يوم ماطر في منيابولس
عادل سالم ..
غادرت البيت صباحا في يوم ماطر لا أدري إلى أين. كنت في عطلة في ذلك اليوم. وكعادتي كنت أنام ساعة أو ساعتين إضافيتين. لكنني في ذلك اليوم استيقظت مبكرا على غير عادتي، لا أعرف لماذا، ولا ما الذي أقلقني.
كنت أشق الشوارع شبه الخالية بسيارتي الحمراء، ففي ذلك الوقت المبكر من أيام الآحاد تخلو الشوارع كالعادة من الناس الذين يلزمون بيوتهم بعد أن كانوا قد سهروا حتى ساعة متأخرة من ليلة السبت الفائت.
إنه أحب الأيام لديَّ للتنزه في الشوارع، ففي الأيام الأخرى تكون الشوارع مزدحمة، ويتحول السير فيها إلى ساحة حرب يجاهد كل منا للوصول إلى هدفة.
يزداد المطر هطولا رغم أن الأرض ليست عطشى، فقد أمطرت السماء قبل أيام قليلة، ما أكثر أمطار هذه الولاية وثلوجها. لذلك تتحول في فصل الربيع والصيف إلى واحة خضراء غناء بالأشجار التي تنمو في كل مكان، في وقت يجهد الناس في بلاد أخرى للحصول على بعض الماء، بل يقيم بعضهم الصلوات إثر الصلوات داعين المولى عز وجل أن ينعم عليهم ببعض أمطار هذه البلاد.
هطول الأمطار يبعث الطمأنينة إلى النفس، ويدعوك إلى التأني في السير، والتأمل بذلك السائل العجيب الذي لا حياة بدونه. ثورة الغضب، والاستعجال التي قد تصيبك بسبب ازدحام الشوارع بالسيارات، والمارَّة يُخْلونَ المكان للهدوء، والسكينة في تلك اللحظة، وتدعوك إلى الصبر، لعله أفضل وقت يتخلى فيه الإنسان عن أنانيته.
فجأة شاهدت فتاة غارقة في الأمطار تحاول الاستنجاد بإحدى السيارات لتنقذها وتنقلها إلى مكان آمن. ترددت في نجدتها فلا أريد أن يعطل خلوتي أحد. اقتربت منها وتابعت سيري، لكنني بعد ثوان غيرت رأيي. إنه المطر الهائل الذي دعاني إلى ذلك.
أشرت لها بيدي من خارج الشباك فركضت بكل قوتها حتى وصلت وركبت بجانبي وثيابها تقطر ماء.
كانت مقاعد السيارة من الجلد ولولا ذلك لابتل المقعد. قالت لي وهي تلهث:
(هاي). قلت لها: هاي، هل كنت تنتظرين فترة طويلة؟
نعم حوالي نصف ساعة.
نصف ساعة؟! وااو لذا أنت مبللة؟
كانت ملابسها ملتصقة بجسمها حتى بان جسمها الأبيض الناعم.
سألتها عن أقرب جهة تريد الوصول إليها لأنني أسير في نفس الشارع. فأخبرتني عن مكان قريب. تابعت سيري وأنا أتساءل عن سبب خروجها في يوم ماطر.
تركتها بجانبي وعدت أسبح في تفكيري. لم يكن مزاجي يسمح لي بمعاكستها أو الثرثرة معها. فمنظر المطر دائما يضعني في مزاج خاص. عندما وصلت إلى المكان الذي أشارت إليه، نظرت لي قبل مغادرتها وقالت:
سأدفع لك ثمن نقلي إلى هنا.
قلت لها:
لا أريد شيئا، مع السلامة.
لكنها أصرت وأخرجت من جيبها عشْرين دولاراً ودفعتها إلي، حاولت أن أعيدها لها، لكنها كانت قد عادرت السيارة، وتابعت سيري. عِشْرونَ دولاراً..!! إنه دخل إضافي لم أحسب حسابه، لعله ثمن بنزين السيارة الذي يحترق وأنا أنتقل من شارع إلى آخر في فترة اقتصادية عصيبة حيث الغلاء، وقلة الدخل المالي. ما هذه النزهة الغريبة في ظل الأمطار المتساقطة؟ آن لي أن أستريح قليلا. اقتربت من أحد المطاعم المشهورة، أوقفت سيارتي على بابه مباشرة كي لا تبتلل ملابسي من شدة الأمطار أثناء دخولي المطعم.
طلبت من النادلة فطور الصباح وبعض القهوة. خلال انتظاري الطعام كنت أشرب القهوة، وأراقب المطر من نافذة المطعم، أخرجت هاتفي النقال من جيبي وبدأت بمتابعة المكالمات التي لم أرد عليها.
وبينما أنا مُنْهَمِكٌ في الرَّدِّ على إحْدَى الرسائل الهاتفية حتى وقفت بجانبي فتاة كنت أعتقد أنها النادلة تحمل الأكل. أدرت وجهي فإذا بها شرطية، قالت لي بلهجة آمرة:
هل أنت صاحب السيارة الحمراء بباب المطعم؟
نعم، هل أنا مخالف؟
أعطني رخصة القيادة واتبعني إلى مكان منزو؟
أنا؟
نعم أنت
غريب، ما الذي تريدينه مني؟
سأخبرك الآن لا تتسرع.
وقفت ولحقت بها حيث وقفنا قرب مدخل المطعم بين البابين الخارجي والداخلي. قالت لي بعد أن نظرت إلى رخصة القيادة:
ستأتي معي إلى القسم، أنت متهم بسرقة جسكا بنيامين.
أنا سرقت؟ من جسكا هذه؟
ستعرف التفاصيل بالقسم.
وضعت رخصة القيادة في جيبها وأعلمت القيادة من خلال جهاز الاتصال أنها اعتقلتني.
طلبت منها اللحاق بها بسيارتي فرفضت وأصرت على أن تضعني سجينا في المقعد الخلفي لسيارتها دون أن تضع القيود على يدي. لعلها شعرت أنني لست رجلا عنيفا، وربما أنزل المطر سكينته عليها.
قال لي أحد المسؤولين في القسم، أن (جسكا) التي نقلتها بسيارتي ادعت أنني قمت بسرقة فلوسها بالقوة خلال نقلها بسياتي، وأنني صادرت كل ما لديها من فلوس ـ مائة وعِشْرين دولاراً ـ وقدمت لهم أوصافي ورقم سيارتي ووصفا عن الفلوس التي ادعت أنني سرقتها.
وعندما أنكرت التهمة قام بتفتيشي فعثر في جيبي على ورقة العشرين دولاراً التي ينطبق عليها الوصف. وكانت قد سجلت على إحدى زواياها اسمها. شرحت للشرطي ما جرى، وكيف دفعت لي المبلغ دون أن أطلب منها لكنه لم يصدق الحكاية، وحرر لي تهمة السرقة، وأفرج عني بكفالة مالية شخصية، بعد أن حذرني من الاقتراب منها.
لكنني لا أعرفها فكيف سأقترب منها..؟! هز رأسه غير مصدق.
خرجت من القسم ناقما على نفسي لأنني فكرت بإنقاذها من المطر. قلت لنفسي: لو بقيت في البيت لم يحصل لي ما حصل. تريد أن تخرج باكرا في يوم ماطر؟ إذن أدفع الثمن أنت تعرف أن الشرطة نفسها تحذر الناس من الأشخاص الذين يقفون في الشوارع يطلبون المساعدة. كان عليها أن تستقل الباص. لماذا ساعدتها؟ كم مرة شاهدت أشخاصا على أرصفة الشوارع، ورفضت نقلهم؟ إنه المطر، المطر الذي غير من مزاجي.
لم أعرف أن لحظات السكينة أحيانا تدفع لارتكاب الأخطاء هل أنا الذي أخطأت؟ أم أنني وقعت ضحية خداع. يوم المحكمة تفاءلت خيرا، وحدثت القاضي بصدق عن تفاصيل ذلك الصباح منذ خروجي من البيت. لكنه بعد أن استمع لي، نظر إلى الأوراق أمامه وحكم علي بدفع مبلغ مائة وعِشْرين دولاراً لجسكا، وخمسمائة دولار غرامة وقضاء مائة وخمسين ساعة عمل في الخدمة الاجتماعية المجانية.
لكن سيدي القاضي؟
رفعت الجلسة.
وبدأ الحاجب ينادي على القضية اللاحقة.
كنت مغتاظا من القرار، فقد دفعت سِتّمائةٍ وعِشْرين دولاراً بدل عشرين دولاراً قبضتها. لا..لا.. ليس بدل عشرين دولاراً بل بدل حماقتي.
سأحرم بعد اليوم نقل أحد بسياتي حتى لو كان على وشك الموت.
عادل سالم ..
غادرت البيت صباحا في يوم ماطر لا أدري إلى أين. كنت في عطلة في ذلك اليوم. وكعادتي كنت أنام ساعة أو ساعتين إضافيتين. لكنني في ذلك اليوم استيقظت مبكرا على غير عادتي، لا أعرف لماذا، ولا ما الذي أقلقني.
كنت أشق الشوارع شبه الخالية بسيارتي الحمراء، ففي ذلك الوقت المبكر من أيام الآحاد تخلو الشوارع كالعادة من الناس الذين يلزمون بيوتهم بعد أن كانوا قد سهروا حتى ساعة متأخرة من ليلة السبت الفائت.
إنه أحب الأيام لديَّ للتنزه في الشوارع، ففي الأيام الأخرى تكون الشوارع مزدحمة، ويتحول السير فيها إلى ساحة حرب يجاهد كل منا للوصول إلى هدفة.
يزداد المطر هطولا رغم أن الأرض ليست عطشى، فقد أمطرت السماء قبل أيام قليلة، ما أكثر أمطار هذه الولاية وثلوجها. لذلك تتحول في فصل الربيع والصيف إلى واحة خضراء غناء بالأشجار التي تنمو في كل مكان، في وقت يجهد الناس في بلاد أخرى للحصول على بعض الماء، بل يقيم بعضهم الصلوات إثر الصلوات داعين المولى عز وجل أن ينعم عليهم ببعض أمطار هذه البلاد.
هطول الأمطار يبعث الطمأنينة إلى النفس، ويدعوك إلى التأني في السير، والتأمل بذلك السائل العجيب الذي لا حياة بدونه. ثورة الغضب، والاستعجال التي قد تصيبك بسبب ازدحام الشوارع بالسيارات، والمارَّة يُخْلونَ المكان للهدوء، والسكينة في تلك اللحظة، وتدعوك إلى الصبر، لعله أفضل وقت يتخلى فيه الإنسان عن أنانيته.
فجأة شاهدت فتاة غارقة في الأمطار تحاول الاستنجاد بإحدى السيارات لتنقذها وتنقلها إلى مكان آمن. ترددت في نجدتها فلا أريد أن يعطل خلوتي أحد. اقتربت منها وتابعت سيري، لكنني بعد ثوان غيرت رأيي. إنه المطر الهائل الذي دعاني إلى ذلك.
أشرت لها بيدي من خارج الشباك فركضت بكل قوتها حتى وصلت وركبت بجانبي وثيابها تقطر ماء.
كانت مقاعد السيارة من الجلد ولولا ذلك لابتل المقعد. قالت لي وهي تلهث:
(هاي). قلت لها: هاي، هل كنت تنتظرين فترة طويلة؟
نعم حوالي نصف ساعة.
نصف ساعة؟! وااو لذا أنت مبللة؟
كانت ملابسها ملتصقة بجسمها حتى بان جسمها الأبيض الناعم.
سألتها عن أقرب جهة تريد الوصول إليها لأنني أسير في نفس الشارع. فأخبرتني عن مكان قريب. تابعت سيري وأنا أتساءل عن سبب خروجها في يوم ماطر.
تركتها بجانبي وعدت أسبح في تفكيري. لم يكن مزاجي يسمح لي بمعاكستها أو الثرثرة معها. فمنظر المطر دائما يضعني في مزاج خاص. عندما وصلت إلى المكان الذي أشارت إليه، نظرت لي قبل مغادرتها وقالت:
سأدفع لك ثمن نقلي إلى هنا.
قلت لها:
لا أريد شيئا، مع السلامة.
لكنها أصرت وأخرجت من جيبها عشْرين دولاراً ودفعتها إلي، حاولت أن أعيدها لها، لكنها كانت قد عادرت السيارة، وتابعت سيري. عِشْرونَ دولاراً..!! إنه دخل إضافي لم أحسب حسابه، لعله ثمن بنزين السيارة الذي يحترق وأنا أنتقل من شارع إلى آخر في فترة اقتصادية عصيبة حيث الغلاء، وقلة الدخل المالي. ما هذه النزهة الغريبة في ظل الأمطار المتساقطة؟ آن لي أن أستريح قليلا. اقتربت من أحد المطاعم المشهورة، أوقفت سيارتي على بابه مباشرة كي لا تبتلل ملابسي من شدة الأمطار أثناء دخولي المطعم.
طلبت من النادلة فطور الصباح وبعض القهوة. خلال انتظاري الطعام كنت أشرب القهوة، وأراقب المطر من نافذة المطعم، أخرجت هاتفي النقال من جيبي وبدأت بمتابعة المكالمات التي لم أرد عليها.
وبينما أنا مُنْهَمِكٌ في الرَّدِّ على إحْدَى الرسائل الهاتفية حتى وقفت بجانبي فتاة كنت أعتقد أنها النادلة تحمل الأكل. أدرت وجهي فإذا بها شرطية، قالت لي بلهجة آمرة:
هل أنت صاحب السيارة الحمراء بباب المطعم؟
نعم، هل أنا مخالف؟
أعطني رخصة القيادة واتبعني إلى مكان منزو؟
أنا؟
نعم أنت
غريب، ما الذي تريدينه مني؟
سأخبرك الآن لا تتسرع.
وقفت ولحقت بها حيث وقفنا قرب مدخل المطعم بين البابين الخارجي والداخلي. قالت لي بعد أن نظرت إلى رخصة القيادة:
ستأتي معي إلى القسم، أنت متهم بسرقة جسكا بنيامين.
أنا سرقت؟ من جسكا هذه؟
ستعرف التفاصيل بالقسم.
وضعت رخصة القيادة في جيبها وأعلمت القيادة من خلال جهاز الاتصال أنها اعتقلتني.
طلبت منها اللحاق بها بسيارتي فرفضت وأصرت على أن تضعني سجينا في المقعد الخلفي لسيارتها دون أن تضع القيود على يدي. لعلها شعرت أنني لست رجلا عنيفا، وربما أنزل المطر سكينته عليها.
قال لي أحد المسؤولين في القسم، أن (جسكا) التي نقلتها بسيارتي ادعت أنني قمت بسرقة فلوسها بالقوة خلال نقلها بسياتي، وأنني صادرت كل ما لديها من فلوس ـ مائة وعِشْرين دولاراً ـ وقدمت لهم أوصافي ورقم سيارتي ووصفا عن الفلوس التي ادعت أنني سرقتها.
وعندما أنكرت التهمة قام بتفتيشي فعثر في جيبي على ورقة العشرين دولاراً التي ينطبق عليها الوصف. وكانت قد سجلت على إحدى زواياها اسمها. شرحت للشرطي ما جرى، وكيف دفعت لي المبلغ دون أن أطلب منها لكنه لم يصدق الحكاية، وحرر لي تهمة السرقة، وأفرج عني بكفالة مالية شخصية، بعد أن حذرني من الاقتراب منها.
لكنني لا أعرفها فكيف سأقترب منها..؟! هز رأسه غير مصدق.
خرجت من القسم ناقما على نفسي لأنني فكرت بإنقاذها من المطر. قلت لنفسي: لو بقيت في البيت لم يحصل لي ما حصل. تريد أن تخرج باكرا في يوم ماطر؟ إذن أدفع الثمن أنت تعرف أن الشرطة نفسها تحذر الناس من الأشخاص الذين يقفون في الشوارع يطلبون المساعدة. كان عليها أن تستقل الباص. لماذا ساعدتها؟ كم مرة شاهدت أشخاصا على أرصفة الشوارع، ورفضت نقلهم؟ إنه المطر، المطر الذي غير من مزاجي.
لم أعرف أن لحظات السكينة أحيانا تدفع لارتكاب الأخطاء هل أنا الذي أخطأت؟ أم أنني وقعت ضحية خداع. يوم المحكمة تفاءلت خيرا، وحدثت القاضي بصدق عن تفاصيل ذلك الصباح منذ خروجي من البيت. لكنه بعد أن استمع لي، نظر إلى الأوراق أمامه وحكم علي بدفع مبلغ مائة وعِشْرين دولاراً لجسكا، وخمسمائة دولار غرامة وقضاء مائة وخمسين ساعة عمل في الخدمة الاجتماعية المجانية.
لكن سيدي القاضي؟
رفعت الجلسة.
وبدأ الحاجب ينادي على القضية اللاحقة.
كنت مغتاظا من القرار، فقد دفعت سِتّمائةٍ وعِشْرين دولاراً بدل عشرين دولاراً قبضتها. لا..لا.. ليس بدل عشرين دولاراً بل بدل حماقتي.
سأحرم بعد اليوم نقل أحد بسياتي حتى لو كان على وشك الموت.
Comment