في مقاطعة جيلاند الدانماركية عثر الباحثين على جثة لازالت ملامحها باقية لم تتغيرعلى الرغم من ان عمرها حوالي 2400 سنة اطلق عليها Tollund man وهي لرجل جرى شنقه ثمدفنه في ارض مغطاة بالتورف وهي حشائش متراكمة يصل ارتفاعها الى امتار حيث اعلاهايعيش على النباتات الميتة اسفلها. المومياء كانت عارية ولايغطيها الا قبعة علىالرأس وحزام على الخصر وحبل على الرقبة. جلد الميت اصبح لونه بلون الجلود المدبوغةواصبح اكبر حجما قليلا وغير ذلك لم يجري اي تغير ذو شأن.
ذا الرجل كان يملك افضل وجه تم حفظه عبر عصور ولكنه ليس الدليلالوحيد على إمكانية الطبيعة على حفظ الاجساد مئات السنوات. إضافة الى ذلك هناكالعديد من الحضارات تمكنت من الوصول الى وصفة حفظ الاجساد وجعلها مومياء، منالمحتمل في محاولة لتقليد الطبيعة ومن اجل الاحتفاظ بذكرى الاحباء والاقرباء ومنعاجسادهم من ان تتحول الى طعام للديدان. المصريين القدماء وصلوا الى قمة الابداع فيتطوير عملية حفظ الاجساد وطريقتهم اعجزت الباحثين طويلا، حيث اكتشفوا اسرارها منذفترة قصيرة فقط. وكان من ابداع التحنيط المصري ان اثار دهشة الاقوام المجاورة علىالدوام الى درجة ذكره في المقدسات إعتقاداً منهم انه إعجاز إلهي، فما هو اسباب تحولالجسد الى مومياء؟
الطبيعة لاتحتاج الى وقت كبير لتحويل الجثة الى هيكلعظمي، إذ ان هذه العملية تبدأ بعمل بكتريا الجسد ذاته. في امعائنا توجد انواع منالبكتريا، ويملك الجسم ميكانيزمه الخاص لمنع البكتريا من الانتشار خارج الامعاء. ولكن عند الموت يتوقف هذا الميكانيزم عن العمل وتختلف الاوضاع بسرعة فائقة. مثلايتوقف جهاز المناعة عن العمل ويفتح الطريق امام البكتريا للانتشار. خلال بضعة ايامتنتشر البكتريا وتبدأ في تحليل وتفسيخ الجسد المُضيف الذي ينتفخ بفضل الغازاتالصادرة عن البكتريا.
الغازات المنطلقة عن الجسد نتيجة لنشاط البكتريا الطبيعي ترسلنداء الى العديد من الحشرات المتخصصة في الجثث فتسارع للقدوم بعد فترة قصيرة منالموت لتضع بيوضها التي تفقس بعد بضعة ساعات من حدوث الموت. الديدان تبدأ بأكلالجثة من الخارج في حين تستمر البكتريا على تفكيكها من الداخل، وبعد بضعة ايامتتحول االجثة الى مائدة طعام كبيرة. جثة الانسان يمكن ان تحتوي على 150 الف دودةذباب وبمساعدة البكتريا يأكلون بفعالية جميع الاقسام الطرية من الجثة ولايبقى غيرالعظام والاسنان والشعر.
ماهي العوامل التي تتحكم بسرعة تحلل وتفسخ الجثة؟هذا الامر مرتبط بالعديد من العوامل. مثلا هل الجثة مدفونة في الارض ام متروكة علىسطح الارض، وهل الجو رطب وحار ام جاف وبارد ، وهل توجد حيوانات متوحشة في المنطقة. العظام تبقى في كل الاحوال فترة اطول قد تصل الى مئات السنوات وفي بعض الاحوال الىالاف السنوات.
غير ان بعض المناطق تملك ظروفا طبيعية خاصة تسمح للطبيعة انتكبح التحلل والتفسخ لدى افراد من الجثث، لتنتج الطبيعة مومياءاتها. في هذا السبيلتوجد العديد من الطرق الفعالة. التورف هو بالتأكيد احد افضل الطرق لخلق مومياء. افضل المومياءات التي خلقها التورف تقع في الدانمارك، مثل الرجل المذكور اعلاهوايضا Grauballe man, وكلاهما لايقل عمره عن الفي سنة. غير ان التورف يمكن ان يخفيمومياءات اقدم. في فلوريدا تم العثور على مومياءات عمرها 8 الف سنة وهذا حصل عام 1986 وتمكن الباحثون من استخلاص عينة من الدماغ وفحص حامضها النووي، لتكون اقدمحامض نووي بشري.
كيف يتمكن التورف من خلق مومياء؟ لهذا الغرض لابد من تحييدبكتريا الجسد. اغلب البكتريا تحتاج الى اوكسجين من اجل عملية التحليل والتفسيخ فيحين ان البيئة في التورف حامضية. اضافة الى ذلك فإن التورف يحتوي على مادة sphagnan, وهي مادة تخرب انزيمات البكتريا. المادة اعلاه توجد في الطحلب الابيض sphagnum وهو من ضمن مجموعة التورف.
ليس التورف وحده القادر على خلق مومياء بل ايضا الهواء الحاروالجاف يقدمان ظروف نموذجية لخلق المومياءات. بدون ماء لاتجد البكتريا ظروفا مناسبةلنشاطها فتتوقف عملية التحلل والتفسخ. لقد جرى العثور على العديد من الجثث المحتفظةبشكلها في العديد من الصحاري. اكثرهم اهمية هي المومياءات من غرب الصين. في منتصفالتسعينات وصل االى علم الباحثين الغربيين نبأ هذه المومياءات من صحراء تاريم Tarim mummies, وعمرها اربعة الاف سنة واهمها تسمى Cherchen man, وعمرها ثلاثة الاف سنةوبحالة جيدة وهي لرجل كان طوله مترين تقريبا ونستطيع رؤية الوشم عليه بوضوح. شكلهالخارجي يشبه بوضوح الشكل الاوروبي وله لحية تعبر عن امتلاك شعر كثيف وجلد ابيضوعيون مدورة. هذه اللقية، وبقية اللقيات الاخرى في المكان نفسه، وضعت الباحثين امامتساؤل عن اسباب وجود " اوروبيين الشكل" في غرب الصين قبل بضعة الاف منالسنيين؟
ماهو عمر المومياء التي يجري خلقها في الظروف الطبيعية، عن هذاالسؤال يصعب الاجابة. غير انه غالبا مانجد ان المومياءات التي نشأت في الصحراءوالتورف تحول جزء من الجسد فيها الى مومياء في حين ان الجزء الاكبر يتألف من عظام ،وعلى اساس المعلومات التي نملكها اليوم نستطيع ان نقول ان المومياء يمكن ان تبقىعلى الاقل عشرة الاف سنة. الجليد قادر على خلق مومياء تنحفظ لفترة اطول.
إذاجرى تجميد الجسم بعد الموت على الفور وتم حفظه من التيارات الهوائية يمكن ان يبقىمحافظا على وضعه تقريبا لبضعة قرون. غير ان ذلك نادر للغاية. كقاعدة عامة فإنالاجسام المجمدة تكون في تماس مع هواء جاف الامر الذي يجعل الاجسام تخسر سوائلهاعبر ظاهرة التصاعد. sublimation. مما يعني ان الجليد يتحول الى بخار على الفور بدونان يمر بالمرحلة السائلة. بهذا الشكل يصبح الجسم طبيعيا جاف ومجمد، مما يعني غالباانه يفقد ثلاثة اجزاء من وزنه. بهذه الطريقة نشأت مومياء إنسان الجليد اوتزيالشهيرة على قمم الالب. على الرغم من انه بقي مخفيا في اعماق الجليد على مدى 5300سنة الا انه حافظ على شكله بدرجة فائقة. التحليل الكيميائي لدهن جثته اعطت العلماءالعديد من المعلومات عن عملية حفظ الاجساد الطبيعية. لقد ظهر ان الحفظ الطويلبالتجميد يحول الدهن الى نوع خاص من الدهن يتحلل ببطء شديد.
رمسيس الثاني Ramses II, احد اكثر المومياءات المصرية ابداعا،وهي لفرعون حكم مصر لمدة 67 سنة ومات قبل 3200 سنة عن عمر يناهز 92 سنة. المحنطينالمصريين يقومون اولا بإخراج الدماغ ومافي البطن عدا القلب، الذي كان يُعتقد انهموطن الحكمة والعقل واستمر هذا الاعتقاد لفترة طويلة عند شعوب المنطقة. بعد ذلكيجري غسل الجثة بخمر التمر ثم يجري تغطية الجسم بالملح من اجل تجفيفه. بعد انقضاءمابين 35-40 يوما يجري معالجة الاجسام بالعديد من المواد منها دهون حيوانية ودهوننباتية وعطور طبيعية وبعد ذلك يجري لف الجثة بالقماش، لربما هي اصل عادة الكفن،ليصبح عند ذلك جاهزا لملاقاة الاله حادس، إله العالم السفلي.
على الاغلب كانالعثور على الجثث المحفوظة بفضل الطبيعة في الصحراء المصرية هو الذي حرض خيالالمصريين للاعتقاد بإرادة الالهة في حفظ المختارين، مما دفعهم لتطوير طريقة تحنيطفعالة لتقليد إرادة " الالهة" والدخول في مجموعة المختارين. منذ الاسرة القديمة قبلاكثر من 4200 سنة تمكن المصريون من العثور على طريقة بدائية اولى لخلق مومياء وكانذلك من خلال اخراج الاحشاء ولف الجثة بالجلد. اخراج الاحشاء يعني اخراج البكترياومنع عملها، في حين ان الجلد منع وصول الذباب والحشرات. على مدى بضعة الاف منالاعوام حسن المصريون طرق التحنيط لتصل الى قمة الابداع عام 1000 قبلالميلاد.
الى ماقبل بضعة سنوات كان العلماء يعتمدون على وصف المؤرخ الاغريقيهيرودوتوس الذي حضر عملية تحنيط وكتب عنها. اليوم يعلم الباحثون ، بفضل تجقيقهمالخاص، ان وصف هيرودوتوس كان صحيحا. اثنين من الباحثين الامريكيين قاموا بإختباروصف هيرودوتوس بدقة من خلال تحنيط امريكي اوصى بجثته لهذا الاختبار بالذات. لقد قامالباحثين بسحب الاحشاء من خلال فتحة في البطن ثم اخرجوا الدماغ من الانف قطعة قطعةبواسطة كلاب تماما كما هو مذكور في الوصف. بعد ذلك وضعت الجثة بالخمر لقتل البكترياثم جرى تجفيفها في كمية كبيرة من الملح مجلوب من بحيرات الملح المصرية. بعد ذلكاصبحت المومياء تشبه مومياء المصريين القدماء باللون والشكل وهذا التشابه يسمحبالقول ان السنوات الطويلة لم تغير من شكل التحنيط شيئا. بعد ذلك جرى مسح الجثةبالدهون الحيوانية والنباتية ثم تم لفها بالقماش. بعد سبعة سنوات كانت لاتزال علىحالها.
فقط منذ فترة قصيرة اصبح العلماء قادرين على فهم اسباب فعاليةالطريقة المصرية. جزء من الاجابة جاءت من اثنين من الكيميائيين البريطانيين. لقدقاموا بفحص سطح ثلاثة عشرة مومياء. لقد ظهر ان افضل المومياءات محافظة على مظهرهاجرى معالجتها بالراتنج resin, وبشمع النحل وهي مواد قادرة على كبح فعالية البكتريا،إضافة الى المعالجة بمختلف انواع الدهون من اجل خلق طبقة مانعة للماء. كل ذلكبالاضافة الى تجفيف الجثة جعل الجثة قادرة على البقاء فترة طويلة.
لااحديعلم الفترة الممكنة للبقاء لدى المومياء المصرية ولكن لازال تاريخ انتهاء الصلاحيةيقع بضعة الاف من السنوات الى الامام. الشعوب الاخرى التي استخدمت التحنيط لم تصلالى مستوى التكنيك المصري، ولهذا السبب فإن مومياءتهم قادرة على البقاء فترة اقصرمن مومياءات المصريين القدماء. هذا الامر يخص مومياءات الهنود الحمر في امريكاالجنوبية والذين مارسوا التحنيط بشكل واسع. مومياءات شعب الانكا نادرا ماتمكنت منالبقاء بشكل جيد، على الرغم من انهم احدث من مومياءات المصريين.
احد اكثر المومياءات ندرة وابتكارا هي مومياء تعود لراهبهندوسي. هذه المومياء محفوظة في احد المعابد الهندوسية على جزيرة Koh Samui, مقابلالساحل التايلاندي. الراهب مات قبل 30 سنة فقط ويدعي الرهبان انه قام بتحنيط نفسهبمساعدة التواصل الروحي وحده. عيون الراهب جرى وضع نظارات سوداء عليها لاخفاء انحفرة ظهرت حول احدى عينيه وقامت سحلية بالسكن فيها. اخصائيين بالمومياءات منالولايات المتحدة الامريكية قاموا بفحص المومياء هما الخبير Ron Beckett والخبير Jerry Conlougue, وقد استخدموا العديد من الطرق بما فيه التصوير بالاشعة. لقداكتشفوا على ان الجسد جرى تجفيفه بطرق طبيعية ولايوجد مايشير الى استخدام معالجةخارجية. وحتى الاحشاء كانت في مكانها وتقلصت قليلا. لتوضيح ماحصل طرح الخبيرينالنظرية التالية:
عندما كان الراهب على قيد الحياة كان يقضي اياما في التواصلالروحي بدون طعام او شراب. بعد عدة ايام من الانقطاع عن الاكل والشرب كان جسدالراهب في طريقه الى النقطة الحرجة. في تلك اللحظة قام الراهب بشرب كأس من محلولالماء المالح مرتفع التركيز، مما ادى الى تحييد البكتريا وسحب الماء من الاعضاء. بألتأكيد سيكون موتا فظيعا ولكنه فعال تماما في حفظ الجسد
عندما كان الراهب على قيد الحياة كان يقضي اياما في التواصلالروحي بدون طعام او شراب. بعد عدة ايام من الانقطاع عن الاكل والشرب كان جسدالراهب في طريقه الى النقطة الحرجة. في تلك اللحظة قام الراهب بشرب كأس من محلولالماء المالح مرتفع التركيز، مما ادى الى تحييد البكتريا وسحب الماء من الاعضاء. بألتأكيد سيكون موتا فظيعا ولكنه فعال تماما في حفظ الجسد
العديد من الشعوبتتمنى المحافظة على قادتها محنطة، غير ان التحنيط اصبح نادرا للغاية اليوم. كتعويضالذلك قامت بعض الشعوب بإستخدم البلسمة في مسح اجساد قادتها للمحافظة على مظهرهالخارجي فترة قصيرة. هذا الامر هو الذي جرى مع القائد الشيوعي فلاديمير اليتش لينينبعد موته عام 1924 ومنذ ذلك الوق يجري عرضه في ضريحه قرب اسوار الكرملين. وعلىالرغم من ان الخبراء السوفييت قاموا بعمل مذهل الا انه يبقى معالحة خارجية للجثة. لهذا السبب كان من الضروري اعادة المعالجة بالمواد الكياوية على الدوام لمنع الجثةمن التحلل.
البلسمة هي معالجة مؤقته، غير ان العلماء تمكنوا من الوصول الىمعالجة دائمة تسمح بمحافظة الجثة على مظهرها الخارجي الى الابد. هذه الطريقة تسمى plastinations teknik, (الحقن بالبلاستيك) وهو احدث طريقة في هذا المجال. هذاالتكنيك جرى تطويره من قبل العالم الالماني Günther von Hagens, عام 1978 واليوميوجد انواع له. الخطوة الاولى هي ايقاف تحلل الجسم بإستخدام مثلا formaldehyd. بعدذلك يجري تجفيف الجسم بمادة مناسبة مثل الاسيتون. ثم يجري تبريد الجثة الى ناقص 15-25 درجة مئوية. بعد بضعة اسابيع يجري تغطيس الجثة في بوليمير سائل في ذات الوقتالذي يجري فيه سحب الاسيتون بالتفريغ الهوائي. في النهاية يتصلب البوليمير وبمساعدةضوء اولترافيوليت او غاز خاص يجري تصليب البوليمير.
هذا النوع من التحنيط شاع العلم به بفضل معرض Body Worlds, حيثجرى عرض 200 جثة بشرية. الملايين من محبي الاطلاع والفضوليين قاموا بزيارة المعرض. الجثث جرى التبرع بها من قبل اصحابها لهذا الغرض تحديدا. العديدين عبروا عنامتعاضهم ان تصبح الجثث البشرية موضوعا للعرض في مختلف الاوضاع، بما فيه مقطعيابحيث يمكن رؤية العضلات او الاعضاء الداخلية او حتى الجنين في بطن امه. المسؤولينعن المعرض دافعوا عن انفسهم بان الغرض علمي ويمكن ان يكون تعليمي. بل اشاروا الىانه لااحد يعترض عند عرض مومياءالشعوب القديمة وكانهم لاينتمون الى ذات الانسانية. هذا النوع من التكنيك يسمح الان للمؤسسات الطبية والتعليمية ان تشتري جثث جاهزةلتعليم الاطباء والممرضات في مختلف الفروع الطبية مثل الاناطوميا. هذه الموديلاتتملك بنية تعكس الواقع حتى انها تملك البنية الخلوية التي يمكن رؤيتها بالمجهر. ومهما كان الامر فإن هذه الطريقة تفوقت، اخيرا، على طريقة المصريين القدماء.
Comment