نوبواكي نوتوهارا
الإنسان بحاجة إلى النقد من الخارج ومن الداخل مهما كان موقفه أو وظيفته الاجتماعية أو الهيئة التي ينتمي إليها،
إن غياب النقد يؤدي إلى الانحطاط حتى الحضيض – نوتوهارا
---------------------------------------------------------------
"العرب من وجهة نظر يابانية"
يكتب نوتوهارا بعد أن تعرف على العالم العربي منذ العام 1974 وزار العديد من بلدانه وأقام فيها لفترات،
انطباعاته المحايدة عن هذا العالم. ومن اللافت إن أول ما يقوله عن العالم العربي:
"إن الناس في شوارع المدن العربية غير سعداء،
ويعبر صمتهم عن صرخة تخبر عن نفسها بوضوح".
وهو يعيد هذا الشعور إلى غياب العدالة الاجتماعية،
لأنها أول ما يقفز إلى النظـر. وهذا ما يؤدي في نظره إلى الفوضى.
كما أنه يلاحظ كثرة استعمال العرب لكلمة ديمقراطية، وهذا لا يعبر سوى عن شيء واحد: عكسها تماما،
ألا وهو القمع وغياب الديمقراطية. ولهذا القمع وجوه عدة: منع الكتب،
غياب حرية الرأي وحرية الكلام وتفشي ظاهرة سجناء الرأي.
ويشير نوتوهارا، كمراقب أجنبي، إن العالم العربي ينشغل بفكرة النمط الواحد،
على غرار الحاكم الواحد. لذلك يحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم.
وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين.
يغيب مفهوم المواطن الفرد وتحل محله فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد.
وعندما تغيب استقلالية الفرد وقيمته كإنسان يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية:
عن الممتلكات العامة مثل الحدائق أو الشوارع أو مناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات
(باختصار كل ما هو عام) والتي تتعرض للنهب والتحطيم عند كل مناسبة.
الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة.
وهكذا تضيع الحقيقة وتذهب إلى المقابر مع أصحابها.
الناس في العالم العربي
"يعيشون فقط" بسبب خيبة آمالهم وبسبب الإحساس باللاجدوى أو اليأس الكامل،
وعدم الإيمان بفائدة أي عمل سياسي.
في العالم العربي يستنتج الشخص أفكاره من خارجه،
بينما في اليابان يستنتج الناس أفكارهم من الوقائع الملموسة التي يعيشونها كل يوم، وهو يتابع:
في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق
التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد.
والأفراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة يظلون أفرادا فقط ولا يشكلون
تيارا اجتماعياً يؤثر في حياة الناس.
يشير هنا إلى التجربة اليابانية التي عرفت أيضا سيطرة العسكر على الإمبراطور والشعب
وقيادتهم البلاد إلى حروب مجنونة ضد الدول المجاورة انتهت إلى تدمير اليابان.
وتعلم الشعب الياباني أن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية ويقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة.
"لكن اليابانيين وعوا أخطاءهم وعملوا على تصحيحها وتطلب ذلك سنوات طويلة وتضحيات كبيرة،
وعوا أن عليهم القيام بالنقد الذاتي قبل كل شيء وبقوة.
الإنسان بحاجة إلى النقد من الخارج ومن الداخل مهما كان موقفه أو وظيفته الاجتماعية أو الهيئة التي ينتمي إليها،
إن غياب النقد يؤدي إلى الانحطاط حتى الحضيض".
وهو يكتب: "كثيرا ما ووجهت بهذا السؤال في العالم العربي:
لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأميركية بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟
ينتظر العرب موقفا عدائيا عميقا من اليابانيين تجاه الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن طرح المسألة على هذا النحو لا يؤدي إلى شيء،
علينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا من الحرب العالمية الثانية أولا ثم أن نصحح هذه الأخطاء ثانيا.
وأخيرا علينا أن نتخلص من الأسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها.
إذن المشكلة ليست في أن نكره أميركا أولا،
المشكلة في ان نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم أن نمارس نقدا ذاتيا من دون مجاملة لأنفسنا.
أما المشاعر وحدها فهي مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلا.
في اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية،
"مد الياباني يده إلى الأميركي يطلب مادة متوافرة عند الآخر.
وقتئذ كان شعورنا غير واضح، فمن جهة لم يكن عارا علينا أن نأخذ ممن يملكون ولكن من جهة ثانية،
لم تكفّ نفوسنا عن الاضطراب والتوتر الداخلي، والشعور بالحرج،
عرفنا معنى أن لا نملك ومعنى الصدام بين ثقافتين أو الاحتكاك بينهما".
يشير المؤلف إلى الكاتب المصري يوسف إدريس الذي تعرف على المجتمع الياباني
وكان يتساءل دائما عن سر نهضة اليابان وتحولها من بلد صغير معزول إلى قوة صناعية واقتصادية،
إلى أن حدث مرة أن راقب عاملا فيما هو عائد إلى فندقه في منتصف الليل يعمل وحيدا
وعندما راقبه وجده يعمل بجد ومثابرة من دون مراقبة
من أحد وكأنه يعمل على شيء يملكه هو نفسه.
عندئذ عرف سر نهضة اليابان، انه الشعور بالمسؤولية النابعة من الداخل من دون رقابة ولا قسر.
انه الضمير أكان مصدره دينيا أو أخلاقيا.
وعندما يتصرف شعب بكامله على هذه الشاكلة عندها يمكنه أن يحقق ما حققته اليابان.
ومن الأمور التي لفتت نظره في مجتمعاتنا، شيوع الوسخ في الشوارع،
مع أننا نعد أنفسنا من أنظف شعوب العالم ونتباهى أن صلاتنا تدعونا للنظافة!
فهل يقتصر مفهوم النظافة على الشخص والمنزل فقط؟
لقد دهش نوتوهارا مرة عندما زار منزل صديق له في منطقة تعاني من سوء نظافة
شديد كيف أن الشقة كانت كأنها تنتمي إلى عالم آخر.
الناس هنا لا تحافظ على كل ما هو ملكية عامة،
وكأن الفرد ينتقم من السلطة القمعية بتدمير ممتلكات وطنه بالذات.
وتدعم دراسة أخرى هذه الملاحظات،
فيظهر لدى الكبار في السن من العرب توجها أوضح لتعليم أطفالهم احترام كبار السن،
والحاجة إلى تحصيل حياة أفضل واحترام الذات، بينما تتأخر قيم أخرى مثل المسؤولية والاعتماد على الذات وتقبل الآخرين
(وهي التي وضعها عرب أميركا في أعلى سلم خياراتهم).
وتبين هذه الدراسة إعطاء أهمية كبيرة للدين في كل من الأردن والسعودية والمغرب ومصر،
أي أكثرية العرب! فيجد المصريون والسعوديون أن تعليم الدين يعد أهم قيمة لتعليم الأطفال.
كذلك اختار المغاربة تعليم الدين والطاعة ليمنحوهما أعلى درجات، وكانت قيمة احترام الذات من أدناها".
والمشكلة ليست في تعليم الدين بالطبع، لكن سؤالنا متى لم يكن تعليم الدين أولوية في عالمنا؟
وما دام الأمر كذلك فلماذا نحن على هذه الحال؟
وأين القوى والحس بالمسؤولية والضمير الديني بينما يتفشى الفساد إلى هذه الدرجات المخيفة؟
المشكلة إذن كيف يتم تعليم الدين وعلى أي قيم دينية يتم التركيز؟
ومن المشاكل التي نعاني منها، ويشير إليها نوتوهارا ما يسميه الموظف المتكبر يكتب:
"يواجه الياباني في المطار الشعور بالاهانة أمام طريقة تعامل الموظفين مع المسافرين
وإيقافهم بأرتال عشوائية وتفضيلهم السماح لبعض الشخصيات المهمة بالمرور أمام نظر جميع المسافرين".
وهذا الأمر لا يواجه الياباني فقط بل يواجهه كل مواطن عربي غير مدعوم بواسطة او معرفة موظف ما.
كذلك يندهش الأجنبي من مسألة الغش المتفشية في بلادنا،
ويشير الى غش موظفة مصرف تعرّض له في تبديل العملة،
فهو لم يفكر بعدّ النقود بعدما استلمها واستغرب أن تسرقه وهي كانت لطيفة معه ومبتسمة!!
مرة طلب منه موظف مبلغا من المال في مطار عربي،
فأعطاه إياه معتقدا انه رسم، لكن نقاش زميل للموظف وتوبيخه له جعله يعتقد أن في الأمر
سوء استخدام وظيفة.
لكن بعد ذلك ترك الموظف زميله ومشى دون أن يفعل أي شيء.
انه الصمت المتواطئ (لا دخل لي) الذي يؤدي إلى غياب أي رقابة وإطلاق الحرية للفاسدين.
لذا لا نعود ندهش عندما يسرد لنا كيف عرض عليه موظف متحف شراء قطع آثار قديمة.
لكنه كياباني لم يستطع أن يصدق كيف أن موظفا اختاره وطنه ليحرس آثاره يخونه
ويخون شرفه وتاريخه ويبيع آثارا تركها أجداده منذ آلاف السنين!
ويروي على لسان صديق له ياباني وله وجه مبتسم كيف انه لما مر أمام منزل مسئول
صفعه الحارس ظنا منه انه ربما يضحك عليه.
موظف السفارة اليابانية قال له:
"اشكر ربك انه اكتفى بصفعك"!، يرى في ذلك تواطؤا غير مبرر ولا يليق ببعثة أجنبية.
وأكثر ما يثير دهشة كاتبنا الياباني اعتياده على أن رئيس الوزراء الياباني
يتغير كل سنتين لمنع أي شكل من أشكال الاستبداد، فالحكم الطويل يعلم الحاكم القمع،
بينما في البلاد العربية يظل الحاكم مدى الحياة!
الحاكم العربي يتمتع بامتيازات ما قبل العصور الحديثة واستثناءاتها.
ومهما كان الفرد استثنائيا فان مهمات قيادة الدولة أوسع من أي فرد استثنائي.
فالحاكم عنده مهمة أكبر من الإنسان العادي بينما قدرته محدودة.
الفرد الذي يفشل في تحمل مسؤوليته يغير ويحاسب. والحاكم مثل أي مواطن آخر،
فهناك مساواة فعلية أمام القانون ويعطي مثال سجن رئيس وزراء ياباني واعتقاله كأي مواطن ياباني
عندما اكتشف ضلوعه في فضيحة لوكهيد. لا شيء يحمي الفرد إذا كان مذنبا.
ومع ذلك نجد أن ابنته الآن عضو بارزة في البرلمان،
مما يعني انه لم يحل ذنب والدها في وصولها بكفايتها إلى ما هي عليه.
إن أكثر ما أثار دهشته كيف أن الحاكم العربي يخاطب مواطنيه: بيا أبنائي وبناتي!
الأمر الذي يعطيه صفة القداسة وواجب طاعته.
وهو بهذا يضع نفسه فوق الشعب وفوق النظـام والقانون، ويحل محل الأب ويتخذ صفة الإله الصغير.
أما عن تعاملنا مع أطفالنا، فهو يشير إلى وجود الاعتداء الجنسي الذي لم يفصّله نظرا
إلى حساسيتنا تجاه الموضوع واكتفى بلفت النظر إلى مسألة ترك الأولاد في الشوارع من دون رقابة الأهل.
لا يمكن في فرنسا أو أي بلد مماثل رؤية أولاد في الشارع من دون مرافقة بالغين.
ناهيك عن شيوع استعمال الضرب في المدارس وسماع بكاء الأطفال.
ربما يجعلنا ذلك نتأمل في أنفسنا ونقوم بنقدها على نحو جذري كي نعرف مكامن الخلل في قيمنا
وسلوكنا ونظامنا التربوي ولكي نحاول اللحاق بمتطلبات عصر لن يقف منتظرا أن نجهز لدخوله.
فليس كل الحق على... الأمريكان.
الإنسان بحاجة إلى النقد من الخارج ومن الداخل مهما كان موقفه أو وظيفته الاجتماعية أو الهيئة التي ينتمي إليها،
إن غياب النقد يؤدي إلى الانحطاط حتى الحضيض – نوتوهارا
---------------------------------------------------------------
"العرب من وجهة نظر يابانية"
يكتب نوتوهارا بعد أن تعرف على العالم العربي منذ العام 1974 وزار العديد من بلدانه وأقام فيها لفترات،
انطباعاته المحايدة عن هذا العالم. ومن اللافت إن أول ما يقوله عن العالم العربي:
"إن الناس في شوارع المدن العربية غير سعداء،
ويعبر صمتهم عن صرخة تخبر عن نفسها بوضوح".
وهو يعيد هذا الشعور إلى غياب العدالة الاجتماعية،
لأنها أول ما يقفز إلى النظـر. وهذا ما يؤدي في نظره إلى الفوضى.
كما أنه يلاحظ كثرة استعمال العرب لكلمة ديمقراطية، وهذا لا يعبر سوى عن شيء واحد: عكسها تماما،
ألا وهو القمع وغياب الديمقراطية. ولهذا القمع وجوه عدة: منع الكتب،
غياب حرية الرأي وحرية الكلام وتفشي ظاهرة سجناء الرأي.
ويشير نوتوهارا، كمراقب أجنبي، إن العالم العربي ينشغل بفكرة النمط الواحد،
على غرار الحاكم الواحد. لذلك يحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم.
وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين.
يغيب مفهوم المواطن الفرد وتحل محله فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد.
وعندما تغيب استقلالية الفرد وقيمته كإنسان يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية:
عن الممتلكات العامة مثل الحدائق أو الشوارع أو مناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات
(باختصار كل ما هو عام) والتي تتعرض للنهب والتحطيم عند كل مناسبة.
الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة.
وهكذا تضيع الحقيقة وتذهب إلى المقابر مع أصحابها.
الناس في العالم العربي
"يعيشون فقط" بسبب خيبة آمالهم وبسبب الإحساس باللاجدوى أو اليأس الكامل،
وعدم الإيمان بفائدة أي عمل سياسي.
في العالم العربي يستنتج الشخص أفكاره من خارجه،
بينما في اليابان يستنتج الناس أفكارهم من الوقائع الملموسة التي يعيشونها كل يوم، وهو يتابع:
في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق
التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد.
والأفراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة يظلون أفرادا فقط ولا يشكلون
تيارا اجتماعياً يؤثر في حياة الناس.
يشير هنا إلى التجربة اليابانية التي عرفت أيضا سيطرة العسكر على الإمبراطور والشعب
وقيادتهم البلاد إلى حروب مجنونة ضد الدول المجاورة انتهت إلى تدمير اليابان.
وتعلم الشعب الياباني أن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية ويقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة.
"لكن اليابانيين وعوا أخطاءهم وعملوا على تصحيحها وتطلب ذلك سنوات طويلة وتضحيات كبيرة،
وعوا أن عليهم القيام بالنقد الذاتي قبل كل شيء وبقوة.
الإنسان بحاجة إلى النقد من الخارج ومن الداخل مهما كان موقفه أو وظيفته الاجتماعية أو الهيئة التي ينتمي إليها،
إن غياب النقد يؤدي إلى الانحطاط حتى الحضيض".
وهو يكتب: "كثيرا ما ووجهت بهذا السؤال في العالم العربي:
لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأميركية بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟
ينتظر العرب موقفا عدائيا عميقا من اليابانيين تجاه الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن طرح المسألة على هذا النحو لا يؤدي إلى شيء،
علينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا من الحرب العالمية الثانية أولا ثم أن نصحح هذه الأخطاء ثانيا.
وأخيرا علينا أن نتخلص من الأسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها.
إذن المشكلة ليست في أن نكره أميركا أولا،
المشكلة في ان نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم أن نمارس نقدا ذاتيا من دون مجاملة لأنفسنا.
أما المشاعر وحدها فهي مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلا.
في اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية،
"مد الياباني يده إلى الأميركي يطلب مادة متوافرة عند الآخر.
وقتئذ كان شعورنا غير واضح، فمن جهة لم يكن عارا علينا أن نأخذ ممن يملكون ولكن من جهة ثانية،
لم تكفّ نفوسنا عن الاضطراب والتوتر الداخلي، والشعور بالحرج،
عرفنا معنى أن لا نملك ومعنى الصدام بين ثقافتين أو الاحتكاك بينهما".
يشير المؤلف إلى الكاتب المصري يوسف إدريس الذي تعرف على المجتمع الياباني
وكان يتساءل دائما عن سر نهضة اليابان وتحولها من بلد صغير معزول إلى قوة صناعية واقتصادية،
إلى أن حدث مرة أن راقب عاملا فيما هو عائد إلى فندقه في منتصف الليل يعمل وحيدا
وعندما راقبه وجده يعمل بجد ومثابرة من دون مراقبة
من أحد وكأنه يعمل على شيء يملكه هو نفسه.
عندئذ عرف سر نهضة اليابان، انه الشعور بالمسؤولية النابعة من الداخل من دون رقابة ولا قسر.
انه الضمير أكان مصدره دينيا أو أخلاقيا.
وعندما يتصرف شعب بكامله على هذه الشاكلة عندها يمكنه أن يحقق ما حققته اليابان.
ومن الأمور التي لفتت نظره في مجتمعاتنا، شيوع الوسخ في الشوارع،
مع أننا نعد أنفسنا من أنظف شعوب العالم ونتباهى أن صلاتنا تدعونا للنظافة!
فهل يقتصر مفهوم النظافة على الشخص والمنزل فقط؟
لقد دهش نوتوهارا مرة عندما زار منزل صديق له في منطقة تعاني من سوء نظافة
شديد كيف أن الشقة كانت كأنها تنتمي إلى عالم آخر.
الناس هنا لا تحافظ على كل ما هو ملكية عامة،
وكأن الفرد ينتقم من السلطة القمعية بتدمير ممتلكات وطنه بالذات.
وتدعم دراسة أخرى هذه الملاحظات،
فيظهر لدى الكبار في السن من العرب توجها أوضح لتعليم أطفالهم احترام كبار السن،
والحاجة إلى تحصيل حياة أفضل واحترام الذات، بينما تتأخر قيم أخرى مثل المسؤولية والاعتماد على الذات وتقبل الآخرين
(وهي التي وضعها عرب أميركا في أعلى سلم خياراتهم).
وتبين هذه الدراسة إعطاء أهمية كبيرة للدين في كل من الأردن والسعودية والمغرب ومصر،
أي أكثرية العرب! فيجد المصريون والسعوديون أن تعليم الدين يعد أهم قيمة لتعليم الأطفال.
كذلك اختار المغاربة تعليم الدين والطاعة ليمنحوهما أعلى درجات، وكانت قيمة احترام الذات من أدناها".
والمشكلة ليست في تعليم الدين بالطبع، لكن سؤالنا متى لم يكن تعليم الدين أولوية في عالمنا؟
وما دام الأمر كذلك فلماذا نحن على هذه الحال؟
وأين القوى والحس بالمسؤولية والضمير الديني بينما يتفشى الفساد إلى هذه الدرجات المخيفة؟
المشكلة إذن كيف يتم تعليم الدين وعلى أي قيم دينية يتم التركيز؟
ومن المشاكل التي نعاني منها، ويشير إليها نوتوهارا ما يسميه الموظف المتكبر يكتب:
"يواجه الياباني في المطار الشعور بالاهانة أمام طريقة تعامل الموظفين مع المسافرين
وإيقافهم بأرتال عشوائية وتفضيلهم السماح لبعض الشخصيات المهمة بالمرور أمام نظر جميع المسافرين".
وهذا الأمر لا يواجه الياباني فقط بل يواجهه كل مواطن عربي غير مدعوم بواسطة او معرفة موظف ما.
كذلك يندهش الأجنبي من مسألة الغش المتفشية في بلادنا،
ويشير الى غش موظفة مصرف تعرّض له في تبديل العملة،
فهو لم يفكر بعدّ النقود بعدما استلمها واستغرب أن تسرقه وهي كانت لطيفة معه ومبتسمة!!
مرة طلب منه موظف مبلغا من المال في مطار عربي،
فأعطاه إياه معتقدا انه رسم، لكن نقاش زميل للموظف وتوبيخه له جعله يعتقد أن في الأمر
سوء استخدام وظيفة.
لكن بعد ذلك ترك الموظف زميله ومشى دون أن يفعل أي شيء.
انه الصمت المتواطئ (لا دخل لي) الذي يؤدي إلى غياب أي رقابة وإطلاق الحرية للفاسدين.
لذا لا نعود ندهش عندما يسرد لنا كيف عرض عليه موظف متحف شراء قطع آثار قديمة.
لكنه كياباني لم يستطع أن يصدق كيف أن موظفا اختاره وطنه ليحرس آثاره يخونه
ويخون شرفه وتاريخه ويبيع آثارا تركها أجداده منذ آلاف السنين!
ويروي على لسان صديق له ياباني وله وجه مبتسم كيف انه لما مر أمام منزل مسئول
صفعه الحارس ظنا منه انه ربما يضحك عليه.
موظف السفارة اليابانية قال له:
"اشكر ربك انه اكتفى بصفعك"!، يرى في ذلك تواطؤا غير مبرر ولا يليق ببعثة أجنبية.
وأكثر ما يثير دهشة كاتبنا الياباني اعتياده على أن رئيس الوزراء الياباني
يتغير كل سنتين لمنع أي شكل من أشكال الاستبداد، فالحكم الطويل يعلم الحاكم القمع،
بينما في البلاد العربية يظل الحاكم مدى الحياة!
الحاكم العربي يتمتع بامتيازات ما قبل العصور الحديثة واستثناءاتها.
ومهما كان الفرد استثنائيا فان مهمات قيادة الدولة أوسع من أي فرد استثنائي.
فالحاكم عنده مهمة أكبر من الإنسان العادي بينما قدرته محدودة.
الفرد الذي يفشل في تحمل مسؤوليته يغير ويحاسب. والحاكم مثل أي مواطن آخر،
فهناك مساواة فعلية أمام القانون ويعطي مثال سجن رئيس وزراء ياباني واعتقاله كأي مواطن ياباني
عندما اكتشف ضلوعه في فضيحة لوكهيد. لا شيء يحمي الفرد إذا كان مذنبا.
ومع ذلك نجد أن ابنته الآن عضو بارزة في البرلمان،
مما يعني انه لم يحل ذنب والدها في وصولها بكفايتها إلى ما هي عليه.
إن أكثر ما أثار دهشته كيف أن الحاكم العربي يخاطب مواطنيه: بيا أبنائي وبناتي!
الأمر الذي يعطيه صفة القداسة وواجب طاعته.
وهو بهذا يضع نفسه فوق الشعب وفوق النظـام والقانون، ويحل محل الأب ويتخذ صفة الإله الصغير.
أما عن تعاملنا مع أطفالنا، فهو يشير إلى وجود الاعتداء الجنسي الذي لم يفصّله نظرا
إلى حساسيتنا تجاه الموضوع واكتفى بلفت النظر إلى مسألة ترك الأولاد في الشوارع من دون رقابة الأهل.
لا يمكن في فرنسا أو أي بلد مماثل رؤية أولاد في الشارع من دون مرافقة بالغين.
ناهيك عن شيوع استعمال الضرب في المدارس وسماع بكاء الأطفال.
ربما يجعلنا ذلك نتأمل في أنفسنا ونقوم بنقدها على نحو جذري كي نعرف مكامن الخلل في قيمنا
وسلوكنا ونظامنا التربوي ولكي نحاول اللحاق بمتطلبات عصر لن يقف منتظرا أن نجهز لدخوله.
فليس كل الحق على... الأمريكان.