رأيت وجهه باكياً للمرة الأولى بعد معرفة دامت الخمسة عشرة سنة .......
أعاد فتحي الثانوية العامة للمرة الثانية بعد أن خانه الحظ ولم يخرج بمعدل يمكّنه من متابعة جامعته ،
ولكن هذا الحظ لم يأبَ إلا أن يخونه من جديد ؛ خرج فتحي بمعدل أدخله كلية الرياضيات التي لم يحبها طوال سنين دراسته، أعاد السنة الأولى مرتين حتى تمكن بشق الأنفس من الترفع للثانية.
في هذه الأثناء كان أبو فتحي يصارع مرض السرطان في قسم الطب النووي في مشفى المواساة ، مشكلاً العبء المادي والنفسي على العائلة بأكملها ، بعد أن أجبره هذا المرض على إغلاق محل سكب المعادن الذي كان يقتات منه وعائلته.
هذا الوضع دفع فتحي للسفر إلى السعودية ليعمل بشركة تعمل في مجال المعلوماتية حالماً بأن يؤمن لقمة العيش لعائلته والدواء لوالده وبدل إيجار المنزل المتراكم منذ عدة شهور ؛ وذلك بعد أن يسد الدين الذي ترتب عليه جراء تكاليف السفر.
كانت الشركة عبارة عن رجل سعودي "الكفيل" لديه متجر صغير لبيع أجهزة الحاسوب.
ولم يكن لفتحي مكان في هذا المتجر حيث أنه عليه أن يجد لنفسه عمل ويدفع مبلغ شهري للكفيل مقابل إبقائه في السعودية، ومما زاد الطين بلّة أنه لا يمكن اللجوء إلى السلطات هناك لأن المفتش العام في مكتب العمل الخاص بتلك المدينة كان عمّ الكفيل ويتغاضى عنه ويرفض الشكاوى المقدمة ضده.
كوّن فتحي لنفسه عمل بمساعدة بعض أبناء الوطن في الغربة فاستأجر مكتبة صغيرة وعمل
بها ، أمضى ست سنوات، قضاها بدون أي إثبات رسمي على أنه مقيم في السعودية ؛ فجواز السفر محجوز لدى الكفيل الذي رفض تجديد الإقامة لفتحي بعد مرور السنة الأولى على إقامته بحجة أنه لم يدفع له المعلوم الشهري المتفق عليه، وبالتالي لم يستطع أن يقوم بإثبات غربته لدى شعبة التجنيد في دمشق التي اعتبرته متخلفاً عن الخدمة الإلزامية وأصدرت وثيقة البحث عنه وعممتها على كامل القطر ، كإجراء روتيني يطبق على كل متخلف عن الخدمة الإلزامية.
ساعد فتحي عائلته بقضاء بعض الديون ، ولم يستطع تقديم العلاج لوالده فكان الموت أسبق منه له.
عاد فتحي ........
حدثت بعض الأعمال الإرهابية في المدينة التي عمل بها فتحي ، فقامت الشرطة السعودية بتفتيش المحلات القريبة من مكان العمل الإرهابي وكانت مكتبة فتحي أحد هذه المحلات .
أحد رجال الشرطة المتشددين بالدين وأثناء تفتيشه للمكتبة وجد داخل حاسب فتحي:
- بعض الفلاشات (مقاطع فيديو خاصة بالموبايل) الفكاهية التي نتداولها عادة عن طريق الموبايلات والبريد الالكتروني ، اعتبر هذه الفلاشات صوراً خلاعية لأن من بينها صورة تركيبية لأسامة بن لادن بلباس البحر وأخرى لأحد المطربات العربيات نصف عارية.
- كتاب الكتروني يحكي كيف توحدت قبائل الملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز وعن الظلم الذي لحق ببعض هذه القبائل، وهذا الكتاب كان ممنوع من التداول ضمن المملكة مع أنه متوفر على الكثير من المواقع الالكترونية ويمكن لأي شخص أن يقوم بتنزيل هذا الكتاب وحفظه على حاسبه.
تم اعتقال الكافر والمعارض فتحي مباشرة دون السماح له بإخبار أحد أو أخذ بعض الاحتياطات مثل الذهاب للمنزل أو تسليم دفتر بيع الآجل في المكتبة لأحد أو أو أو ....
خلال الاستجواب اتهم المحقق فتحي بأنه من دولة كافرة علمانية لا ترفع شعار الدين وأن هذه البلد ويقصد سورية ترسل أبنائها لنشر السموم الشيوعية في العالم.
مع التنويه أن طول فترة الاستجواب والحجز لم يلقى فتحي أي شكل من أشكال المعاملة السيئة أو المهينة.
تم ترحيل الكافر والمعارض فتحي بتهمة حيازة الصور الخلاعية والمنشورات المعادية للسلطة إلى سجن مطار جدة ليتم تسفيره على متن الخطوط الجوية السعودية إلى سوريا.
سمح لفتحي بعد قضاء ما يقارب 25 يوم في سجن المطار بالاتصال بالسفارة السورية كونه لا يملك جواز سفر، وهنا استذكر أنا اهتمام السفارات الأجنبية برعاياها عندما كان جواب مكتب القنصل السوري هناك بالحرف الواحد: " عندنا أسواق ومعارض ولسنا متفرغين لمشاكلكم أنتم السوريون الذي تسودون وجوهنا دائماً "
أغلقت السماعة في وجه فتحي ومعها فتحت أبواب الشقاء.
وصل فتحي مطار دمشق الدولي بعد غياب 6 سنوات تاركاً وراءه ملابسه وأدواته وحاسبه وبضاعة مكتبته ونقوده وحتى الديون الآجلة التي كانت بذمة زبائن المكتبة.
لم يسمح لأحد برؤيته سوا أنا وأخوه بعد أن تكلمنا مع أحد موظفي المطار الذي كان يقطن بالقرب من بيت فتحي.
كانت المقابلة دقيقتان من خلال نافذة صغيرة لا تكفي حتى لتبادل القبل والعناق ، وتم ترحيله بنفس اليوم إلى سجن الهجرة والجوازات ، هناك استغرق التحقيق معه حول موضوع جواز السفر يومان لم يسمح لنا برؤيته بشكل رسمي إلا خلال فترات الليل وبشكل مخفي.
كتب الضبط ونقل إلى قسم الآداب في الأمن الجنائي للبحث في قضية الصور الخلاعية وهناك قضى يومان لم يسمح لنا أبداً برؤيته لا رسمياً ولا بشكل غير رسمي.
أود أن أنوه أننا حاولنا توكيل محام ، لحضور الاستجوابات أو لإخراجه بكفالة فكانت المفاجأة الصاعقة لنا عندما أجابنا المحامي أنكم لستم بأمريكا ، ولايمكن للمحامي حضور هذه الاستجوابات ولا يمكن إخراجه بكفالة إلى أن يتم عرضه على النيابة وهذا قد يستغرق أياماً وربما أسابيع.
عندما انتهوا منه في قسم الأمن الجنائي تقرر إحالته إلى الأمن السياسي في منطقة الفيحاء للتحقيق معه على أن يعيدوه إلى قسم الهجرة والجوازات لاستكمال أوراق القضية. والجميع طمأننا أن فتحي هناك سيكرم ويستقبل أفضل استقبال.
لم نتجرأ على السؤال عنه هناك وحتى المحامي كان جوابه " هناك ليس لأحد خبز " .
في صباح اليوم التالي انتظرنا في قسم الهجرة والجوازات بانتظار وصول فتحي ، لأول مرة رأيت عيني فتحي تذرف الدموع وعلامات الضرب والأذى بادية على وجهه ورقبته ـ هذا الذي بدا للعيان ـ .
هناك أمر فتحي البالغ من العمر الثلاثين من عمره والمتعلم والمثقف بخلع ملابسه والجثو على ركبتيه بالسروال الداخلي أمام ثلة من الشباب أعمارهم تتراوح بين العشرينات وبدأوا بالتحقيق معه بالركل والضرب بالأقدام والأدوات التي لم يتبين ماهيتها لأنه كان من غير المسموح له رفع رأسه والنظر إلى من يضربه.
كان الاستجواب في قمة الغباء ولم يأخذوا أي معلومة من فتحي ترضي رغباتهم وتجعلهم أبطال قوميون وتبرزهم أمام قادتهم بأنهم توصلوا إلى مسك خيط في خلية إرهابية تبيع جوازات السفر السورية إلى إرهابيين سعوديين.
في الصباح الباكر أعادوا فتحي إلى قسم الهجرة والجوازات ومن ثم تم ترحيله مباشرة دون السماح لأحد برؤيته إلى القصر العدلي للعرض على القاضي، وكان على فتحي انتظار دوره فالقاضي لديه الكثير من القضايا التي يجب دراستها .
استغرق عرض فتحي على القاضي ثلاثة أيام كان البرنامج اليومي أن يأتوا بفتحي صباحاً من سجن عدرا المركزي إلى القصر العدلي ، ينتظر دوره للعرض على القاضي حتى انتهاء الدوام الرسمي ومن ثم يعاد ترحيله إلى سجن عدرا بما يسمى الاستيداع وهكذا دواليك حتى أتى دور فتحي في اليوم الثالث وكانت النتيجة أنه لاجرم على فتحي ويخرج براءة إذا لم يكن موقوفاً بجرم آخر أو أن يكون مطلوب للخدمة الإلزامية ، وهنا كان على فتحي أن يذهب للالتحاق بالخدمة الإلزامية ويخدم هذا الوطن الذي استقبله الاستقبال الحافل استقبال الأبطال.
أتت سيارة شعبة التجنيد واستلمت فتحي مباشرة من سجن القصر العدلي وسلم للشرطة العسكرية التي أرسلته في صباح اليوم التالي إلى النبك لاستلام فرزه ومن هناك بعد مرور الخمسة عشر يوماً تقريباً استلم الفرز العسكري وهو الآن يقضي الخدمة الإلزامية في قسم الكمبيوتر في أحد الألوية مستفيدين منه ومن مهاراته بتطوير بعض البرمجيات الخاصة بهم ، والقيام بأعمال الصيانة لحواسب الثكنات الأخرى القريبة، حتى أن خدماته وصلت لحواسب الضباط الشخصية في المنازل.
أول مرة رأى فتحي عائلته كان بعد دخوله بلده سوريا بعشرين يوم تقريباً.
ينتظر فتحي بفارغ الصبر إنهاء فترة الخدمة الإلزامية ليجهز نفسه للهروب من جديد لبلد يجد ذاته ويجد فيها من يحترم الإنسان لإنسانيته.
أحببت أن أكتب هذه السطور لتسليط الضوء على هذه البقع السوداء التي لم ولن يطالها أي إصلاح :
- من يعيد للمواطن السوري احترامه في الخارج من قبل السفارات.
- من يحاسب المقصرين في السفارات حتى لو كان السفير نفسه.
- من سيحاكم الكفلاء السعوديين الذين يعيشون من عرق المغتربين.
- من سيعيد النظر في موضوع التخلف عن الخدمة الإلزامية وعدم سوق المسافر من مراكز الحدود وكأنه مجرم هارب إلى شعبة التجنيد مباشرة.
- من يحاسب فروع الأمن وطرق استجوابها ومن المسؤول عن الذل والهوان والأذى النفسي والجسدي الذي يتعرض له المواطن حتى لو كان بريئاً.
- من يحدد درجة ثقافة المحقق وخلفيته الطائفية والدينية ووعيه النفسي.
- من يحدد حق المواطن بأن لا يقر بأي اعتراف أمام أي محقق دون وجود محاميه الخاص.
- من يعطي الأمان للمحامي لكي يتدخل ويحمي موكله في فروع الأمن.
- من سيجلس في قصر العدل ويرى العشوائية التي تسيّر فيها مثل هذه الدعاوى.
- من سيقنع فتحي بالبقاء بالبلد.
- من سيقدم لفتحي حبوب النسيان لكي ينسى صورة هذا المحقق (الصغير بكل شيء : صغير العمر والأدب والعلم والإنسانية و ...) وهو ينهال على جسده العار ضرباً.
- من سيقول لفتحي بأن لك حق الشكوى على هذا المحقق وعلى رئيسه الذي كلفه بهذه المهمة بتهمة الأذى النفسي والجسدي .
- من ومن ومن ومن ومن ........
وتصبحون على وطن.
أعاد فتحي الثانوية العامة للمرة الثانية بعد أن خانه الحظ ولم يخرج بمعدل يمكّنه من متابعة جامعته ،
ولكن هذا الحظ لم يأبَ إلا أن يخونه من جديد ؛ خرج فتحي بمعدل أدخله كلية الرياضيات التي لم يحبها طوال سنين دراسته، أعاد السنة الأولى مرتين حتى تمكن بشق الأنفس من الترفع للثانية.
في هذه الأثناء كان أبو فتحي يصارع مرض السرطان في قسم الطب النووي في مشفى المواساة ، مشكلاً العبء المادي والنفسي على العائلة بأكملها ، بعد أن أجبره هذا المرض على إغلاق محل سكب المعادن الذي كان يقتات منه وعائلته.
هذا الوضع دفع فتحي للسفر إلى السعودية ليعمل بشركة تعمل في مجال المعلوماتية حالماً بأن يؤمن لقمة العيش لعائلته والدواء لوالده وبدل إيجار المنزل المتراكم منذ عدة شهور ؛ وذلك بعد أن يسد الدين الذي ترتب عليه جراء تكاليف السفر.
كانت الشركة عبارة عن رجل سعودي "الكفيل" لديه متجر صغير لبيع أجهزة الحاسوب.
ولم يكن لفتحي مكان في هذا المتجر حيث أنه عليه أن يجد لنفسه عمل ويدفع مبلغ شهري للكفيل مقابل إبقائه في السعودية، ومما زاد الطين بلّة أنه لا يمكن اللجوء إلى السلطات هناك لأن المفتش العام في مكتب العمل الخاص بتلك المدينة كان عمّ الكفيل ويتغاضى عنه ويرفض الشكاوى المقدمة ضده.
كوّن فتحي لنفسه عمل بمساعدة بعض أبناء الوطن في الغربة فاستأجر مكتبة صغيرة وعمل
بها ، أمضى ست سنوات، قضاها بدون أي إثبات رسمي على أنه مقيم في السعودية ؛ فجواز السفر محجوز لدى الكفيل الذي رفض تجديد الإقامة لفتحي بعد مرور السنة الأولى على إقامته بحجة أنه لم يدفع له المعلوم الشهري المتفق عليه، وبالتالي لم يستطع أن يقوم بإثبات غربته لدى شعبة التجنيد في دمشق التي اعتبرته متخلفاً عن الخدمة الإلزامية وأصدرت وثيقة البحث عنه وعممتها على كامل القطر ، كإجراء روتيني يطبق على كل متخلف عن الخدمة الإلزامية.
ساعد فتحي عائلته بقضاء بعض الديون ، ولم يستطع تقديم العلاج لوالده فكان الموت أسبق منه له.
عاد فتحي ........
حدثت بعض الأعمال الإرهابية في المدينة التي عمل بها فتحي ، فقامت الشرطة السعودية بتفتيش المحلات القريبة من مكان العمل الإرهابي وكانت مكتبة فتحي أحد هذه المحلات .
أحد رجال الشرطة المتشددين بالدين وأثناء تفتيشه للمكتبة وجد داخل حاسب فتحي:
- بعض الفلاشات (مقاطع فيديو خاصة بالموبايل) الفكاهية التي نتداولها عادة عن طريق الموبايلات والبريد الالكتروني ، اعتبر هذه الفلاشات صوراً خلاعية لأن من بينها صورة تركيبية لأسامة بن لادن بلباس البحر وأخرى لأحد المطربات العربيات نصف عارية.
- كتاب الكتروني يحكي كيف توحدت قبائل الملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز وعن الظلم الذي لحق ببعض هذه القبائل، وهذا الكتاب كان ممنوع من التداول ضمن المملكة مع أنه متوفر على الكثير من المواقع الالكترونية ويمكن لأي شخص أن يقوم بتنزيل هذا الكتاب وحفظه على حاسبه.
تم اعتقال الكافر والمعارض فتحي مباشرة دون السماح له بإخبار أحد أو أخذ بعض الاحتياطات مثل الذهاب للمنزل أو تسليم دفتر بيع الآجل في المكتبة لأحد أو أو أو ....
خلال الاستجواب اتهم المحقق فتحي بأنه من دولة كافرة علمانية لا ترفع شعار الدين وأن هذه البلد ويقصد سورية ترسل أبنائها لنشر السموم الشيوعية في العالم.
مع التنويه أن طول فترة الاستجواب والحجز لم يلقى فتحي أي شكل من أشكال المعاملة السيئة أو المهينة.
تم ترحيل الكافر والمعارض فتحي بتهمة حيازة الصور الخلاعية والمنشورات المعادية للسلطة إلى سجن مطار جدة ليتم تسفيره على متن الخطوط الجوية السعودية إلى سوريا.
سمح لفتحي بعد قضاء ما يقارب 25 يوم في سجن المطار بالاتصال بالسفارة السورية كونه لا يملك جواز سفر، وهنا استذكر أنا اهتمام السفارات الأجنبية برعاياها عندما كان جواب مكتب القنصل السوري هناك بالحرف الواحد: " عندنا أسواق ومعارض ولسنا متفرغين لمشاكلكم أنتم السوريون الذي تسودون وجوهنا دائماً "
أغلقت السماعة في وجه فتحي ومعها فتحت أبواب الشقاء.
وصل فتحي مطار دمشق الدولي بعد غياب 6 سنوات تاركاً وراءه ملابسه وأدواته وحاسبه وبضاعة مكتبته ونقوده وحتى الديون الآجلة التي كانت بذمة زبائن المكتبة.
لم يسمح لأحد برؤيته سوا أنا وأخوه بعد أن تكلمنا مع أحد موظفي المطار الذي كان يقطن بالقرب من بيت فتحي.
كانت المقابلة دقيقتان من خلال نافذة صغيرة لا تكفي حتى لتبادل القبل والعناق ، وتم ترحيله بنفس اليوم إلى سجن الهجرة والجوازات ، هناك استغرق التحقيق معه حول موضوع جواز السفر يومان لم يسمح لنا برؤيته بشكل رسمي إلا خلال فترات الليل وبشكل مخفي.
كتب الضبط ونقل إلى قسم الآداب في الأمن الجنائي للبحث في قضية الصور الخلاعية وهناك قضى يومان لم يسمح لنا أبداً برؤيته لا رسمياً ولا بشكل غير رسمي.
أود أن أنوه أننا حاولنا توكيل محام ، لحضور الاستجوابات أو لإخراجه بكفالة فكانت المفاجأة الصاعقة لنا عندما أجابنا المحامي أنكم لستم بأمريكا ، ولايمكن للمحامي حضور هذه الاستجوابات ولا يمكن إخراجه بكفالة إلى أن يتم عرضه على النيابة وهذا قد يستغرق أياماً وربما أسابيع.
عندما انتهوا منه في قسم الأمن الجنائي تقرر إحالته إلى الأمن السياسي في منطقة الفيحاء للتحقيق معه على أن يعيدوه إلى قسم الهجرة والجوازات لاستكمال أوراق القضية. والجميع طمأننا أن فتحي هناك سيكرم ويستقبل أفضل استقبال.
لم نتجرأ على السؤال عنه هناك وحتى المحامي كان جوابه " هناك ليس لأحد خبز " .
في صباح اليوم التالي انتظرنا في قسم الهجرة والجوازات بانتظار وصول فتحي ، لأول مرة رأيت عيني فتحي تذرف الدموع وعلامات الضرب والأذى بادية على وجهه ورقبته ـ هذا الذي بدا للعيان ـ .
هناك أمر فتحي البالغ من العمر الثلاثين من عمره والمتعلم والمثقف بخلع ملابسه والجثو على ركبتيه بالسروال الداخلي أمام ثلة من الشباب أعمارهم تتراوح بين العشرينات وبدأوا بالتحقيق معه بالركل والضرب بالأقدام والأدوات التي لم يتبين ماهيتها لأنه كان من غير المسموح له رفع رأسه والنظر إلى من يضربه.
كان الاستجواب في قمة الغباء ولم يأخذوا أي معلومة من فتحي ترضي رغباتهم وتجعلهم أبطال قوميون وتبرزهم أمام قادتهم بأنهم توصلوا إلى مسك خيط في خلية إرهابية تبيع جوازات السفر السورية إلى إرهابيين سعوديين.
في الصباح الباكر أعادوا فتحي إلى قسم الهجرة والجوازات ومن ثم تم ترحيله مباشرة دون السماح لأحد برؤيته إلى القصر العدلي للعرض على القاضي، وكان على فتحي انتظار دوره فالقاضي لديه الكثير من القضايا التي يجب دراستها .
استغرق عرض فتحي على القاضي ثلاثة أيام كان البرنامج اليومي أن يأتوا بفتحي صباحاً من سجن عدرا المركزي إلى القصر العدلي ، ينتظر دوره للعرض على القاضي حتى انتهاء الدوام الرسمي ومن ثم يعاد ترحيله إلى سجن عدرا بما يسمى الاستيداع وهكذا دواليك حتى أتى دور فتحي في اليوم الثالث وكانت النتيجة أنه لاجرم على فتحي ويخرج براءة إذا لم يكن موقوفاً بجرم آخر أو أن يكون مطلوب للخدمة الإلزامية ، وهنا كان على فتحي أن يذهب للالتحاق بالخدمة الإلزامية ويخدم هذا الوطن الذي استقبله الاستقبال الحافل استقبال الأبطال.
أتت سيارة شعبة التجنيد واستلمت فتحي مباشرة من سجن القصر العدلي وسلم للشرطة العسكرية التي أرسلته في صباح اليوم التالي إلى النبك لاستلام فرزه ومن هناك بعد مرور الخمسة عشر يوماً تقريباً استلم الفرز العسكري وهو الآن يقضي الخدمة الإلزامية في قسم الكمبيوتر في أحد الألوية مستفيدين منه ومن مهاراته بتطوير بعض البرمجيات الخاصة بهم ، والقيام بأعمال الصيانة لحواسب الثكنات الأخرى القريبة، حتى أن خدماته وصلت لحواسب الضباط الشخصية في المنازل.
أول مرة رأى فتحي عائلته كان بعد دخوله بلده سوريا بعشرين يوم تقريباً.
ينتظر فتحي بفارغ الصبر إنهاء فترة الخدمة الإلزامية ليجهز نفسه للهروب من جديد لبلد يجد ذاته ويجد فيها من يحترم الإنسان لإنسانيته.
أحببت أن أكتب هذه السطور لتسليط الضوء على هذه البقع السوداء التي لم ولن يطالها أي إصلاح :
- من يعيد للمواطن السوري احترامه في الخارج من قبل السفارات.
- من يحاسب المقصرين في السفارات حتى لو كان السفير نفسه.
- من سيحاكم الكفلاء السعوديين الذين يعيشون من عرق المغتربين.
- من سيعيد النظر في موضوع التخلف عن الخدمة الإلزامية وعدم سوق المسافر من مراكز الحدود وكأنه مجرم هارب إلى شعبة التجنيد مباشرة.
- من يحاسب فروع الأمن وطرق استجوابها ومن المسؤول عن الذل والهوان والأذى النفسي والجسدي الذي يتعرض له المواطن حتى لو كان بريئاً.
- من يحدد درجة ثقافة المحقق وخلفيته الطائفية والدينية ووعيه النفسي.
- من يحدد حق المواطن بأن لا يقر بأي اعتراف أمام أي محقق دون وجود محاميه الخاص.
- من يعطي الأمان للمحامي لكي يتدخل ويحمي موكله في فروع الأمن.
- من سيجلس في قصر العدل ويرى العشوائية التي تسيّر فيها مثل هذه الدعاوى.
- من سيقنع فتحي بالبقاء بالبلد.
- من سيقدم لفتحي حبوب النسيان لكي ينسى صورة هذا المحقق (الصغير بكل شيء : صغير العمر والأدب والعلم والإنسانية و ...) وهو ينهال على جسده العار ضرباً.
- من سيقول لفتحي بأن لك حق الشكوى على هذا المحقق وعلى رئيسه الذي كلفه بهذه المهمة بتهمة الأذى النفسي والجسدي .
- من ومن ومن ومن ومن ........
وتصبحون على وطن.
مواطن
Comment