في عام 1975، اكتشف ستيفن هوكنغ أن الثقوب السوداء ليست سوداء بالمقدار الذي نتصوره. فقد أخذ بعين الاعتبار آثاراً كوانتية وبرهن أنها تشع إشعاعاً حرارياً معيناً. وهو إشعاع ضعيف بالتأكيد، لكنه يؤدي مع مرور الزمن إلى تبخرها. فهل يمكن لجزء من المعلومات التي يحتويها الثقب الأسود أن تختفي بالكامل من الكون؟ لم تحسم المسألة إلا في عام 2004، لكن الحل جاء عند تقاطع النظريتين الكبيرتين في الفيزياء، النسبية العامة والميكانيك الكمومي، ولهذا فإن المسألة لم تحل بشكل نهائي حتى الآن.
هل يمحو الثقب الأسود الذي يتبخر كامل المعلومات التي يتضمنها أم أنها تحفظ؟ هذه المسألة قسمت الفيزيائيين إلى فريقين مؤيد ومعارض طيلة سنوات عديدة. ويعتقد العلماء اليوم أن المعلومات لا تختفي، لكن لا نعرف كيف يمكن الوصول إليها...
في نهاية عام 2008، نشر الفيزيائي والكوزمولوجي ليونارد سوسكيند من جامعة ستانفورد وأحد آباء نظرية الأوتار الفائقة، كتاباً بعنوان The Black Hole War (حرب الثقب الأسود)، وجاء في العنوان الفرعي له: "حربي مع ستيفن هوكنغ من أجل جعل العالم آمناً مع الميكانيك الكمومي"، وجاء هذا الكتاب بمثابة إعلان له عن انتصاره في الجدل الذي طال سنوات كثيرة وناصره فيه عدد من الفيزيائيين والرياضيين تجاه ستيفن هوكنغ من جامعة كامبريدج في بريطانيا. وكان ستيفن هوكنغ قد نشر، وهو المرجع في نظرية الجاذبية والأخصائي ببدايات الكون والثقوب السوداء، بحثاً في مطلع السبعينيات من القرن الماضي كانت إحدى نتائجه أن كوننا يفقد ببساطة وبشكل كامل المعلومات. وكان ذلك يعارض بشكل جلي المبادئ الأساسية في الميكانيك الكمومي، وهو الذي دافع عنه سوسكيند وزملاؤه. وقد شحذت هذه الحوارات والمواجهات العلمية بشكل رائع العقول الرياضية عبر العالم، لا بل والمنطق المجرد والفيزياء النظرية على حد سواء.
وقد أعلن ستيفن هوكنغ في النهاية هزيمته "في هذه الحرب الخاصة بالثقوب السوداء". ومع ذلك، وعلى عكس ما يؤكده ليونارد سوسكيند، فإن الكلمة الحاسمة في نهاية هذه القصة لم تكتب ربما بعد.
إن جوهر هذا الخلاف يتعلق بأحد أكثر جوانب الفيزياء جوهرية، ألا وهو طبيعة السببية. إن فهمنا للعلاقة السببية ذات الأثر يرتكز بشكل أساسي على نظرية النسبية العامة لأينشتين. وقد صيغت في عام 1915 على شكل سلسلة من المعادلات، وهي عبارة عن نظرية للزمان والمكان والجاذبية. وهي لا تعتبر الجاذبية كقوة، على عكس نظرية نيوتن، بل كانحناء، وتشويه في هندسة الفضاء الزمكاني. وأحد أول الحلول لمعادلات أينشتين يصف فقاعة كروية من المادة يمكن أن تشكل نموذجاً بسيطاً لنجم. ونعرف منذ ثلاثينيات القرن الماضي، دون أن نعرف لماذا، أن هذه الكرة إذا كانت كثيفة ومتراصة بما فيه الكفاية، فإن السببية كانت تخضع في جوارها المباشر لشيء فائق الغرابة. فعلى سبيل المثال، إذا تم ضغط كتلة مماثلة لكتلة الشمس في كرة قطرها بضعة كيلومترات فقط، فإن جاذبيتها ستصبح هائلة إلى درجة أن الضوء لن يستطيع الإفلات من سطحها. وهكذا عندما ننظر إلى مثل هذا الجسم من بعيد فإنه سوف يبدو أسود. أما الكرة نفسها فإنها تصل إلى مرحلة لا تستطيع مقاومة جاذبيتها الخاصة فتنفجر كلياً في جزء من الثانية.
إن هذه الكرة التي تنهار على نفسها هي ما نسميه اليوم "الثقب الأسود". إن أحد أسس نظرية النسبية كان المبدأ الذي وفقه لا يمكن لأي جسم أو تأثير فيزيائي أن ينتقل أسرع من سرعة الضوء، فإذا كان الضوء لا يستطيع الإفلات من ثقب أسود فهذا يعني أن لا شيء يستطيع الإفلات من الثقب الأسود. ولا يمكن عندها بشكل خاص حصول أي نوع من نقل المعلومات من قلب الثقب الأسود باتجاه خارجه. ولهذا يوصف سطح ثقب أسود بعبارة "أفق الحدث". بعبارة أخرى، فإن الأحداث الحاصلة داخل الثقب الأسود أو داخل هذا الأفق لا يمكن أن تمارس أي نوع من التأثير على الأحداث خارج الثقب الأسود.
آثار ملحوظة
في الستينيات من القرن الماضي، أصبح من المؤكد أن الثقوب السوداء كانت أكثر من مجرد شطحات أو فضول نظري للفيزياء. فقد كشفت أرصاد فلكية عن طرق عديدة يمكن أن تتشكل وفقها الثقوب السوداء، وكان أكثرها احتمالاً انفجار نجم كبير الكتلة استهلك مادته التي يستطيع دمجها. وبدأ عندها علماء الفيزياء الفلكية يحاولون التحقق إذا ما كانت الخصائص الغريبة للثقوب السوداء يمكن أن تنتج آثاراً يمكن رصدها. وخلال العقود القليلة التالية راكمت المراصد والأقمار الصناعية كتلة من المؤشرات على وجود حقيقي للثقوب السوداء.
كان ستيفن هوكنغ من رواد فيزياء الثقوب السوداء. وقد برهن بالتعاون مع الفيزيائي والرياضي الإنكليزي روجر بنروز العديد من المبرهنات العامة الأساسية حول الطريقة التي يتشكل بها أفق الحدث وحول ما يحصل للجسم الذي ينهار ليشكل الثقب الأسود.
ولكن في عام 1975 أعلن هوكنغ عن نتيجة جديدة كانت مفاجئة تماماً. فمعظم الأبحاث التي كانت تتم على الثقوب السوداء حتى ذلك الوقت لم تكن ترتكز على الميكانيك الكمومي الذي يشكل مع النسبية العامة أهم تقدم علمي في القرن العشرين. وإحدى الفرضيات الأساسية في الميكانيك الكمومي أنه بوجود منبع للطاقة مناسب يمكن أن تظهر جسيمات من المادة تسمى "الكم"، حتى وإن كان الفضاء فارغاً. والمادة هنا تشير إلى جسيمات الضوء - الفوتونات - وإلى مكافئاتها بالنسبة للجاذبية وتسمى غرافيتون.
استطاع هوكنغ بفضل برهان رياضي متقدم أن يبرهن أنه بانفجار نجم فإنه تتخلق في جواره في الفراغ المحيط به تيارات من الجسيمات تشع في دفق منتظم لفترة طويلة بعد اختفاء النجم. وبما أن هذا الإشعاع، الذي سمي إشعاع هوكنغ، يحمل الطاقة، فلا بد بالتالي من أن شيئاً آخر يفقد الطاقة بالمقابل بحيث يصبح ثمة توازن في الحفظ لهذه الطاقة. أما ماهية هذا الشيء فلا يمكن أن يكون سوى جسم الثقب الأسود نفسه، أي كتلته (وذلك اعتماداً على المعادلة التي كان قد بين أينشتين بواسطتها قبل وقت طويل من ذلك أن الطاقة والكتلة متكافئتان). فإذا كان الثقب الأسود يفقد من كتلته، فهذا يعني أن حجمه يتقلص بشكل ثابت ومستمر وفق صيرورة طويلة من "التبخر" كما سماه هوكنغ. وهو أمر يستمر حتى يختفي الثقب الأسود نفسه. وقد حسِب ستيفن هوكنغ بشكل خاص أن الإشعاع الصادر يملك سمة خاصة - هي عبارة عن طيف حراري - الأمر الذي يعني أنه يشكل شكلاً من الحرارة المشعة المزودة بحرارة خاصة تتعلق بكتلة الثقب الأسود. فنظرية ستفين هوكنغ كانت تؤسس بالتالي رابطاً وثيقاً وغريباً بين الثقوب السوداء والفيزياء الكمومية وقوانين الترموديناميك، وهو رابط لا يزال بعد ثلاثة عقود من طرحه يثير مزيداً من الحيرة والارتباك بين الفيزيائيين.
كانت هذه النظرية تبين أن الثقوب السوداء ليست سوداء تماماً بل إنها تشع الحرارة وتتبخر شيئاً فشيئاً. وكان لإعلان هذه النتيجة صدى كبيراً ودفع بستفين هوكنغ إلى مقدمة الشهرة الدولية في عالم الفيزياء والكوزمولوجيا. لكن لم يكن الحبر الذي كتب ستفين هوكنغ به هذا المقال قد جف بعد حتى أيقن أن نتائجه كانت تطرح لغزاً قد لا يكون له حل. فإذا اختفى نجم في ثقب أسود، واختفى الثقب الأسود بدوره، فما الذي يصير إليه ما كان يشكل أساس وأصل هذا النجم؟ إن الجواب الذي سرعان ما يأتي إلى الذهن- وهو أن كافة هذه المكونات تخرج من الثقب الأسود مع إشعاع هوكنغ - يطرح مشكلة بحد ذاته. فكتلة النجم تتألف بشكل أساسي من بروتونات ونترونات. غير أن حرارة ثقب أسود كتلته كتلة نجم تكون منخفضة جداً (أقل من 1 ميكروكلفن) بحيث أن الإشعاع الصادر يكون بشكل رئيسي على شكل فوتونات منخفضة الطاقة. ولا يبدأ الثقب الأسود بإصدار البروتونات والنترونات إلا عندما يكون قد انضغط إلى أبعاد ما تحت ذرية ويصبح بالتالي حاراً بدرجة كافية. ولكن حتى ذلك الوقت، فإن مجمل كتلة الثقب الأسود أو معظمها تكون قد أشعت، والكتلة الباقية لا تعود كافية ببساطة لكي "يلفظ" الثقب الأسود مكونات النجم الأصلية.
المادة المعدومة
إن مثل هذا العدم للمادة الممتصة في الثقب الأسود يطرح إشكالية أكثر صعوبة أيضاً، طالما أن صيرورة التبخر تدمر كما يبدو بشكل كامل المعلومات ـ ليس فقط المعلومة المتعلقة بنمط الجسيمات، بل كذلك المعلومة المتعلقة بالمكان الذي كان موجوداً فيه أو يوجد فيه، والطريقة التي ينتقل بها. بعبارة أخرى، فإن السمات الدقيقة للمادة الغارقة في الثقب الأسود تضيع بشكل لا يمكن تعويضه. وهكذا أخذ هوكنغ على عاتقه التأكيد على أن هذه المعلومة كانت تدمر، الأمر الذي يعني ببساطة أن الكون لا يحفظ هذه المعلومة.
لفهم هذه الحالة التي وصل إليها المجتمع العلمي في ذلك الوقت، لا بد من معرفة أن أعمال ستيفن هوكنغ كلها حتى ذلك الوقت كانت تتم في إطار نظرية النسبية العامة. إن قسماً كبيراً من أبحاثه مع روجر بنروز كانت تتعلق بدراسة حالات الفرادة الزمكانية. وتشير هذه الحالات إلى تخوم أو حدود للزمان والمكان تظهر على سبيل المثال إثر انهيار ثقالي. لنتخيل كرة من المادة كروية تماماً وهي تنضغط على نفسها حتى يصبح قطرها صفراً. عندها تصبح كثافة المادة فيها لانهاية. وينطبق ذلك على الحقل الثقالي، وبالتالي على الانحناء الزمكاني. وتشير نقطة الانحناء اللانهائي ـ أي الفرادة ـ إلى نهاية الفضاء والزمان، أي الحد الذي تصبح بعده النظرية غير فاعلة. في النسبية العامة تُدَمّر المعلومة بالضرورة عند ملاقاتها للفرادة. ووفق أعمال هوكنغ وروجر بنروز فإن كافة الثقوب السوداء (بما فيها تلك التي كانت مادتها المنكمشة على نفسها ليست كرة كاملة الكروية) تخفي فيها فرادة كامنة في قلبها. وبالنتيجة، كان من الممكن اللجوء إلى آلية طبيعية لحل لغز المعلومات في الثقب الأسود: فكل ملعومة تدخل في ثقب أسود تُبتلع بواسطة الفرادة وتمحى بالتالي بشكل نهائي. وعندما يتبخر الثقب الأسود، فإن الفرادة نفسها تنتهي وتختفي من الكون حاملة معها المعلومة.
فيزيائيون مخالفون لهذا الرأي
مع ذلك كان عدد كبير من الفيزيائيين غير راضين عن هذه النظرية. وكان منهم بشكل خاص الذين يعملون على فيزياء الجسيمات الدقيقة أكثر من الذين يعملون على النسبية العامة إذ كانوا يعتبرون أن قوانين الميكانيك الكمومي قوانين مطلقة. والحال أن الميكانيك الكمومي يقول بشكل منهجي وأكيد إن المعلومة لا يمكن أن تضيع أو تدمر. فيمكن للمعلومة أن تشوه حتى يصبح من المستحيل فك رموزها وبالتالي لا يمكن استخدامها، لكن كائناً إلهياً على سبيل المثال يملك نظرة شاملة للكون يجب أن يستطيع من حيث المبدأ معرفة أدق وأبسط معلومة منتشرة في أرجائه.
ويؤكد هؤلاء الفيزيائيون المنشقون، وخاصة منهم ليونارد سوسكيند وجيرارت هووف Gerard'f Hooft، من جامعة أوتريخت، أنه لو كانت نظرية الميكانيك الكمومي مطبقة بشكل صحيح على الحقل الثقالي، فيجب أن نتمكن من تحديد الطريقة التي تحفظ فيها المعلومة المتعلقة بالنجم. لكن مع الأسف لا يوجد حتى اليوم نظرية تجمع بشكل متناغم نظريتي الميكانيك الكمومي والجاذبية. ومع أن نظرية الأوتار طرحت بعض الآمال في هذا المجال، لكنها لم تستطع بعد تقديم نظرية متناسقة تجمع هاتين النظريتين. ووفق هذه النظرية فإن كافة جسيمات المادة توافق بشكل أساسي اهتزازات أوتار صغيرة لامتناهية في الصغر. لكن نظرية الأوتار ليست قابلة حتى الآن للاختبار أو البرهان. ولهذا ظل عدد كبير من العلماء يقرِّون بأن تناول مشكلة معلومات الثقوب السوداء تبقى خارج إطار النظريات العلمية القائمة. وكانت أسباب عدم الوفاق كثيرة بالتالي بين العلماء أنفسهم.
في عام 1997، قام جون برسكيل، وهو فيزيائي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، بمراهنة ستيفن هوكنغ بأن الأمر سينتهي بالبرهان أن المعلومة كانت محفوظة خلال صيرورة تبخر الثقب الأسود. وشيئاً فشيئاً بدأ العلماء يميلون بأعداد متزايدة إلى ليونار سوسكيند وجيراردت هوف متفقين مع طرح جون برسكيل. كانت المسألة في جوهرها مسألة حدس، لأنه لم يكن ثمة نتائج حاسمة لصالح فرضية حفظ المعلومة.
مع ذلك، جاء حساب قام به كل من كورتيس كالان Curtis Callan وخوان ملداسينا Juan Maldacena من جامعة برينستون بإمالة الكفة بشكل حاسم. فقد نجحا باستخدام نظرية الأوتار الفائقة لحساب إيقاع تبخر نوع خاص من الثقوب السوداء، وهي الحالة التي يملك فيها الثقب الأسود شحنة كهربائية قوية جداً إلى درجة أن قوته الكهربائية وقوته الثقالية تكونان شبه متكافئتين. وبيّنت طريقتهما التي كانت ترتكز على الميكانيك الكمومي البحت، أنه في حالة الثقوب السوداء الخاصة هذه كان الثقب الأسود يتبخر بشكل جيد كما كان يتنبأ ستيفن هوكنغ. لكنها بينت أيضاً أنه على الرغم من هذا التبخر فإنه بإمكاننا مع ذلك إيجاد المعلومة.
بالنسبة لليونارد سوسكيند، فقد حمل هذا الحساب المميز الضربة القاضية لفرضية ستيفن هوكنغ، حتى أن هذا الأخير بدأ يظهر أكثر انعزالاً مع مطلع الألفية الثالثة. وفي عام 2004، أعلن أنه غيَّر رأيه حول تناقض المعلومة وأقر بخسارته الرهان مع برسكيل مهدياً إياه موسوعة في لعبة البيسبول!
مع ذلك فإن المسألة لم تحلّ بشكل نهائي. فمنذ البداية كان من الواضح أن نظرية ستيفن هوكنغ التي تصف تبخر ثقب أسود لا تعود فعالة ما إن ينتقل هذا الأخير وهو ينضغط إلى أقل من حجم معين. ويقدر عموماً أن هذا الحجم الحدي أقل بنحو عشرين مرة من رتبة نواة الذرة (وهو ما يسمى بطول بلانك، أي 10-33 سم). إننا نستطيع على المستوى الكبير أن نعالج الحقل الثقالي لثقب أسود بشكل كلاسيكي، أي بمعالجة مظاهره الكمومية على أنها تخلخلات ضعيفة. ولكن على مستوى طول بلانك تصبح الآثار الكمومية ملحوظة وكبيرة. والفرادة التي تنبأت بها النسبية العامة تتأثر تماماً حتى وإن كان لا أحد يعرف بماذا! ونظرية الأوتار كما سبق وأشرنا بعيدة اليوم عن حل هذا الإشكال، مثلها مثل نظريات أخرى تتعلق بالجاذبية الكمومية. ولا شك أن إحدى الإمكانيات ستكون مع ذلك هو أن الفرادة سوف تجد نفسها وقد استبدلت بنفق أو عدة أنفاق أو أنفاق الديدان التي تربط زمكاننا مع زمكانات أخرى. فإذ تبدى أن هذه الفرضية صحيحة فإن المعلومات ستتمكن من اجتياز النفق وستكون قد فقدت تماماً بالنسبة لكوننا وعالمنا، لتعود فتظهر في كون آخر. وبشكل عام، فإن المعلومة تكون محفوظة، حتى وإن كان يبدو أنها تضيع بالنسبة لكون خاص. ويبدو مع ذلك أننا بعيدون عن حل المسألة عبر برهان شامل. إن الحساب الذي قام به كل من كورتيس كالان وخوان ملدسينا يتعلق بحالة خاصة وهامة، لكن في الفيزياء النظرية يمكن للحول الخاصة أن تؤدي إلى إجابات خاصة إنما غير شاملة. ولا أحد حتى الآن يعرف كيفية تطبيق نظرية الأوتار على ثقب أسود نوعي وشامل.
هل يمكن حل المسألة باللجوء إلى مبدأ جوهري يتجاوز الصعوبات التقنية النوعية؟ في عام 1970، استخدم جيكوب بكنستاين الميكانيك الكمومي لحساب كمية قصوى من المعلومات التي يمكن أن يبتلعها ثقب أسود. أن كمية المعلومات الكلية في كرة من المادة العادية تتناسب ببساطة مع كمية المادة، وبالتالي مع حجم الكرة. غير أن بكنستاين اكتشف أنه في حالة الثقب الأسود فإن هذه العلاقة مختلفة تماماً: فمحتوى المعلومات متناسب مع سطح الثقب الأسود. جاءت هذه النتيجة غير المتوقعة والغامضة لتزيد من غموض المسألة، وقد أكد عليها ستيفن هوكنغ في بحثه الشهير الذي نشر عام 1975 حول إشعاع الثقب الأسود. وتذكّر هذه النتيجة قليلاً بمثال الهولوغرام، حيث تكون الصورة في ثلاثة أبعاد مرمزة على سطح ثنائي البعد. واقترح ليونار سوسكيند أخذ العلاقة بين سطح الثقب الأسود والمعلومات كنقطة انطلاق وجعله مبدأً كونياً سماه المبدأ الهولوغرافي. والمبدأ الهولوغرافي في شكله العام يقول إن المعلومات الماثلة في منطقة معطاة من الفضاء محتواة تماماً وبالكامل على السطح ثنائي البعد المحيط بهذه المنطقة. فإذا كان المبدأ الهولوغرافي صحيحاً، فإن واقع أن ثقباً أسوداً يتشكل ثم يختفي لا يغير في شيء من المحتوى المعلوماتي لداخل المنطقة المحددة بالسطح الثنائي البعد. إن الكمية الكلية للمعلومات تظل غير متغيرة. لكن للأسف فإن الإثباتات التي تؤكد صحة المبدأ الهولوغرافي لا تزال نادرة جداً.
يعترف الفيزيائيون أن الريبة الكوانتية، التي اكتشفها ويرنر هايزنبرغ، تشكل مصدراً أساسياً وجوهرياً في الطبيعة لمعرفة لا يمكن بلوغها. فإذا ما تأكد يقين هوكنغ الأصلي - ومن الواضح أنه من المبكر جداً القول بخطئه بشكل نهائي منذ الآن - فإن ذلك سيعني أن الكون يخفي مصدراً ثانياً للمعرفة غير الممكن الوصول إليها: ألا وهو محو المعلومات بواسطة الثقوب السوداء. كان أينشتين يكره الميكانيك الكوانتي بسبب عنصر الريبة فيه.
___________
بقلم : موسى ديب الخوري
مودتي
هل يمحو الثقب الأسود الذي يتبخر كامل المعلومات التي يتضمنها أم أنها تحفظ؟ هذه المسألة قسمت الفيزيائيين إلى فريقين مؤيد ومعارض طيلة سنوات عديدة. ويعتقد العلماء اليوم أن المعلومات لا تختفي، لكن لا نعرف كيف يمكن الوصول إليها...
في نهاية عام 2008، نشر الفيزيائي والكوزمولوجي ليونارد سوسكيند من جامعة ستانفورد وأحد آباء نظرية الأوتار الفائقة، كتاباً بعنوان The Black Hole War (حرب الثقب الأسود)، وجاء في العنوان الفرعي له: "حربي مع ستيفن هوكنغ من أجل جعل العالم آمناً مع الميكانيك الكمومي"، وجاء هذا الكتاب بمثابة إعلان له عن انتصاره في الجدل الذي طال سنوات كثيرة وناصره فيه عدد من الفيزيائيين والرياضيين تجاه ستيفن هوكنغ من جامعة كامبريدج في بريطانيا. وكان ستيفن هوكنغ قد نشر، وهو المرجع في نظرية الجاذبية والأخصائي ببدايات الكون والثقوب السوداء، بحثاً في مطلع السبعينيات من القرن الماضي كانت إحدى نتائجه أن كوننا يفقد ببساطة وبشكل كامل المعلومات. وكان ذلك يعارض بشكل جلي المبادئ الأساسية في الميكانيك الكمومي، وهو الذي دافع عنه سوسكيند وزملاؤه. وقد شحذت هذه الحوارات والمواجهات العلمية بشكل رائع العقول الرياضية عبر العالم، لا بل والمنطق المجرد والفيزياء النظرية على حد سواء.
وقد أعلن ستيفن هوكنغ في النهاية هزيمته "في هذه الحرب الخاصة بالثقوب السوداء". ومع ذلك، وعلى عكس ما يؤكده ليونارد سوسكيند، فإن الكلمة الحاسمة في نهاية هذه القصة لم تكتب ربما بعد.
إن جوهر هذا الخلاف يتعلق بأحد أكثر جوانب الفيزياء جوهرية، ألا وهو طبيعة السببية. إن فهمنا للعلاقة السببية ذات الأثر يرتكز بشكل أساسي على نظرية النسبية العامة لأينشتين. وقد صيغت في عام 1915 على شكل سلسلة من المعادلات، وهي عبارة عن نظرية للزمان والمكان والجاذبية. وهي لا تعتبر الجاذبية كقوة، على عكس نظرية نيوتن، بل كانحناء، وتشويه في هندسة الفضاء الزمكاني. وأحد أول الحلول لمعادلات أينشتين يصف فقاعة كروية من المادة يمكن أن تشكل نموذجاً بسيطاً لنجم. ونعرف منذ ثلاثينيات القرن الماضي، دون أن نعرف لماذا، أن هذه الكرة إذا كانت كثيفة ومتراصة بما فيه الكفاية، فإن السببية كانت تخضع في جوارها المباشر لشيء فائق الغرابة. فعلى سبيل المثال، إذا تم ضغط كتلة مماثلة لكتلة الشمس في كرة قطرها بضعة كيلومترات فقط، فإن جاذبيتها ستصبح هائلة إلى درجة أن الضوء لن يستطيع الإفلات من سطحها. وهكذا عندما ننظر إلى مثل هذا الجسم من بعيد فإنه سوف يبدو أسود. أما الكرة نفسها فإنها تصل إلى مرحلة لا تستطيع مقاومة جاذبيتها الخاصة فتنفجر كلياً في جزء من الثانية.
إن هذه الكرة التي تنهار على نفسها هي ما نسميه اليوم "الثقب الأسود". إن أحد أسس نظرية النسبية كان المبدأ الذي وفقه لا يمكن لأي جسم أو تأثير فيزيائي أن ينتقل أسرع من سرعة الضوء، فإذا كان الضوء لا يستطيع الإفلات من ثقب أسود فهذا يعني أن لا شيء يستطيع الإفلات من الثقب الأسود. ولا يمكن عندها بشكل خاص حصول أي نوع من نقل المعلومات من قلب الثقب الأسود باتجاه خارجه. ولهذا يوصف سطح ثقب أسود بعبارة "أفق الحدث". بعبارة أخرى، فإن الأحداث الحاصلة داخل الثقب الأسود أو داخل هذا الأفق لا يمكن أن تمارس أي نوع من التأثير على الأحداث خارج الثقب الأسود.
آثار ملحوظة
في الستينيات من القرن الماضي، أصبح من المؤكد أن الثقوب السوداء كانت أكثر من مجرد شطحات أو فضول نظري للفيزياء. فقد كشفت أرصاد فلكية عن طرق عديدة يمكن أن تتشكل وفقها الثقوب السوداء، وكان أكثرها احتمالاً انفجار نجم كبير الكتلة استهلك مادته التي يستطيع دمجها. وبدأ عندها علماء الفيزياء الفلكية يحاولون التحقق إذا ما كانت الخصائص الغريبة للثقوب السوداء يمكن أن تنتج آثاراً يمكن رصدها. وخلال العقود القليلة التالية راكمت المراصد والأقمار الصناعية كتلة من المؤشرات على وجود حقيقي للثقوب السوداء.
كان ستيفن هوكنغ من رواد فيزياء الثقوب السوداء. وقد برهن بالتعاون مع الفيزيائي والرياضي الإنكليزي روجر بنروز العديد من المبرهنات العامة الأساسية حول الطريقة التي يتشكل بها أفق الحدث وحول ما يحصل للجسم الذي ينهار ليشكل الثقب الأسود.
ولكن في عام 1975 أعلن هوكنغ عن نتيجة جديدة كانت مفاجئة تماماً. فمعظم الأبحاث التي كانت تتم على الثقوب السوداء حتى ذلك الوقت لم تكن ترتكز على الميكانيك الكمومي الذي يشكل مع النسبية العامة أهم تقدم علمي في القرن العشرين. وإحدى الفرضيات الأساسية في الميكانيك الكمومي أنه بوجود منبع للطاقة مناسب يمكن أن تظهر جسيمات من المادة تسمى "الكم"، حتى وإن كان الفضاء فارغاً. والمادة هنا تشير إلى جسيمات الضوء - الفوتونات - وإلى مكافئاتها بالنسبة للجاذبية وتسمى غرافيتون.
استطاع هوكنغ بفضل برهان رياضي متقدم أن يبرهن أنه بانفجار نجم فإنه تتخلق في جواره في الفراغ المحيط به تيارات من الجسيمات تشع في دفق منتظم لفترة طويلة بعد اختفاء النجم. وبما أن هذا الإشعاع، الذي سمي إشعاع هوكنغ، يحمل الطاقة، فلا بد بالتالي من أن شيئاً آخر يفقد الطاقة بالمقابل بحيث يصبح ثمة توازن في الحفظ لهذه الطاقة. أما ماهية هذا الشيء فلا يمكن أن يكون سوى جسم الثقب الأسود نفسه، أي كتلته (وذلك اعتماداً على المعادلة التي كان قد بين أينشتين بواسطتها قبل وقت طويل من ذلك أن الطاقة والكتلة متكافئتان). فإذا كان الثقب الأسود يفقد من كتلته، فهذا يعني أن حجمه يتقلص بشكل ثابت ومستمر وفق صيرورة طويلة من "التبخر" كما سماه هوكنغ. وهو أمر يستمر حتى يختفي الثقب الأسود نفسه. وقد حسِب ستيفن هوكنغ بشكل خاص أن الإشعاع الصادر يملك سمة خاصة - هي عبارة عن طيف حراري - الأمر الذي يعني أنه يشكل شكلاً من الحرارة المشعة المزودة بحرارة خاصة تتعلق بكتلة الثقب الأسود. فنظرية ستفين هوكنغ كانت تؤسس بالتالي رابطاً وثيقاً وغريباً بين الثقوب السوداء والفيزياء الكمومية وقوانين الترموديناميك، وهو رابط لا يزال بعد ثلاثة عقود من طرحه يثير مزيداً من الحيرة والارتباك بين الفيزيائيين.
كانت هذه النظرية تبين أن الثقوب السوداء ليست سوداء تماماً بل إنها تشع الحرارة وتتبخر شيئاً فشيئاً. وكان لإعلان هذه النتيجة صدى كبيراً ودفع بستفين هوكنغ إلى مقدمة الشهرة الدولية في عالم الفيزياء والكوزمولوجيا. لكن لم يكن الحبر الذي كتب ستفين هوكنغ به هذا المقال قد جف بعد حتى أيقن أن نتائجه كانت تطرح لغزاً قد لا يكون له حل. فإذا اختفى نجم في ثقب أسود، واختفى الثقب الأسود بدوره، فما الذي يصير إليه ما كان يشكل أساس وأصل هذا النجم؟ إن الجواب الذي سرعان ما يأتي إلى الذهن- وهو أن كافة هذه المكونات تخرج من الثقب الأسود مع إشعاع هوكنغ - يطرح مشكلة بحد ذاته. فكتلة النجم تتألف بشكل أساسي من بروتونات ونترونات. غير أن حرارة ثقب أسود كتلته كتلة نجم تكون منخفضة جداً (أقل من 1 ميكروكلفن) بحيث أن الإشعاع الصادر يكون بشكل رئيسي على شكل فوتونات منخفضة الطاقة. ولا يبدأ الثقب الأسود بإصدار البروتونات والنترونات إلا عندما يكون قد انضغط إلى أبعاد ما تحت ذرية ويصبح بالتالي حاراً بدرجة كافية. ولكن حتى ذلك الوقت، فإن مجمل كتلة الثقب الأسود أو معظمها تكون قد أشعت، والكتلة الباقية لا تعود كافية ببساطة لكي "يلفظ" الثقب الأسود مكونات النجم الأصلية.
المادة المعدومة
إن مثل هذا العدم للمادة الممتصة في الثقب الأسود يطرح إشكالية أكثر صعوبة أيضاً، طالما أن صيرورة التبخر تدمر كما يبدو بشكل كامل المعلومات ـ ليس فقط المعلومة المتعلقة بنمط الجسيمات، بل كذلك المعلومة المتعلقة بالمكان الذي كان موجوداً فيه أو يوجد فيه، والطريقة التي ينتقل بها. بعبارة أخرى، فإن السمات الدقيقة للمادة الغارقة في الثقب الأسود تضيع بشكل لا يمكن تعويضه. وهكذا أخذ هوكنغ على عاتقه التأكيد على أن هذه المعلومة كانت تدمر، الأمر الذي يعني ببساطة أن الكون لا يحفظ هذه المعلومة.
لفهم هذه الحالة التي وصل إليها المجتمع العلمي في ذلك الوقت، لا بد من معرفة أن أعمال ستيفن هوكنغ كلها حتى ذلك الوقت كانت تتم في إطار نظرية النسبية العامة. إن قسماً كبيراً من أبحاثه مع روجر بنروز كانت تتعلق بدراسة حالات الفرادة الزمكانية. وتشير هذه الحالات إلى تخوم أو حدود للزمان والمكان تظهر على سبيل المثال إثر انهيار ثقالي. لنتخيل كرة من المادة كروية تماماً وهي تنضغط على نفسها حتى يصبح قطرها صفراً. عندها تصبح كثافة المادة فيها لانهاية. وينطبق ذلك على الحقل الثقالي، وبالتالي على الانحناء الزمكاني. وتشير نقطة الانحناء اللانهائي ـ أي الفرادة ـ إلى نهاية الفضاء والزمان، أي الحد الذي تصبح بعده النظرية غير فاعلة. في النسبية العامة تُدَمّر المعلومة بالضرورة عند ملاقاتها للفرادة. ووفق أعمال هوكنغ وروجر بنروز فإن كافة الثقوب السوداء (بما فيها تلك التي كانت مادتها المنكمشة على نفسها ليست كرة كاملة الكروية) تخفي فيها فرادة كامنة في قلبها. وبالنتيجة، كان من الممكن اللجوء إلى آلية طبيعية لحل لغز المعلومات في الثقب الأسود: فكل ملعومة تدخل في ثقب أسود تُبتلع بواسطة الفرادة وتمحى بالتالي بشكل نهائي. وعندما يتبخر الثقب الأسود، فإن الفرادة نفسها تنتهي وتختفي من الكون حاملة معها المعلومة.
فيزيائيون مخالفون لهذا الرأي
مع ذلك كان عدد كبير من الفيزيائيين غير راضين عن هذه النظرية. وكان منهم بشكل خاص الذين يعملون على فيزياء الجسيمات الدقيقة أكثر من الذين يعملون على النسبية العامة إذ كانوا يعتبرون أن قوانين الميكانيك الكمومي قوانين مطلقة. والحال أن الميكانيك الكمومي يقول بشكل منهجي وأكيد إن المعلومة لا يمكن أن تضيع أو تدمر. فيمكن للمعلومة أن تشوه حتى يصبح من المستحيل فك رموزها وبالتالي لا يمكن استخدامها، لكن كائناً إلهياً على سبيل المثال يملك نظرة شاملة للكون يجب أن يستطيع من حيث المبدأ معرفة أدق وأبسط معلومة منتشرة في أرجائه.
ويؤكد هؤلاء الفيزيائيون المنشقون، وخاصة منهم ليونارد سوسكيند وجيرارت هووف Gerard'f Hooft، من جامعة أوتريخت، أنه لو كانت نظرية الميكانيك الكمومي مطبقة بشكل صحيح على الحقل الثقالي، فيجب أن نتمكن من تحديد الطريقة التي تحفظ فيها المعلومة المتعلقة بالنجم. لكن مع الأسف لا يوجد حتى اليوم نظرية تجمع بشكل متناغم نظريتي الميكانيك الكمومي والجاذبية. ومع أن نظرية الأوتار طرحت بعض الآمال في هذا المجال، لكنها لم تستطع بعد تقديم نظرية متناسقة تجمع هاتين النظريتين. ووفق هذه النظرية فإن كافة جسيمات المادة توافق بشكل أساسي اهتزازات أوتار صغيرة لامتناهية في الصغر. لكن نظرية الأوتار ليست قابلة حتى الآن للاختبار أو البرهان. ولهذا ظل عدد كبير من العلماء يقرِّون بأن تناول مشكلة معلومات الثقوب السوداء تبقى خارج إطار النظريات العلمية القائمة. وكانت أسباب عدم الوفاق كثيرة بالتالي بين العلماء أنفسهم.
في عام 1997، قام جون برسكيل، وهو فيزيائي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، بمراهنة ستيفن هوكنغ بأن الأمر سينتهي بالبرهان أن المعلومة كانت محفوظة خلال صيرورة تبخر الثقب الأسود. وشيئاً فشيئاً بدأ العلماء يميلون بأعداد متزايدة إلى ليونار سوسكيند وجيراردت هوف متفقين مع طرح جون برسكيل. كانت المسألة في جوهرها مسألة حدس، لأنه لم يكن ثمة نتائج حاسمة لصالح فرضية حفظ المعلومة.
مع ذلك، جاء حساب قام به كل من كورتيس كالان Curtis Callan وخوان ملداسينا Juan Maldacena من جامعة برينستون بإمالة الكفة بشكل حاسم. فقد نجحا باستخدام نظرية الأوتار الفائقة لحساب إيقاع تبخر نوع خاص من الثقوب السوداء، وهي الحالة التي يملك فيها الثقب الأسود شحنة كهربائية قوية جداً إلى درجة أن قوته الكهربائية وقوته الثقالية تكونان شبه متكافئتين. وبيّنت طريقتهما التي كانت ترتكز على الميكانيك الكمومي البحت، أنه في حالة الثقوب السوداء الخاصة هذه كان الثقب الأسود يتبخر بشكل جيد كما كان يتنبأ ستيفن هوكنغ. لكنها بينت أيضاً أنه على الرغم من هذا التبخر فإنه بإمكاننا مع ذلك إيجاد المعلومة.
بالنسبة لليونارد سوسكيند، فقد حمل هذا الحساب المميز الضربة القاضية لفرضية ستيفن هوكنغ، حتى أن هذا الأخير بدأ يظهر أكثر انعزالاً مع مطلع الألفية الثالثة. وفي عام 2004، أعلن أنه غيَّر رأيه حول تناقض المعلومة وأقر بخسارته الرهان مع برسكيل مهدياً إياه موسوعة في لعبة البيسبول!
مع ذلك فإن المسألة لم تحلّ بشكل نهائي. فمنذ البداية كان من الواضح أن نظرية ستيفن هوكنغ التي تصف تبخر ثقب أسود لا تعود فعالة ما إن ينتقل هذا الأخير وهو ينضغط إلى أقل من حجم معين. ويقدر عموماً أن هذا الحجم الحدي أقل بنحو عشرين مرة من رتبة نواة الذرة (وهو ما يسمى بطول بلانك، أي 10-33 سم). إننا نستطيع على المستوى الكبير أن نعالج الحقل الثقالي لثقب أسود بشكل كلاسيكي، أي بمعالجة مظاهره الكمومية على أنها تخلخلات ضعيفة. ولكن على مستوى طول بلانك تصبح الآثار الكمومية ملحوظة وكبيرة. والفرادة التي تنبأت بها النسبية العامة تتأثر تماماً حتى وإن كان لا أحد يعرف بماذا! ونظرية الأوتار كما سبق وأشرنا بعيدة اليوم عن حل هذا الإشكال، مثلها مثل نظريات أخرى تتعلق بالجاذبية الكمومية. ولا شك أن إحدى الإمكانيات ستكون مع ذلك هو أن الفرادة سوف تجد نفسها وقد استبدلت بنفق أو عدة أنفاق أو أنفاق الديدان التي تربط زمكاننا مع زمكانات أخرى. فإذ تبدى أن هذه الفرضية صحيحة فإن المعلومات ستتمكن من اجتياز النفق وستكون قد فقدت تماماً بالنسبة لكوننا وعالمنا، لتعود فتظهر في كون آخر. وبشكل عام، فإن المعلومة تكون محفوظة، حتى وإن كان يبدو أنها تضيع بالنسبة لكون خاص. ويبدو مع ذلك أننا بعيدون عن حل المسألة عبر برهان شامل. إن الحساب الذي قام به كل من كورتيس كالان وخوان ملدسينا يتعلق بحالة خاصة وهامة، لكن في الفيزياء النظرية يمكن للحول الخاصة أن تؤدي إلى إجابات خاصة إنما غير شاملة. ولا أحد حتى الآن يعرف كيفية تطبيق نظرية الأوتار على ثقب أسود نوعي وشامل.
هل يمكن حل المسألة باللجوء إلى مبدأ جوهري يتجاوز الصعوبات التقنية النوعية؟ في عام 1970، استخدم جيكوب بكنستاين الميكانيك الكمومي لحساب كمية قصوى من المعلومات التي يمكن أن يبتلعها ثقب أسود. أن كمية المعلومات الكلية في كرة من المادة العادية تتناسب ببساطة مع كمية المادة، وبالتالي مع حجم الكرة. غير أن بكنستاين اكتشف أنه في حالة الثقب الأسود فإن هذه العلاقة مختلفة تماماً: فمحتوى المعلومات متناسب مع سطح الثقب الأسود. جاءت هذه النتيجة غير المتوقعة والغامضة لتزيد من غموض المسألة، وقد أكد عليها ستيفن هوكنغ في بحثه الشهير الذي نشر عام 1975 حول إشعاع الثقب الأسود. وتذكّر هذه النتيجة قليلاً بمثال الهولوغرام، حيث تكون الصورة في ثلاثة أبعاد مرمزة على سطح ثنائي البعد. واقترح ليونار سوسكيند أخذ العلاقة بين سطح الثقب الأسود والمعلومات كنقطة انطلاق وجعله مبدأً كونياً سماه المبدأ الهولوغرافي. والمبدأ الهولوغرافي في شكله العام يقول إن المعلومات الماثلة في منطقة معطاة من الفضاء محتواة تماماً وبالكامل على السطح ثنائي البعد المحيط بهذه المنطقة. فإذا كان المبدأ الهولوغرافي صحيحاً، فإن واقع أن ثقباً أسوداً يتشكل ثم يختفي لا يغير في شيء من المحتوى المعلوماتي لداخل المنطقة المحددة بالسطح الثنائي البعد. إن الكمية الكلية للمعلومات تظل غير متغيرة. لكن للأسف فإن الإثباتات التي تؤكد صحة المبدأ الهولوغرافي لا تزال نادرة جداً.
يعترف الفيزيائيون أن الريبة الكوانتية، التي اكتشفها ويرنر هايزنبرغ، تشكل مصدراً أساسياً وجوهرياً في الطبيعة لمعرفة لا يمكن بلوغها. فإذا ما تأكد يقين هوكنغ الأصلي - ومن الواضح أنه من المبكر جداً القول بخطئه بشكل نهائي منذ الآن - فإن ذلك سيعني أن الكون يخفي مصدراً ثانياً للمعرفة غير الممكن الوصول إليها: ألا وهو محو المعلومات بواسطة الثقوب السوداء. كان أينشتين يكره الميكانيك الكوانتي بسبب عنصر الريبة فيه.
___________
بقلم : موسى ديب الخوري
مودتي
Comment