إعداد : الأب حبيب دانيال
موضوعنا المدينة الفقيرة، فهناك عاشت ملكة كلكوتا.
كلكوتا هي عاصمة ولاية البنغال الغربية أسسها تُجار بريطانيون عامَ ألفٍ وستمايةٍ وتسعٍ وثمانين فوق مستنقعات جففوها وغابات اقتطعوا أجزاء منها.بعض من أرصفة كلكوتا تشهد حياة زاخرة، فالنساء يطبخن ويربين الأطفال، والأولاد يتسوّلون أو يتوسلون والباعة الجوّالون يبتعون أصناف المأكولات والمشروبات.
شوارع كلكوتا الفقيرة مدهشة، فجوانبها تكتظ بالحوانيت التي لا تنقصها الغرابة، يتعجب المرء من أين يدخلها صاحبها بان أنها مرتفعة عن مستوى الأرض وبائعها يجلس لساعات طويلة.
بعض هذه الحوانيت شديدة الصغر ويجد فيها من يقصدها حاجياتٍ شتى.
عُرِف عن الهنود صبرُهم وجلدهم وقيل عنهم أنهم يقومون بأود حياتهم من أمور بسيطةٍ جداً ولكن بالرغم من تمرس بعض الهنود على فقرٍ سحيق إلا أن قسماً منهم لا يملك حتى أبسط وسائل العيش... فهو على الرصيف يتسوّل – إن بقيت له القوة –أو هو هناك، جالساً القرفصاء ينتظر بسكينة وهدوء دون مرارة أو مفترشاً الأرض، لا ينبه للمارة وهم كُثر وفي نشاطٍ دائمٍ أي أنه لا ينبه لشيء ولا حتى للكلاب.
كما انتشرت مجمعات سكنية تُدعى "سلوم" تعيش فيها غالباً عائلات الفلاحين الذين هجروا أراضيهم وجاؤوا ليعملوا في المدينة وهم يعيشون في ظروفٍ قاسيةٍ في هذه المساكن الضئيلة الحجم يتكدس الأنفار ويتابعون حياة شديدة الصعوبة.
قد ينفر المرء من رؤية الناس ينامون ويغتسلون ويبولون في الشارع على جوانب الأرصفة، أو في قنواتٍ حفرت على أطراف الطرقات ولكن أين إذاً ؟
ولا يحكم على هؤلاء القوم من أختبر قسوة عيشهم وضآلة الوسائل بين أيديهم أو حتى انعدامها، فهم بما قد يحصلون عليه يتابعون حياتهم قدر المستطاع .
فقراء الهند أبطال أضف إلى كل ذلك أن كلتكا من أكثر الأماكن اكتظاظاً في العالم، فتكثر الأقذار ملومة يستخرج منها عجائز وأطفال ما يُعيدون بيعه.
هناك تحوم أيضا الغربان وتكثر هذه الطيور جداً، فهي مع العقبان في كل مكان، تملاْ الجو صراخاً، تضيف ألحانها الرتيبة إلى صوت زمامير السيارات، وعن هذه الأخيرة حدث ولا حرج، فشوارع كلكتا فريدة من نوعها فيها يرى المرء المارة وعربة الريكشا يجرها (عربة الكارو) إنسان ينفخ الجهد عضلاته لعل بعض الروبيات تضع شيئاً في معدته ومعدة أفراد عائلته .
والعربة المدعوة TEILA ينقل عليها العامل الهندي أكياس التربة أو أحجار القرميد وهذه الصخرة متوفرة جداً هناك. نرى أيضاً الدراجة، والدراجة النارية، والاتوريكشات ذات الدواليب الثلاثة، وسيارات التاكسي الصفراء والشاحنات والباصات، الترامواي التي تنفث غاز ثاني أوكسيد الكربون.
ومناخ مدينتنا كلكتا من أشد مناخاتِ العالم قساوةً حيث يسود حر لاهب طوال ثماني أشهر وتنهمر الأمطار موسمية غزيرة مصحوبةٌ بصواعق فتحول الشوارع إلى مستنقعات.
ولا يظّنن أحدٌ أن قول "مدينتا" فيه هزءٌ أو سخرية فهذه المدينة بالفعل غريبةٌ لأن كثيرين ممن عاشوا فيها من غير الهنود نفدت هي إلى قلوبهم رغم كل ما فيها من صعوبةِ عيش، أو بسبب ذلك.
وقد قال DOMINIQIRE LA PIERRE "في قلب هذا الجحيم، أجد قدراً من البطولة والحب والمشاركة، والفرح والسعادة، أوفر مما أجد في كثيرٍ من غربنا العنين، هنا أصادف قوما يفتقرون إلى كل شيء ولكنهم يمتلكون كل شيء. وأكتشف على نحو خاص، أن تلك المدينة اللإنسانية تمتلك قدرةً سحرية على صنع قديسين".
ولدت غانجا بوياكشيو في السادس والعشرين من شهر آب عام ألف وتسعماية وعشرة في سكوبين بألبانيا، في يوغسلافيا حالياً.
بالرغم من ان منطقة البلقان وقتئذٍ كانت وسط تحركات جمة إلا أن طفولة غانجا عرفت نقطة ارتكاز ثابتة: عائلتها غدت أمها درانا خاصةً يساندها زوجها نيكولين بوياكشيو منذ نعومةِ أظفارها دعوة من ستصبح الأم تريزا، لقد حفرت في أعماقها كلمات أبيها: " يا ابنتي لا ترضي ابداً أن تتناولي لقمةً لا تكونين مستعدةً لاقتسامها مع الآخرين".
وانطبعت في حياتها كلها كلمات أمها "ألا فاعلمي أن الفقراء، وإن لم يكونوا أقرباء لنا بالدم إلا أنهم، بمجرد كونهم فقراء هم أخوةٌ لنا". ثم كان أثر الراعية البليغ، وقد انضمت بفعالية كبيرة إلى الأخوية المريمية واتحاد الشبيبة الكاثوليكية .
في الثامن عشر من عمرها انضمت غانجا إلى راهبات لوريتو منطلقة إلى دارجليلينغ في الهند حيث أتمت سنوات ابتدائها، واتخذت اسم تريزا وقد شُفعِت بمثال القديسة تريزا الطفل يسوع. بعدها عادت إلى كلكتا إلى لوريتوهاوس في شارع انتالي وهناك شرعت برسالةٍ رهبانيتها أي التعليم .
في الرابع والعشرين من أيار عام الفٍ وتسعمايةٍ وسبعةٍ وثلاثين قامت الأخت تريزا بالنذور المؤبدة وتابعت التدريس في لوريتو انتالي ومدرسة القديسة مريم وأصبحت مديرةً عامةً للدروس ودعيت الأخت " النغالية" .
بالقرب من لوريتو هاوس كانت الأخت تريزا ترى مجمع اكواخ موتيجمهيل الغاص بالشفاء. ورغم تكريس حياتها لرسالةٍ ساميةٍ كان قلقها يزداد إزاءَ البؤس والآلام التي تشهدها من حولها .
العاشر من أيلول الفٍ وتسعمايةٍ وستٍ واربعين بينما تستقل الأخت تريزا القطار إلى دار جليلينغ للقيام بالرياضة الروحية السنوية، كانت الدعوةُ داخل الدعوة، كان نداء الرب لها إلى هجر دير لوريتو لتكريس الذات بكاملها للفقراء والعيش معهم .
حينها ولدت الأم تريزا وفي ذلك اليوم من كل سنة تحتفل جمعية مرسلات المحبة في العالم أجمع التي هي ولدت أيضاً من هذا النداء .
في السادس عشر من آب عام الفٍ وتسعماية وثمانٍ وأربعين، وبعد أن حضرت القداس، انسلت الأخت تريزا حاملة كيساً صغيراً وانطلقت إلى الشارع، "الملاك الملتف بالساري الأبيض" كما سميت أنطلق وراء يسوع يفتش عنه ليكون معه في كل فقير.
الحقبة الأولى من الرسالة الجديدة كانت حقبة جهدٍ متواصل قضتها الأخت تريزا وحيدةً وقد خبرت بجسدها ونفسها الآم الفقراء في سعيهم الدائم إلى مأوىً وطعامٍ ودواء، وقد استهلت نشاطها في مجمع موتيجهيل مع الأطفال والمرضى، ثم وفرت لها مقرٌ قريبٌ من مجمع الأكواخ في منزل الفريد وميشال غويز في 41 غريك لاين GREEK LANE وتضرعت راهبة الأكواخ لام الله قائلةً لها أن ليس لديها أبناء...
سوباسشين داس إحدى طالبات الأخت تريزا أصبحت الأخت أنييس، أولى حلقات سلسلةٍ طويلةٍ من ألاف مرسلات المحبة...
وتوالت القادمات حتى ضاقت الغرفةُ الأولى من منزل آل غومير ثم ضاقت الطبقة الثالثة بكاملها بالأخوات المرتديات الساري الأبيض ذي الحاشية الزرقاء، حاملات الصليب على أكتافهن والمسبحة على خصرهنّ .
وكانت الأخت تريزا قد حصلت على الموافقة على تأسيس جمعية مرسلات المحبة من الفاتيكان في السابع من تشرين الأول عام الفٍ وتسعماية وخمسين وكان عدد المنتسبات إحدى عشر ما عدا الأم المؤسسة.
نيرمال هرداي موئل المحتضرين المهملين إمرأة تحتضر في الشارع وقد أخذت الجرذان تقضُم أطرافها، رجل ساقط، تحت المطر، يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يسترعي اختضاره تدخل أيً كان.
في الثامن والعشرين من آب عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، يوم عيد قلب العذراء الطاهرة، في كالغيات وهو حيٌ وينين مكتظ، قرب الهيكل الأكبر كالي حامية كلكتا افتتحت الأم تريزا مركز ايزمال هريداي أو القلب الطاهر وبدأت تستقبل كل الذين يقترب انتقالهم إلى الطرف الآخر من الحياة حيث يلفظون أنفاسهم الأخيرة بين أشخاص يحترمنهم ويحبونهم كأخوةٍ لهم، أو ليسوا أبناء لله الواحد، خلقهم على صورته كمثاله أو لم يمت المسيح من أجلهم ليفتديهم ويرفعهم معه ؟
هذا هو إيمان الأم تريزا ومرسلات المحبة ومرسلين المحبة، وهم يرون في هذه شبه الهياكل العظيمة المتأملة، التي تصل إليهم مفرحة، احياناً ومليئة من النمل والديدان، مصابة بالغرغرينا، يرون جسد المسيح المتألم، عبر الأسمال القذرة التي لصقت بالأجساد يرون بهاء من كرسوا حياتهم وكل قوتهم لأجله ليشاركوه عمل فدائه، ليخففوا آلامه والآم إخوته، ألم يوصي يسوع بهم " كل ما فعلتموه لأحد أخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه ؟ فكيف يصمون آذانهم عن أنيبه كيف يغمضون عيونهم عن عيونٍ أوغرها الجوعُ والوحدةَ في أحجارها كيف تشمئز أنوفهم من رائحةٍ جراحاتٍ أنتنت يوماً قال أحد النزلاء للام تريزا وكان محتضرا ً "طلية حياتي، عشت عيشةَ بهيمةً، في الشوارع، ولكنني الآن أموت ميتة كائن بشري، محاطاً بالحب والرعايا ".
تضيف الأم تريزا " قد لا يكون عملنا سوى قطرة ماء في محيط، ولكن لو لم توجد تلك القطرة، لافتقرا إليها المحيط" .
وكم هز بحاجةٍ إلى لمسة يد يرتجف مِنَ الوحدة، كم بحاجةٍ إلى إشعاع ابتسامة من عاش مع البؤس، كم يفتقر إلى صلاة من عطل فيه الجوع حتى القدرة على الأكل"
مشاهد للبيت من الخارج
كثيرٌ من النزلاء بزمال هرايدي اعترفوا أن ما من مكانٍ أفضل من هنا للموت.
فهنا يحيطُ بهم أناس يذكرونهم بكرامتهم التي فقدوا الإحساس بها، هنا أشخاص يعطونهم من حبهم، يعطونهم الكثير من قوتِهم واهتمامهم.
هنا يذكرون أنهم سيواجهون الرب الذي برا كلاً منهم وأنّه يحبهم وهذا ليس بالكلام فقط، فمن يقولون لهم ذلك، هم أسلاكٌ توصل لهم حب الله .
يتبع
Comment