المادة وأشكال حركاتها*
المذهب الخاص بالمادة هو حجر الزاوية في المادية.
المادية تقول بأن العالم يوجد موضوعيا مستقلا عن الانسان ووعيه، واحساساته ورغباته. فالارض ظهرت لأمد طويل قبل ظهور الانسان، والكائنات الحية على العموم. والمعطيات العلمية تؤكد بأن الأرض موجودة منذ خمسة مليارات سنة، أما الانسان فلم يظهر عليها إلا منذ حوالي مليون سنة. موضوعية العالم، أي وجوده خارج وعينا ومستقلا عنه، تعني أنه مادي. تحيط بنا كمية لا نهاية لها من الأشياء والظاهرات. الحجارة والأشجار والرمال والشمس والحيوانات والبحار والصحارى والنجوم والكواكب وكثير كثير غيرها. وهذا كله نسميه بكلمة واحدة "المادة".
والكلمات من هذا النوع، مثل كلمة "المادة" هنا تسمى مفاهيم.
وبعض المفاهيم تشمل نطاقا واسعا من الأشياء والظاهرات والبعض الآخر نطاقا ضيقا. مثلا مفهوم "شيء" أوسع من مفهوم "طاولة".
ولكن أوسع المفاهيم هو مفهوم "المادة" لأنه يشتمل على جميع الأشياء والظاهرات ابتداء من الذرة والخلية وحبيبات الرمل حتى العقل البشري. وهذه المفاهيم الأوسع تسمى المقولات الفلسفية.
والخواص الجوهرية العامة التي تلازم جميع الاشياء هي قبل كل شيء مادية، وتوجد موضوعيا أي خارج وعي الانسان ومستقلة عنه .في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي" يعرف لينين مفهوم المادة على النحو التالي:
"المادة هي مقوله فلسفية للدلاله على الواقع الموضوعي الذي أعطي للانسان في احساساته... المادة هي ما يؤثر على أعضاء حواسنا ويثير الاحساس، المادة هي واقع موضوعي، أعطي لنا في الاحساس، وما إلى ذلك "(لينين- المؤلفات الطبعة الروسية الرابعة المجلد 14 ص 117 و 133).
وهناك لا بد أن نؤكد بأنه ما من مفهوم فلسفي تعرض لهجمات عنيفة من جانب المثاليين كمفهوم المادة. ولكن التطور العلمي أثبت بأنه من المستحيل زوال الماده، وان المادة توجد مستقلة عن وعينا، ولذلك وجودها أمر موضوعي وليس انعكاسا للفكرة الخيالية المثالية المطلقة. وتؤكد المادية الديالكتيكية بأن المادة لا تملك خاصية واحدة فقط، بل عددا لا نهاية له من الخواص. إن اشياء العالم متنوعة وخواصها متنوعة كذلك. فالمفهوم الفلسفي للمادة، يرى بها، واقعا موضوعيا والذي يتغير، نتيجة لتطور العلوم والمعارف الانسانية، هو تصوراتنا عن بناء وتركيب المادة والعالم ولوحته العلمية. فالمادة سرمدية وجدت منذ الأزل، وهذا ما يثبته قانون بقاء المادة. وهنا نذكر ما قاله العالم الروسي العظيم ميخائيل فاسيليفيتش لومونوسف (1700 -1756) (وجامعة موسكو تحمل اسمه) قال ما يلي "ما من جسم أو عنصر في الطبيعة يمكنه أن يزول دون أثر، أو أن ينشأ ثانية من لا شيء وصاغ لومونسوف أفكاره هذه في القانون المشهور قانون بقاء المادة.
وهذا القانون يقول: "ما من شيء في الطبيعة ينشأ من لا شيء، ولا يزول أبدا دون أثر، بل يتحول فقط الى أشكال أخرى من المادة".
ينجم عن هذا القانون البالغ الأهمية أن الاسطورة القائلة بأن العالم خلق من لا شيء هي اسطورة باطلة على الاطلاق. فلو افترضنا انه كان زمن لم يكن فيه شيء في العالم، أي لم تكن المادة إذن استحال أن تنشأ من لا شيء. ولكن بما أن المادة موجودة، فإن هذا يعني أنها لم تنشأ أبدا، انها توجد دائما وستوجد.
*المادة الديالكتيكية: المادة والحركة*إذا كان الشيء في مكان معين، فإنه لا يتحرك.
مثلا، ان الحجر لا يغير وضعه طالما لم يحركه أحد من مكانه. ولكن لو أمعنا النظر في الحجر الساكن لوجدنا مع ذلك ان ثمة حركة فيه: ففيه تنتقل بلا انقطاع الذرات والجزيئات والالكترونات التي توجد كما هو معلوم، في كل جسم، وتجري عملية الهدم تحت تأثير الرطوبة والشمس والريح.
والبيت، مثلا لا يمكث دون حركة ايضا، فهو يدور سوية مع الارض حول الشمس.
والانسان يجلس بهدوء في مكانه مثلا، ولكن الدم يدور فينا وتحدث في الجسم تغيرات معقدة، فالخلايا الجديدة تنشأ والقديمة تضمحل وتفنى، وهذه حركة أيضا. لنأخذ الحرارة مثلا انها تبدو نتيجة عدد هائل من الجزيئات ، مثلا جزيئات الماء. فبسبب تنقل الجزيئات تسخن المياه. وهذه الحركة ليست حركة ميكانيكية أي انتقال الشيء من مكان الى آخر بل حركة أكثر تعقيدا. والتيار الكهربائي هو حركة الالكترونات وكذلك التفاعل الكيميائي هو حركة، تجمع الايونات، انه عملية أكثر تعقيدا من سابقتها. وكذلك في المجتمع البشري تجري تغيرات دائمة! تتبدل النظم الاجتماعية، ويتغير الناس أنفسهم، من ناحية العادات، والمفاهيم والأخلاق وفهمهم للأحداث وما الى ذلك.
من هناك توجد في العالم أشكال مختلفة ومتنوعة للحركة، وهي:
أولا تنقل جسيمات المادة، او الاجسام، وهذا يسمى الشكل الميكانيكي للحركة.
ثانيا: العمليات الحرارية والكهربائية، أي الشكل الفيزيائي للحركة.
ثالثا: التفاعل الكيميائي، اتحاد وانفصال الايونات، وهذا هو الشكل الكيميائي للحركة.
رابعا: التغيرات التي تحدث في العضويات الحية، وهو الشكل البيولوجي للحركة.
خامسا: الشكل الاجتماعي للحركة، أي التغيرات التي تحدث في الحياة الاجتماعية.
وكما كتب وأوضح إنجلز في العديد من مؤلفاته، فان الحركة تشتمل على كل التغيرات والعمليات الدائرة في الكون، ابتداء من التنقل البسيط حتى التفكير. فالحركة هي جميع التغيرات التي تجري في الاشياء والظاهرات أي في العالم. انها تعبر عن تغير المادة على العموم. والمادة لا يمكن ان تكون في حالة تنعدم فيها الحركة. ولذلك فالحركة هي تشكل بقاء المادة، الشكل وجود المادة، خاصية ملازمة للمادة. فلا وجود للمادة بدون حركة، والمادة لا توجد إلا في حركة.
ويطرح السؤال، هل هذا يعني ان المادية الديالكتيكية تنفي وجود السكون؟ فالجواب كلا! فالسكون موجود في الطبيعة ولكنه نسبي. إذا كان الجسم ساكنا فان ذلك بالنسبة لشيء آخر مثلا، أثناء حركة القطار نكون ساكنين بالنسبة لهذا القطار، ولكننا نوجد في حالة حركة سوية مع القطار نفسه من هنا فالفهم الديالكتيكي الجدلي للسكون يختلف جذريا عن الفهم الميتافيزيائي له. ان الميتافيزيائيين يفهمون السكون على انه انعدام أية حركة كانت ولكن المادية الديالكتيكية تقول، بأن الذي يتسم بالاهمية الحاسمة في الطبيعة ليس السكون، وان كان يوجد كسكون نسبي، بل الحركة، التطور التغيير. والمادة الطبيعية ليست بحاجة على الاطلاق الى "محرك" فالحركة الداخلية تلازمها بوصفها خاصية جذرية لا تنضم عنها.
*المادية الديالكتيكية: الزمن والمكان شكلا وجود المادة*لجميع الاشياء في الطبيعة امتداد ومقاييس وحجم، أي ثلاثة أبعاد! العرض والطول والارتفاع وهي تشغل مكانا معينا. عدا ذلك فالاشياء توجد على نحو معين بعضها من بعض! أبعد أو أقرب، أعلى أم أدنى الى اليمين أو الى اليسار. وهذا يعني أن كل الاشياء توجد في المكان ويستحيل أن توجد مادة على خلاف ذلك. وهذا يعني ان جميع الاشياء في العالم، والتي تؤلف ما نسميه المادة، لا تستطيع أن توجد في غير المكان. ولذلك نعرف المكان كشكل لوجود المادة . وبما ان كل الظاهرات المادية في العالم توجد في حالة سرمدية دائمة من التغير والحركة والتطور، وكذلك تتناوب كل الظاهرات في العالم بصورة معينة، من التتالي يأتي النهار بعد الليل وبعد الاقطاعية أتت الرأسمالية، وبعد الرأسمالية سيأتي مجتمع المستقبل – مجتمع العدالة الاجتماعية- الاشتراكية وهذا التطور موضوعي ستفرضه حركة المادة في شكلها الاجتماعي التشكيلة الاجتماعية. والحوادث تجري إما بصورة أبكر أو بصورة متأخرة ولكنها تحدث، كما أن لجميع الاحداث امتداد معين فالتغير والتطور وتناوب الأحداث وتتاليها وامتدادها يستحيل ان يجري خارج نطاق الزمان. فكل ما يتم في العالم يجري في الزمان، ولذا كان الزمان ايضا شكلا لوجود المادة كتب لينين في مؤلفه "المادية والمذهب النقدي التجريبي" يقول: "ما من شيء في العالم غير المادة المتحركة، والمادة المتحركة لا تستطيع الحركة الا في المكان والزمان" (لينين- الطبعة الروسية الرابعة، المجلد 14 ص 162).
من هنا فالمكان شكل وجود المادة، الذي يحدد موقع الجسم المادي وأبعاده وحجمه. أما الزمان فيحدد جانبا آخر من وجود وتطور الماده! تتالي ومدة تلك التغيرات التي تطرأ على الأجسام المادية.
وللمكان ثلاثة أبعاد وهذا يعني أن الطول والعرض والارتفاع تعطي وصفا تاما للمكان. ان الابعاد الثلاثة هي أهم خاصية للمكان. اما تغير الظاهرات المادية في الزمان يجري في اتجاه واحد فقط من الماضي الى الحاضر فالمستقبل.
ان مرور الزمان على عكس ذلك لا يحدثإلا في اتجاه واحد من الحاضر الى المستقبل ومن هنا فأهم خاصية للزمان هي عدم رجوعه الى الوراء. وكل شيء في الطبيعة يشغل موقعا في المكان، وذلك ممكن اما اليوم أو في الامس وباختصار "في وقت ما". وعليه فان الزمان والمكان مرتبطان ارتباطا وثيقا ويستحيل فصل أحدهما عن الآخر فالمكان لا وجود له بدون الزمان، كما ان الزمان، لا وجود له بدون المكان. وبما ان المادة توجد في المكان والزمان فانه يستحيل فصل المكان والزمان احدهما عن الاخر وليس هذا وحسب بل يستحيل كذلك فصلهما عن المادة وجاءت نظرية الفيزيائي العظيم في القرن العشرين البرت آينشتاين (1879-1955) الذي اكتشف النظرية النسبية وعالج مسألة المكان والزمان، مثبتا بشكل علمي الفكرة التي عبر عنها مؤسسا المادية الديالكتيكية- ماركس وانجلز- والقائلة بأن المكان والزمان هما في ترابط فيما بينهما ومع المادة على حد سواء ويتوقفان على خواصها.
*المادية الديالكتيكية: لانهائية العالم ووحدته*تقول المادية الديالكتيكية بأن المكان بلا نهاية، والزمان سرمدي. لذلك فالعالم ينبسط في جميع الجهات بلا نهاية- الى اعلى وأدنى الى اليمين والى اليسار وفي الزمان ايضا لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية ولقد أثبت العلم الحديث كليا الفلسفة المادية الديالكتيكية القائلة بلا نهائية العالم وبلا نهاية المكان.
ان كوكبنا- الارض – ليس سوى حبة رمل صغيرة في المحيط الكوني الذي لا شواطئ له.
والوحدة القياسية التي تؤخذ لقياس الكون ليست الكيلومتر وانما ما يسمى بالسنة الضوئية. أي المسافة التي يجتازها شعاع الضوء في غضون سنة بسرعة حركة الضوء وهي 300 الف كيلومتر في الثانية. والان يدرس علماء الفلك النجوم التي تبعد عنا مسافة مليار سنة ضوئية وأكثر. وهذا يعني أن الصاروخ الذي يسير بسرعة 50 الف كيلومتر في الساعة لا يصل الى هناك الا بعد آلاف وآلاف المليارات من السنين. انها مسافة يصعب تصورها. والعلم يقول ان هذا ليس بالحد الاخير. فمجمل نظام النجوم المسمى المجرة، والتي تشكل الشمس جزءا منه تحتوي على حوالي 150 مليار نجمة. وثمة ملايين عديدة من هذه المجرات. ولقد شن للعلماء دراسة كل هذا بواسطة أكبر التيليسكوبات، غير ان هذا ايضا ليس "نهاية العالم".
وهذا يعني أن الكون ليس له حد او نهاية أو تخوم. ولذا لا تقوم على أي اساس محاولات المثاليين الرامية للبرهنة على أنه كانت للعالم بداية وستكون له نهاية أيضا. لقد أثبت العلم بعدم وجود عالم آخر عدا العالم المادي. والفلسفة الماركسية تعلمنا بأن العالم المادي عالم واحد. وهذا لا يعني على أنه لا يوجد غير العالم الذي نعيش فيه، فهناك كثرة من العوالم ولكن جميعها مادية. وهي في هذا المعنى تكون عالم واحد مادي. فالسماء مادية في أساسها كالعالم الذي نعيش فيه. ولا وجود في السماء لشيء فوق الطبيعة المادية، والأجرام السماوية تتكون من نفس العناصر التي تتكون منها الارض، فقد أثبت العلم وحدة العناصر الأساسية الموجودة في الأرض والاجرام الكونية الاخرى أيضا. وهذا يعني أنه ما من ظاهرة واحدة في العالم ليست نتيجة لحركة المادة، ولتطورها. فالمادة تشتمل على كل شيء وتبسط مفعولها الى كل مكان وليس هناك على الاطلاق غير المادة المتحركة، المتطورة وما يتولد عنها وعدا هذا لا يوجد ولا يمكن ان يوجد شيء وهذا يعني ان هناك عالما واحدا فقط هو العالم المادي. وأن وحدة العالم تكمن في ماديته.
*المادية الديالكتيكية: المادة والوعي واللغة*الوعي هو الأفكار والإحساسات والتصورات والإرادة، والانسان بالدرجة الأولى هو الذي يتصف بها. فإذا لم يكن هناك من يحس فلا وجود للإحساسات، واذا لم يكن هناك من يرغب أي الانسان، فإن ذلك يعني أنه لا وجود للرغبات.
ولا وجود للارادة إن لم يكن ثمة من يجب عليه أن يبدي هذه الارادة.
والطبيعة وجدت ليس فقط قبل الناس، بل أيضا قبل الكائنات الحية على العموم، وأنها بالتالي مستقلة عن الوعي. انها أولية (أي الطبيعة) ولم يكن بمستطاع الوعي أن يوجد قبل الطبيعة فهو ثانوي.
لقد لوحظ منذ أمد بعيد أنه يكفي في بعض الأحيان أن تصاب اليد بجرح شديد حتى يغمى على المرء،فيفقد الوعي وقد أثبت العلم أن الإغماء- فقدان الوعي – يحدث نتيجة لضعف الدم في الدماغ او نتيجة لمرض حاد في القلب والأوعية الدموية او على أثر فقدان الدم وانخفاض الضغط. وهذا يعني أن الوعي يعتمد على العمليات المادية الجارية في الجسد وفي الدماغ وفي الأعصاب. ان تدمير الجسد يؤدي الى تدمير الوعي، ومثل آخر، كلنا يعلم أنه اذا كان المرء يشعر بالتعب وبعدم الارتياح، لا يكون فكره واضحا الوضوح الكافي. وعلى العكس، يكفي أن يأخذ المرء قسطا من الراحة وأن يقوم بالرياضة البدنية او ان يغتسل حتى يتحسن شعوره ويتضح فكره. وهكذا نصل الى الاستنتاج القائل بأنه لا وجود للوعي ولا يمكن له أن يوجد بدون المادة.
ولكن ليس كل مادة تفكر، لقد أثبت العلم أن الطبيعة الحية قد تكونت من الطبيعة الغير حية.
والوعي الملازم للطبيعة الحية مرتبط بنشاط نصفي كرة الدماغ الكبيرتين. وقسما الدماغ هذان هما نتيجة لتطور تدريجي دام قرونا وقرونا وتطور في مجراه الجهاز العصبي وتعقد نشاطه، الى ان ظهر الدماغ البشري وظهر معه الوعي البشري أيضا. فالوعي ليس نتاج أية مادة كانت بل هو نتاج مادة عالية التنظيم- أنه نتاج نشاط الدماغ.
الوعي هو وظيفة الدماغ وليس بمستطاع الوعي الوجود بدون دماغ. وكون الوعي يتوقف على الدماغ بالذات هو أمر يثبته واقع أنه من الممكن إحياء الانسان اذا كان الموت قد حصل قبل برهة قصيرة من الوقت. أما اذا مر وقت طويل، فإن عمليات تحصل في الدماغ تؤدي الى تدميره النهائي.
ويمكن مع ذلك اعادة عمل القلب ولكن اعادة عمل الدماغ تستحيل: ففيه تجري عمليات تسمى بالعمليات التي لا رجعة لها. ولذا يُفقد الوعي بلا رجعه وذلك بالضبط لأن الدماغ قد كف عن العمل الى الأبد. وهنا يطرح السؤال ما هو الوعي؟ لنأخذ أية فكرة أي قول، مثلا: "إنني أرى هذا الكتاب" "هذا البيت مرتفع". من المفهوم تماما ان الذي يوجد في رأسنا ليس الكتاب وإنما الفكره عنه ليس البيت نفسه ، بل الفكرة عن البيت. وبكلمات أخرى ما يوجد في رأسنا هو صور الأشياء والظاهرات. وكل فكرة تتكون من مفاهيم، مثلا عبارة "الأوراق خضراء": هنا مفهومين "الأوراق" و "خضراء"، وتؤخذ هذه المفاهيم، من الحياة، من الواقع. فالاشياء موجودة موضوعيا وعلى أساسها نؤلف المفاهيم عنها. في البدء يوجد الكتاب، وبعد ذلك مفهومي عنه.
وعليه تكون المفاهيم ثانوية، قبل كل شيء الواقع المادي الموضوعي وبعد ذلك الانعكاس، الفكرة عنه، لذلك سمى لينين التفكير بأنه نسخ ،انعكاس للواقع. ففي التفكير يعاد انتاج الواقع ويجري رسمه وتصويره. فالوعي غير مادي، بل نسخه، صورة للواقع. ولكن الدماغ يعكس، يصور الواقع لا كما تفعل ذلك آلة التصوير العادية، ففي الرأس البشري الدماغ المتطور يتحول الواقع بصورة مناسبة بمعنى أن ما يوجد فيه ليس الأشياء والمواد نفسها وانما صورها المثالية الفكرية.
ومن هنا فالوعي خاصية المادة عالية التنظيم أي الدماغ.
منذ سن الطفولة يتكون وعي الانسان على اساس الكلمات اللغة ذلك لأنه بواسطتها يجري التعبير عن افكارنا. وفي سياق هذه العملية ينشأ تدريجيا شيء ما لا يتميز به غير الانسان! ان الفكرة وثيقة الارتباط بالنطق. وفصل الوعي البشري، التفكير عن النطق هو شيء مستحيل فبين اللغة والتفكير وحده عضوية لا تنقصم عراها. لقد أكد إنجلز أن ظهور النطق المفصل الواضح قد ساعد على اطراد تطور الدماغ البشري.
ولا يكفي ان يمتلك الانسان دماغا مكتملا حتى يمتلك الوعي البشري فعليه ايضا ان يعيش في مجتمع، في جماعه. فلا وجود للتفكير البشري خارج الجماعة، خارج المجتمع الانساني.
فالتفكير ينشأ كنتيجة لحياة الناس في المجتمع. ولا يمكن للتفكير أن يظهر إلا حينما يعكس الانسان الطبيعة من جهة وعندما يدخل من جهة أخرى في علاقات معينة من أناس آخرين في النشاط العملي الانتاجي.
ان العمل هو الذي خلق الانسان، المجتمع الانساني. وفي سياق العمل بالذات، في سياق النشاط الانتاجي نطور الدماغ البشري والوعي البشري. لهذا السبب نوه ماركس " بأن الوعي هو منذ البداية نتاج اجتماعي وسيبقى كذلك طالما يوجد الناس بوجه عام. ان الوعي هو نتاج حياة الانسان في المجتمع. انه ظاهرة اجتماعية".
وهذا يعني أنه لا يمكن للوعي ان يكون خارج المجتمع، كما لا يمكن ان يكون خارجه ايضا النطق، اللغة. فاللغة تنشأ بوصفها ضرورة وسيلة لتبادل الأفكار وسيلة للتعامل بين الناس.
في الكلمات تصبح الفكرة واقعية فطالما هي في رأس الانسان تكون ميتة مستحيلة المنال بالنسبة للناس الآخرين. ولذا أشار ماركس الى أن اللغة هي الواقع المباشر للفكرة. وهذا يعني أنه لا وجود للتفكير بغير الغلاف اللغوي، المادي. وحتى عندما لا نعبر عن أفكارنا بصوت مسموع بل نفكر فقط في أنفسنا كما يقال، نغلف ايضا هذه الافكار بغلاف من الكلمات، بغلاف لغوي وبفضل اللغة لا تصاغ الافكار وحسب بل تنقل كذلك للناس الآخرين.
المصدر الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
لكم مودتي
المذهب الخاص بالمادة هو حجر الزاوية في المادية.
المادية تقول بأن العالم يوجد موضوعيا مستقلا عن الانسان ووعيه، واحساساته ورغباته. فالارض ظهرت لأمد طويل قبل ظهور الانسان، والكائنات الحية على العموم. والمعطيات العلمية تؤكد بأن الأرض موجودة منذ خمسة مليارات سنة، أما الانسان فلم يظهر عليها إلا منذ حوالي مليون سنة. موضوعية العالم، أي وجوده خارج وعينا ومستقلا عنه، تعني أنه مادي. تحيط بنا كمية لا نهاية لها من الأشياء والظاهرات. الحجارة والأشجار والرمال والشمس والحيوانات والبحار والصحارى والنجوم والكواكب وكثير كثير غيرها. وهذا كله نسميه بكلمة واحدة "المادة".
والكلمات من هذا النوع، مثل كلمة "المادة" هنا تسمى مفاهيم.
وبعض المفاهيم تشمل نطاقا واسعا من الأشياء والظاهرات والبعض الآخر نطاقا ضيقا. مثلا مفهوم "شيء" أوسع من مفهوم "طاولة".
ولكن أوسع المفاهيم هو مفهوم "المادة" لأنه يشتمل على جميع الأشياء والظاهرات ابتداء من الذرة والخلية وحبيبات الرمل حتى العقل البشري. وهذه المفاهيم الأوسع تسمى المقولات الفلسفية.
والخواص الجوهرية العامة التي تلازم جميع الاشياء هي قبل كل شيء مادية، وتوجد موضوعيا أي خارج وعي الانسان ومستقلة عنه .في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي" يعرف لينين مفهوم المادة على النحو التالي:
"المادة هي مقوله فلسفية للدلاله على الواقع الموضوعي الذي أعطي للانسان في احساساته... المادة هي ما يؤثر على أعضاء حواسنا ويثير الاحساس، المادة هي واقع موضوعي، أعطي لنا في الاحساس، وما إلى ذلك "(لينين- المؤلفات الطبعة الروسية الرابعة المجلد 14 ص 117 و 133).
وهناك لا بد أن نؤكد بأنه ما من مفهوم فلسفي تعرض لهجمات عنيفة من جانب المثاليين كمفهوم المادة. ولكن التطور العلمي أثبت بأنه من المستحيل زوال الماده، وان المادة توجد مستقلة عن وعينا، ولذلك وجودها أمر موضوعي وليس انعكاسا للفكرة الخيالية المثالية المطلقة. وتؤكد المادية الديالكتيكية بأن المادة لا تملك خاصية واحدة فقط، بل عددا لا نهاية له من الخواص. إن اشياء العالم متنوعة وخواصها متنوعة كذلك. فالمفهوم الفلسفي للمادة، يرى بها، واقعا موضوعيا والذي يتغير، نتيجة لتطور العلوم والمعارف الانسانية، هو تصوراتنا عن بناء وتركيب المادة والعالم ولوحته العلمية. فالمادة سرمدية وجدت منذ الأزل، وهذا ما يثبته قانون بقاء المادة. وهنا نذكر ما قاله العالم الروسي العظيم ميخائيل فاسيليفيتش لومونوسف (1700 -1756) (وجامعة موسكو تحمل اسمه) قال ما يلي "ما من جسم أو عنصر في الطبيعة يمكنه أن يزول دون أثر، أو أن ينشأ ثانية من لا شيء وصاغ لومونسوف أفكاره هذه في القانون المشهور قانون بقاء المادة.
وهذا القانون يقول: "ما من شيء في الطبيعة ينشأ من لا شيء، ولا يزول أبدا دون أثر، بل يتحول فقط الى أشكال أخرى من المادة".
ينجم عن هذا القانون البالغ الأهمية أن الاسطورة القائلة بأن العالم خلق من لا شيء هي اسطورة باطلة على الاطلاق. فلو افترضنا انه كان زمن لم يكن فيه شيء في العالم، أي لم تكن المادة إذن استحال أن تنشأ من لا شيء. ولكن بما أن المادة موجودة، فإن هذا يعني أنها لم تنشأ أبدا، انها توجد دائما وستوجد.
*المادة الديالكتيكية: المادة والحركة*إذا كان الشيء في مكان معين، فإنه لا يتحرك.
مثلا، ان الحجر لا يغير وضعه طالما لم يحركه أحد من مكانه. ولكن لو أمعنا النظر في الحجر الساكن لوجدنا مع ذلك ان ثمة حركة فيه: ففيه تنتقل بلا انقطاع الذرات والجزيئات والالكترونات التي توجد كما هو معلوم، في كل جسم، وتجري عملية الهدم تحت تأثير الرطوبة والشمس والريح.
والبيت، مثلا لا يمكث دون حركة ايضا، فهو يدور سوية مع الارض حول الشمس.
والانسان يجلس بهدوء في مكانه مثلا، ولكن الدم يدور فينا وتحدث في الجسم تغيرات معقدة، فالخلايا الجديدة تنشأ والقديمة تضمحل وتفنى، وهذه حركة أيضا. لنأخذ الحرارة مثلا انها تبدو نتيجة عدد هائل من الجزيئات ، مثلا جزيئات الماء. فبسبب تنقل الجزيئات تسخن المياه. وهذه الحركة ليست حركة ميكانيكية أي انتقال الشيء من مكان الى آخر بل حركة أكثر تعقيدا. والتيار الكهربائي هو حركة الالكترونات وكذلك التفاعل الكيميائي هو حركة، تجمع الايونات، انه عملية أكثر تعقيدا من سابقتها. وكذلك في المجتمع البشري تجري تغيرات دائمة! تتبدل النظم الاجتماعية، ويتغير الناس أنفسهم، من ناحية العادات، والمفاهيم والأخلاق وفهمهم للأحداث وما الى ذلك.
من هناك توجد في العالم أشكال مختلفة ومتنوعة للحركة، وهي:
أولا تنقل جسيمات المادة، او الاجسام، وهذا يسمى الشكل الميكانيكي للحركة.
ثانيا: العمليات الحرارية والكهربائية، أي الشكل الفيزيائي للحركة.
ثالثا: التفاعل الكيميائي، اتحاد وانفصال الايونات، وهذا هو الشكل الكيميائي للحركة.
رابعا: التغيرات التي تحدث في العضويات الحية، وهو الشكل البيولوجي للحركة.
خامسا: الشكل الاجتماعي للحركة، أي التغيرات التي تحدث في الحياة الاجتماعية.
وكما كتب وأوضح إنجلز في العديد من مؤلفاته، فان الحركة تشتمل على كل التغيرات والعمليات الدائرة في الكون، ابتداء من التنقل البسيط حتى التفكير. فالحركة هي جميع التغيرات التي تجري في الاشياء والظاهرات أي في العالم. انها تعبر عن تغير المادة على العموم. والمادة لا يمكن ان تكون في حالة تنعدم فيها الحركة. ولذلك فالحركة هي تشكل بقاء المادة، الشكل وجود المادة، خاصية ملازمة للمادة. فلا وجود للمادة بدون حركة، والمادة لا توجد إلا في حركة.
ويطرح السؤال، هل هذا يعني ان المادية الديالكتيكية تنفي وجود السكون؟ فالجواب كلا! فالسكون موجود في الطبيعة ولكنه نسبي. إذا كان الجسم ساكنا فان ذلك بالنسبة لشيء آخر مثلا، أثناء حركة القطار نكون ساكنين بالنسبة لهذا القطار، ولكننا نوجد في حالة حركة سوية مع القطار نفسه من هنا فالفهم الديالكتيكي الجدلي للسكون يختلف جذريا عن الفهم الميتافيزيائي له. ان الميتافيزيائيين يفهمون السكون على انه انعدام أية حركة كانت ولكن المادية الديالكتيكية تقول، بأن الذي يتسم بالاهمية الحاسمة في الطبيعة ليس السكون، وان كان يوجد كسكون نسبي، بل الحركة، التطور التغيير. والمادة الطبيعية ليست بحاجة على الاطلاق الى "محرك" فالحركة الداخلية تلازمها بوصفها خاصية جذرية لا تنضم عنها.
*المادية الديالكتيكية: الزمن والمكان شكلا وجود المادة*لجميع الاشياء في الطبيعة امتداد ومقاييس وحجم، أي ثلاثة أبعاد! العرض والطول والارتفاع وهي تشغل مكانا معينا. عدا ذلك فالاشياء توجد على نحو معين بعضها من بعض! أبعد أو أقرب، أعلى أم أدنى الى اليمين أو الى اليسار. وهذا يعني أن كل الاشياء توجد في المكان ويستحيل أن توجد مادة على خلاف ذلك. وهذا يعني ان جميع الاشياء في العالم، والتي تؤلف ما نسميه المادة، لا تستطيع أن توجد في غير المكان. ولذلك نعرف المكان كشكل لوجود المادة . وبما ان كل الظاهرات المادية في العالم توجد في حالة سرمدية دائمة من التغير والحركة والتطور، وكذلك تتناوب كل الظاهرات في العالم بصورة معينة، من التتالي يأتي النهار بعد الليل وبعد الاقطاعية أتت الرأسمالية، وبعد الرأسمالية سيأتي مجتمع المستقبل – مجتمع العدالة الاجتماعية- الاشتراكية وهذا التطور موضوعي ستفرضه حركة المادة في شكلها الاجتماعي التشكيلة الاجتماعية. والحوادث تجري إما بصورة أبكر أو بصورة متأخرة ولكنها تحدث، كما أن لجميع الاحداث امتداد معين فالتغير والتطور وتناوب الأحداث وتتاليها وامتدادها يستحيل ان يجري خارج نطاق الزمان. فكل ما يتم في العالم يجري في الزمان، ولذا كان الزمان ايضا شكلا لوجود المادة كتب لينين في مؤلفه "المادية والمذهب النقدي التجريبي" يقول: "ما من شيء في العالم غير المادة المتحركة، والمادة المتحركة لا تستطيع الحركة الا في المكان والزمان" (لينين- الطبعة الروسية الرابعة، المجلد 14 ص 162).
من هنا فالمكان شكل وجود المادة، الذي يحدد موقع الجسم المادي وأبعاده وحجمه. أما الزمان فيحدد جانبا آخر من وجود وتطور الماده! تتالي ومدة تلك التغيرات التي تطرأ على الأجسام المادية.
وللمكان ثلاثة أبعاد وهذا يعني أن الطول والعرض والارتفاع تعطي وصفا تاما للمكان. ان الابعاد الثلاثة هي أهم خاصية للمكان. اما تغير الظاهرات المادية في الزمان يجري في اتجاه واحد فقط من الماضي الى الحاضر فالمستقبل.
ان مرور الزمان على عكس ذلك لا يحدثإلا في اتجاه واحد من الحاضر الى المستقبل ومن هنا فأهم خاصية للزمان هي عدم رجوعه الى الوراء. وكل شيء في الطبيعة يشغل موقعا في المكان، وذلك ممكن اما اليوم أو في الامس وباختصار "في وقت ما". وعليه فان الزمان والمكان مرتبطان ارتباطا وثيقا ويستحيل فصل أحدهما عن الآخر فالمكان لا وجود له بدون الزمان، كما ان الزمان، لا وجود له بدون المكان. وبما ان المادة توجد في المكان والزمان فانه يستحيل فصل المكان والزمان احدهما عن الاخر وليس هذا وحسب بل يستحيل كذلك فصلهما عن المادة وجاءت نظرية الفيزيائي العظيم في القرن العشرين البرت آينشتاين (1879-1955) الذي اكتشف النظرية النسبية وعالج مسألة المكان والزمان، مثبتا بشكل علمي الفكرة التي عبر عنها مؤسسا المادية الديالكتيكية- ماركس وانجلز- والقائلة بأن المكان والزمان هما في ترابط فيما بينهما ومع المادة على حد سواء ويتوقفان على خواصها.
*المادية الديالكتيكية: لانهائية العالم ووحدته*تقول المادية الديالكتيكية بأن المكان بلا نهاية، والزمان سرمدي. لذلك فالعالم ينبسط في جميع الجهات بلا نهاية- الى اعلى وأدنى الى اليمين والى اليسار وفي الزمان ايضا لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية ولقد أثبت العلم الحديث كليا الفلسفة المادية الديالكتيكية القائلة بلا نهائية العالم وبلا نهاية المكان.
ان كوكبنا- الارض – ليس سوى حبة رمل صغيرة في المحيط الكوني الذي لا شواطئ له.
والوحدة القياسية التي تؤخذ لقياس الكون ليست الكيلومتر وانما ما يسمى بالسنة الضوئية. أي المسافة التي يجتازها شعاع الضوء في غضون سنة بسرعة حركة الضوء وهي 300 الف كيلومتر في الثانية. والان يدرس علماء الفلك النجوم التي تبعد عنا مسافة مليار سنة ضوئية وأكثر. وهذا يعني أن الصاروخ الذي يسير بسرعة 50 الف كيلومتر في الساعة لا يصل الى هناك الا بعد آلاف وآلاف المليارات من السنين. انها مسافة يصعب تصورها. والعلم يقول ان هذا ليس بالحد الاخير. فمجمل نظام النجوم المسمى المجرة، والتي تشكل الشمس جزءا منه تحتوي على حوالي 150 مليار نجمة. وثمة ملايين عديدة من هذه المجرات. ولقد شن للعلماء دراسة كل هذا بواسطة أكبر التيليسكوبات، غير ان هذا ايضا ليس "نهاية العالم".
وهذا يعني أن الكون ليس له حد او نهاية أو تخوم. ولذا لا تقوم على أي اساس محاولات المثاليين الرامية للبرهنة على أنه كانت للعالم بداية وستكون له نهاية أيضا. لقد أثبت العلم بعدم وجود عالم آخر عدا العالم المادي. والفلسفة الماركسية تعلمنا بأن العالم المادي عالم واحد. وهذا لا يعني على أنه لا يوجد غير العالم الذي نعيش فيه، فهناك كثرة من العوالم ولكن جميعها مادية. وهي في هذا المعنى تكون عالم واحد مادي. فالسماء مادية في أساسها كالعالم الذي نعيش فيه. ولا وجود في السماء لشيء فوق الطبيعة المادية، والأجرام السماوية تتكون من نفس العناصر التي تتكون منها الارض، فقد أثبت العلم وحدة العناصر الأساسية الموجودة في الأرض والاجرام الكونية الاخرى أيضا. وهذا يعني أنه ما من ظاهرة واحدة في العالم ليست نتيجة لحركة المادة، ولتطورها. فالمادة تشتمل على كل شيء وتبسط مفعولها الى كل مكان وليس هناك على الاطلاق غير المادة المتحركة، المتطورة وما يتولد عنها وعدا هذا لا يوجد ولا يمكن ان يوجد شيء وهذا يعني ان هناك عالما واحدا فقط هو العالم المادي. وأن وحدة العالم تكمن في ماديته.
*المادية الديالكتيكية: المادة والوعي واللغة*الوعي هو الأفكار والإحساسات والتصورات والإرادة، والانسان بالدرجة الأولى هو الذي يتصف بها. فإذا لم يكن هناك من يحس فلا وجود للإحساسات، واذا لم يكن هناك من يرغب أي الانسان، فإن ذلك يعني أنه لا وجود للرغبات.
ولا وجود للارادة إن لم يكن ثمة من يجب عليه أن يبدي هذه الارادة.
والطبيعة وجدت ليس فقط قبل الناس، بل أيضا قبل الكائنات الحية على العموم، وأنها بالتالي مستقلة عن الوعي. انها أولية (أي الطبيعة) ولم يكن بمستطاع الوعي أن يوجد قبل الطبيعة فهو ثانوي.
لقد لوحظ منذ أمد بعيد أنه يكفي في بعض الأحيان أن تصاب اليد بجرح شديد حتى يغمى على المرء،فيفقد الوعي وقد أثبت العلم أن الإغماء- فقدان الوعي – يحدث نتيجة لضعف الدم في الدماغ او نتيجة لمرض حاد في القلب والأوعية الدموية او على أثر فقدان الدم وانخفاض الضغط. وهذا يعني أن الوعي يعتمد على العمليات المادية الجارية في الجسد وفي الدماغ وفي الأعصاب. ان تدمير الجسد يؤدي الى تدمير الوعي، ومثل آخر، كلنا يعلم أنه اذا كان المرء يشعر بالتعب وبعدم الارتياح، لا يكون فكره واضحا الوضوح الكافي. وعلى العكس، يكفي أن يأخذ المرء قسطا من الراحة وأن يقوم بالرياضة البدنية او ان يغتسل حتى يتحسن شعوره ويتضح فكره. وهكذا نصل الى الاستنتاج القائل بأنه لا وجود للوعي ولا يمكن له أن يوجد بدون المادة.
ولكن ليس كل مادة تفكر، لقد أثبت العلم أن الطبيعة الحية قد تكونت من الطبيعة الغير حية.
والوعي الملازم للطبيعة الحية مرتبط بنشاط نصفي كرة الدماغ الكبيرتين. وقسما الدماغ هذان هما نتيجة لتطور تدريجي دام قرونا وقرونا وتطور في مجراه الجهاز العصبي وتعقد نشاطه، الى ان ظهر الدماغ البشري وظهر معه الوعي البشري أيضا. فالوعي ليس نتاج أية مادة كانت بل هو نتاج مادة عالية التنظيم- أنه نتاج نشاط الدماغ.
الوعي هو وظيفة الدماغ وليس بمستطاع الوعي الوجود بدون دماغ. وكون الوعي يتوقف على الدماغ بالذات هو أمر يثبته واقع أنه من الممكن إحياء الانسان اذا كان الموت قد حصل قبل برهة قصيرة من الوقت. أما اذا مر وقت طويل، فإن عمليات تحصل في الدماغ تؤدي الى تدميره النهائي.
ويمكن مع ذلك اعادة عمل القلب ولكن اعادة عمل الدماغ تستحيل: ففيه تجري عمليات تسمى بالعمليات التي لا رجعة لها. ولذا يُفقد الوعي بلا رجعه وذلك بالضبط لأن الدماغ قد كف عن العمل الى الأبد. وهنا يطرح السؤال ما هو الوعي؟ لنأخذ أية فكرة أي قول، مثلا: "إنني أرى هذا الكتاب" "هذا البيت مرتفع". من المفهوم تماما ان الذي يوجد في رأسنا ليس الكتاب وإنما الفكره عنه ليس البيت نفسه ، بل الفكرة عن البيت. وبكلمات أخرى ما يوجد في رأسنا هو صور الأشياء والظاهرات. وكل فكرة تتكون من مفاهيم، مثلا عبارة "الأوراق خضراء": هنا مفهومين "الأوراق" و "خضراء"، وتؤخذ هذه المفاهيم، من الحياة، من الواقع. فالاشياء موجودة موضوعيا وعلى أساسها نؤلف المفاهيم عنها. في البدء يوجد الكتاب، وبعد ذلك مفهومي عنه.
وعليه تكون المفاهيم ثانوية، قبل كل شيء الواقع المادي الموضوعي وبعد ذلك الانعكاس، الفكرة عنه، لذلك سمى لينين التفكير بأنه نسخ ،انعكاس للواقع. ففي التفكير يعاد انتاج الواقع ويجري رسمه وتصويره. فالوعي غير مادي، بل نسخه، صورة للواقع. ولكن الدماغ يعكس، يصور الواقع لا كما تفعل ذلك آلة التصوير العادية، ففي الرأس البشري الدماغ المتطور يتحول الواقع بصورة مناسبة بمعنى أن ما يوجد فيه ليس الأشياء والمواد نفسها وانما صورها المثالية الفكرية.
ومن هنا فالوعي خاصية المادة عالية التنظيم أي الدماغ.
منذ سن الطفولة يتكون وعي الانسان على اساس الكلمات اللغة ذلك لأنه بواسطتها يجري التعبير عن افكارنا. وفي سياق هذه العملية ينشأ تدريجيا شيء ما لا يتميز به غير الانسان! ان الفكرة وثيقة الارتباط بالنطق. وفصل الوعي البشري، التفكير عن النطق هو شيء مستحيل فبين اللغة والتفكير وحده عضوية لا تنقصم عراها. لقد أكد إنجلز أن ظهور النطق المفصل الواضح قد ساعد على اطراد تطور الدماغ البشري.
ولا يكفي ان يمتلك الانسان دماغا مكتملا حتى يمتلك الوعي البشري فعليه ايضا ان يعيش في مجتمع، في جماعه. فلا وجود للتفكير البشري خارج الجماعة، خارج المجتمع الانساني.
فالتفكير ينشأ كنتيجة لحياة الناس في المجتمع. ولا يمكن للتفكير أن يظهر إلا حينما يعكس الانسان الطبيعة من جهة وعندما يدخل من جهة أخرى في علاقات معينة من أناس آخرين في النشاط العملي الانتاجي.
ان العمل هو الذي خلق الانسان، المجتمع الانساني. وفي سياق العمل بالذات، في سياق النشاط الانتاجي نطور الدماغ البشري والوعي البشري. لهذا السبب نوه ماركس " بأن الوعي هو منذ البداية نتاج اجتماعي وسيبقى كذلك طالما يوجد الناس بوجه عام. ان الوعي هو نتاج حياة الانسان في المجتمع. انه ظاهرة اجتماعية".
وهذا يعني أنه لا يمكن للوعي ان يكون خارج المجتمع، كما لا يمكن ان يكون خارجه ايضا النطق، اللغة. فاللغة تنشأ بوصفها ضرورة وسيلة لتبادل الأفكار وسيلة للتعامل بين الناس.
في الكلمات تصبح الفكرة واقعية فطالما هي في رأس الانسان تكون ميتة مستحيلة المنال بالنسبة للناس الآخرين. ولذا أشار ماركس الى أن اللغة هي الواقع المباشر للفكرة. وهذا يعني أنه لا وجود للتفكير بغير الغلاف اللغوي، المادي. وحتى عندما لا نعبر عن أفكارنا بصوت مسموع بل نفكر فقط في أنفسنا كما يقال، نغلف ايضا هذه الافكار بغلاف من الكلمات، بغلاف لغوي وبفضل اللغة لا تصاغ الافكار وحسب بل تنقل كذلك للناس الآخرين.
المصدر الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
لكم مودتي
Comment