[CENTER]
مولده ونشأته
ولد سليمان الحلبي عام 1777م في قرية عفرين إلى الشمال الغربي من مدينة حلب وعاش في حي البياضة
بحلب، وقد تعلَّم مهنة الكتابة، وكان أبوه – واسمه محمد أمين - يعمل في مهنة بيع السمن وزيت الزيتون. عندما بلغ الشاب سليمان العشرين من عمره، أرسله أبوه عام 1797 براً إلى القاهرة ليتلقّى العلوم الإسلامية في الأزهر، فاستقر في «رواق الشوام» المخصص للسكن الداخلي لطلبة الأزهر من أبناء بلاد الشام، حيث التعلم والمبيت مع أقرانه الشوام .
وقد توطدت صلته بالشيخ أحمد الشرقاوي، أحد أساتذته الشيوخ في الأزهر، حتى أنه كان يبيت أحياناً في منزل هذا الشيخ الذي رفض الاستسلام للغزوة الفرنسية، مساهماً في إشعال فتيل ثورة القاهرة الأولى يوم 21 تشرين الأول عام 1798. وكان سليمان الحلبي بجانب أستاذه الشيخ الشرقاوي عند اقتحام جيش نابليون أرض الجيزة، ثم أرض «المحروسة» (القاهرة). وقد قتل الشيخ الشرقاوي فيما بعد على يد كليبر.
الاحتلال الفرنسي لمصر
تمكنت الحملة الفرنسية من احتلال مصر في عام 1798، وقد انطلقت الحملة من فرنسا في 19 أيار مكونة من 300 سفينة نقل تحمل 35 ألف عسكري وعتادهم، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من العلماء والمهندسين والجغرافيين، وتحميهم 55 سفينة حربية. احتل الفرنسيون الإسكندرية في 2 تموز من نفس العام، وتقدموا نحو القاهرة ليواجهوا قوات المماليك العثمانية (وهم من بقايا المماليك الذين تركهم العثمانيون لإدارة شؤون مصر) بقيادة مراد بيك في معركة أمبابة والتي انتهت بهزيمة المماليك ودخول الفرنسيين للقاهرة. أسرف الغزاة الفرنسيون في إذلال وإهانة سكان القاهرة، في الوقت الذي كان فيه إبراهيم بك يحرّض المصريين على الثورة ضد الغزاة من مكانه في غزة، ومراد بك يحض الشعب المصري على المقاومة في صعيد مصر. ما دفع نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر إلى الخداع، وذلك بإرساله رسالة إلى شريف مكة غالب بن مسعود، وإلى توجيه بيان آخر إلى مشايخ وأعيان «المحروسة» (القاهرة)، يبشرهم – حسب زعمه – بأنه قد هدَّم الكنائس في أوروبة، وأنه خلع بابا روما قبل قدومه إلى مصر، وأنه نصير للدين الإسلامي!!
لم يخدع الشعب المصري بتلك المزاعم فأطلق ثورة القاهرة الأولى ضد الغزاة الفرنسيين في 20 تشرين الأول عام 1798، انطلاقاً من منطقة الجامع الأزهر، وردَّ عليهم الغزاة بقذائف مدافعهم، تلك التي نالت من قدسية المسجد الأكبر ودنسته خيول الغزاة باحتلاله. ومما ذكره الجبرتي عن الجيش الفرنسي المحتل، قوله: «ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبو الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشَّموا خزائن الطلبة (....) ونهبوا ما وجدوا من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وتغوطوا وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه عرّوه، ومن ثيابه أخرجوه». ثم أنهم حكموا على ستة من شيوخ الأزهر بالإعدام، منهم الشيخ الشرقاوي أستاذ سليمان الحلبي، حيث اقتيدوا إلى القلعة، وضربت أعناقهم، وأخذت أجسادهم إلى أماكن غير معروفة.
بعد تمكن الغزاة من إخماد ثورة القاهرة الأولى، تضاعفت المظالم، ولوحق كل من جاهد وقاوم باسم الجهاد أو المقاومة الشعبية الوطنية المصرية الإسلامية، فاختفى من اختفى، وهرب من هرب، ثم توافرت الظروف لتوحيد خطط الجهاد داخلياً وخارجياً.
وكان نابليون قد اجتاح كلاً من خان يونس والعريش وغزة ويافا، وفشل في اجتياح أسوار عكا؛ نتيجة تحالف واليها أحمد باشا الملقب بالسفاح مع إبراهيم بك الذي غادر غزة إلى القدس وجبال نابلس والخليل، يثير روح المقاومة، إضافة إلى استمرار مساعيه في التحالف مع الآستانة، للوقوف في وجه الغزاة داخل مصر، وبعد فشله باقتحام عكا، عاد نابليون بجيشه إلى مصر مدحوراً من بلاد الشام، ومنها توجه سراً إلى فرنسة عن طريق البحر ليلة الإثنين 16 آب 1799 نظراً لاضطراب الظروف الداخلية فيها وتكتل القوى الأوروبية ضده، تاركاً قيادة جيشه في مصر إلى الجنرال كليبر أحد القادة المقربين له.
وقد واجه كليبر ثورات عديدة منها ثورة القاهرة الثانية (20 آذار–21 نيسان 1800)، فيما أسرف الفرنسيون في إهانة سكان القاهرة، فاعتقلوا الكثير، وأقيمت المذابح في الميادين، وتزايدت أساليب القمع والإرهاب، واشتد الضيق بين الناس. هكذا كانت مظاهر الاحتلال البشعة، حتى ذكر المؤرخون أنه قلما توجد في تاريخ الثورات فجائع تشبه ما عانته القاهرة بعد إخماد ثورتها الثانية، ووصل الأمر بالمحتلين إلى قتل المصريين جوعاً، إذ منع القوت عن القاهرة، وهكذا تولَّد لدى الناس الشعور بالظلم والاضطهاد من هذا المستعمر المجرم، فتدهورت الزراعة والصناعة والتجارة، وتوالى تحصيل الضرائب الباهظة، وفرض الأتاوات والمصادرات والنهب، فتزايدت الأوضاع الاقتصادية تدهوراً، ما أدى إلى تراكم سخط الشعب على الاحتلال الفرنسي.
سليمان الحلبي يعود إلى مصر
في ذلك الوقت الذي كانت تموج فيه البلاد بمساوئ الاحتلال، مع يقين المستعمر أنه في أوج انتصاره، وأنه قد أخمد الأنفاس، وقضى على حركة التحرير، قدم من حلب سليمان الحلبي، وعمره أربعة وعشرون عاماً؛ ليتابع دراسته في الأزهر الشريف، فأقام في القاهرة مع زملائه. وكان الأزهر الشريف في ذلك الوقت مشعلاً في إذكاء روح الثورة، وفي قيادة المقاومة الشعبية، وهكذا ولدت من بين جدران الأزهر فكرة الانتقام من الاحتلال في شخص قائد الحملة كليبر، إذ كان لابد من عمل وطني يهز الحملة الفرنسية، ويجعلها تشعر بأن المقاومة لم تمت رغم وفاة معظم قادتها، وأن الشعب لم يستسلم. وكان سليمان الحلبي قد غادر أرض مصر إلى بلاد الشام هرباً من بطش الفرنسيين بعد أن أقام في القاهرة ثلاث سنوات، فقضى فريضة الحج، ورحل بعدها إلى مسقط رأسه حلب، وهناك شاهد ما يلقاه الأهالي والتجار، وعلى رأسهم والده على يد واليها أحمد آغا، من الاضطهاد والتعسف ومطالبته لهم دائماً بالغرامات والضرائب التي أثقلت كاهلهم .وكلم سليمان الحلبي أحمد آغا مطالباً إياه بتخفيف الغرامة عن والده، فكلفه ذاك بالتوجه إلى مصر لقتل كليبر، سيما وأن سليمان الحلبي كان قد انضم إلى خلايا سرية تعمل على جهاد الفرنسيين.
وبعد أن وافق على إتمام المهمة، أرسله أحمد آغا إلى ياسين آغا في غزة ليعطيه مصروف المهمة، وانزوى سليمان الحلبي في عقر داره يفكر في رسم خطة يتبعها، فإذا به يأخذ طريقه في صباح أحد الأيام إلى القدس، فصلى في المسجد الأقصى في آذار 1800، ثم توجه إلى الخليل حيث إبراهيم بك ورجاله في نابلس.
وبعد عشرين يوماً من إقامته في الخليل، سار في نيسان 1800 إلى غزة ليدخل في استضافة ياسين آغا (أحد أنصار إبراهيم بك) في الجامع الكبير، وسلمه سليمان رسالة من أحمد آغا المقيم في حلب تتعلق بخطة تكليفه بقتل الجنرال كليبر، نظراً لكون سليمان عنصراً من عناصر المقاومة التي تناضل في سبيل تحرير مصر من الغزاة.
وفي غزة قابل سليمان ياسين آغا، ووعده الأخير بأن يرفع الغرامات عن أبيه، وأن يجعل نظره عليه في كل ما يلزمه إن استطاع ذلك، وأوصاه أن يسكن جامع الأزهر، وألاّ يخبر أحدًا عن مهمته. ثم سلّمه ياسين آغا 40 قرشاً لتغطية نفقات سفره برفقة قافلة الجمال التي تحمل الصابون والتبغ إلى مصر، وليشتري سكينة من محلة في بلدة غزة، وهي السكينة أو الخنجر الذي قتل به سليمان الجنرال كليبر.
واستغرقت رحلة القافلة من غزة إلى القاهرة ستة أيام، وانضم سليمان ثانية إلى مجموعة طلاب الأزهر الشوام المقيمين في رواق الشوام، وكان منهم أربعة من مقرئي القرآن من فتيان فلسطين أبناء غزة، وهم محمد وعبد الله وسعيد عبد القادر الغزي، وأحمد الوالي، وأعلمهم سليمان بعزمه على قتل الجنرال كليبر، وأنه نذر حياته للجهاد في سبيل تحرير مصر من الغزاة، ولكنهم لم يأخذوا كلامه أولاً على محمل الجد، باعتباره كان يمارس مهنة كاتب عربي (عرضحالجي).
مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي
وفي صباح يوم 14 حزيران عام 1800 توجه كليبر في عرض عسكري لكتيبة من الذين انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي بمصر، ولم يكن يعلم أن نهايته ستكون على يد شاب عربي سوري اسمه سليمان الحلبي، وعاد كليبر من استعراضه هذا ليتفقد أعمال الترميمات التي كانت تجرى في دار القيادة العامة، وعقب ذلك تناول الغداء مع رئيس أركان الحرب، ثم انصرف في صحبة كبير المهندسين الفرنسيين قسطنطين بروتان لتفقد أعمال الترميمات مرة أخرى ماراً بحديقة السراي (وهي قصر محمد بك الألفي في بركة الأزبكية الذي استولى عليه بونابرت وأقام فيه)، وبينما كان يتحدث مع المهندس خرج عليهما شاب نحيل متوسط الجسم، ظن كليبر أن له ملتمساً أو رجاء، أو أنه قدم ليقبل يده، وما كاد يلتفت إليه حتى عاجله بأربع طعنات مميتة من خنجره أصابته في صدره وبطنه وذراعه وخده الأيمن، وصاح كليبر: «إليّ أيها الحراس»، ثم سقط على الأرض، وحاول سليمان الحلبي الفرار، غير أن المهندس الفرنسي حاول الإمساك به فطعنه هو الآخر ست طعنات غير قاتلة، وعاد سليمان الحلبي إلى كليبر الساقط أرضاً، وطعنه عدة طعنات أخرى إمعاناً في التأكد من قتله، إلا أن الطعنة الأولى كانت قد أجهزت عليه، كونها قد نفذت إلى القلب. وهكذا كانت نهاية كليبر الذي كان يبلغ من العمر 47 عاماً، وتمكن سليمان من الهروب تاركاً عمامته، ونقل كليبر إلى مسكن رئيس الأركان حيث توفي من دون أن ينطق بكلمة واحدة، غير أن الجنود الفرنسيين سارعوا إلى البحث عن الفاعل، حتى تمكن اثنان من العساكر الفرنسيين من القبض على سليمان الحلبي، وهو مختبئ وراء حائط مهدوم بالقرب من مكان الحادث، كما وجدا السكين التي ارتكبت عملية القتل.
تحقيق ومحاكمة
تم إجراء تحقيق مبدئي بمعرفة الجنرال مينو باعتباره أقدم ضباط الحملة بعد كليبر، وظهر من الاستجواب الأول أن الشاب المقبوض عليه يسمى سليمان الحلبي، وأنه ولد في مدينة حلب بولاية الشام، وعمره أربع وعشرون سنة، وأنه قدم إلى القاهرة مع إحدى القوافل فنزل في الجامع الأزهر. غير أن سليمان أنكر ما نسب إليه من جريمة قتل كليبر، والشروع في قتل المهندس بروتان، فتليت عليه الأدلة التي تدينه فأنكرها، فقرر المجلس العسكري إحالته إلى العذاب، فشد وثاقه، وما زال يجلد حتى التمس الصفح، ووعد بقول الحقيقة، فرفع عنه العذاب، واستجوب ثانية، فاعترف أنه قدم إلى القاهرة من غزة منذ واحد وثلاثين يوماً، ولم يكن قدومه مع إحدى القوافل، بل كان على هجين استحضره خصيصاً لذلك، فقطع المسافة بين غزة والقاهرة في ستة أيام، وأنه جاء إلى القاهرة لقتل الجنرال كليبر الذي اعتدى على الشعب والعلماء وبيوت الله. وسئل هل حرّضه على ذلك أحد في مصر؟ وهل أخبر أحداً بنيته؟ فأجاب أن أحداً لم يحرضه في مصر، غير أنه تعرف منذ سكنه في الجامع الأزهر بأربعة مشايخ هم:
- محمد الغزي 25 سنة.
- أحمد الوالي 28 سنة.
- عبد الله الغزي 30 سنة.
- عبد القادر الغزي (لم يتمكنوا من ضبطه مباشرة) وجميعهم من غزة.
وأنه أطلعهم على مشروعه فنصحوه بالرجوع عنه لاستحالة تنفيذه، واعترف أيضاً أنه تردد على الجيزة لرؤية القائد العام والاستفهام عنه وعن غدواته، فعلم أنه ينزل أحياناً إلى الحديقة، وأنه رآه في هذا الصباح يجتاز النيل في قاربه، فتبعه حتى قتله في الحديقة.
فأصدر القائد العام مينو في الحال أمراً بالقبض على الأربعة المذكورين، ولم تمضِ ساعة حتى قبض على ثلاثة منهم، وأحضروا في الحال إلى المجلس العسكري وبدئ باستجوابهم، وقد أنكروا أن سليمان الحلبي قد كاشفهم بنيته في قتل الجنرال، وقد أدى استجواب المشايخ إلى القبض على شخص آخر هو مصطفى أفندي البورصلي، وقدم للاستجواب فقرر ما يأتي: إنه يسمى مصطفى أفندي البورصلي، ومولده في بورصة من أعمال الأناضول، وعمره واحد وثمانون سنة، وصناعته معلم وسكنه مدينة القاهرة، قرر أن سليمان تلميذه منذ ثلاثة أعوام، وأنه قدم إلى القاهرة منذ نحو عشرين يوماً وزاره في منزله للسلام عليه، فأضافه ليلة واحدة لفقره ولسابق علاقته به، وأن سليمان أخبره أنه حضر ليتقن القرآن الكريم، ولم يخبره عن سبب آخر لحضوره، ولم يفض إليه مطلقاً بشيء يتعلق بنيته في ارتكاب الجريمة، وأنه لا يخرج كثيراً من منزله؛ لكبر سنه وضعفه.
وقد ووجه الأستاذ بتلميذه، فأقره سليمان على جميع أقواله، ولما انتهى التحقيق الابتدائي، أصدر الجنرال مينو في اليوم التالي قراراً بإنشاء محكمة لمحاكمة المتهمين، مؤلفة من تسعة أعضاء، وبعد أن تمت مرافعة المقرر، وقرئت أوراق التحقيق ثانية، أُحضر المتهمون إلى قاعة الجلسة من دون أغلال، وسألهم رئيس المحكمة بحضور وكيلهم المترجم عدة أسئلة أخيرة، فلم يغيروا شيئاً من أجوبتهم السابقة، ثم سألهم إن كان لديهم ما يبرئون به أنفسهم، فلم يجيبوا بشيء، عندئذ أمر الرئيس بإخلاء الجلسة من الحضور، واختلت المحكمة للمداولة، ثم عادت إلى الانعقاد، وأصدرت حكمها بإدانة كل من: سليمان الحلبي ومحمد الغزي وعبد الله الغزي وعبد القادر الغزي، والسيد أحمد الوالي، وبراءة مصطفى أفندي البورصلي وإطلاق سراحه، وقضت على المحكوم عليهم بالعقوبات الآتية:
1- أن تحرق اليد اليمنى لسليمان الحلبي، ثم يعدم فوق الخازوق، وتترك جثته فوقه حتى تفترسها الجوارح، وأن يكون ذلك خارج البلاد فوق التل المعروف باسم تل العقارب، وأن يقع التنفيذ علناً عقب تشييع جنازة القائد العام، وبحضور رجال الجيش وأهل البلاد.
2- أن يعدم عبد القادر الغزي على الخازوق أيضاً، وأن تصادر أمواله من عقار ومنقول لحساب الجمهورية الفرنسية.
3- أن يعدم كل من محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي بقطع الرأس، ثم توضع رؤوسهم فوق الرماح، وتحرق جثثهم بالنار، وأن يكون ذلك فوق تل العقارب أيضاً وأمام سليمان الحلبي قبل أن ينفذ فيه الحكم.
وقرئ الحكم على المتهمين بواسطة المترجم، فيكون ما استغرقته هذه القضية من تحقيق ومحاكمة هو أربعة أيام فقط.
جنازة كليبر وتنفيذ الأحكام
في اليوم التالي تأهب الفرنسيون لدفن قائدهم القتيل، فشيّعوا جنازته في موكب حافل، ولما ابتدأت الجنازة بالتحرك أطلقت مدافع وبنادق كثيرة، ثم ابتدأ الموكب بالمسير، فلما وصلوا إلى تل العقارب بالقرب من القلعة التي بنوها هنالك أطلقوا عدة مدافع أخرى، وكانوا قد أحضروا سليمان الحلبي وزملاءه. وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من ذاك اليوم أي في 28 حزيران 1800، نفذ حكم الإعدام بالفلسطينيين الثلاثة أمام سليمان الحلبي، وتم حرق أجسادهم حتى التفحم، وقد تم ذلك كله أمام سليمان الحلبي وقبل إعدامه، ثم أحرقت اليد اليمنى لسليمان الحلبي، وغرز وتد الخازوق في مؤخرته فوق التل، وبقي جثمانه على الخازوق، ثم استأنف الموكب سيره حتى وصل إلى باب قصر العيني، وهنالك واروا الصندوق الرصاصي الذي وضعوا فيه كليبر في كثيب من التراب، وأحاطوا مكانه بسياج من الخشب، غطوه بالقماش الأبيض، وبالعلم الفرنسي، ووضعوا فوق العلم السكين التي استخدمها سليمان الحلبي، وزرعوا حوله أعواد السرو، ونصّب على القبر جنديان مسلحان يتناوبان حراسته ليل نهار.
أما الجنرال مينو الذي كان من قبل «ساري عسكر مدينة الرشيد»، والذي عينه بونابرت قبل رحيله عن مصر، فقد كان قد أشهر إسلامه بلعبة سياسية قذرة، وسمى نفسه «عبد الله مينو» وتزوج من سيدة مطلقة، رحلت معه إلى فرنسا بعد نجاح الخلافة العثمانية بالتحالف مع بريطانيا في إرغامه على الانسحاب من مصر ومعه كل رجاله، لينضم إلى مسيرة نابليون بونابرت الذي ارتقى إلى منصب قنصل فرنسة، قبل أن يغدو إمبراطورها الأعظم، ثم أسيراً في جزيرة ألبا، ثم في جزيرة سانت هيلانة، حيث قضى نحبه مسموماً بسائل الزرنيخ.
وقد حمل الجنرال عبد الله جاك مينو معه إلى باريس عظام الجنرال كليبر في صندوق وعظام سليمان الحلبي في صندوق آخر. وعند إنشاء متحف أنفاليد (الشهداء) بالقرب من متحف اللوفر، تم تخصيص اثنين من الرفوف في إحدى قاعاته، رف أعلى وضعت عليه جمجمة الجنرال كليبر، وإلى جانبها لوحة صغيرة كتب عليها: «جمجمة البطل الجنرال كليبر»، ورف أدنى تحته وضعت عليه جمجمة سليمان الحلبي، وإلى جانبها لوحة صغيرة كتب عليها: «جمجمة المجرم سليمان الحلبي»، ولا تزال الجمجمتان معروضتين في متحف أنفاليد حتى اليوم.
وهكذا كان إعدام سليمان الحلبي بمنتهى القسوة والوحشية، فعلى الرغم من تمسك الفرنسيين أثناء المحاكمة بالإجراءات القضائية الحديثة، واهتمامهم بمظاهر الحضارة الأوروبية، إلا أن ما تم من إجراءات كان بعيداً عن الحضارة الإنسانية، ويمثّل صورة بشعة من صور الهمجية، ويكشف عن الوجه الحقيقي للحضارة الغربية المتشدقة والمتبجحة بالإنسانية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
آراء في قضية سليمان الحلبي
تعددت الروايات التي دارت حول سليمان الحلبي وحول الهدف الذي كان وراء قتله الجنرال كليبر، ولا شك أن تلك الروايات التي حاولت تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف الاستشهاد في سبيل حرية مصر وأبنائها، تبقى روايات سعى أصحابها إلى نفي صفة البطولة عن هذا المناضل القومي لأسباب عديدة قد نعرف بعضها، ولا نعرف بعضها الآخر. وهناك من يعتبر قضية سليمان الحلبي لغزاً من ألغاز التاريخ تكتنفه علامات الاستفهام، ومنهم من يعتبر سليمان الحلبي خائناً وعميلاً، ومنهم من يشير إلى أن انتقامه كان بدافع الحب!!
وما تلك الإشارات إلا لمحو الدافع القومي الوطني الذي كان سبيلاً لتقديم الحلبي روحه من أجل هذا الوطن .
وقد ظلم هذا البطل على المستويين الرسمي والتاريخي، إذ لم ينصفه من كتب تاريخ تلك الحقبة من الزمن وخاصة الجبرتي، فمروا على ذكره في عبارة تاريخية موجزة تلصق به صفات لا تليق بمن حمل في فكره لواء الدفاع عن أرض بلاده.
وكتب عبد الهادي البكار في صحيفة الشرق الأوسط عن ذلك تحت عنوان «شهيد وبطل أم خائن وعميل .. سليمان الحلبي بين الجبرتي والمؤرخين المعاصرين» يندد بمحاولة تجريد اسم الحلبي من شرف البطولة، ويشير إلى ما يقضي به الوفاء من انضمام الجهود المصرية إلى الجهود السورية لرد الاعتبار إلى الحلبي، فيقول :«ومايحزن القلب حقاً، أن تأتي محاولة تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف البطولة والاستشهاد في ذكرى استشهاده المئوية الثانية، من أرض مصر الغالية الحبيبة التي أحبها سليمان الحلبي حتى الموت، ووهبها حياته دون أي تردد تلفظه الجسارة وتتناقض معه. وإذا كانت أطراف سورية غير رسمية قد سعت خلال السنتين المنصرمتين لدى فرنسا معبرة عن رغبتها برد الاعتبار إلى اسم سليمان الحلبي وتطهيره من صفة المجرم اللصيقة بجمجمته في متحف أنفاليد، وبالموافقة على أن تسترد سورية رفاته من فرنسا لإعادة دفنها في مسقط رأسه (عفرين) أو في مدينة حلب، بصفته بطلاً من شهداء الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، فإن العدل وفضيلة الوفاء يقضيان بضم جهود مصر إلى الجهود السورية في هذا السبيل، وبخاصة أن مصر ملتزمة بفضيلة الوفاء التاريخي في كل العصور، ومن حق روح سليمان الحلبي عليها، أن يكون له نصيب من هذا الوفاء المصري التاريخي الشهير المضاد لكل ألوان الإجحاف والظلم والجحود».
لكن مايسترعي الانتباه والنظر هو ماكتبه المؤرخون المستشرقون عن الحملة الفرنسية على مصر وعن الشجاعة والإقدام اللذين قابل بهما سليمان الحلبي مصيره بعد أن ألقي القبض عليه، وفي ذلك نقرأ ماكتبه لوتسكي عن بطولته :«وقد قابل سليمان الموت ببسالة، إذ وضع يده بجرأة في النار الملتهبة، ولم ينبس ببنت شفة حينما كانت تحترق، كما كان باسلاً طيلة الساعات الأربع والنصف التي قضى من بعدها نحبه وهو مخوزق».
ينما يصف لنا هنري لورنس بعض ماحدث بقوله :«ولحسن الحظ يتم العثور على القاتل الذي كان قد لاذ بحديقة مجاورة، وهو حلبي اسمه سليمان، ويجري على الفور التحقيق معه وتعذيبه على يد بارتيملي الذي يحصل على كل حقائق المسألة، لقد تصرف الرجل بمفرده، وقد اكتفى بكشف المشايخ من الأزهر الذين حاولوا ثنيه عنه دون أن يقوموا مع ذلك بإبلاغ السلطات الفرنسية، ويجري دعوة الشيخين الشرقاوي والعريشي إلى الاجتماع فوراً، وتصدر إليهما الأوامر بالتحرك لإلقاء القبض على عدد من الأزهريين، وتجتمع محكمة عسكرية في 15 و16 يونيو وتحكم على الحلبي بقطع زنده، وبخوزقته علناً، ولا يحق للأزهريين غير الاكتفاء بقطع رؤوسهم، وبعد الدفن يتحرك الحاضرون لمشاهدة عذاب إعدام القاتل، ويجري البدء بقطع رؤوس المشايخ المرتعدين، ثم يحرق بارتيملي زند القاتل ويتجه إلى خوزقته، ويتصرف الحلبي بشجاعة مردداً الشهادتين وآيات من القرآن».
حملة شعبية تطالب باسترداد جمجمة ورفات سليمان الحلبي من باريس
[COLOR=#000000][SIZE=4][FONT=book antiqua]
يعتبر الدكتور شاكر مصطفى من أوائل المؤرخين الذين تابعوا قضية سليمان الحلبي وطالبوا باسترداد جثمانه، وهو الذي راعه رؤية جمجمته في متحف الإنسان في باريس وتحتها دمغة الإجرام، فراح يصف لنا ما رآه في ذاك المتحف، وما أثاره ذلك المشهد من ذكريات عادت به إلى ما كاd
مولده ونشأته
ولد سليمان الحلبي عام 1777م في قرية عفرين إلى الشمال الغربي من مدينة حلب وعاش في حي البياضة
بحلب، وقد تعلَّم مهنة الكتابة، وكان أبوه – واسمه محمد أمين - يعمل في مهنة بيع السمن وزيت الزيتون. عندما بلغ الشاب سليمان العشرين من عمره، أرسله أبوه عام 1797 براً إلى القاهرة ليتلقّى العلوم الإسلامية في الأزهر، فاستقر في «رواق الشوام» المخصص للسكن الداخلي لطلبة الأزهر من أبناء بلاد الشام، حيث التعلم والمبيت مع أقرانه الشوام .
وقد توطدت صلته بالشيخ أحمد الشرقاوي، أحد أساتذته الشيوخ في الأزهر، حتى أنه كان يبيت أحياناً في منزل هذا الشيخ الذي رفض الاستسلام للغزوة الفرنسية، مساهماً في إشعال فتيل ثورة القاهرة الأولى يوم 21 تشرين الأول عام 1798. وكان سليمان الحلبي بجانب أستاذه الشيخ الشرقاوي عند اقتحام جيش نابليون أرض الجيزة، ثم أرض «المحروسة» (القاهرة). وقد قتل الشيخ الشرقاوي فيما بعد على يد كليبر.
الاحتلال الفرنسي لمصر
تمكنت الحملة الفرنسية من احتلال مصر في عام 1798، وقد انطلقت الحملة من فرنسا في 19 أيار مكونة من 300 سفينة نقل تحمل 35 ألف عسكري وعتادهم، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من العلماء والمهندسين والجغرافيين، وتحميهم 55 سفينة حربية. احتل الفرنسيون الإسكندرية في 2 تموز من نفس العام، وتقدموا نحو القاهرة ليواجهوا قوات المماليك العثمانية (وهم من بقايا المماليك الذين تركهم العثمانيون لإدارة شؤون مصر) بقيادة مراد بيك في معركة أمبابة والتي انتهت بهزيمة المماليك ودخول الفرنسيين للقاهرة. أسرف الغزاة الفرنسيون في إذلال وإهانة سكان القاهرة، في الوقت الذي كان فيه إبراهيم بك يحرّض المصريين على الثورة ضد الغزاة من مكانه في غزة، ومراد بك يحض الشعب المصري على المقاومة في صعيد مصر. ما دفع نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر إلى الخداع، وذلك بإرساله رسالة إلى شريف مكة غالب بن مسعود، وإلى توجيه بيان آخر إلى مشايخ وأعيان «المحروسة» (القاهرة)، يبشرهم – حسب زعمه – بأنه قد هدَّم الكنائس في أوروبة، وأنه خلع بابا روما قبل قدومه إلى مصر، وأنه نصير للدين الإسلامي!!
لم يخدع الشعب المصري بتلك المزاعم فأطلق ثورة القاهرة الأولى ضد الغزاة الفرنسيين في 20 تشرين الأول عام 1798، انطلاقاً من منطقة الجامع الأزهر، وردَّ عليهم الغزاة بقذائف مدافعهم، تلك التي نالت من قدسية المسجد الأكبر ودنسته خيول الغزاة باحتلاله. ومما ذكره الجبرتي عن الجيش الفرنسي المحتل، قوله: «ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبو الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشَّموا خزائن الطلبة (....) ونهبوا ما وجدوا من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وتغوطوا وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه عرّوه، ومن ثيابه أخرجوه». ثم أنهم حكموا على ستة من شيوخ الأزهر بالإعدام، منهم الشيخ الشرقاوي أستاذ سليمان الحلبي، حيث اقتيدوا إلى القلعة، وضربت أعناقهم، وأخذت أجسادهم إلى أماكن غير معروفة.
بعد تمكن الغزاة من إخماد ثورة القاهرة الأولى، تضاعفت المظالم، ولوحق كل من جاهد وقاوم باسم الجهاد أو المقاومة الشعبية الوطنية المصرية الإسلامية، فاختفى من اختفى، وهرب من هرب، ثم توافرت الظروف لتوحيد خطط الجهاد داخلياً وخارجياً.
وكان نابليون قد اجتاح كلاً من خان يونس والعريش وغزة ويافا، وفشل في اجتياح أسوار عكا؛ نتيجة تحالف واليها أحمد باشا الملقب بالسفاح مع إبراهيم بك الذي غادر غزة إلى القدس وجبال نابلس والخليل، يثير روح المقاومة، إضافة إلى استمرار مساعيه في التحالف مع الآستانة، للوقوف في وجه الغزاة داخل مصر، وبعد فشله باقتحام عكا، عاد نابليون بجيشه إلى مصر مدحوراً من بلاد الشام، ومنها توجه سراً إلى فرنسة عن طريق البحر ليلة الإثنين 16 آب 1799 نظراً لاضطراب الظروف الداخلية فيها وتكتل القوى الأوروبية ضده، تاركاً قيادة جيشه في مصر إلى الجنرال كليبر أحد القادة المقربين له.
وقد واجه كليبر ثورات عديدة منها ثورة القاهرة الثانية (20 آذار–21 نيسان 1800)، فيما أسرف الفرنسيون في إهانة سكان القاهرة، فاعتقلوا الكثير، وأقيمت المذابح في الميادين، وتزايدت أساليب القمع والإرهاب، واشتد الضيق بين الناس. هكذا كانت مظاهر الاحتلال البشعة، حتى ذكر المؤرخون أنه قلما توجد في تاريخ الثورات فجائع تشبه ما عانته القاهرة بعد إخماد ثورتها الثانية، ووصل الأمر بالمحتلين إلى قتل المصريين جوعاً، إذ منع القوت عن القاهرة، وهكذا تولَّد لدى الناس الشعور بالظلم والاضطهاد من هذا المستعمر المجرم، فتدهورت الزراعة والصناعة والتجارة، وتوالى تحصيل الضرائب الباهظة، وفرض الأتاوات والمصادرات والنهب، فتزايدت الأوضاع الاقتصادية تدهوراً، ما أدى إلى تراكم سخط الشعب على الاحتلال الفرنسي.
سليمان الحلبي يعود إلى مصر
في ذلك الوقت الذي كانت تموج فيه البلاد بمساوئ الاحتلال، مع يقين المستعمر أنه في أوج انتصاره، وأنه قد أخمد الأنفاس، وقضى على حركة التحرير، قدم من حلب سليمان الحلبي، وعمره أربعة وعشرون عاماً؛ ليتابع دراسته في الأزهر الشريف، فأقام في القاهرة مع زملائه. وكان الأزهر الشريف في ذلك الوقت مشعلاً في إذكاء روح الثورة، وفي قيادة المقاومة الشعبية، وهكذا ولدت من بين جدران الأزهر فكرة الانتقام من الاحتلال في شخص قائد الحملة كليبر، إذ كان لابد من عمل وطني يهز الحملة الفرنسية، ويجعلها تشعر بأن المقاومة لم تمت رغم وفاة معظم قادتها، وأن الشعب لم يستسلم. وكان سليمان الحلبي قد غادر أرض مصر إلى بلاد الشام هرباً من بطش الفرنسيين بعد أن أقام في القاهرة ثلاث سنوات، فقضى فريضة الحج، ورحل بعدها إلى مسقط رأسه حلب، وهناك شاهد ما يلقاه الأهالي والتجار، وعلى رأسهم والده على يد واليها أحمد آغا، من الاضطهاد والتعسف ومطالبته لهم دائماً بالغرامات والضرائب التي أثقلت كاهلهم .وكلم سليمان الحلبي أحمد آغا مطالباً إياه بتخفيف الغرامة عن والده، فكلفه ذاك بالتوجه إلى مصر لقتل كليبر، سيما وأن سليمان الحلبي كان قد انضم إلى خلايا سرية تعمل على جهاد الفرنسيين.
وبعد أن وافق على إتمام المهمة، أرسله أحمد آغا إلى ياسين آغا في غزة ليعطيه مصروف المهمة، وانزوى سليمان الحلبي في عقر داره يفكر في رسم خطة يتبعها، فإذا به يأخذ طريقه في صباح أحد الأيام إلى القدس، فصلى في المسجد الأقصى في آذار 1800، ثم توجه إلى الخليل حيث إبراهيم بك ورجاله في نابلس.
وبعد عشرين يوماً من إقامته في الخليل، سار في نيسان 1800 إلى غزة ليدخل في استضافة ياسين آغا (أحد أنصار إبراهيم بك) في الجامع الكبير، وسلمه سليمان رسالة من أحمد آغا المقيم في حلب تتعلق بخطة تكليفه بقتل الجنرال كليبر، نظراً لكون سليمان عنصراً من عناصر المقاومة التي تناضل في سبيل تحرير مصر من الغزاة.
وفي غزة قابل سليمان ياسين آغا، ووعده الأخير بأن يرفع الغرامات عن أبيه، وأن يجعل نظره عليه في كل ما يلزمه إن استطاع ذلك، وأوصاه أن يسكن جامع الأزهر، وألاّ يخبر أحدًا عن مهمته. ثم سلّمه ياسين آغا 40 قرشاً لتغطية نفقات سفره برفقة قافلة الجمال التي تحمل الصابون والتبغ إلى مصر، وليشتري سكينة من محلة في بلدة غزة، وهي السكينة أو الخنجر الذي قتل به سليمان الجنرال كليبر.
واستغرقت رحلة القافلة من غزة إلى القاهرة ستة أيام، وانضم سليمان ثانية إلى مجموعة طلاب الأزهر الشوام المقيمين في رواق الشوام، وكان منهم أربعة من مقرئي القرآن من فتيان فلسطين أبناء غزة، وهم محمد وعبد الله وسعيد عبد القادر الغزي، وأحمد الوالي، وأعلمهم سليمان بعزمه على قتل الجنرال كليبر، وأنه نذر حياته للجهاد في سبيل تحرير مصر من الغزاة، ولكنهم لم يأخذوا كلامه أولاً على محمل الجد، باعتباره كان يمارس مهنة كاتب عربي (عرضحالجي).
مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي
وفي صباح يوم 14 حزيران عام 1800 توجه كليبر في عرض عسكري لكتيبة من الذين انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي بمصر، ولم يكن يعلم أن نهايته ستكون على يد شاب عربي سوري اسمه سليمان الحلبي، وعاد كليبر من استعراضه هذا ليتفقد أعمال الترميمات التي كانت تجرى في دار القيادة العامة، وعقب ذلك تناول الغداء مع رئيس أركان الحرب، ثم انصرف في صحبة كبير المهندسين الفرنسيين قسطنطين بروتان لتفقد أعمال الترميمات مرة أخرى ماراً بحديقة السراي (وهي قصر محمد بك الألفي في بركة الأزبكية الذي استولى عليه بونابرت وأقام فيه)، وبينما كان يتحدث مع المهندس خرج عليهما شاب نحيل متوسط الجسم، ظن كليبر أن له ملتمساً أو رجاء، أو أنه قدم ليقبل يده، وما كاد يلتفت إليه حتى عاجله بأربع طعنات مميتة من خنجره أصابته في صدره وبطنه وذراعه وخده الأيمن، وصاح كليبر: «إليّ أيها الحراس»، ثم سقط على الأرض، وحاول سليمان الحلبي الفرار، غير أن المهندس الفرنسي حاول الإمساك به فطعنه هو الآخر ست طعنات غير قاتلة، وعاد سليمان الحلبي إلى كليبر الساقط أرضاً، وطعنه عدة طعنات أخرى إمعاناً في التأكد من قتله، إلا أن الطعنة الأولى كانت قد أجهزت عليه، كونها قد نفذت إلى القلب. وهكذا كانت نهاية كليبر الذي كان يبلغ من العمر 47 عاماً، وتمكن سليمان من الهروب تاركاً عمامته، ونقل كليبر إلى مسكن رئيس الأركان حيث توفي من دون أن ينطق بكلمة واحدة، غير أن الجنود الفرنسيين سارعوا إلى البحث عن الفاعل، حتى تمكن اثنان من العساكر الفرنسيين من القبض على سليمان الحلبي، وهو مختبئ وراء حائط مهدوم بالقرب من مكان الحادث، كما وجدا السكين التي ارتكبت عملية القتل.
تحقيق ومحاكمة
تم إجراء تحقيق مبدئي بمعرفة الجنرال مينو باعتباره أقدم ضباط الحملة بعد كليبر، وظهر من الاستجواب الأول أن الشاب المقبوض عليه يسمى سليمان الحلبي، وأنه ولد في مدينة حلب بولاية الشام، وعمره أربع وعشرون سنة، وأنه قدم إلى القاهرة مع إحدى القوافل فنزل في الجامع الأزهر. غير أن سليمان أنكر ما نسب إليه من جريمة قتل كليبر، والشروع في قتل المهندس بروتان، فتليت عليه الأدلة التي تدينه فأنكرها، فقرر المجلس العسكري إحالته إلى العذاب، فشد وثاقه، وما زال يجلد حتى التمس الصفح، ووعد بقول الحقيقة، فرفع عنه العذاب، واستجوب ثانية، فاعترف أنه قدم إلى القاهرة من غزة منذ واحد وثلاثين يوماً، ولم يكن قدومه مع إحدى القوافل، بل كان على هجين استحضره خصيصاً لذلك، فقطع المسافة بين غزة والقاهرة في ستة أيام، وأنه جاء إلى القاهرة لقتل الجنرال كليبر الذي اعتدى على الشعب والعلماء وبيوت الله. وسئل هل حرّضه على ذلك أحد في مصر؟ وهل أخبر أحداً بنيته؟ فأجاب أن أحداً لم يحرضه في مصر، غير أنه تعرف منذ سكنه في الجامع الأزهر بأربعة مشايخ هم:
- محمد الغزي 25 سنة.
- أحمد الوالي 28 سنة.
- عبد الله الغزي 30 سنة.
- عبد القادر الغزي (لم يتمكنوا من ضبطه مباشرة) وجميعهم من غزة.
وأنه أطلعهم على مشروعه فنصحوه بالرجوع عنه لاستحالة تنفيذه، واعترف أيضاً أنه تردد على الجيزة لرؤية القائد العام والاستفهام عنه وعن غدواته، فعلم أنه ينزل أحياناً إلى الحديقة، وأنه رآه في هذا الصباح يجتاز النيل في قاربه، فتبعه حتى قتله في الحديقة.
فأصدر القائد العام مينو في الحال أمراً بالقبض على الأربعة المذكورين، ولم تمضِ ساعة حتى قبض على ثلاثة منهم، وأحضروا في الحال إلى المجلس العسكري وبدئ باستجوابهم، وقد أنكروا أن سليمان الحلبي قد كاشفهم بنيته في قتل الجنرال، وقد أدى استجواب المشايخ إلى القبض على شخص آخر هو مصطفى أفندي البورصلي، وقدم للاستجواب فقرر ما يأتي: إنه يسمى مصطفى أفندي البورصلي، ومولده في بورصة من أعمال الأناضول، وعمره واحد وثمانون سنة، وصناعته معلم وسكنه مدينة القاهرة، قرر أن سليمان تلميذه منذ ثلاثة أعوام، وأنه قدم إلى القاهرة منذ نحو عشرين يوماً وزاره في منزله للسلام عليه، فأضافه ليلة واحدة لفقره ولسابق علاقته به، وأن سليمان أخبره أنه حضر ليتقن القرآن الكريم، ولم يخبره عن سبب آخر لحضوره، ولم يفض إليه مطلقاً بشيء يتعلق بنيته في ارتكاب الجريمة، وأنه لا يخرج كثيراً من منزله؛ لكبر سنه وضعفه.
وقد ووجه الأستاذ بتلميذه، فأقره سليمان على جميع أقواله، ولما انتهى التحقيق الابتدائي، أصدر الجنرال مينو في اليوم التالي قراراً بإنشاء محكمة لمحاكمة المتهمين، مؤلفة من تسعة أعضاء، وبعد أن تمت مرافعة المقرر، وقرئت أوراق التحقيق ثانية، أُحضر المتهمون إلى قاعة الجلسة من دون أغلال، وسألهم رئيس المحكمة بحضور وكيلهم المترجم عدة أسئلة أخيرة، فلم يغيروا شيئاً من أجوبتهم السابقة، ثم سألهم إن كان لديهم ما يبرئون به أنفسهم، فلم يجيبوا بشيء، عندئذ أمر الرئيس بإخلاء الجلسة من الحضور، واختلت المحكمة للمداولة، ثم عادت إلى الانعقاد، وأصدرت حكمها بإدانة كل من: سليمان الحلبي ومحمد الغزي وعبد الله الغزي وعبد القادر الغزي، والسيد أحمد الوالي، وبراءة مصطفى أفندي البورصلي وإطلاق سراحه، وقضت على المحكوم عليهم بالعقوبات الآتية:
1- أن تحرق اليد اليمنى لسليمان الحلبي، ثم يعدم فوق الخازوق، وتترك جثته فوقه حتى تفترسها الجوارح، وأن يكون ذلك خارج البلاد فوق التل المعروف باسم تل العقارب، وأن يقع التنفيذ علناً عقب تشييع جنازة القائد العام، وبحضور رجال الجيش وأهل البلاد.
2- أن يعدم عبد القادر الغزي على الخازوق أيضاً، وأن تصادر أمواله من عقار ومنقول لحساب الجمهورية الفرنسية.
3- أن يعدم كل من محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي بقطع الرأس، ثم توضع رؤوسهم فوق الرماح، وتحرق جثثهم بالنار، وأن يكون ذلك فوق تل العقارب أيضاً وأمام سليمان الحلبي قبل أن ينفذ فيه الحكم.
وقرئ الحكم على المتهمين بواسطة المترجم، فيكون ما استغرقته هذه القضية من تحقيق ومحاكمة هو أربعة أيام فقط.
جنازة كليبر وتنفيذ الأحكام
في اليوم التالي تأهب الفرنسيون لدفن قائدهم القتيل، فشيّعوا جنازته في موكب حافل، ولما ابتدأت الجنازة بالتحرك أطلقت مدافع وبنادق كثيرة، ثم ابتدأ الموكب بالمسير، فلما وصلوا إلى تل العقارب بالقرب من القلعة التي بنوها هنالك أطلقوا عدة مدافع أخرى، وكانوا قد أحضروا سليمان الحلبي وزملاءه. وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من ذاك اليوم أي في 28 حزيران 1800، نفذ حكم الإعدام بالفلسطينيين الثلاثة أمام سليمان الحلبي، وتم حرق أجسادهم حتى التفحم، وقد تم ذلك كله أمام سليمان الحلبي وقبل إعدامه، ثم أحرقت اليد اليمنى لسليمان الحلبي، وغرز وتد الخازوق في مؤخرته فوق التل، وبقي جثمانه على الخازوق، ثم استأنف الموكب سيره حتى وصل إلى باب قصر العيني، وهنالك واروا الصندوق الرصاصي الذي وضعوا فيه كليبر في كثيب من التراب، وأحاطوا مكانه بسياج من الخشب، غطوه بالقماش الأبيض، وبالعلم الفرنسي، ووضعوا فوق العلم السكين التي استخدمها سليمان الحلبي، وزرعوا حوله أعواد السرو، ونصّب على القبر جنديان مسلحان يتناوبان حراسته ليل نهار.
أما الجنرال مينو الذي كان من قبل «ساري عسكر مدينة الرشيد»، والذي عينه بونابرت قبل رحيله عن مصر، فقد كان قد أشهر إسلامه بلعبة سياسية قذرة، وسمى نفسه «عبد الله مينو» وتزوج من سيدة مطلقة، رحلت معه إلى فرنسا بعد نجاح الخلافة العثمانية بالتحالف مع بريطانيا في إرغامه على الانسحاب من مصر ومعه كل رجاله، لينضم إلى مسيرة نابليون بونابرت الذي ارتقى إلى منصب قنصل فرنسة، قبل أن يغدو إمبراطورها الأعظم، ثم أسيراً في جزيرة ألبا، ثم في جزيرة سانت هيلانة، حيث قضى نحبه مسموماً بسائل الزرنيخ.
وقد حمل الجنرال عبد الله جاك مينو معه إلى باريس عظام الجنرال كليبر في صندوق وعظام سليمان الحلبي في صندوق آخر. وعند إنشاء متحف أنفاليد (الشهداء) بالقرب من متحف اللوفر، تم تخصيص اثنين من الرفوف في إحدى قاعاته، رف أعلى وضعت عليه جمجمة الجنرال كليبر، وإلى جانبها لوحة صغيرة كتب عليها: «جمجمة البطل الجنرال كليبر»، ورف أدنى تحته وضعت عليه جمجمة سليمان الحلبي، وإلى جانبها لوحة صغيرة كتب عليها: «جمجمة المجرم سليمان الحلبي»، ولا تزال الجمجمتان معروضتين في متحف أنفاليد حتى اليوم.
وهكذا كان إعدام سليمان الحلبي بمنتهى القسوة والوحشية، فعلى الرغم من تمسك الفرنسيين أثناء المحاكمة بالإجراءات القضائية الحديثة، واهتمامهم بمظاهر الحضارة الأوروبية، إلا أن ما تم من إجراءات كان بعيداً عن الحضارة الإنسانية، ويمثّل صورة بشعة من صور الهمجية، ويكشف عن الوجه الحقيقي للحضارة الغربية المتشدقة والمتبجحة بالإنسانية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
آراء في قضية سليمان الحلبي
تعددت الروايات التي دارت حول سليمان الحلبي وحول الهدف الذي كان وراء قتله الجنرال كليبر، ولا شك أن تلك الروايات التي حاولت تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف الاستشهاد في سبيل حرية مصر وأبنائها، تبقى روايات سعى أصحابها إلى نفي صفة البطولة عن هذا المناضل القومي لأسباب عديدة قد نعرف بعضها، ولا نعرف بعضها الآخر. وهناك من يعتبر قضية سليمان الحلبي لغزاً من ألغاز التاريخ تكتنفه علامات الاستفهام، ومنهم من يعتبر سليمان الحلبي خائناً وعميلاً، ومنهم من يشير إلى أن انتقامه كان بدافع الحب!!
وما تلك الإشارات إلا لمحو الدافع القومي الوطني الذي كان سبيلاً لتقديم الحلبي روحه من أجل هذا الوطن .
وقد ظلم هذا البطل على المستويين الرسمي والتاريخي، إذ لم ينصفه من كتب تاريخ تلك الحقبة من الزمن وخاصة الجبرتي، فمروا على ذكره في عبارة تاريخية موجزة تلصق به صفات لا تليق بمن حمل في فكره لواء الدفاع عن أرض بلاده.
وكتب عبد الهادي البكار في صحيفة الشرق الأوسط عن ذلك تحت عنوان «شهيد وبطل أم خائن وعميل .. سليمان الحلبي بين الجبرتي والمؤرخين المعاصرين» يندد بمحاولة تجريد اسم الحلبي من شرف البطولة، ويشير إلى ما يقضي به الوفاء من انضمام الجهود المصرية إلى الجهود السورية لرد الاعتبار إلى الحلبي، فيقول :«ومايحزن القلب حقاً، أن تأتي محاولة تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف البطولة والاستشهاد في ذكرى استشهاده المئوية الثانية، من أرض مصر الغالية الحبيبة التي أحبها سليمان الحلبي حتى الموت، ووهبها حياته دون أي تردد تلفظه الجسارة وتتناقض معه. وإذا كانت أطراف سورية غير رسمية قد سعت خلال السنتين المنصرمتين لدى فرنسا معبرة عن رغبتها برد الاعتبار إلى اسم سليمان الحلبي وتطهيره من صفة المجرم اللصيقة بجمجمته في متحف أنفاليد، وبالموافقة على أن تسترد سورية رفاته من فرنسا لإعادة دفنها في مسقط رأسه (عفرين) أو في مدينة حلب، بصفته بطلاً من شهداء الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، فإن العدل وفضيلة الوفاء يقضيان بضم جهود مصر إلى الجهود السورية في هذا السبيل، وبخاصة أن مصر ملتزمة بفضيلة الوفاء التاريخي في كل العصور، ومن حق روح سليمان الحلبي عليها، أن يكون له نصيب من هذا الوفاء المصري التاريخي الشهير المضاد لكل ألوان الإجحاف والظلم والجحود».
لكن مايسترعي الانتباه والنظر هو ماكتبه المؤرخون المستشرقون عن الحملة الفرنسية على مصر وعن الشجاعة والإقدام اللذين قابل بهما سليمان الحلبي مصيره بعد أن ألقي القبض عليه، وفي ذلك نقرأ ماكتبه لوتسكي عن بطولته :«وقد قابل سليمان الموت ببسالة، إذ وضع يده بجرأة في النار الملتهبة، ولم ينبس ببنت شفة حينما كانت تحترق، كما كان باسلاً طيلة الساعات الأربع والنصف التي قضى من بعدها نحبه وهو مخوزق».
ينما يصف لنا هنري لورنس بعض ماحدث بقوله :«ولحسن الحظ يتم العثور على القاتل الذي كان قد لاذ بحديقة مجاورة، وهو حلبي اسمه سليمان، ويجري على الفور التحقيق معه وتعذيبه على يد بارتيملي الذي يحصل على كل حقائق المسألة، لقد تصرف الرجل بمفرده، وقد اكتفى بكشف المشايخ من الأزهر الذين حاولوا ثنيه عنه دون أن يقوموا مع ذلك بإبلاغ السلطات الفرنسية، ويجري دعوة الشيخين الشرقاوي والعريشي إلى الاجتماع فوراً، وتصدر إليهما الأوامر بالتحرك لإلقاء القبض على عدد من الأزهريين، وتجتمع محكمة عسكرية في 15 و16 يونيو وتحكم على الحلبي بقطع زنده، وبخوزقته علناً، ولا يحق للأزهريين غير الاكتفاء بقطع رؤوسهم، وبعد الدفن يتحرك الحاضرون لمشاهدة عذاب إعدام القاتل، ويجري البدء بقطع رؤوس المشايخ المرتعدين، ثم يحرق بارتيملي زند القاتل ويتجه إلى خوزقته، ويتصرف الحلبي بشجاعة مردداً الشهادتين وآيات من القرآن».
حملة شعبية تطالب باسترداد جمجمة ورفات سليمان الحلبي من باريس
[COLOR=#000000][SIZE=4][FONT=book antiqua]
يعتبر الدكتور شاكر مصطفى من أوائل المؤرخين الذين تابعوا قضية سليمان الحلبي وطالبوا باسترداد جثمانه، وهو الذي راعه رؤية جمجمته في متحف الإنسان في باريس وتحتها دمغة الإجرام، فراح يصف لنا ما رآه في ذاك المتحف، وما أثاره ذلك المشهد من ذكريات عادت به إلى ما كاd
Comment