* مشير باسيل عون
في كتابه الجديد "الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والاسلام" يستأنف الباحث الدكتور مشير باسيل عون سعيه نحو بلورة رؤية معرفية معاصرة في حوار الاديان. ولئن كان سبق لصاحب الكتاب ان مضى بعيدا في حقل التأصيل النظري والعملي لحوار من نوع جديد بين المسيحيين والمسلمين، فعمله هذا هو ادنى الى كونه اطروحة تأسيسية لمثل هذا الحوار. من هنا وجه الأهمية للعمل. ذلك انه ينضوي في سياق المجهودات التي أسس لها المجمع الفاتيكاني الثاني "1962 ـ 1965".
المجهودات التي رأى الكثيرون اليها باعتبارها "ثورة كوبرنيكية" في لاهوت الكنيسة الكاثوليكية حيال الاديان الاخرى، ولا سيما منها الاسلام. مذ ذاك اخذت تتبلور اطروحة لاهوتية تجعل من مبدأ الحوار مع الاسلام والمسلمين في الشرق وعلى الصعيد العالمي شرعة تواصل خلاق ضمن التنوع البشري فلو ان لنا ان نرى الى ما حمله الكتاب على الجملة، لظهرت الاطروحة على مسمى "اكثر جلاء هو" لاهوت الحوار.
فالكتاب الذي يقدمه لنا الاب عون، يدور كله مدار هذا المسمى ولسوف يتبدى للقارئ مدى الاشتغال الدءوب على "لاهوت الحوار" ليكون اللغة الاصل، في اعادة صوغ مفاتيح نظرية ومعرفية جديدة لانظمة القيم، ولآليات التواصل الايماني والاخلاقي والانساني بين الاديان التوحيدية.
يمكن القول، ان الكتاب هو مسعى تفسيري معاصر للمضامين التي التأم عليها المجمع الفاتيكاني الثاني قبل نحو أربعين سنة. فهو على ما يبين الاب عون، مجمع التجديد اللاهوتي الاوسع أثرا في تاريخ الكنيسة كله، ومن خلاله اختبر الفكر المسيحي اللاهوتي الكاثوليكي صحوة بليغة في تحسس مسائل التعدد الكوني والديني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
هكذا، يشكل "المجمع" القاعدة التاريخية للتجديد، ولتأصيل اطروحة "لاهوت الحرية" بل ان المؤلف يمضي في توسيع فضاء هذه القاعدة ليجعل منها الارض التي ينطلق منها اللاهوت المعاصر نحو تلك الغاية. وهو في ذلك، لم يبتن غائيته على الفراغ، او على شغف بتجديد خارج حقلي الايمان الكنسي والزمن التاريخي، عنده يقترن "المايجب" ان يكون،
بما هو كائن فعلا. وعلى هذا النحو يسري الايمان المنعقد بالكتاب المقدس في الزمن الاجتماعي للبشرية، مؤيدا ومسددا بلاهوت بلغ كماله التاريخي بالحوار والسعة، وفهم الخلاص الآثم، على انه خلاص للبشرية كلها، وليس خلاص المؤمنين المسيحيين وحسب.
لعل قول المؤلف، بواجبية الحوار الواقعة في اصل المسيحية، يفضي الى واحدة من أهم وأدق القواعد الايمانية لـ "لاهوت الحوار". فلكي لا يفهم من انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني على أنه نتيجة تحولات تاريخية وفكرية املتها شروط التكيف مع حركية القرن العشرين، يذهب المؤلف الى ما هو أعمق غورا.
لقد رأى ان القول بضرورة الحوار الوجودية، لا يكفي لتوطيد التصور الحواري في المسيحية والاسلام، ولترسيخ الموقف الحواري الشامل بين المسيحيين والمسلمين اذ لابد من البحث في تضاعيف المضامين اللاهوتية التي ينطوي عليها الدين المسيحي والدين الاسلامي، والتنقيب عن الاسباب اللاهوتية القصية التي تجعل من الحوار المسيحي الاسلامي واجبا دينيا لا معدل عنه على الاطلاق".
ولسوف نرى فيما بعد كيف ان المؤلف وضع الادلة النقلية والعملية على واجبية الحوار، سواء من الانجيل المقدس، او مما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني من مقررات فلو نحن توقفنا مليا بازاء تقرير "واجبية الحوار" لألف بؤرة المعنى المركزية التي اتكأ المؤلف عليها ليصوغ عمارته المعرفية اللاهوتية.
من النقاط المحورية في مسعى المصنف، ان اطروحة الحوارية تنطلق من منطقة اللاهوت بقاعدتيه: الايمانية الانجيلية والتاريخية المعاصرة للكنيسة الكاثوليكية.
وذلك "ان انتماءه الى الفكر المسيحي اللاهوتي الكاثوليكي في مسعاه المستمر الى تحري التجديد وامانة الابداع هو الذي يبرر استناد جميع هذه الدراسات الى التصور اللاهوتي الذي تركن اليه الكنيسة الكاثوليكية في هيئة تعليمها اللاهوتي الرسمي، وفي اختبارات مؤمنيها الوجودية، وفي تلمسات كبار علمائها" "ص 8".
هذه النقطة تظهر مشروعية الكلام على التجديد في حركة اللاهوت، ذلك لأن المتكلم يتكلم من داخل الحقل اللاهوتي، وليس كما يفعل باحثون من خارج المؤسسة فلا يعود لما يقولون من صدقية عملية في ميادين الاجتماع وبين جمهور المؤمنين. بهذا سوف يكتسب التأصيل النظري لـ "لاهوت الحوار" كما قدمه الاب مشير عون، مصداقة في هذا الصعيد المشار اليه.
فلو مضينا في قراءة الفصول الخمسة للكتاب لوجدنا "ضالتنا المرجعية" بامتياز. ذلك، لا يقتصر، بالطبع على الجانب الابستمولوجي، حيث يقترب النص إلى حد وازن من المنهج السوسيولوجي في قراءة الزمان الديني. وانما ايضاً واساساً من كون العمل الذي بين ايدينا هو اقرب إلى ان يكون مشروعاً مفصلاً تنتقل فيه العلاقة بين المسيحية والاسلام.
من طور الجدال السلبي إلى طور التحاور الايجابي. ومد طور التضاد والقطع والمنع والنفي والاقصاء، إلى اطوار مفتوحة على التآخي والوصل والقبول والاعتراف.
لنرى ماذا في الفصول الخمسة:
القسم الاول من الكتاب يتناول: مسألة الحوار الديني في المجتمع الفاتيكاني الثاني. وفيه عرض ونقاش وتأصيل لما جاء في المجمع من "اقوال غدت للكنيسة الكاثوليكية اشبه بنبراس هداية وفرقان في تصور معاني التعددية الدينية، وفي صناعة الفكر اللاهوتي الحواري الخليق بتدبر هذه المعاني.
القسم الثاني وهو تحت عنوان اصول اللقاء الديني المسيحي ـ الاسلامي. وبه سعي إلى تعميق النظر اللاهوتي التأصيلي الذي يقتضي استجماع خلاصات هذا التاريخ المسيحي ـ الاسلامي المشترك الطويل، واستيضاح العوامل الدينية وغير الدينية التي اثرت فيه تأثيراً بينا، واستعراض المواقف التي وقفها المسيحيون والمسلمون بعضهم من البعض الآخر.
في القسم الثالث يقصد المؤلف استطلاع هيئة الاطار المعرفي اللاهوتي الجديد الذي ترسمه الكنيسة الكاثوليكية في مقاربة الدين الاسلامي. وهنا يستعرض صاحبنا، ما اجمع علماء اللاهوت على تسميته بـ "لاهوت الاديان غير المسيحية، فيستكشف في هذا العلم اللاهوتي المعاصر قرائنه الفكرية والتاريخية، ويبرز منه هوية مسعاه وطبيعة نشاطه، ويترصد له القضايا الكبرى التي يعنى بمعالجتها، وكذلك باستخراج المباديء الاساسية التي عليها تبني الكنيسة الكاثوليكية مقارباتها اللاهوتية للاديان.
في القسم الرابع ينتقل الاب عون إلى نسق "تال" بالاستناد إلى ما مر من كلام حول التصور اللاهوتي الكاثوليكي للدين الاسلامي. حيث يحلل عناصر الاسهام اللاهوتي الذي اتى به المجمع الفاتيكاني الثاني. حين افرد للدين الاسلامي موقعاً مميزاً في تصميم التدبير الخلاصي الاشمل.
فالآراء اللاهوتية التي صاغها آباء المجمع في شأن الدين الاسلامي وردت في وثيقتين مجمعتين، عكف المؤلف على دراستهما وتفحص مضامينهما والتدقيق في مدلولات الاستنتاجات والخلاصات التي تفضيان اليها على وجه التصريح البين او التضمين الخفي.
اما القسم الخامس فيعالج مسألة الوساطة الخلاصية التي يعلن الدين الاسلامي انه يحملها إلى جميع المؤمنين المسلمين وإلى اهل الارض كافة. وتتركز المعالجات في هذا القسم على استجلاء المدلول اللاهوتي الاصلي الذي تنطوي عليه العبارة اللاهوتية الشهيرة، التي اطلقها اهل الفكر والسلطة في المسيحية حين قالوا، بأن لا خلاص خارج الكنيسة.
ومن خلال الاستدلال على التطور اللاهوتي الذي اختبره تاريخ ادراك هذه المقولة اللاهوتية الاساسية يفضي هذا القسم إلى تجديد النظر اللاهوتي في مسألة التوفيق بين اعتراف الكنيسة بما ينطوي عليه الدين الاسلامي من عناصر الحق والخير والصلاح، واقرارها بما يطمح اليه هذا الدين عينه من اعانة للمؤمنين المسلمين على الفوز بالهداية والنجاة والخلاص.
اللافت ان الباحث الاب عون لا يتوقف على حرفية دلالة المصطلحات المفتاحية في الفهم اللاهوتي التقليدي للاديان غير المسيحية انه يذهب الى التفكيك والتأويل والتفسير والتوسيع والاستفهام لعله يجد فيها المصطلحات التي يمكن توظيفها في بناء الاطروحة الحوارية المأمولة، وهنا يصل الى الكلام عن المباديء اللاهوتية الكبرى في لاهوت الاديان الكاثوليكي وهي المباديء التي يرى اليها على انها خليقة بتعزيز لاهوت الحوار المسيحي الاسلامي وهذه المباديء على الجملة:
1ـ وحدانية الله ووحده التدبير الالهي الخلاصي.
2ـ يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والانسان.
3ـ شمولية الروح القدس.
4ـ الانتماء الى الكنيسة شرط الخلاص الكامل بمعنى ان الكنيسة الكاثوليكية في تعليمها تعلن في مسألة تعدد الاديان ان الفكر المسيحي لا يسعه ان ينشيء خطابا "لاهوتيا" امينا وسليما ومتماسكا الا اذا ايد تأييدا صريحا ان تكون الكنيسة قد ائتمنها السيد المسيح على رسالة خلاصية كونية شاملة. (ص 103)
5ـ الاسلام دين القربى العظمى الى المسيحية ومؤدى هذه القاعدة ان الكنيسة الكاثوليكية التي باتت تقر بشيء من جدارة لاهوت الاديان تعترف بالدين الاسلامي اعتراف الاحتواء والاكمال والاختتام فهي لا تقصيه من دائرة الوحي الالهي ولو انها لازالت تنظر الى الوحي القرآني نظرتها الى حقل خصب انغرست فيه غير بذرة من بذار الحق والخير والصلاح (...)
فالدين الاسلامي يشتمل على ضمة من المكانز الروحية التي تعترف الكنيسة الكاثوليكية بأنها منبثقة من عمل الروح الخلاق وبأنها قابلة للانتظام والانسلاك في كمال الوحي المتجلي في شخص يسوع المسيح ولما كان الاسلام ينطوي على مثل هذه المعاني الروحية السامية التي يصاحبها (مع ذلك بعض الشوائب والثغرات) فانه يتجلى دينا خليقا بهداية مؤمنيه واكسابهم الخلاص الذي يصبون اليه في نطاق دعوتهم القرآنية في نطاق الغاية القصوى التي يعقدون العزم على بلوغها (ص 105).
خلاصة القول فيما تصرح به تعاليم الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة حيال الاسلام ان المسلمين يحصلون في داخل انتمائهم الديني الاسلامي على نعمة في الخلاص ليهبهم اياها الله، الذي كشف للجميع وجه محبته العظمى على محيا يسوع المسيح، غير ان هبة الله الفائقة الوصف لا تمنع المسيحيين من الشهادة الدائمة لايمانهم باعتلان الله الذاتي في شخص يسوع المسيح.
اذ ان الحب الالهي الذي يفيض على الجميع من دون استثناء ولا تمييز هو الذي يستنهض المسيحيين للاعلان عن فعل الله الخلاصي الذي انجزه السيد المسيح ولا يناقض الحب الالهي الاعلان عن سمو هذا الحب ويبقى لله وحده ان يستقبل في ملكوته جميع الذين يحيون حياة الامانة لشخص يسوع المسيح سواء انتموا الى الدين المسيحي او الى الدين الاسلامي.
من بديهي القول ان النص المديد الذي ساقه المؤلف ليبني في غضونه اطروحته للاهوت الحوار مع الاسلام فضلا عن الاديان الاخرى، فإنما ينطلق من نظام معرفي ديني محدد هو اللاهوت الكاثوليكي المسيحي، وهو ما يعني ان القاريء المسلم سوف يقع على الكثير من الاشكاليات التي يرمي اليها بوصفها اسقاطات عقدية من جانب المؤلف غير ان هذا الاخير سينبه الى هذه العلامة الفارقة والبديهية في قوله:
ان هذه الابحاث تظل مقترنة بالتصور المسيحي للدين الاسلامي وللحوار المسيحي الاسلامي، فهي لا تقارب السلام مقاربة الاسلام لذاته ـ كما يقول ـ امر طبيعي وشرعي اذ ان مقاربة الاسلام لذاته تفقد الحوار المسيحي ـ الاسلامي سبب وجوده وفحوى جدواه لان الاسلام يعاين ذاته في الدراسات المسيحية (..)
وفي هذا السياق اتت هذه الابحاث على ما يقرر المؤلف ـ تستحث المسيحيين على استخراج تصور مسيحي للدين الاسلامي يعين المسيحيين على التوفيق الحقيقي بين احترامهم لغيرية الدين الاسلامي، وصونهم لواجب الشهادة المسيحية التي تملي عليهم ان يسلكوا الاسلام والمسلمين في نطاق تدبير كمال الوحي الالهي المتجلي في شخص يسوع المسيح (...)
والقول بغيرية الدين الاسلامي يقتضي كما يبين لاهوت الحوار ـ الاقرار النهائي القاطع بأن الاسلام منعقد على فرادة لا يجوز افراغها من قوامها الذاتي ولا يجوز ردها الى ما يماثلها من عناصر الشبه والقربى ولا يجوز حصرها في نطاق اي تصور مسيحي لاهوتي مهما سمت مقولاته ونبهت معانيه وتنزهت اغراضه (166 ص).
ايا يكن السؤال الاشكالي الذي تثيره الاطروحة الحوارية التي يطلقها هذا الكتاب فهو قد خطا خطوة وازنة في اتجاه مناخ جديد ومتجدد للاهوت الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة وهو ما يرتب على ضمير المتكلم وكذلك على ضمير المخاطب (المسلم) الاستجابة الى حسن الطوية التي يضمرها "لاهوت الحوار" تجاه الاسلام والمسلمين في مطلع القرن الواحد والعشرين.
بكلمات: نجدنا في كتاب اللاهوتي المجدد مشير باسيل عون، بازاء مشروع معرفي جاد لبناء هندسة معرفية للحوار الديني تبتديء من منطقة الايمان بالله الواحد الاحد ثم تعود الى المنطقة نفسها ضمن رحلة مديدة وشغوفة في الاجتماع البشري وتدبيراته التاريخية.
* محمود حيدر
اقرأو الكثير
لازالت اقلامكم تلهو على رصيف الوصول
في كتابه الجديد "الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والاسلام" يستأنف الباحث الدكتور مشير باسيل عون سعيه نحو بلورة رؤية معرفية معاصرة في حوار الاديان. ولئن كان سبق لصاحب الكتاب ان مضى بعيدا في حقل التأصيل النظري والعملي لحوار من نوع جديد بين المسيحيين والمسلمين، فعمله هذا هو ادنى الى كونه اطروحة تأسيسية لمثل هذا الحوار. من هنا وجه الأهمية للعمل. ذلك انه ينضوي في سياق المجهودات التي أسس لها المجمع الفاتيكاني الثاني "1962 ـ 1965".
المجهودات التي رأى الكثيرون اليها باعتبارها "ثورة كوبرنيكية" في لاهوت الكنيسة الكاثوليكية حيال الاديان الاخرى، ولا سيما منها الاسلام. مذ ذاك اخذت تتبلور اطروحة لاهوتية تجعل من مبدأ الحوار مع الاسلام والمسلمين في الشرق وعلى الصعيد العالمي شرعة تواصل خلاق ضمن التنوع البشري فلو ان لنا ان نرى الى ما حمله الكتاب على الجملة، لظهرت الاطروحة على مسمى "اكثر جلاء هو" لاهوت الحوار.
فالكتاب الذي يقدمه لنا الاب عون، يدور كله مدار هذا المسمى ولسوف يتبدى للقارئ مدى الاشتغال الدءوب على "لاهوت الحوار" ليكون اللغة الاصل، في اعادة صوغ مفاتيح نظرية ومعرفية جديدة لانظمة القيم، ولآليات التواصل الايماني والاخلاقي والانساني بين الاديان التوحيدية.
يمكن القول، ان الكتاب هو مسعى تفسيري معاصر للمضامين التي التأم عليها المجمع الفاتيكاني الثاني قبل نحو أربعين سنة. فهو على ما يبين الاب عون، مجمع التجديد اللاهوتي الاوسع أثرا في تاريخ الكنيسة كله، ومن خلاله اختبر الفكر المسيحي اللاهوتي الكاثوليكي صحوة بليغة في تحسس مسائل التعدد الكوني والديني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
هكذا، يشكل "المجمع" القاعدة التاريخية للتجديد، ولتأصيل اطروحة "لاهوت الحرية" بل ان المؤلف يمضي في توسيع فضاء هذه القاعدة ليجعل منها الارض التي ينطلق منها اللاهوت المعاصر نحو تلك الغاية. وهو في ذلك، لم يبتن غائيته على الفراغ، او على شغف بتجديد خارج حقلي الايمان الكنسي والزمن التاريخي، عنده يقترن "المايجب" ان يكون،
بما هو كائن فعلا. وعلى هذا النحو يسري الايمان المنعقد بالكتاب المقدس في الزمن الاجتماعي للبشرية، مؤيدا ومسددا بلاهوت بلغ كماله التاريخي بالحوار والسعة، وفهم الخلاص الآثم، على انه خلاص للبشرية كلها، وليس خلاص المؤمنين المسيحيين وحسب.
لعل قول المؤلف، بواجبية الحوار الواقعة في اصل المسيحية، يفضي الى واحدة من أهم وأدق القواعد الايمانية لـ "لاهوت الحوار". فلكي لا يفهم من انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني على أنه نتيجة تحولات تاريخية وفكرية املتها شروط التكيف مع حركية القرن العشرين، يذهب المؤلف الى ما هو أعمق غورا.
لقد رأى ان القول بضرورة الحوار الوجودية، لا يكفي لتوطيد التصور الحواري في المسيحية والاسلام، ولترسيخ الموقف الحواري الشامل بين المسيحيين والمسلمين اذ لابد من البحث في تضاعيف المضامين اللاهوتية التي ينطوي عليها الدين المسيحي والدين الاسلامي، والتنقيب عن الاسباب اللاهوتية القصية التي تجعل من الحوار المسيحي الاسلامي واجبا دينيا لا معدل عنه على الاطلاق".
ولسوف نرى فيما بعد كيف ان المؤلف وضع الادلة النقلية والعملية على واجبية الحوار، سواء من الانجيل المقدس، او مما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني من مقررات فلو نحن توقفنا مليا بازاء تقرير "واجبية الحوار" لألف بؤرة المعنى المركزية التي اتكأ المؤلف عليها ليصوغ عمارته المعرفية اللاهوتية.
من النقاط المحورية في مسعى المصنف، ان اطروحة الحوارية تنطلق من منطقة اللاهوت بقاعدتيه: الايمانية الانجيلية والتاريخية المعاصرة للكنيسة الكاثوليكية.
وذلك "ان انتماءه الى الفكر المسيحي اللاهوتي الكاثوليكي في مسعاه المستمر الى تحري التجديد وامانة الابداع هو الذي يبرر استناد جميع هذه الدراسات الى التصور اللاهوتي الذي تركن اليه الكنيسة الكاثوليكية في هيئة تعليمها اللاهوتي الرسمي، وفي اختبارات مؤمنيها الوجودية، وفي تلمسات كبار علمائها" "ص 8".
هذه النقطة تظهر مشروعية الكلام على التجديد في حركة اللاهوت، ذلك لأن المتكلم يتكلم من داخل الحقل اللاهوتي، وليس كما يفعل باحثون من خارج المؤسسة فلا يعود لما يقولون من صدقية عملية في ميادين الاجتماع وبين جمهور المؤمنين. بهذا سوف يكتسب التأصيل النظري لـ "لاهوت الحوار" كما قدمه الاب مشير عون، مصداقة في هذا الصعيد المشار اليه.
فلو مضينا في قراءة الفصول الخمسة للكتاب لوجدنا "ضالتنا المرجعية" بامتياز. ذلك، لا يقتصر، بالطبع على الجانب الابستمولوجي، حيث يقترب النص إلى حد وازن من المنهج السوسيولوجي في قراءة الزمان الديني. وانما ايضاً واساساً من كون العمل الذي بين ايدينا هو اقرب إلى ان يكون مشروعاً مفصلاً تنتقل فيه العلاقة بين المسيحية والاسلام.
من طور الجدال السلبي إلى طور التحاور الايجابي. ومد طور التضاد والقطع والمنع والنفي والاقصاء، إلى اطوار مفتوحة على التآخي والوصل والقبول والاعتراف.
لنرى ماذا في الفصول الخمسة:
القسم الاول من الكتاب يتناول: مسألة الحوار الديني في المجتمع الفاتيكاني الثاني. وفيه عرض ونقاش وتأصيل لما جاء في المجمع من "اقوال غدت للكنيسة الكاثوليكية اشبه بنبراس هداية وفرقان في تصور معاني التعددية الدينية، وفي صناعة الفكر اللاهوتي الحواري الخليق بتدبر هذه المعاني.
القسم الثاني وهو تحت عنوان اصول اللقاء الديني المسيحي ـ الاسلامي. وبه سعي إلى تعميق النظر اللاهوتي التأصيلي الذي يقتضي استجماع خلاصات هذا التاريخ المسيحي ـ الاسلامي المشترك الطويل، واستيضاح العوامل الدينية وغير الدينية التي اثرت فيه تأثيراً بينا، واستعراض المواقف التي وقفها المسيحيون والمسلمون بعضهم من البعض الآخر.
في القسم الثالث يقصد المؤلف استطلاع هيئة الاطار المعرفي اللاهوتي الجديد الذي ترسمه الكنيسة الكاثوليكية في مقاربة الدين الاسلامي. وهنا يستعرض صاحبنا، ما اجمع علماء اللاهوت على تسميته بـ "لاهوت الاديان غير المسيحية، فيستكشف في هذا العلم اللاهوتي المعاصر قرائنه الفكرية والتاريخية، ويبرز منه هوية مسعاه وطبيعة نشاطه، ويترصد له القضايا الكبرى التي يعنى بمعالجتها، وكذلك باستخراج المباديء الاساسية التي عليها تبني الكنيسة الكاثوليكية مقارباتها اللاهوتية للاديان.
في القسم الرابع ينتقل الاب عون إلى نسق "تال" بالاستناد إلى ما مر من كلام حول التصور اللاهوتي الكاثوليكي للدين الاسلامي. حيث يحلل عناصر الاسهام اللاهوتي الذي اتى به المجمع الفاتيكاني الثاني. حين افرد للدين الاسلامي موقعاً مميزاً في تصميم التدبير الخلاصي الاشمل.
فالآراء اللاهوتية التي صاغها آباء المجمع في شأن الدين الاسلامي وردت في وثيقتين مجمعتين، عكف المؤلف على دراستهما وتفحص مضامينهما والتدقيق في مدلولات الاستنتاجات والخلاصات التي تفضيان اليها على وجه التصريح البين او التضمين الخفي.
اما القسم الخامس فيعالج مسألة الوساطة الخلاصية التي يعلن الدين الاسلامي انه يحملها إلى جميع المؤمنين المسلمين وإلى اهل الارض كافة. وتتركز المعالجات في هذا القسم على استجلاء المدلول اللاهوتي الاصلي الذي تنطوي عليه العبارة اللاهوتية الشهيرة، التي اطلقها اهل الفكر والسلطة في المسيحية حين قالوا، بأن لا خلاص خارج الكنيسة.
ومن خلال الاستدلال على التطور اللاهوتي الذي اختبره تاريخ ادراك هذه المقولة اللاهوتية الاساسية يفضي هذا القسم إلى تجديد النظر اللاهوتي في مسألة التوفيق بين اعتراف الكنيسة بما ينطوي عليه الدين الاسلامي من عناصر الحق والخير والصلاح، واقرارها بما يطمح اليه هذا الدين عينه من اعانة للمؤمنين المسلمين على الفوز بالهداية والنجاة والخلاص.
اللافت ان الباحث الاب عون لا يتوقف على حرفية دلالة المصطلحات المفتاحية في الفهم اللاهوتي التقليدي للاديان غير المسيحية انه يذهب الى التفكيك والتأويل والتفسير والتوسيع والاستفهام لعله يجد فيها المصطلحات التي يمكن توظيفها في بناء الاطروحة الحوارية المأمولة، وهنا يصل الى الكلام عن المباديء اللاهوتية الكبرى في لاهوت الاديان الكاثوليكي وهي المباديء التي يرى اليها على انها خليقة بتعزيز لاهوت الحوار المسيحي الاسلامي وهذه المباديء على الجملة:
1ـ وحدانية الله ووحده التدبير الالهي الخلاصي.
2ـ يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والانسان.
3ـ شمولية الروح القدس.
4ـ الانتماء الى الكنيسة شرط الخلاص الكامل بمعنى ان الكنيسة الكاثوليكية في تعليمها تعلن في مسألة تعدد الاديان ان الفكر المسيحي لا يسعه ان ينشيء خطابا "لاهوتيا" امينا وسليما ومتماسكا الا اذا ايد تأييدا صريحا ان تكون الكنيسة قد ائتمنها السيد المسيح على رسالة خلاصية كونية شاملة. (ص 103)
5ـ الاسلام دين القربى العظمى الى المسيحية ومؤدى هذه القاعدة ان الكنيسة الكاثوليكية التي باتت تقر بشيء من جدارة لاهوت الاديان تعترف بالدين الاسلامي اعتراف الاحتواء والاكمال والاختتام فهي لا تقصيه من دائرة الوحي الالهي ولو انها لازالت تنظر الى الوحي القرآني نظرتها الى حقل خصب انغرست فيه غير بذرة من بذار الحق والخير والصلاح (...)
فالدين الاسلامي يشتمل على ضمة من المكانز الروحية التي تعترف الكنيسة الكاثوليكية بأنها منبثقة من عمل الروح الخلاق وبأنها قابلة للانتظام والانسلاك في كمال الوحي المتجلي في شخص يسوع المسيح ولما كان الاسلام ينطوي على مثل هذه المعاني الروحية السامية التي يصاحبها (مع ذلك بعض الشوائب والثغرات) فانه يتجلى دينا خليقا بهداية مؤمنيه واكسابهم الخلاص الذي يصبون اليه في نطاق دعوتهم القرآنية في نطاق الغاية القصوى التي يعقدون العزم على بلوغها (ص 105).
خلاصة القول فيما تصرح به تعاليم الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة حيال الاسلام ان المسلمين يحصلون في داخل انتمائهم الديني الاسلامي على نعمة في الخلاص ليهبهم اياها الله، الذي كشف للجميع وجه محبته العظمى على محيا يسوع المسيح، غير ان هبة الله الفائقة الوصف لا تمنع المسيحيين من الشهادة الدائمة لايمانهم باعتلان الله الذاتي في شخص يسوع المسيح.
اذ ان الحب الالهي الذي يفيض على الجميع من دون استثناء ولا تمييز هو الذي يستنهض المسيحيين للاعلان عن فعل الله الخلاصي الذي انجزه السيد المسيح ولا يناقض الحب الالهي الاعلان عن سمو هذا الحب ويبقى لله وحده ان يستقبل في ملكوته جميع الذين يحيون حياة الامانة لشخص يسوع المسيح سواء انتموا الى الدين المسيحي او الى الدين الاسلامي.
من بديهي القول ان النص المديد الذي ساقه المؤلف ليبني في غضونه اطروحته للاهوت الحوار مع الاسلام فضلا عن الاديان الاخرى، فإنما ينطلق من نظام معرفي ديني محدد هو اللاهوت الكاثوليكي المسيحي، وهو ما يعني ان القاريء المسلم سوف يقع على الكثير من الاشكاليات التي يرمي اليها بوصفها اسقاطات عقدية من جانب المؤلف غير ان هذا الاخير سينبه الى هذه العلامة الفارقة والبديهية في قوله:
ان هذه الابحاث تظل مقترنة بالتصور المسيحي للدين الاسلامي وللحوار المسيحي الاسلامي، فهي لا تقارب السلام مقاربة الاسلام لذاته ـ كما يقول ـ امر طبيعي وشرعي اذ ان مقاربة الاسلام لذاته تفقد الحوار المسيحي ـ الاسلامي سبب وجوده وفحوى جدواه لان الاسلام يعاين ذاته في الدراسات المسيحية (..)
وفي هذا السياق اتت هذه الابحاث على ما يقرر المؤلف ـ تستحث المسيحيين على استخراج تصور مسيحي للدين الاسلامي يعين المسيحيين على التوفيق الحقيقي بين احترامهم لغيرية الدين الاسلامي، وصونهم لواجب الشهادة المسيحية التي تملي عليهم ان يسلكوا الاسلام والمسلمين في نطاق تدبير كمال الوحي الالهي المتجلي في شخص يسوع المسيح (...)
والقول بغيرية الدين الاسلامي يقتضي كما يبين لاهوت الحوار ـ الاقرار النهائي القاطع بأن الاسلام منعقد على فرادة لا يجوز افراغها من قوامها الذاتي ولا يجوز ردها الى ما يماثلها من عناصر الشبه والقربى ولا يجوز حصرها في نطاق اي تصور مسيحي لاهوتي مهما سمت مقولاته ونبهت معانيه وتنزهت اغراضه (166 ص).
ايا يكن السؤال الاشكالي الذي تثيره الاطروحة الحوارية التي يطلقها هذا الكتاب فهو قد خطا خطوة وازنة في اتجاه مناخ جديد ومتجدد للاهوت الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة وهو ما يرتب على ضمير المتكلم وكذلك على ضمير المخاطب (المسلم) الاستجابة الى حسن الطوية التي يضمرها "لاهوت الحوار" تجاه الاسلام والمسلمين في مطلع القرن الواحد والعشرين.
بكلمات: نجدنا في كتاب اللاهوتي المجدد مشير باسيل عون، بازاء مشروع معرفي جاد لبناء هندسة معرفية للحوار الديني تبتديء من منطقة الايمان بالله الواحد الاحد ثم تعود الى المنطقة نفسها ضمن رحلة مديدة وشغوفة في الاجتماع البشري وتدبيراته التاريخية.
* محمود حيدر
اقرأو الكثير
لازالت اقلامكم تلهو على رصيف الوصول