للمطران :أنطوان أودو اليسوعي
مقدمةماذا يقول لنا القديس بولس عن الحياة المسيحية في الجماعات البولسية؟ و ماهي الصفات التي يتحلى بها المعمّدون؟ وما هي المقاييس المعتمدة في أخذ القرار؟ لنحاول الإجابة انطلاقا من هذه الجماعات .
أولا ـ روح الانفتاح
عندما نقرأ رسائل القديس بولس نكتشف أن هذه الجماعات تمتاز بروح الانفتاح على الجميع.وعندما نتغلغل إلى داخل جماعة قورنتس, على سبيل المثال, نكتشف أن بولس يقول لهم:
"مانظروا أيها الأخوة إلى دعوتكم , فليس فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر, ولا كثير من الأقوياء, ولا كثير من ذوي الحسب والنسب" (1قور/26).
وفي الرسالة نفسها يُظهِر بولس كيف أنه لابدّ من قبول أضعف الناس واحترامهم:
" فالأعضاء التي نحسبها أضعف الأعضاء في الجسد هي ما كان أشدّها ضرورة, والتي نحسبها أخسّها في الجسد هي ما نخصّها بمزيد من التكريم. وكذلك الأعضاء التي نستحي بها نخصّها بمزيد من الوقار... ولكن الله نظّم الجسد ليزاد كرامة ذاك الذي نَقُصت فيه الكرامة, لئلا يقع في الجسد شقاق , بل ليهتم الأعضاء بعضها ببعض... " (1قور 12/22-25)
يرتبط أعضاء الجماعات البولسية بروابط تتجاوز الحدود الاجتماعية والإْثنية والدينية التي نجدها في كل المجتمعات:
"فإنكم وقد اعتمدتم جميعا بالمسيح, قد لبستم المسيح, فلم يبقَ من بعد يهودي أو يوناني, عبد أو حرّ, ذكر أو أنثى لأنكم جميعا واحد في يسوع المسيح." (غل 3/ 27- 28).
فالمسيحيون في هذه الجماعات يشاطرون ظروف حياة معاصريهم و لا يهربون من الواقع البشري . بل على العكس من ذلك, فإنهم بتتميمهم واجبهم المدني (دفع الضرائب مثلا) أو بولائهم للسلطات المحلية (راجع روم 13/1-7) يُظهِرون أن الله يهتم بالعالم. إنهم يفرحون مع الفرحيين ويبكون مع الباكين, ويسعون في أن يعملوا الخير بمرأى من الناس ويجتهدون في أن يغلبوا الشر بالخير (راجع روم 12/15-21).
ونجد أيضا أن هذه الجماعات المسيحية تعيش روح الانفتاح في داخلها. ففيها نجد المشاركة والتفكير, ويتناقش المؤمنون في مواضيع تتعلق بالمشاكل الحياة اليومية: الحياة الزوجية (1قور7), الأكل من الذبائح المقدمة للأوثان (1قور8) , ودور المرأة في الجماعة (1قور11 و14 /26ت) ومصير الأموات (1تس4/13ت) ومكانة الشريعة (غل 3/10- 14).
وفي كل ذلك لدينا قاعدة ذهبية, علينا أن نبحث في كل أمر عن إرادة الله (روم 12/1-2) ولكل معمد الحق في أن يعبّر عن رأيه وعلى الحوار أن يكون مفتوحا دوما . وفي هذه الجماعات, يجب الاهتمام ببنيان الجماعة (روم 14/17-19), ومراعاة شعور الآخرين (1قور 8/7- 13).
ثانيا ـ جماعات تمتاز بروح أخوية
نلاحظ أن القديس بولس يشدد كثيرا على هذه الناحية. ففي سبيل مقاومة روح التحزب والأدعاء والمصالح الخاصة, يدعو بولس أعضاء الجماعة لأن يلبسوا عواطف المسيح وأن يكونوا: "على رأي واحد ومحبة واحدة وقلب واحد وفكر واحد." (فل 2/1-11).
هي الأخوة التي تجمع بين قلوب المعمدين وتدعوهم إلى أن يتجاوزوا التفاوت الاجتماعي. لنا في مثال الرسالة إلى فيلمون أفضل برهان (فيلمون 16), وفي هذه الرسالة يطلب بولس ألا يعامل أونيسمس معاملة العبيد, ولكن معاملة الأخ.
وكما أننا نجد أنه على هذه الأخوة أن تترجم بحياة ملؤها الشركة والتضامن في الحياة اليومية: وهنا نجد التشديد على روح ضيافة البعض تجاه البعض الآخر (روم 15/7) وعلى واجب حمل كل واحد أثقال الآخر (غل 6/2) وعلى أهمية تعزية الآخرين (1تس5/11 ) وعلى ضرورة خدمة الآخرين (غل 5/14) ومسامحتهم (قول 3/13).
وفي هذه الأجواء, يشدد بولس في كل مرة على ضرورة مساعدة الأعضاء الأكثر ضعفا في الجماعة (1تس 5/14) والسعي في عودة الضالين بروح الصبر والوداعة (غل 6/1).
ثالثا ـ المشاركة في الخيرات المادية
ومن علامات الحياة الأخوية هو المشاركة في الخيرات المادية. تعاش هذه المشاركة في قلب الجماعة الواحدة (روم12/9- 13 وراجع غل 6/6) ولكن المشاركة تمتد أيضا إلى جماعات أخرى. وفي توصية بولس لمساعدة كنيسة أورشليم مَثَلٌ صارخ على ذلك (رسل 11/27-30 و1قو 16/1ت و 2قور 8/1-4 و روم 15/25- 32). نجد أن الكنيسة المحلية تنفتح على الكنيسة الجامعة وتُظهِر تضامن الكنيسة الواحدة في وسط الإنسانية جمعاء.
ماذا يعني ذلك وما مصدر هذه الشركة؟ فعبر المساعدات المالية والمادية, ومن خلال المشاركة في الأفراح والأتراح, في قلب الجماعات (2قور 1/7 و فل 4/14- 15) يُظهِر المسيحيون اتحادهم الوثيق بجسد المسيح (2قور 1/9 و 10/16ت و 2قور 13/13). يجد بولس أنه بقدر ما تعيش الجماعات روح المشاركة على مستوى شامل فإنها بهذا القدْر تُعلِن وتحقق ما تناله من جسد المسيح ودمه.
فالمشاركة في جسد المسيح (1قور 10/16) هي أساس الحياة الجماعية, وهي المكان الذي فيه تتشكّل الجماعة وتتغذى وتتقوى فيها الشركة (1قور 10/17). فالأفخارستيا هي المكان الذي فيه تعيش الجماعة الأُخوّة والمشاركة.
ولكن في الواقع لدينا أيضا بعض الصعوبات. ففي قورنتس, حيث كانت الأفخارستيا مرتبطة بوجبة الطعام, يلاحظ بولس أن البعض يأكل حتى التخمة ولا يشارك مَنْ وَصَل متأخرا, فالبعض يأكل والآخر جائع (راجع 1قور 11/21) يقاوم بولس مثل هذا التصرف الذي يرفض روح المشاركة. فمن لا يعيش روح المشاركة الحقة بعدما شارك في جسد المسيح ودمه, فإنه يأكل ويشرب إدانة نفسه (1قور 11/28-29).
يُذكِّر بولس مسيحيي قورنتس حقيقة أنجيلية أساسية: أن نُحيي ذكرى الرب هو أن نعيش ونحقق العمل الذي مات من أجله, أعني بنيان إنسانية وأُخوّة جديدتين وفيهما قد سقطت أشكال الانقسامات والتسلط وفيهما يشعر الإنسان بالرغبة بإعطاء حياته في سبيل الآخرين.
خاتمة
كيف عاش القديس بولس حرية الإنجيل وجرأته بعد أن نال نعمة الاهتداء التي وهبها له الرب يسوع. فمنذ اهتدائه على طريق دمشق, ألتهب بولس بلهيب المحبة التي أضرمها فيه الرب يسوع. ومن هذه المحبة المشتعلة فيه يستقي بولس نعمة الحرية فيتحول إلى شاهد على هذه الحرية التي يهبها المسيح. فبقوة هذه المحبة يكتشف دور الشريعة, ومكانة الطاعة والأعمال. وفي الوقت نفسه سوف يشدد على المحبة الأخوية من حيث أنها التعبير الأقوى عن الحرية التي يهبها لنا السيد المسيح بموته وقيامته.
لا يكتفي بولس بإلقاء الخطب لكنه يعود دوما لفكرة الخلاص التي نالها وإلى ما تعيشه الجماعات المسيحية لكي يكتشف كلمة الإنجيل الجديدة. وفي ذلك يبقى بولس الراعي واللاّهوتي في آن.
وهل أصبح تعليم بولس قديما لأنه خاطب مسيحيين من القرن الأول؟ كلا! إن رسائل بولس هي كلام الله، علينا أن نسمعه في قلب عالم اليوم، وأن ندعه يسكن فينا ويمنحنا روح الحرية التي سكن قلب بولس. علينا أن نقول أيضا مُقرّين أنه لمن الأصعب أن نعيش روح الحرية بدل روح الشريعة, لأن أخلاقية الحرية تتطلب نضوجا وأنباطا شخصيا أكثر منها من روح الشريعة. فأخلاقية الحرية هي أكثر تطلبّا وتدفع الإنسان على طريق الاهتمام بتساؤلات الإنسان اليوم في وسط الحالات الجديدة التي يتواجد فيها. لابد للمسيحي البالغ أن يقبل بأخلاقية الحرية وإلاّ انغلق
بروح شرعوية وابتعد عن روح الإنجيل.
فالقديس بولس, ومن حيث أنه مثال الرسول, عرف كيف يستسلم لأخلاقية الحرية وتركها تغيّر حياته وكل العلاقات الإنسانية والاجتماعية التي عاشها. ولذلك عرف بولس كيف يميز "ما هي مشيئة الله، وما هو صالح وما هو مَرْضي وما هو كامل" (روم 12/2). فإننا لا نستطيع أن نفصل روح التمييز عن الحرية التي أعطيت لنا في المسيح. فالتمييز هو عنصر أساسي في الحياة المسيحية وفي الحياة الرسولية بالذات. فالتمييز يُرجِعنا دوما إلى جِدّية الحرية الشخصية في حياة الإيمان وإلى جِدّية الحياة البشرية التي التقت بيسوع المانح الخلاص. فروح التمييز يدعونا دوما إلى موقف الإصغاء إلى من حولنا لكي نُجيد إعلان الإنجيل, كلمة خلاص لكل من يتقبّله.
لذلك لابدّ من تحقيق شرط أساسي: أن نسمع بولس يقول لنا "تخلّقوا بِخُلُق المسيح" هو الراعي الأوحد, وهذا يعني أن نحب كما هو أحب لأن الحب وحده خلاّق و يدخلنا إلى قلب الله ويروي عطش الإنسان إلى الحب.
Comment