الصوم زمن توبـة
يلفت المؤمنين العارفين أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة خصّصت آحادًا أربعة، لتعدّهم لاستقبال الصوم الأربعيني المقدّس. وإذا جمعنا فترة هذه التهيئة مع مدّة الصوم والأسبوع العظيم المقدّس (من دون أن نذكر الأصوام الأخرى)، نكون قد قضينا نحو ربع السنة بانتظاره وبممارسته. وهذا، في الشكل، يدلّنا على أنّ الكنيسة قد رتّبت درب الوصول إلى الفصحِ العظيم غايةِ الصوم، وغايةِ حياتنا كلّها، بإعلاء محبّة طبيعتها النسكيّة.
أوّل ما يعرضه الصوم علينا، في صلواته الخاصّة، هو واجب الانقطاع عن أكل الزفرين (اللحم ومنتوجه) في أيّامه طرًّا. كتاب التريودي، الذي يدعم حياتنا في هذه الفترة النسكيّة، يقدّم لنا تعليم الربّ المتعلّق بهذا الصوم، ويحضّنا، في آنٍ، على أن نتشدّد بأبرار التاريخ الذين صاموا إرضاء له وحده (أنظر مثلاً: أسبوع مرفع الجبن، قانون سحر يوم السبت). وهذه خصوصيّة من خصائص كنيستنا المربّية التي تريدنا أن نثق بأنّ ما يطلبه الربّ منّا يمكننا تنفيذه. ودليلها المبيّن أنّ ثمّة من نفّذه قَبْلَنا، وحيا بموجبه. هذا الأمر السامي ترافقه أمور لا تقلّ سموًّا عنه. وأهمّها الفضائل التي تنتظر الكنيسة أن يتلألأ المؤمنون بها في زمن الصوم الذي يسمّيه كتاب التريودي "أمّ الفضائل" (الأسبوع الثالث، سحر الثلاثاء، الأودية الثامنة)، و"أبهجها" (الأسبوع الأوّل، كاثمسا سحر الخميس). فالصوم، فريضةً، هدفه أن نقبل من الله ما يغنينا. والغنى، الغنى كلّه، هو في محبّة الفضائل التي لا يكمل التزام من دونها.
من أهمّ الفضائل، التي يلحّ الصوم عليها، التوبةُ إلى الله. والتوبة، تاريخيًّا، سبب أساس من أسباب ترتيبه. فالكنيسة، التي آلمها (ويؤلمها) سقوط بعض أعضائها، جعلت الصوم لهم سبيلَ عودةٍ وتعبيرًا صارخًا عن أنّ هذه العودة ليست شأنًا لفظيًّا فحسب، بل إنّما تخصّ الحياة كلّها. وهذا تبيّنه إحدى صلوات التريودي المعبّرة بوضعها على لسان المؤمن الصائم: "أيّها المسيح، أتوسّل إليك أن تحيي نفسي المائتة بثمر المعصية بصوم حقيقيّ وتوبة، بما أنّك مترأّف، وهبني السلوك، دائمًا، في مناهج وصاياك الشريفة باستقامة حسنًا" (الأسبوع الثاني، كاثمسا سحر يوم الإثنين).
أن يتوب المؤمن يعني أن يضع حياته بين يدي الله المصلحتين، ويسلك "في مناهج وصاياه باستقامة" دائمًا. وهذا أمر يدلّ، بواقعيّة، على أنّ التوبة حياة مع الله. حياة ليست لها نهاية في الأرض. حياة ترجو أن يرتضي الله استقبالنا في يومه، ليقول رأيه فينا. كلّ حياتنا انتظار لهذا الرأي.
التوبة وعي أنّنا نسير بالله إليه مخلّصًا وديّانًا. وإذا راجعنا مثل "الابن الشاطر" (لوقا11:15-32)، الذي يسيطر ذكره على صلوات الصوم جملةً، لا نشكّ في أنّ التوبة تعني الذين ابتعدوا عن الله (الابن الأصغر)، ليصحّحوا حياتهم بتنازلهم عن كلّ فعل غريب استحوذ بمجامع قلوبهم، وتعني، في الوقت عينه، الذين لم ينفصلوا عنه (الابن الأكبر).
وفي قراءة هذا المثل، لا يجوز بنا أن نكتفي برأي بعض المفسّرين الذين اعتبروا أنّ الربّ أراد، به، أن يردّ، حصرًا، على الكتبة والفرّيسيّين الذين يمقتون الخطأة، ويرفضون قبولهم في الجماعة. فهذا، في الواقع، بعضٌ من هدفه. وأمّا هدفه الكامل، فيكمن في حثّنا نحن على أن نسعى، باستمرار، إلى أن نمقت الخطيئةَ فينا والاستعلاءَ على الخطأة في آن واحد. أي أن نصالح الله والذين صالحهم هو بموت ابنه وقيامته. وهذا يلزمنا أن نردّد قول الابن الأصغر: "أقوم، وأمضي إلى أبي، وأقول له: أخطأت إلى السماء وأمامك..."، بعد أن نكون قد رجعنا إلى أنفسنا، وردّدنا معه أيضًا: "كم لأبي من أجراء يفضل عنهم الخبز، وأنا أهلك جوعًا". فما يجب أن يثير فينا الرجوع إلى الله، أي مصالحته، هو "الجوع إلى الله" (والعبارة للمثلّث الرحمة الأب ألكسندر شميمن)، أي تذكّر كرمه الذي أهملناه بتفضيلنا أشواقنا الخاطئة عليه. تذكّر جود الآب أوّلاً، تذكّر فضله وحبّه، هو قاعدة الرجوع إلى الذات فإلى الله. وهذا يعني أنّ التوبة ليست شأنًا بشريًّا أوّلاً. بل إنّ حقّها في وعينا حنان الله الذي يظهره المثل في كلّ ما ذكرناه، ولا سيّما في ذكره رؤية الأب ابنَهُ العائد من بعيد، وإسراعه نحوه، وإلقاءه بنفسه على عنقه وتقبيله.
هذا يدفعنا إلى التأكيد أنّ التوبة، التي هي رجوع إلى الله، هي، في آنٍ، رجوع إلى الإخوة، ولا سيّما الذين فصلتنا خطايانا عنهم. فلا يليق بمؤمن واعٍ أن يدخل الصوم، وقلبه حاقد على زوج، أو أخ، أو صديق، أو زميل، أو جار. إذ ما من مصالحة مع الله لا تمرّ بقبول مصالحة الآخرين. فالصوم، الذي نترك فيه بعض أطعمة حلال، إنّما نتركه لنقتات بـ"المحبّة" (التريودي، الأسبوع الخامس، غروب يوم الثلاثاء). وإذ رجعنا إلى مثل الابن الشاطر عينه، لا يخفى علينا أنّ الابن الأكبر، الذي لازم أباه، لمّا رجع من الحقل، وعرف بالاحتفال الذي أقامه أبوه ابتهاجًا بعودة أخيه، "غضب، ولم يرد أن يدخل (البيت الأبويّ)". فخرج أبوه، وطلب منه أن يقبل أخاه. خروج الأب دليل صارخ على أنّ دخول بيته يتطلّب مصالحة الإخوة. صحيح أنّ الربّ، في المثل، لا يذكر إن كان الابن الأكبر قد قَبِلَ طلب أبيه. لكنّ هذا يبقى دعوة مفتوحة لنا، لندرك نحن أنّ دخولنا بيت أبينا، في الصوم، يفترض أن نتخلّق بأخلاقه، ونقبل إخوتنا، ونعاملهم كما يعاملنا هو.
الصوم زمن توبة، أي زمن قبول لله بارتضائنا حبّه وتنازلنا عن كلّ ما لا يليق بانتسابنا إليه، وزمن قبول للإخوة. هذا هو الهدف الأسمى لهذا الموسم الحلو في مدّة التهيئة له وممارسته، لنستحقّ أن ننشد "الصفح لمبغضينا عن كلّ شيء في القيامة"، في خدمة يوم الفصح، و"نأكل، ونفرح" (لوقا 23:15
يلفت المؤمنين العارفين أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة خصّصت آحادًا أربعة، لتعدّهم لاستقبال الصوم الأربعيني المقدّس. وإذا جمعنا فترة هذه التهيئة مع مدّة الصوم والأسبوع العظيم المقدّس (من دون أن نذكر الأصوام الأخرى)، نكون قد قضينا نحو ربع السنة بانتظاره وبممارسته. وهذا، في الشكل، يدلّنا على أنّ الكنيسة قد رتّبت درب الوصول إلى الفصحِ العظيم غايةِ الصوم، وغايةِ حياتنا كلّها، بإعلاء محبّة طبيعتها النسكيّة.
أوّل ما يعرضه الصوم علينا، في صلواته الخاصّة، هو واجب الانقطاع عن أكل الزفرين (اللحم ومنتوجه) في أيّامه طرًّا. كتاب التريودي، الذي يدعم حياتنا في هذه الفترة النسكيّة، يقدّم لنا تعليم الربّ المتعلّق بهذا الصوم، ويحضّنا، في آنٍ، على أن نتشدّد بأبرار التاريخ الذين صاموا إرضاء له وحده (أنظر مثلاً: أسبوع مرفع الجبن، قانون سحر يوم السبت). وهذه خصوصيّة من خصائص كنيستنا المربّية التي تريدنا أن نثق بأنّ ما يطلبه الربّ منّا يمكننا تنفيذه. ودليلها المبيّن أنّ ثمّة من نفّذه قَبْلَنا، وحيا بموجبه. هذا الأمر السامي ترافقه أمور لا تقلّ سموًّا عنه. وأهمّها الفضائل التي تنتظر الكنيسة أن يتلألأ المؤمنون بها في زمن الصوم الذي يسمّيه كتاب التريودي "أمّ الفضائل" (الأسبوع الثالث، سحر الثلاثاء، الأودية الثامنة)، و"أبهجها" (الأسبوع الأوّل، كاثمسا سحر الخميس). فالصوم، فريضةً، هدفه أن نقبل من الله ما يغنينا. والغنى، الغنى كلّه، هو في محبّة الفضائل التي لا يكمل التزام من دونها.
من أهمّ الفضائل، التي يلحّ الصوم عليها، التوبةُ إلى الله. والتوبة، تاريخيًّا، سبب أساس من أسباب ترتيبه. فالكنيسة، التي آلمها (ويؤلمها) سقوط بعض أعضائها، جعلت الصوم لهم سبيلَ عودةٍ وتعبيرًا صارخًا عن أنّ هذه العودة ليست شأنًا لفظيًّا فحسب، بل إنّما تخصّ الحياة كلّها. وهذا تبيّنه إحدى صلوات التريودي المعبّرة بوضعها على لسان المؤمن الصائم: "أيّها المسيح، أتوسّل إليك أن تحيي نفسي المائتة بثمر المعصية بصوم حقيقيّ وتوبة، بما أنّك مترأّف، وهبني السلوك، دائمًا، في مناهج وصاياك الشريفة باستقامة حسنًا" (الأسبوع الثاني، كاثمسا سحر يوم الإثنين).
أن يتوب المؤمن يعني أن يضع حياته بين يدي الله المصلحتين، ويسلك "في مناهج وصاياه باستقامة" دائمًا. وهذا أمر يدلّ، بواقعيّة، على أنّ التوبة حياة مع الله. حياة ليست لها نهاية في الأرض. حياة ترجو أن يرتضي الله استقبالنا في يومه، ليقول رأيه فينا. كلّ حياتنا انتظار لهذا الرأي.
التوبة وعي أنّنا نسير بالله إليه مخلّصًا وديّانًا. وإذا راجعنا مثل "الابن الشاطر" (لوقا11:15-32)، الذي يسيطر ذكره على صلوات الصوم جملةً، لا نشكّ في أنّ التوبة تعني الذين ابتعدوا عن الله (الابن الأصغر)، ليصحّحوا حياتهم بتنازلهم عن كلّ فعل غريب استحوذ بمجامع قلوبهم، وتعني، في الوقت عينه، الذين لم ينفصلوا عنه (الابن الأكبر).
وفي قراءة هذا المثل، لا يجوز بنا أن نكتفي برأي بعض المفسّرين الذين اعتبروا أنّ الربّ أراد، به، أن يردّ، حصرًا، على الكتبة والفرّيسيّين الذين يمقتون الخطأة، ويرفضون قبولهم في الجماعة. فهذا، في الواقع، بعضٌ من هدفه. وأمّا هدفه الكامل، فيكمن في حثّنا نحن على أن نسعى، باستمرار، إلى أن نمقت الخطيئةَ فينا والاستعلاءَ على الخطأة في آن واحد. أي أن نصالح الله والذين صالحهم هو بموت ابنه وقيامته. وهذا يلزمنا أن نردّد قول الابن الأصغر: "أقوم، وأمضي إلى أبي، وأقول له: أخطأت إلى السماء وأمامك..."، بعد أن نكون قد رجعنا إلى أنفسنا، وردّدنا معه أيضًا: "كم لأبي من أجراء يفضل عنهم الخبز، وأنا أهلك جوعًا". فما يجب أن يثير فينا الرجوع إلى الله، أي مصالحته، هو "الجوع إلى الله" (والعبارة للمثلّث الرحمة الأب ألكسندر شميمن)، أي تذكّر كرمه الذي أهملناه بتفضيلنا أشواقنا الخاطئة عليه. تذكّر جود الآب أوّلاً، تذكّر فضله وحبّه، هو قاعدة الرجوع إلى الذات فإلى الله. وهذا يعني أنّ التوبة ليست شأنًا بشريًّا أوّلاً. بل إنّ حقّها في وعينا حنان الله الذي يظهره المثل في كلّ ما ذكرناه، ولا سيّما في ذكره رؤية الأب ابنَهُ العائد من بعيد، وإسراعه نحوه، وإلقاءه بنفسه على عنقه وتقبيله.
هذا يدفعنا إلى التأكيد أنّ التوبة، التي هي رجوع إلى الله، هي، في آنٍ، رجوع إلى الإخوة، ولا سيّما الذين فصلتنا خطايانا عنهم. فلا يليق بمؤمن واعٍ أن يدخل الصوم، وقلبه حاقد على زوج، أو أخ، أو صديق، أو زميل، أو جار. إذ ما من مصالحة مع الله لا تمرّ بقبول مصالحة الآخرين. فالصوم، الذي نترك فيه بعض أطعمة حلال، إنّما نتركه لنقتات بـ"المحبّة" (التريودي، الأسبوع الخامس، غروب يوم الثلاثاء). وإذ رجعنا إلى مثل الابن الشاطر عينه، لا يخفى علينا أنّ الابن الأكبر، الذي لازم أباه، لمّا رجع من الحقل، وعرف بالاحتفال الذي أقامه أبوه ابتهاجًا بعودة أخيه، "غضب، ولم يرد أن يدخل (البيت الأبويّ)". فخرج أبوه، وطلب منه أن يقبل أخاه. خروج الأب دليل صارخ على أنّ دخول بيته يتطلّب مصالحة الإخوة. صحيح أنّ الربّ، في المثل، لا يذكر إن كان الابن الأكبر قد قَبِلَ طلب أبيه. لكنّ هذا يبقى دعوة مفتوحة لنا، لندرك نحن أنّ دخولنا بيت أبينا، في الصوم، يفترض أن نتخلّق بأخلاقه، ونقبل إخوتنا، ونعاملهم كما يعاملنا هو.
الصوم زمن توبة، أي زمن قبول لله بارتضائنا حبّه وتنازلنا عن كلّ ما لا يليق بانتسابنا إليه، وزمن قبول للإخوة. هذا هو الهدف الأسمى لهذا الموسم الحلو في مدّة التهيئة له وممارسته، لنستحقّ أن ننشد "الصفح لمبغضينا عن كلّ شيء في القيامة"، في خدمة يوم الفصح، و"نأكل، ونفرح" (لوقا 23:15