعه أقيم ، وثانيا : من أخدم ؟ أليس بين يدى ابنه ؟! كما خدمت بين يدى أبيك كذلك أكون بين يديك " 2 صم 16 : 18 ، 19 .
هكذا قدم حوشاى مبررات لعدم هروبه ، حتى يثق به أبشالوم فيكون سندا لداود فى داخل القصر .
( 4 ) أبشالوم يدخل على سرارى أبيه
كان أخيتوفل مشيرا لأبشالوم ، يسمع له الملك الجديد كما لله ، حاسبا مشورته كمن يسأل كلام الله ( 2 صم 16 : 23 ) ، مع أنها كانت مشورات شريرة من قبل إبليس ، تحمل حكمة أرضية شهوانية .
أول مشورة قدمها له أخيتوفل هى أن يدخل على سرارى أبيه اللواتى تركهن داود لحفظ البيت ، صنع أبشالوم ذلك على السطح حتى يتأكد الكل أن الكراهية ضد داود قد بلغت أشدها وأنه لا مصالحة بينه وبين أبيه .
تم ذلك على السطح الذى سبق فتمشى عليه داود ليختلس نظرة شريرة لأمرأة غريبة ، هوذا ابنه يضطجع مع سراريه علانية فى ذات الموقع !
الأصحاح السابع عشر
إحباط مشورة أخيتوفل
( 1 ) مشورة أخيتوفل
تقدم أخيتوفل كمشير للملك إلى أبشالوم بخطة لتحقيق أهدافه ، وهى سرعة اللحاق بداود وهو متعب مع الشعب الذى معه ، لكى يضطرب داود ويتركه من معه ، فيبقى داود وحده ، يقتلونه ويرجع الشعب إلى أبشالوم دون مجهود يذكر . فى رأيه أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من أثنى عشر الف رجل منتخبين ينحركون فى ذات الليلة ليرجعوا فورا بنصرة أكيدة .
هذه المشورة حسبها الكتاب صالحة ( 2 صم 17 : 14 ) لا بمعنى أنها تحمل صلاحا وإنما لأنها قادرة على تحقيق هدف أبشالوم ، يلاحظ فيها الآتى :
أنها جاءت رمزا لمشورة رئيس الكهنة قيافا ضد ابن داود إذ قال : " أنتم لستم تعرفون شيئا ، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها " ...
( 2 ) حوشاى يبطل المشورة
يرسل الله مع التجربة المنفذ ، فى كل عصر وجد المقاومون للحق كما أقام الله من يحطمون مقاومتهم أو يحولونها للبنيان .
مع استصواب أبشالوم مشورة أخيتوفل استدعى حوشاى الآركى يطلب أيضا مشورته ليأخذ قراره النهائى ، بحكمة تظاهر بأن أخيتوفل لم يصب فى هذه المرة ، مقدما مشورة أخرى تبدو أكثر صلاحا ، غايتها فى الواقع إنقاذ داود وخطوطها العريضة هى كالآتى :
( أ ) أن داود رجل حرب وأنه يتوقع ما أشار به أخيتوفل لهذا فهو لن يبيت الليلة مع الشعب وإنما يختفى فى مكان مجهول ، فى مغارة أو شق ، ولن يبلغ إليه رجال أبشالوم ، لذا تقوم حرب طاحنة يقتل فيها الكثيرون من الطرفين ويبقى داود على قيد الحياة ينغص حياة أبشالوم .
( ب ) التسرع ليس فى صالح أبشالوم أمام رجل حرب مثل الملك داود .
( جـ ) أن أبشالوم له إمكانيات جبارة ، شعبه ممتد من دان إلى بئر سبع بلا عدد ، فلماذا لا ينتفع بهذه الأمكانيات مكتفيا بأثنى عشر ألف رجل ؟!
( د ) أن الأمر لا يحتاج إلى قتل داود وحده وإنما الخلاص من كل رجاله حتى لا يسببون لأبشالوم كدرا ، إذ قال له : " لا يبقى منه ولا من جميع الرجال الذين معه واحد " 2 صم 17 : 12 . هذا الرأى يجد أستطابة فى قلب أبشالوم إذ لا يريد أيضا رجال داود .
( هـ ) هذه هى الحرب الأولى التى يقوم بها أبشالوم كملك فكيف لا يخرج مع رجاله ، لذا أشار عليه حوشاى : " وحضرتك سائر فى الوسط " 2 صم 17 : 11 . لعله هدف بهذا أن يموت أبشالوم فى الحرب فلا توجد بعد فرصة أخرى للمقاومة .
هذا ما قدمه حوشاى ، لكن السر الخفى وراء ذلك هو الله العامل الحقيقى لإنقاذ داود ، فقد أعطى لمشورة حوشاى نعمة فى عينى أبشالوم ، إذ قيل : " فإن الرب أمر بإبطال مشورة أخيتوفل الصالحة لكى ينزل الرب الشر بابشالوم " 2 صم 17 : 14
( 3 ) بعث رسولين إلى داود
كان لابد لحوشاى أن يخبر داود بما حدث خلال الكهنة ، وقد استخدم الله الشعب والكهنة ، الرجال والنساء ، الشيوخ والشبان لتحقيق هذا الهدف ، ليعلن أن الكنيسة جسد واحد يتحرك كل أعضائها بروح واحدة ، كل عضو له دوره الفعال .
( أ ) أرسل حوشاى إلى الكاهنين صادوق وأبياثار يخبرهما بما حدث من جهة أخيتوفل ومن جانبه ، حتى يتحركا للعمل ( 2 صم 15 : 28 )
( ب ) انطلقت جارية من قبل الكاهنين الشيخين صادوق وأبياثار إلى ابنيهما الكاهنين الشابين : يوناثان ، وأخيمعص ، اللذين كانا واقفين عند عين روجيل ينتظران الرسالة
( جـ ) لم يكن الشابان قادرين على الظهور فى أورشليم ( 2 صم 17 : 17 ) لأنهما معروفان أنهما من تابعى داود ، ومع ذلك فقد رآهما غلام وأخبر أبشالوم بما حدث ، وكأن مع كل عمل نتوقع مقاومة من عدو الخير من حيث لا ندرى ، لذا لن تنجح أية خطة بشرية مهما أحكمت ما لم تتدخل عناية الله ونعمته .
( د ) انطلق الشابان إلى بيت رجل فى بحوريم ، وهى ذات المدينة التى خرج منها شمعى بن جيرا البنيامينى ليسب داود ويرشقه بالحجارة ، المدينة التى أخرجت رجلا يقاوم داود وجد فيها امرأة مؤمنة تعمل لحسابه ، إذ أخفت الرجلين فى بئر جافة وغطتها بسجف الباب وسطحت عليه سميذا ، يمكننا القول إن المدينة التى أخرجت إنسانا يهين داود فيحتمله باتساع قلب وجدت فيها امرأة متسعة القلب نحو داود ورجاله ، لقد سمع الرب لكلمات داود التى نطق بها هناك : " لعل الرب ينظر مذلتى ويكافئنى خيرا عوض مسبته بهذا اليوم " 2 صم 16 : 11 .
حيث يوجد احتمال الأهانة والسب برضى يقوم الخلاص !
( هـ ) فتش عبيد أبشالوم عن الكاهنين الشابين فلم يجدوهما ، فقالت لهما : " قد عبرا قناة الماء " 2 صم 17 : 20 . هذا الكذب هو ضعف بشرى لا يمكن تبريره !
( و ) خرجا من البئر وأنطلقا إلى داود يخبرانه أن يعبر هو وشعبه الماء ( نهر الأردن ) سريعا بالرغم من صعوبة الأمر ، وبالفعل تم العبور طوال الليل متجهين نحو المشرق ، حتى لم يبق فى الصباح أحد لم يعبر الأردن ( 2 صم 17 : 22 ) .
( 4 ) انتحار أخيتوفل
لم يعمل أبشالوم بمشورة أخيتوفل المتعجرف ، لهذا انطلق إلى بيته حيث خنق نفسه ومات بعدما أوصى لبيته أى رتب أمور أسرته .
صار أخيتوفل رمزا ليهوذا الخائن الذى خنق نفسه أيضا .
( 5 ) استعداد أبشالوم للحرب
عبر داود ورجاله نهر الأردن إلى محنايم ، وهى مدينة للاويين عند تخم جاد الشمالى ( 2 صم 2 : 8 ) ، وكانت مدينة مناسبة لداود بسبب حصونها .
عبر أبشالوم الأردن ومعه رجال إسرائيل تحت قيادة عماسا ، الذى يحمل ذات القرابة لأبشالوم مثل يوآب ابن خالته ، وقد صار عماسا ثقلا على أبشالوم وليس معينا له ، إذ قتل أبشالوم فى المعركة الوحيدة التى قادها مع عماسا ضد أبيه .
( 6 ) داود فى محنايم
جاء داود ورجاله إلى محنايم حيث قدم لهم شوبى بن ناحاش وماكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاى الجلعادى أثاثات وطعاما ليأكلوا ، تقدمة محبة تقبلها داود وسط ضيقه ومتاعبه ، لذا ترنم بالمزمور 23 قائلا : " ترتب قدامى مائدة تجاه مضايقى " .
تلقى محبة عملية فى محنايم البعيدة عن عاصمة ملكه فى وقت قام فيها كثيرون من أصدقائه بمقاومته وخيانته .
+ + +
الأصحاح الثامن عشر
نهاية أبشالوم
مسح أبشالوم العاق والمتعجرف ملكا على كل إسرائيل ، ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى جمع جيشه الضخم ليقتل داود .... دخل فى معركة كانت ظلا لمعركة الصليب ، فيها خرج داود ورجاله منتصرين بينما تحطم أبشالوم ورجاله . كان داود رمزا للمسيح الحى الغالب ، وكان أبشالوم رمزا لأبليس الذى قتله الرب على الصليب وحطم سلطانه
( 1 ) تنظيم رجال داود
مسح أبشالوم العاق ملكا ، وجمع جيشه الضخم وعبر الأردن لمحاربة داود ورجاله ، طالبا قتل داود بالذات ، وكان فى هذا يرمز لأبليس الذى بخداعه وكبريائه مع عصيانه لله صار رئيس هذا العالم ( يو 14 : 30 ) . وقد جمع كل رجاله الخاضعين له للخلاص من المسيا .
فى ذات الوقت كان داود يحصى رجاله لا لمعرفة عددهم وإنما لتنظيم جيشه فى محنايم ، ويقدر المؤرخ اليهودى يوسيفوس عددهم بحوالى 4000 نسمة ، وهو عدد قليل جدا بالنسبة لجيش أبشالوم ، أقام داود رؤساء ألوف ورؤساء مئات كنظام موسى النبى ( خر 18 : 25 ) ونظام شاول ( 1 صم 22 : 7 ) . كما قام بتوزيع الجيش على ثلاث فرق : الثلث تحت قيادة إتاى الجتى الذى أظهر إخلاصه وقت الضيق رافضا البقاء فى أورشليم مع أبشالوم ليشارك داود آلامه وتغربه ( 2 صم 15 : 18 – 23 ) ، والثلث تحت قيادة يوآب رئيس جيش داود ، والثلث تحت قيادة أبيشاى أخى يوآب . ويبدو أنه أراد أن يكون القائد العام للثلاث فرق يقودهم بنفسه ، لكن الشعب الذى سمع عن مشورة أخيتوفل وأدرك نية أبشالوم ألا وهى التركيز على قتل داود ، طلبوا منه ألا يخرج ، لأنه بقتله يسقط الجيش كله ( 2 صم 21 : 17 ) ، وإن بقى فى المدينة يرسل لهم نجدة ويسندهم بمشورته وتدبيره .
أطاع داود أمرهم وبقى فى المدينة ، وفى حنان طلب من القادة الثلاثة : " ترفقوا لى بالفتى أبشالوم " 2 صم 18 : 5 . لم تكن هذه وصية ملك ولا قائد حرب بل وصية أب حنون يتطلع إلى ابنه العاق كصبى يحتاج إلى حنان الأبوة . هذه نظرة كثير من آباء الكنيسة تجاه كل إنسان غضوب ، إنه مشبه بصبى صغير يحتاج إلى حب لعلاجه لا إلى مقاومته .
إذا كانت هذه هى مشاعر أب بشرى تجاه أبنه ؛ فكم تكون مشاعر أبينا السماوى ربنا يسوع المسيح نحو الخطاة ؟! إنه يبحث عنا جميعا ويترفق بنا منتظرا إشارة منا ليستلم حياتنا ويستريح فى أحشائنا ويسكن فى قلوبنا ، لقد أعد الوليمة وأمسك بالحلة الأولى وخاتم البنوة ، منتظرا كل ابن عاق يرجع إليه .
( 2 ) انكسار اسرائيل
إذ تحرك أبشالوم للقتال اضطر داود أن يطلب من رجاله أن يتحركوا خارج محنايم ، إذ لم يرد أن يسبب لشعبها اضطرابا ، وقد استضافوه هو ورجاله .
تم اللقاء فى وعر أفرايم شرقى الأردن ، انهزم أبشالوم مع رجاله أمام عبيد داود الذين يحسبون قلة قليلة أمام جيش أبشالوم ، تشتت إسرائيل فى الوعر فتبعهم رجال داود وقتلوا 20000 نسمة ، أما الذين أهلكهم الوعر فكانوا أكثر من الذين قتلهم السيف ، وكأن الطبيعة ذاتها ثارت ضد هذا الشرير ، كما حدث أثناء الصلب .
( 3 ) نهاية أبشالوم
كان أبشالوم راكبا على بغل ، وفى وسط الأحراش تعلقت رأسه ، أو تشابك شعره بأغصان بطمة عظيمة ، وذلك بسبب طول شعره وغزارته ، وإذ سار البغل بقى معلقا بين السماء والأرض . أسرع رجل يخبر يوآب بما رآه فانتهره لأنه لم يضربه إذ كان مستعدا أن يعطيه عشرة شواقل فضة ومنطقة مطرزة . أجابه الرجل : " فلو وزنت فى يدى ألف من الفضة لما كنت أمد يدى إلى ابن الملك ، لأن الملك أوصاك فى آذاننا أنت وأبيشاى وإتاى قائلا : احترزوا أيا كان منكم على الفتى أبشالوم " 2 صم 18 – لم يصبر يوآب رئيس الجيش على ذلك فنشب 3 سهام فى قلب أبشالوم وهو بعد حى فى قلب البطمة ، وأحاط به عشرة غلمان حاملوا سلاح يوآب وضربوا أبشالوم حتى مات . لقد خالف يوآب وصية داود لأنه شعر أن حياة أبشالوم تمثل خطرا على داود نفسه كما على كل المملكة .
( 4 ) رجوع عبيد داود
ضرب يوآب بالبوق لينهى القتال بموت أبشالوم ، انه بوق كلمة الله التى ينطق بها المؤمنون كما ببوق ليعلنوا خلال الكلمة حياة الغلبة ونهاية عدو الخير .
طرح أبشالوم فى أقرب جب وجد هناك فاقدا كرامته كأبن للملك ، طلب الكرامة الزمنية وسعى إليها بكل طاقاته ففقدها فى موته وحتى بعد موته ، فصار عبرة لكل نفس فى عقوق نحو الله أبيها ، كانوا يرمونه بالحجارة وكأنهم يرجمونه بسبب عقوقه كحكم الشريعة ( تث 21 : 20 ، 21 ) . لا تزال توجد فى بعض بلاد الشرق عادة أن يلقى العابرون حجارة على مقبرة المجرمين .
( 5 ) داود يحزن على ابنه
أدرك يوآب أن الملك المتعلق بأبنه أبشالوم لن يتقبل خبر النصرة بفرح بسبب موت أبنه لذلك لم يرد أن يقوم أخيمعص بن صادوق الكاهن بإبلاغ الخبر للملك ، فبعث برسول آخر كوشى ، ربما كان عبدا ليوآب من بلاد كوش ، نزل أخميعص إلى الغور أى إلى وادى الأردن وسار فيه ثم صعد إلى محنايم ليبشر داود بالنصرة ، أما الكوشى فأخذ طريقا أسهل لكنه أطول .
بشر أخيمعص داود بالنصرة ، دون أن ينطق بكلمة بخصوص أبشالوم حتى جاء الكوشى ، وفهم داود من حديثه أن ابنه مات فحزن جدا ، وكان يبكيه بمرارة ، ولعل سر يكائه هو :
- مشاعر الأبوة الحانية الطبيعية ، ...
- كان يكن لأبشالوم معزة خاصة ، متوقعا أن تنضج شخصيته مع الزمن
- لم يكن أبشالوم مستعدا للموت بالتوبة ...
- شعوره خطئه فى تربيته لبنه
- شعر أن ما حل به هو ثمرة خطأه هو ..
الأصحاح التاسع عشر
عودة داود للملك
عقوق أبشالوم ودخول إسرائيل فى حرب مع رجال داود سبب جراحات كثيرة على مستوى بعض الشخصيات الهامة كما بين الأسباط وبعضها البعض ، فقد انكشفت نية البعض كخونة لداود بينما سقط البعض فى الخيانة تحت الضغط ...
كان أمر رجوع داود إلى المملكة يحتاج إلى حكمة فى التصرف ولقاءات هامة ...
( 1 ) يوآب يخرج داود من حزنه
اعتبر يوآب حزن داود المفرط على أبنه العاق أبشالوم إهانة للشعب الذين خاطروا بحياتهم فى الحرب من أجله ، وكانوا يتوقعون كلمة شكر وأحتفالا بالنصرة بفرح وبهجة ، لهذا دخل يوآب إلى الملك ليتحدث معه بكلمات جارحة وفى غير لياقة قائلا له : " قد أخزيت اليوم وجوه جميع عبيدك منقذى نفسك وأنفس بنيك وبناتك وأنفس نسائك وأنفس سراريك بمحبتك لمبغضيك وبغضك لمحبيك ، لأنك أظهرت اليوم أنه ليس لك رؤساء ولا عبيد ، لأنى علمت اليوم أنه لو كان أبشالوم حيا وكلنا اليوم موتى لحسن حينئذ الأمر فى عينيك "
بالغ يوآب فى الحديث ، عندما ذكر أن داود أحب مبغضيه لأنه لو أنتصر أبشالوم لقتل داود وبنيه ونساءه ورجاله خاصة الجبابرة مثل يوآب ، لكن داود لم يبغض محبيه كما أدعى يوآب .
فى جسارة طلب يوآب من الملك قائلا : " قم واخرج وطيب قلوب عبيدك " 2 صم 19 : 7 . لقد خشى أن يتركه الكل ويطلبوا ملكا آخر لأنه فضل ابنه العاق عن كل رجاله ، فيحل الشر بداود .
لسنا ننكر رقة مشاعر داود مع الجميع خاصة أبنه أبشالوم ، لكن كان يليق به أن يتخطى العلاقات الشخصية والعائلية من أجل حبه ورعايته للشعب ، حزنه الشديد على ابنه العاق حطم نفسية رجاله ، لأنهم ما كانوا يتوقعون فيه ذلك .
( 2 ) يهوذا يلتقى بداود
صار الموقف مربكا فكل الأسباط تذكر دور داود منذ صباه فى الدفاع عنهم أيام شاول الملك ، وكيف قابل عداوة شاول بالسماحة ، وأيضا خدمته الناجحة كملك . ومع هذا إذ ثار عليه ابنه وانضم إليه كثيرون حزن على موت ابنه العاق .. والآن مات أبشالوم وصاروا بلا ملك ، ولا يعرفون ماذا يفعلون خاصة سبط يهوذا الذى كان يساند أبشالوم فى فتنته وخشوا نقمة داود منهم .
أرسل داود الكاهنين صادوق وأبياثار إلى يهوذا ليسرعوا إلى داود ، يعلنون خضوعهم له . ولكى لا يتحرجوا من الموقف ذكرهم داود أنهم إخوته من عظمه ولحمه كما أرسل إلى عماسا رئيس جيش أبشالوم ليعده بأن يقيمه رئيسا على الجيش عوض يوآب لكى يكسب الشعب الذى تعلق بأبشالوم ، ومن جانب آخر ربما أراد أن يستريح من يوآب لدالذى قتل أبنير وأبشالوم وتحدث بخشونة مع داود ، ولأنه يحمل ذلة على داود بخصوص قتل أوريا الحثى .
بالفعل جاء داود إلى الأردن بينما جاء رجال يهوذا إلى الجلجال ( بين أريحا والأردن ) لملاقاة الملك وحراسته أثناء عبوره الأردن .
كما اهتم داود الملك بيهوذا كسبط وأيضا بعماسا كشخص هكذا يهتم السيد المسيح بكنيسته كجماعة مقدسة عروسه الواحدة دون تجاهل لكل عضو فيها .
بنيان الكنيسة هو لحساب نمو كل عضو فيها ، وبنيان كل عضو إنما لحساب نمو الجماعة ككل ، بلا فضل بين الحياة الكنسية الجماعية والخبرة الشخصية لكل عضو فيها .
( 3 ) شمعى وصيبا يلتقيان بداود
أسرع شمعى وصيبا لمقابلة داود ، الأول سبه عند هروبه من أورشليم ( 2 صم 16 : 5 – 13 ) ، والثانى كذب عليه حينما أدعى أن مفيبوشث يطمع فى الكرسى الملكى ( 2 صم 16 : 1 – 4 ) . خرج الأول معه ألف رجل من بنيامين وجاء الثانى معه بنوه الخمسة عشر وعبيده العشرون ، خاضوا الأردن ليلتقوا بالملك .
رأى أبيشاى أن الوقت مناسب للأنتقام من شمعى ، أما داود فحسب أن الوقت هو وقت فرح وتضميد جراحات واتساع قلب للجميع ، وقت حب وسماحة وعفو !
ما أعجب شخصية داود ، مع كل نجاح أو نصرة لا يطلب سلطة وإن نالها لا يسىء استغلالها ، بل يحول السلطة إلى حب ورعاية . يرى فى الكرسى الملوكى مجالا للجمع والمصالحة والأتحاد لا لإثارة تصديع وانشقاقات ، بعفوه عن شمعى كسب كل سبط بنيامين بل واستراحت قلوب الأسباط الأخرى من أجل هذه الروح السمحة !
( 4 ) مفيبوشث يلتقى بداود
نزل مفيبوشث من بيته فى جبعة بنيامين إلى أورشليم ليلتقى بالملك داود ، حيث لم يعتن برجليه ولا بلحيته منذ ترك داود الكرسى ، فوجد باب الملك مفتوحا أمامه ! لقد عاتبه داود عن عدم خروجه معه ، لكنه ترك له المجال للدفاع دون أخذ حكم مسبق ، وحينما أدرك أن صيبا قد وشى بسيده صفح عن مفيبوشث وحكم بتقسيم الحقول – ربما قصد محاصيل الحقول – بين مفيبوشث وصيبا .
( 5 ) برزلاى يلتقى بداود
أعتذر برزلاى عن الذهاب مع داود الملك إلى أورشليم لكبر سنه ، اكتفى بأن يرسل ابنه كمهام مع الملك ليفعل معه الملك ما أراد بالنسبة لأبيه برزلاى ، وقد أوصى داود به سليمان ( 1 مل 2 : 7 ) . يبدو أنه جعله حاكما فى بيت لحم ( إر 41 : 17 ) ، ويظن البعض أن السيد المسيح ولد فى منزله .
خلال اللقاءات المذكورة فى هذا الأصحاح نرى فى داود رمزا للسيد المسيح الذى أهتم بتوبة الخطاة وعودتهم للحظيرة ، وبالأهتمام بالنفوس المحطمة مثل مفيبوشث .
( 6 ) ثورة الأسباط على يهوذا
أرسل الملك إلى سيط يهوذا الكاهنين صادوق وابياثار ليسرعوا بمقابلة الملك ، أما بقية الأسباط البعيدة فى الغرب فجاءت متأخرة ، وحسبت ذهاب يهوذا قبلهم دون انتظارهم إهانة واستخفافا بهم ، أجابهم سبط يهوذا أنهم لم يفعلوا هذا لمصلحة خاصة بالسبط وإنما لمجرد قربهم منه من جهة الموقع ، إذ قالوا : " هل أكلنا شيئا من الملك ؟! أو وهبنا هبة ؟! " .
الأصحاح العشرون
ثورة شبع بن بكرى
كان لابد للسيف ألا يفارق مملكة داود تأديبا له على قتل أوريا الحثى ، لهذا بلا سبب حقيقى ثار شعب بن بكرى البنيامينى ضده وأثار إسرائيل بسرعة فائقة ليبقى رجال يهوذا وحدهم مع داود ، أعلن الله يده القوية إذ تحقق الأنتصار لداود بطريقة غير متوقعة ودون سفك دم ، سوى قطع رأس شبع نفسه ، هكذا سمح الله لداود بالتجربة للتأديب وهو الذى أوجد المنفذ أيضا .
( 1 ) ثورة شبع بن بكرى
كان شبع بنيامينيا حسب المولد ( 2 صم 20 : 1 ) ، مسكنه فى جبل افرايم ( 2 صم 20 : 21 ) ، وهو وشمعى من سبط شاول ، ربما كان لشبع دور ظاهر أو خفى فى فتنة أبشالوم ضد داود أبيه .
لسبب تافه ضرب شمعى بالبوق ليعود رجال إسرائيل ( 10 أسباط ) إلى بلادهم فى تمرد ضد داود ، لكنهم عوض الرجوع إلى بلادهم عادوا فتجمعوا لإثارة حرب جديدة بقيادة شبع ( 1 مل 12 : 16 ) .
واضح أن ما يحدث ليس بالأمر الطبيعى ، فالشعب يتقلب بسرعة عجيبة ، كانوا قبلا مع داود ، ثم تبعوا أبشالوم ثم رجعوا إلى داود ، وه هم يتركونه ليتبعوا شبع . غالبا ما كان السواد الأعظم لا يدرى السبب للألتفاف حول شخص ما ثم مفارقته .... هناك يد خفية تحرك هذا كله هو " السماح الإلهى " لأجل تأديب داود .
لم يسترح داود من فتنة أبنه أبشالوم حتى قام شبع بذات الدور ليجمع عشرة أسباط حوله ، وكأن الله لم يرد لداود أن يستريح من الضيق حتى تبقى الخطية التى سقط فيها مرة فى فمه .
عاد داود مع رجال يهوذا إلى أورشليم ، وأخذ السرارى العشر وتركهن تحت الحجز لأنه لم يكن لائقا أن يرجعن إليه بعدما دخل عليهن أبشالوم ( 2 صم 16 : 22 ) .
( 2 ) غدر يوآب بعماسا
طلب داود الملك من عماسا ( ابن عم يوآب ) أن يجمع له رجال يهوذا فى ثلاثة أيام ، وهى مدة غير كافية ، لكن الأمر كان خطيرا لا يحتمل أى تأخير ، إذ يريد أن يضرب شبع بن بكرى بسرعة حتى لا تضيع المملكة كلها .
تجاهل داود الملك يوآب وأقام عماسا رئيسا للجيش لأسباب كثيرة :
( أ ) اعتاد داود أن يفى بوعده مهما كانت الظروف ، وقد سبق فأرسل له لكى يرجع إليه فيقيمه رئيسا للجيش ( 2 صم 19 : 13 ) .
( ب ) إن تعيين عماسا رئيس جيش أبشالوم يعنى فى أذهان الشعب أن داود غير منحاز لسبطه ، وأنه لا زال يفتح يديه للجميع لكى يعمل معهم وبهم .
( ج ) الخلافات القديمة بين داود ويوآب التى سبق لنا الحديث عنها ( 2 صم 19 ) .
التقى يوآب بعماسا فى عودته ومعه رجال يهوذا وبنيامين عند الصخرة العظيمة التى فى جبعون ، أمسك يوآب بلحية عماسا بيده اليمنى كمن يقبله – وعن عمد – أغمد سيفه الذى أمسكه بيده اليسرى ليقتل به عماسا ، وتركه يتمرغ بدمه فى وسط الطريق
نادى يوآب وسط الشعب : " من سر بيوآب ومن هو لداود فوراء يوآب " 2 صم 20 : 11 كأنه أراد أن يؤكد لهم أن قتل عماسا بسبب خيانته لداود ، وأنه هو رجل داود الأول والأمين له ، بهذا اجتذب حتى رجال عماسا وراءه هو وأبيشاى لأدراك شبع ، تاركين عماسا بدمه بعد نقله من الطريق العام إلى حقل وطرح ثوب عليه حتى لا يقف أحد بجواره .
تبقى شخصية يوآب محيرة ، فمن جانب كان صادقا فى أمانته لداود ... لكنه كان متسرعا يريد تحقيق سلام داود بتصرفات يراها داود الملك متهورة مثل قتله أبنير وعماسا ... وأيضا قتل أبشالوم متجاهلا تحذيرات الملك !
( 3 ) قتل شبع
عبر الشعب تحت قيادة يوآب وأخيه أبيشاى نحو الشمال حتى بلغ مدينة " آبل بيت معكة " ، أقام الشعب بقيادة يوآب مترسة ( حائطا ترابيا ) يحميهم ، وحاصروا المدينة ، وكان الشعب ينقب مع يوآب ليهدم سور المدينة .
أدرك أهل المدينة بالخطر يحدق بهم ، وكانوا معروفين بالحكمة . نادت امرأة حكيمة : " اسمعوا اسمعوا قولوا ليوآب تقدم إلى ههنا فأكلمك " 2 صم 20 : 16 . تحدثت معه قائلة : " كانوا يتكلمون أولا قائلين : سؤالا يسألون فى آبل وهكذا كانوا انتهوا " 2 صم 20 : 18 . هذا مثل مشهور عن آبل معناه أنها مدينة مشهورة بالحكمة ، يلجأ إليها كثيرون يسألونها المشورة المصيبة المقنعة ، فينالون إجابة قاطعة . كأنها تقول له : لماذا لم تأت إلينا بالتفاوض والتفاهم ونحن أناس مسالمون وحكماء ؟ قالت له : " لماذا تبلع نصيب الرب ؟ " بمعنى إنك تهاجم مدينة هى هبة قدمها الله لأهلها ، وها أنت تخربها [ بحسب الشريعة كان يلزمه أن يقدم السلام ويدخل فى حوار قبل أن يهاجم ( تث 10 : 10 ) ] .
أجابها يوآب : " حاشاى حاشاى أن أبلع وأن أهلك ؛ الأمر ليس كذلك ، لأن رجلا من جبل أفرايم اسمه شبع بن بكرى رفع يده على الملك داود ؛ سلموه وحده فأنصرف عن المدينة " 2 صم 10 : 21 . استطاعت بحكمتها أن تقنع أهل المدينة ، فقطعت رأس شبع وألقتها إلى يوآب الذى ضرب بالبوق لينصرف الجيش عن محاصرة المدينة .
" شبع " يرمز إلى الكبرياء حيث يظن الأنسان أنه فى حالة استغناء ، وهو المرض الذى أصاب أسقف كنيسة لاودكية فوبخه الرب .. رؤ 3 : 17 .
الشعور بالشبع الداخلى وعدم الحاجة إلى الله يحطم كل إمكانياته ليصير هكذا شقيا وبائسا الخ .... هذا ما فعله شبع إذ جمع الأسباط حوله ليثيرها ضد داود ويقيم مملكة مقاومة له . لكن وجدت المرأة الحكيمة التى قطعت رأسه لتلقيها خارج الأسوار فيرجع للمملكة سلامها .
+ + +
الأصحاح الحادى والعشرون
مجاعة بسبب الجبعونيين
أخطأ شاول بمقاتلته الجبعونيين الذين سبق فحلف لهم يشوع بن نون ألا يقتلهم ، وقد جنى الشعب الثمرة فى أيام داود الملك إذ حدث جوع لمدة ثلاث سنوات ، فلما سأل داود الرب كشف له عن السبب ، ولم يكن هناك حل لذلك سوى تسليم سبعة رجال من بنى شاول للجبعونيين ، قاموا بصلبهم .
( 1 ) تأديب بسبب الجبعونيين
حدثت مجاعة بسبب انقطاع المطر لمدة ثلاث سنوات ، فطلب داود وجه الرب ، كانت الأجابة : " هو لأجل شاول ولأجل بيت الدماء لأنه قتل الجبعونيين " 2 صم 21 : 1 . قتلهم عن غيرة وبجهالة لكى يستولى سبطه على مالهم دون مراعاة لقسم يشوع لهم ( يش 9 ) .
هذه المجاعة غالبا ما حدثت بعد أحداث الأصحاح التاسع ، قبل فتنة أبشالوم ( 2 صم 15 ) . ربما لهذا السبب عير شمعى داود قائلا له : " يا رجل الدماء " 2 صم 16 : 7 ، مشيرا إلى الرجال السبعة من بنى شاول الذين سلمهم داود للجبعونيين ليصلبوهم .
لم يذكر الكتاب المقدس من قبل عن قتل الجبعونيين فى أيام شاول ، لأن الكتاب لم يهدف إلى تسجيل تاريخ مفصل للملوك وإنما تقديم ما يمس تعليمنا وخلاصنا .
حقا لقد أدرك داود النبى والملك أن وراء المجاعة سرا ، لهذا سأل الرب عن سببها ، لكنه تأخر فى السؤال ، لو أنه سأل فى بداية المجاعة ، لعرف السبب وانتهت المجاعة سريعا ، للأسف لا نلجأ سريعا للرب بل ننتظر حتى تفرغ كل حيلنا وحكمتنا وتبيد كل قواتنا ولا نجد حلا ، حينئذ فقط نلجأ إلى الله أبينا المهتم بنا ، ما أقسى قلوبنا ، فإننا ننسى الله فى أفراحنا بل وحتى فى ضيقاتنا حتى تخور قوتنا .
( 2 ) داود يسترضى الجبعونيين
شعر داود بالحاجة إلى استرضاء الجبعونيين الأمميين حتى يستجيب الرب له فقال : " ماذا أفعل لكم ؟ وبماذا أكفر فتباركوا نصيب الرب ؟ " 2 صم 21 : 3 ...... يطلب داود النبى منهم أن يباركوا شعب الرب !!
لقد طلب الجبعونيين تأديب بيت شاول فقط ، لأن القاتل هو شاول وبيته ، فمن بيته يقدم سبعة رجال ليعلقوا على الخشبة لعنة !
يلاحظ فى هذه الطلبة أنهم لم يريدوا وضع داود الملك فى حرج :
فلم يحددوا الرجال ، ليعطوا الفرصة لداود ألا يسلم مفيبوشث بن يوناثان من أجل أبيه والقسم الذى حلف به ، كما أنهم يعفون داود من قيامه بالصلب حتى لا يتحرج لأنهم من شعبه وهم أمميون . وأن يتم الصلب فى جبعة شاول ، فى مدينة مختار الرب ، لكى يدرك الشعب أن ما حدث ليس عن نقمة ضد الشعب كله بل ضد شاول ..
( 3 ) صلب أبناء شاول
سلم داود الملك سبعة رجال من بنى شاول للجبعونيين لصلبهم لا كذبائح بل لتحقيق العدالة . هؤلاء السبعة هم أرمونى ومفيبوشث لشاول من إحدى سراريه تدعى رصفة ، وخمسة رجال أبناء ميكال التى لم تنجب ولدا من داود ( 2 صم 16 : 23 ) بل من عدريئيل بن برزلاى المحولى ؛ وهناك رأى أن هؤلاء الأولاد هم لأختها الميتة ميراب وقد تبنتهم هى .
جاءت رصفة سرية شاول إلى ذلك الموضع وجلست على المسوح على الصخر ، غالبا ما نصبت خيمة مع خدمها هناك ، وكانت تحرس الأجساد المصلوبة حتى لا تدع طيور السماء تنزل عليها ولا حيوانات الحقل تقترب إليها .
تأثر داود الملك جدا بما فعلته هذه الأم العجوز ، ولكى يظهر أنه لا يحمل حقدا أو كراهية ضد بيت شاول أخذ عظام شاول ويوناثان التى دفنت خفية تحت شجرة ( 1 صم 31 : 12 ، 13 ) فى يابيش جلعاد حتى لا ينكل بها الأعداء ، وقام بدفنها فى قبر قيس فى أرض بنيامين فى صيلع ..
( 4 ) حرب مع الفلسطينيين
انحدر داود من جبال يهوذا إلى سهل الفلسطينيين ، حيث دارت الحرب وكاد أن يقتل داود إذ كان قد أعيا – ولم يترك المعركة – لو لم ينقذه أبيشاى ، حينئذ حلف رجال داود ألا يخرج معهم بعد إلى الحرب ، فإنه إن قتل يطفىء سراج الشعب كله .
ليتنا نحفظ رعاتنا بالصلاة من أجلهم فإنهم إن سقطوا تهلك الرعية معهم .
تكررت الحرب أيضا فى جوب حيث قتل ألحانان جليات الجتى ، وهو أخو جليات الذى قتله داود ( 1 أى 20 : 5 ) .
+ + +
الأصحاح الثانى والعشرون
نشيـــــد النصـــــرة
كنا نتوقع عرض النشيد المطابق تقريبا للمزمور الثامن عشر فى نهاية الحديث عن نصرات داود النبى ، وكنا نتوقع أن يقدم لنا هنا المزمور الحادى والخمسون الخاص بالتوبة والأعتراف .. لكن الوحى الإلهى أراد أن يؤكد أن حياة التسبيح والشعور بالنصرة كانت ممتدة حتى النفس الأخير بالنسبة لداود .
لقد سقط لكنه بالتوبة والأعتراف مع التسليم بقى ينشد مزمور النصرة .
فى تفسير القديس أغسطينوس للمزمور 18 الذى هو بعينه نشيد النصرة هنا يقول إن هذا المزمور يخص السيد المسيح نفسه الذى يتحدث بأسمه واسم الكنيسة بكونه رأسها وهى جسده ، ما يتمتع به من نصرة إنما لحسابها .
نستطيع الآن أن نقول إنه نشيد الكنيسة المنتصرة بالمسيح قائد موكبها الغالب حيث ترى فى الله سر خلاصها ونورها وقوتها ..... به تجتذب الأمم إلى الأيمان ليختبروا بهجة الخلاص فيها .
( 1 ) مناسبة النشيد
يبدو أن داود النبى كان يكرر هذا النشيد مع غيره من أناشيد أو مزامير النصرة فى كل غلبة ، إذ قيل : " وكلم داود الرب بكلام هذا النشيد فى اليوم الذى أنقذه فيه الرب من أيدى كل أعدائه ومن يد شاول فقال ....... " 2 صم 22 : 1 ، 2
( 2 ) الرب صخرتى
" الرب صخرتى وحصنى ومنقذى
إله صخرتى به أحتمى
ترسى وقرن خلاصى
ملجأى ومناصى ، مخلصى من الظلم تخلصنى
أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائى " 2 صم 22 : 2 – 4
( 3 ) أمواج الموت اكتنفتنى
الله – فى محبته لداود – لم ينزع عنه مقاومة الأعداء له ، وإنما على العكس يسمح له فتحل به الضيقات حتى يكاد الموت يحاصره ، فيتجلى الله واهب الحياة والقيامة فيه ، لهذا يصرخ قائلا :
" لأن أمواج الموت اكتنفتنى ،
سيول الهلاك أفزعتنى ،
جبال الهاوية أحاطت بى ،
شرك الموت أصابتنى ،
فى ضيقى دعوت الرب وإلى إلهى صرخت فسمع من هيكله صوتى وصراخى دخل أذنيه " 2 صم 22 : 5 – 7
( 4 ) طأطأ السموات ونزل
خلال الضيق يتجلى الله بحبه فى حياة الأنسان ليجده الأب المحب والمخلص ، خلال مقاومة الأعداء شاهد داود بروح النبوة ما حل بالأنسان من هلاك بحسد إبليس وكيف نزل الله الكلمة ذاته من السماء ليعلن حبه النارى نحو البشر ، الأمر الذى أدهش المسكونة كلها : السماء والأرض . يقول : " فأرتجت الأرض وارتعشت . أسس السموات ارتعدت وارتجت لأنه غضب " 2 صم 22 : 8 ، لقد غضب لما فعلته الخطية بحياة الأنسان وبطبيعته وذلك بحسد إبليس ، فارتجت الأرض وارتعدت السموات أمام هذا الحب الفائق ، إذ " طأطأ السموات ونزل " 2 صم 22 : 10 .
( 5 ) تحقيق الخلاص
يعلن داود النبى فى نشيد النصرة غاية نزول الرب من السماء أو تجسده ، ألا وهى خلاص الأنسان من الضيق والأرتفاع به إلى رحب السماء ، إلى حضن الآب : " أرسل من العلى فأخذنى ، نشلنى من مياة كثيرة . أنقذنى من عدوى القوى ...... أخرجنى إلى الرحب " 2 صم 22 : 17 – 20
( 6 ) السلوك بالكمال
لا نعجب أن نرى داود الذى عرف باتضاعه الشديد حتى أمام شاول مطارده ، فيدعو نفسه برغوثا واحدا وكلبا ميتا ( 1 صم 24 : 41 ) ، نراه هنا يتحدث كبار ، طاهر اليدين ، حافظ طريق الرب ، كامل لدى الرب ...
من هو هذا البار ، الطاهر اليدين ، الحافظ طرق الرب ، الذى لم يحد عن الأحكام الإلهية والفرائض ، الطاهر أمام الآب إلا الأبن الذى بلا خطية وحده .... فداود يتحدث بروح النبوة على لسان المخلص ! الآن صار لكنيسته – بكونها جسده المقدس – أن تنطق بذات كلماته لأنها مخفية فيه .
( 7 ) كما نفعل يفعل بنا
..... الآن ندخل فى علاقة جديدة مع الآب ، قائلين له : " مع الرحيم تكون رحيما ، مع الرجل الكامل تكون كاملا ، مع الطاهر تكون طاهرا ومع الأعوج تكون ملتويا ، وتخلص الشعب البائس وعيناك على المرتفعين فتضعهم " 2 صم 22 : 26 – 28
( 8 ) الله سراج النفس
" لأنك أنت سراجى يارب ، والرب يضيىء ظلمتى " 2 صم 22 : 29 .
( 9 ) الله قوة النفس وغلبتها
" لأنى بك اقتحمت جيشا ،
بإلهى تسورت سورا ..
ترس هو لجميع المحتمين به ..
الذى يجعل رجلى كالأيل وعلى مرتفعاتى يقيمنى .
الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس ...
توسع خطواتى تحتى فلا تتقلقل كعباى .
ألحق أعدائى فأهلكهم .. " 2 صم 24 : 30 – 39
( 10 ) دعوة الأمم للخلاص
" وتنقذنى من مخاصمات شعبى وتحفظنى رأسا للأمم .
شعب لم أعرفه يتعبد لى
بنو الغرباء يتذللون لى .
من سماع الأذن يسمعون لى ...
لذلك أحمدك يارب فى الأمم ولأسمك أرنم " 2 صم 22 : 44 – 50
يختم المرتل نشيد النصرة بدعوة الأمم للتمتع بالخلاص ، هذا ما أفرح قلب داود ، إن قتاله ضد إبليس لم يخلصه وحده وإنما خلص الأمم منه ليأتى إلى المسيا شعب لم يكن يعرفه .
+ + +
الأصحاح الثالث والعشرون
كلمات داود الأخيرة
كان يمكن لداود النبى أن يقدم لنا الكثير فى كلماته الأخيرة فى كل جوانب الحياة ، عاش تحت ظروف كثيرة : اختبر الغنى وذاق الفقر . تمتع بالمجد ولحقه الهوان ، أحبه الكثيرون وحقد عليه البعض فصار طريدا ، سلك الحياة البارة واختبر السقوط فالتوبة والتأدب . عاش كنبى وملك وقاض ورجل حرب وصاحب مزامير وكزوج وأب وكراع لغنمات قليلة كما لمملكة ممتدة .. لكنه اختصر الحديث الختامى جدا ، وذيله بأسماء أبطاله الجبابرة وأعمالهم ( 2 صم 23 : 8 – 39 ) ، ولم يكن هذا بلا سبب ، وإنما أراد الكتاب تأكيد أن من أهم سمات داود النبى هو تشغيله للطاقات التى بين يديه . هذا هو دور النبى وكل قائد روحى حقيقى ، كما هو دور الأب والأم ، حتى الشاب والطفل ، يلزم أن يتدرب الكل على عدم التمركز بل على تشغيل الغير فى غير انعزالية فكر أو انفرادية وأنانية !
( 1 ) داود المرنم الحلو
" فهذه هى كلمات داود الأخيرة ، وحى داود بن يسى ووحى الرجل القائم فى العلا مسيح إله يعقوب ومرنم إسرائيل الحلو " 2 صم 23 : 1
إنه بن يسى ، لن ينسى أصله ومركزه ، أصغر الأبناء ، عاش راعيا لغنم أبيه مجهولا من الناس وغير معتبر حتى فى اسرته ( 1 صم 16 : 10 ، 11 ) . كان مجهولا من الناس لكنه معروف لدى الله : " القائم فى العلا " ، له رسالته وعمله من قبل الرب ، إنه مسيح إله يعقوب ، فقد قال الرب لصموئيل : " قم امسحه لأن هذا هو " 1 صم 16 : 12 دعى " مرنم إسرائيل الحلو " فقد كان حلوا فى مزاميره ، لأنها تسبيح وشكر وصلاة مقدمة بوحى الروح لتعيشها الكنيسة خلال العهدين القديم والجديد وتترنم بها فى صلواتها . جاءت حياة داود فى جملتها قيثارة روحية لعب على أوتارها روح الرب فقدم لنا فيض تسبيح يصلح أن يكون رصيدا مفرحا للمؤمنين ، يبعث فيهم روح البهجة فى الرب .
( 2 ) سلطة خلال مخافة الله
إن كان داود قد تمجد ونال سلطانا ، ذلك من خلال مخافته للرب ، الذى وهبه استنارة ليضىء كشمس مشرقة فى الصباح بعد فترة ظلام ، وكتربة بدأت تنبت عشبا رواه المطر الإلهى ، ما فيه من قوة وعظمة وثمار إنما هو عطية شمس البر ( السيد المسيح ) والمطر الإلهى ( الروح القدس ) التى تمتع بهما خلال مخافة الله ، إذ يقول : " إذا تسلط على الناس بار يتسلط بخوف الله ، وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس ، كعشب من الأرض فى صباح صحو مضىء غب المطر " 2 صم 23 : 4 .
بمعنى آخر لن يتمتع مؤمن بإشراق شمس البر فيه ولا بثمار الروح ( المطر ) ما لم يتمتع بمخافة الله .
( 3 ) دخول فى عهد أبدى
يقول داود فى كلماته الأخيرة : " أليس هكذا بيتى عند الله لأنه وضع لى عهدا أبديا متقنا فى كل شىء ومحفوظا ؟! أفلا يثبت كل خلاصى وكل مسرتى ؟! " 2 صم 23 : 5 . يترجمها البعض : " مع أنه ليس هكذا بيتى عند الله وضع لى عهدا أبديا ... " إذ شعر داود النبى أنه لا يستحق التمتع بهذا العهد الأبدى مع الله فإن بيته – والديه وإخوته وربما قصد أولاده بالذات – لا يسلك بمخافة الله . العهد الإلهى هو هبة إلهية مجانية !
( 4 ) هلاك بنى بليعال
" ولكن بنى بليعال جميعهم كشوك مطروح لأنهم لا يؤخذون بيد ، والرجل الذى يمسهم يتسلح بحديد وعصا رمح ، فيحترقون بالنار فى مكانهم " 2 صم 23 : 6 ، 7 .
لقد خشى داود النبى أن يصير أحد من نسله أو ممن يخلفه على الكرسى ابنا لبليعال ، فإنه لن يشفع فيه نسبه لداود ولا مركزه كملك على شعب الله ، إنما يطرح خارجا كالشوك لا يصلح لشىء بل يحرق بالنار للخلاص منه ، إنهم بعدل إلهى يهلكون .
يرى القديس جيروم أن أشرار الأرض ( بنى بليعال ) يقتلعون فلا يكون لهم موضع فى الكنيسة مدينة الرب ، فيقول : [ مدينة الرب هى كنيسة القديسين ، مجمع الأبرار ]
( 5 ) أبطال داود الجبابرة
إن كان داود فى كثير من الأحداث يشير إلى السيد المسيح ، فإن أبطاله يشيرون أيضا إلى رجال الإيمان المنسوبين للسيد المسيح . وقد وردت أسماؤهم ( تختلف من وقت إلى آخر ) ، قال السيد المسيح لتلاميذه :
" افرحوا بالحرى أن أسماءكم كتبت فى السموات " لو 10 : 20 .
من يلتصق بربنا يسوع كجندى صالح ويجاهد قانونيا يتمتع بهذه الكرامة : تسجيل اسمه فى سفر الحياة .
الأصحاح الرابع والعشرون
الأحصاء والوباء
فى الأصحاحات 11 – 21 تحدث الكاتب عن سقوط داود بسبب تهاونه مع الخطية لمدة لحظات فبقى سنوات طويلة يجنى ثمارها المرة وإن كانت هذه المرارة تحولت إلى مجده وبنيان الكثيرين خلال توبته المستمرة . الآن يختتم السفر بخطأ خطير ارتكبه داود الملك وهو إحصاء الشعب لمعرفة عدد رجال الحرب دون استشارة الرب ، فحل على الشعب تأديب قاس هز أعماق نفس داود ، غير أنه عرف كيف يغتصب مراحم الله .
( 1 ) إحصاء الشعب
غضب الرب على داود ليس لأجل قيامه بالأحصاء فى حد ذاته ، فقد سبق أن أحصاهم موسى ثلاث مرات أو أكثر ( خر 38 : 26 ؛ عد 1 : 2 ، 3 ؛ عد 26 ) ، إلهنا إله نظام لا تشويش . إنما غضب الرب للأسباب التالية أو بعضها :
( أ ) لم يستشر الرب كعادته
( ب ) بدأ داود يعتمد على عدد رجاله وإمكانياته مع أنه لو تطلع إلى حياته كلها منذ صبوته لوجد نفسه قد انطلق من رعاية الغنيمات القليلة التى لأبيه إلى استلام المملكة كلها بقوة إلهية ، وليس بذراعه أو ذراع بشر .
( جـ ) ربما قصد داود بهذا الإحصاء إثارة حروب جديدة لتوسيع مملكته وازدياد مجده .
( د ) لعله أراد تسخير الشعب بوضع جزية مالية ثقيلة لحسابه الخاص أو حساب الخزانة وليس لحساب خيمة الأجتماع .
( هـ ) يبدو أن الدافع الرئيسى هو الأعلان عن عظمته وقدراته وإمكانياته ، كما كان يفعل ملوك الأمم حوله ليرعب الأمم المجاورة ، وقد شاركه الشعب هذه الروح لهذا كانت الخطية على الجميع .
( و ) كان الشعب محتاجا إلى تأديب ، فالله يسمح أحيانا بخطأ الراعى لتأديب الرعية ، لأنها مستحقة للتأديب .
لقد أدرك يوآب خطأ داود فحاول تنبيهه إلى ذلك لكن داود أصر .
( 2 ) إدراك داود للخطأ
لعل من أجمل سمات داود النبى والملك أنه متى أدرك خطأه فلا يغطى عليه ، ولا يقدم لله مبررات ، إنما فى بساطة قلب مع صراحة وفى رجاء يعترف حالا دون أى تردد : " فقال داود للرب : لقد أخطأت جدا فى ما فعلت ، والآن يارب أزل إثم عبدك لأنى انحمقت جدا " 2 صم 24 : 10 . هذا هو القلب النقى الذى لا يحتمل أى غبار ، إنما فى الحال يصرخ معترفا بخطيته .
( 3 ) جاد يستعرض التأديبات الإلهية
دفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك ( 2 صم 24 : 9 ) ، وعوض أن يفكر داود فى الرقم وغايته من التعرف عليه إذا بقلبه يضربه فى داخله ( 2 صم 24 : 10 ) ، وبقى الليل كله فى مرارة يترقب ثمر الخطأ الذى ارتكبه .
فى الصباح جاءه جاد النبى يعرض عليه حق إختيار العصا التى يضرب بها من قبل الرب للتأديب : [ سبع سنوات جوع ، هروب ثلاثة شهور أمام أعدائه وهم يتبعونه ، ثلاثة أيام وباء فى أرضه ] .
عندما ترك الرب لداود النبى أمر اختيار التأديب الذى يسقط تحته ضاقت نفسه ، ولكنه قال : " قد ضاق بى الأمر جدا ، فلنسقط فى يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط فى يد إنسان " 2 صم 24 : 14 . فجعل الرب وباء فى إسرائيل من الصباح إلى المساء ، فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع 70000 رجل . بسط الملاك يده ليهلك أورشليم ، لكن الرب ندم وقال للملاك : " كفى الآن رد يدك " .
يرى البعض أن الملاك كان على ذات جبل المريا الذى قدم فيه إبراهيم إسحق ذبيحة ... وكأن توقف الهلاك كان من خلال ذبيحة الأبن الحبيب !
( 4 ) حلول الوباء
وسط التأديب القاسى المر كشف الكتاب المقدس عن حب داود الفائق لشعبه ، فإنه إذ رأى شعبه تحت الضيق صرخ طالبا أن تحل الضيقة به وببيت أبيه لا بالشعب . إنه مستعد كسيده ( رب المجد يسوع ) أن يتقدم الرعية ليحتمل المخاطر عنهم ، لا أن يختبىء فى وسطهم طالبا عنايتهم به .
( 5 ) إرسال جاد لداود
سمع الله لضرخات داود المملوءة حبا تجاه شعب الله واستجاب له ، فقد ارسل إليه جاد النبى ليقيم مذبحا فى الموضع الذى ظهر له فيه الملاك ، فى بيدر أرونة اليبوسى ، مؤكدا له الآتى :
أنه قد تم التصالح بين الله وداود ، لأن إقامة مذبح وتقديم ذبيحة وقبولها من جانب الله يعنى تحقيق المصالحة ، وأن المصالحة تتم خلال الذبيحة ، رمز ذبيحة المسيح الكفارية .
رأى أرونة وهو رجل أجنبى يبوسى الملاك ، ثم عاد فرأى الملك قادما فارتبك جدا وتحير ، لذا سجد أمام داود الملك على وجهه إلى الأرض ، وسأله عن سر مجيئه . طلب منه أن يشترى منه البيدر ليقيم المذبح فيه فتكف الضربة عن الشعب . أراد أرونة أن يقدم البيدر مجانا لبناء المذبح وبقره محرقات ونوارجه وأدوات البقر حطبا للمحرقات ، لكن داود رفض أن يقدم تقدمات مجانية للرب وأصر أن يدفع الثمن 50 شاقلا من الفضة .
على ذات الموضع أقيم فيما بعد هيكل سليمان .
كان أرونة أمميا ، لكنه تمتع برؤية الملاك ، اتسم بالأتضاع والحب مع البذل والعطاء ، لذا أقيم الهيكل فى أرضه .... ليت إنساننا الداخلى يكون كأرونة فيقيم الرب هيكله فينا .
================================================== ========
تم في 19-9-2006
Hunter: الأخ
الله محبة