فلسطيني يعيد "الحياة" لسيارة تاريخية بعد 50 عاماً من دفنها خوفاً من " اسرائيل "
في مرآبه الصغير، وقف يومها الحاج (المرحوم) زكريا الغندور بقلب كسير ويدين مترددتين عجزت عن تفكيكها: كانت سيارته الـ " فيات 1100 " موديل 1955 قديمة في ذلك الوقت حتى بالنسبة لسيارات عام 1967، إلا أن ثمنها كان "ثروة" نظرا لقلة وسائل المواصلات العامة وقتها.
لكن خوفه من إشاعة أن تستولي القوات الإسرائيلية بعد احتلالها لقطاع غزة على واحدة من سيارتين كان يمتلكهما، جعله يفكك "الفيات" إلى "أشلاء متفرقة"، ويغلق عليها باب مرآبه الذي ظل "قبرا" لها لأكثر من خمسين خريفا، قبل أن "تُبعث" من جديد على طرقات غزة.
ماتت لخمسة عقود..
حكاية هذه السيارة قد تلخص مأساة شعب بأكمله: كان الحاج الغندور أحد أبناء مدينة يافا التي غادرها على عجل قبل سقوطها بأيدي العصابات الصهيونية، التي صارت جيشا منظما كبده "نكبة" جديدة بعد تسعة عشر عاما، في "مهجره" بمدينة غزة، طالت حتى ماله الذي فر به من يافا ليشتري به سيارتي أجرة يعتاش من ريعهما، إضافة إلى ما يجنيه من مهنته كميكانيكي في ورش وكالة الغوث، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي اضطر فيه أن "يفكك" نصف ثروته طواعية، ويتركها نهبا لتقلبات الزمن.
هل فكر ذات يوم أن يعيد إليها نبض الحياة مرة أخرى؟ " لست أدري حقيقة، فقد رحل عنا حماي رحمه الله منذ أكثر من عشر سنوات، ولم يصارح أحدا بمكان سيارته المفككة، حتى موعد اقتراب وفاته، وكأنها كانت كنزه المكنون! ".
كانت إجابة السؤال السابق على لسان سليم حتحت (57 عاما)، صهر الحاج الغندور، والذي حمل على عاتقه "ميراث" إصلاح سيارته المفككة.
يقول حتحت، أو زكش كما يناديه جل معارفه: " حدث وأن أخبرنا حماي قبل وفاته بوقت قصير للغاية عن سر كان يمثل "قدس الأقداس" بالنسبة له! وهو وجود سيارة قديمة في مرآبه، كلفني بإصلاحها، ليلقى ربه بعدها بوقت قصير...
بقي المرآب مغلقا بعدها لبضع سنوات، إلى أن قررت إصلاح السيارة عام 2007، بعد أن راقت لي الفكرة، لكنني لا أخفي عنك مقدار ما شعرته من الصدمة عندما شاهدتها للمرة الأولى! ".
لك أن تتخيل هذه اللحظة التاريخية التي ترى فيها سيارة الفيات 1100 النور من جديد، بعد عهود طويلة، تغيرت فيها جميع الأحوال، ورحل خلالها الاحتلال الإسرائيلي من غزة، فيما كانت "سيارتنا" مستغرقة في نوم عميق: باب المرآب الصدئ لا يخفي انزعاجه بإصداره صريره العالي، فيما كانت مصاريعه مستعصية على الفتح إلى حد ما، لتبدو السيارة أو ما تبقى منها أمام عيني حتحت بهذه الصورة: كانت "هيكلا حديديا" بكل المقاييس، كسته طبقة كثيفة من الصدأ، واختفى منه كل شيء: المحرك، مُبَرِّد المحرك "الرديتر"، مُغَيِّر السرعات "الجير"، بل وحتى مقابض الأبواب!! ولم يبق منها سوى الزجاج الأمامي وعدادات الوقود والسرعة التي كتبت بياناتها باللغة الإيطالية كدليل لا يقبل الشك على "عراقة" هذا "الهيكل" في "الماضي السعيد"، والذي احتفظ بمتانته وقوته رغم كل العقود التي تعاقبت عليه!
" وبدأت مرحلة البعث"
استغرقت عملية البحث عن قطع الغيار أكثر من ثلاث سنوات، أنفق حتحت خلالها مبالغ طائلة، لكن فرحته كانت تكبر شيئا فشيئا وهو يرى حلمه بتحريك السيارة يتحقق على أرض الواقع: طلاء الهيكل بالطبقة الأساس، ثم باللون الأزرق الغامق، مع إصلاحات مستمرة كانت تقترب معها "لحظة الانتصار" وإعادة بعثها للحياة.
كانت علامات الشعور بالفخر واضحة على ملامح حتحت وهو يكمل بالقول: " تمكنت من جلب قطع غيار هندية الصنع عبر الأنفاق، كلفتني غاليا، إذ استوردها لي تاجر مصري، أوصيته بجلبها من خلال بعض المعارف والمسافرين إلى مصر.
فيما كنت أحمل "الهيكل" من ورشة لأخرى من أجل إصلاح هذا "الهيكل" بأسرع ما يمكن، ولم أكن أستأمن عليه "المهنيين الصغار"، بل كنت آخذه إلى "أفضل المعلمين" في كل مجال ممكن: الميكانيكا والدهان والسمكرة، وقد ذهلوا جميعا من رؤيتهم لهيكل بهذا العمر! ".
وقبل ثلاثة شهور فقط، كان إنجاز حتحت واضحا لكل من حضر معه تجربة تشغيل "سيارته القديمة- الجديدة"، بعد أن اكتملت كافة قطع الغيار اللازمة لتشغيلها: حرك المفتاح في ثقب التشغيل ليزأر محركها معلنا خفق الحياة من جديد فيها.
"لها من المعجبين نصيب..!"
يتمم حتحت:"عندما أقودها أشعر وكأنني في عالم آخر: كأنني في مملكتي الخاصة التي لا ينازعني فيها أحد".
ارتسمت بعدها ابتسامة مرحة وهو يقول: " كما أنني وجدت لها "عشاقا" كثرا غيري من كبار السن الذي قاربوا سن الستين من العمر، وقد وجدت أحدهم يحتضنها ذات يوم وهي أمام محل الملابس الذي أديره، فيما كانت الدموع تغرق خديه المتغضنين، وهو يقول لي: ترفق بهذا الطراز، فإن لي فيه ذكريات عزيزة! فضلا عن آخرين كانوا يطوفون بها ذاهلين كلما أوقفتها جانبا..".
بدعوة كريمة منه، أخذني في جولة بالسيارة مع مصور الصحيفة، في شوارع غزة، شعرنا خلالها بروعة ما شعر به، حتى أن هذه "الكركوبة" كما يحلو للبعض أن يسميها بدت في عيوننا أعظم من أحلى سيارة "موديل سنتها"، فيما كانت – كالعادة – نظرات الإعجاب الجذل الممزوجة بالفضول الطاغي مرتسمة على وجه كل من رآها، ومن كل الأعمار. وإن شَهِدنا بأن النساء كن أشد ملاحظة من الرجال!.
سألته فجأة خلال جولتنا:
- لو عرض عليك بيعها، فبكم ستبيعها؟
كانت ساعتها نظرة الرجل المستخفة بالسؤال واضحة وهو يجيب:
- أنا لم أُصلحها من العدم كي أبيعها! وقد عرضت علي أسعار لا تتخيل ارتفاعها من أجل أن أتخلى عنها لكن رفضي كان السباق دائما، قبل حتى أن يكمل الراغب بالشراء عرضه! لم أجد ساعتها من جواب سوى أن تمتمت: معك كل الحق!.
في مرآبه الصغير، وقف يومها الحاج (المرحوم) زكريا الغندور بقلب كسير ويدين مترددتين عجزت عن تفكيكها: كانت سيارته الـ " فيات 1100 " موديل 1955 قديمة في ذلك الوقت حتى بالنسبة لسيارات عام 1967، إلا أن ثمنها كان "ثروة" نظرا لقلة وسائل المواصلات العامة وقتها.
لكن خوفه من إشاعة أن تستولي القوات الإسرائيلية بعد احتلالها لقطاع غزة على واحدة من سيارتين كان يمتلكهما، جعله يفكك "الفيات" إلى "أشلاء متفرقة"، ويغلق عليها باب مرآبه الذي ظل "قبرا" لها لأكثر من خمسين خريفا، قبل أن "تُبعث" من جديد على طرقات غزة.
ماتت لخمسة عقود..
حكاية هذه السيارة قد تلخص مأساة شعب بأكمله: كان الحاج الغندور أحد أبناء مدينة يافا التي غادرها على عجل قبل سقوطها بأيدي العصابات الصهيونية، التي صارت جيشا منظما كبده "نكبة" جديدة بعد تسعة عشر عاما، في "مهجره" بمدينة غزة، طالت حتى ماله الذي فر به من يافا ليشتري به سيارتي أجرة يعتاش من ريعهما، إضافة إلى ما يجنيه من مهنته كميكانيكي في ورش وكالة الغوث، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي اضطر فيه أن "يفكك" نصف ثروته طواعية، ويتركها نهبا لتقلبات الزمن.
هل فكر ذات يوم أن يعيد إليها نبض الحياة مرة أخرى؟ " لست أدري حقيقة، فقد رحل عنا حماي رحمه الله منذ أكثر من عشر سنوات، ولم يصارح أحدا بمكان سيارته المفككة، حتى موعد اقتراب وفاته، وكأنها كانت كنزه المكنون! ".
كانت إجابة السؤال السابق على لسان سليم حتحت (57 عاما)، صهر الحاج الغندور، والذي حمل على عاتقه "ميراث" إصلاح سيارته المفككة.
يقول حتحت، أو زكش كما يناديه جل معارفه: " حدث وأن أخبرنا حماي قبل وفاته بوقت قصير للغاية عن سر كان يمثل "قدس الأقداس" بالنسبة له! وهو وجود سيارة قديمة في مرآبه، كلفني بإصلاحها، ليلقى ربه بعدها بوقت قصير...
بقي المرآب مغلقا بعدها لبضع سنوات، إلى أن قررت إصلاح السيارة عام 2007، بعد أن راقت لي الفكرة، لكنني لا أخفي عنك مقدار ما شعرته من الصدمة عندما شاهدتها للمرة الأولى! ".
لك أن تتخيل هذه اللحظة التاريخية التي ترى فيها سيارة الفيات 1100 النور من جديد، بعد عهود طويلة، تغيرت فيها جميع الأحوال، ورحل خلالها الاحتلال الإسرائيلي من غزة، فيما كانت "سيارتنا" مستغرقة في نوم عميق: باب المرآب الصدئ لا يخفي انزعاجه بإصداره صريره العالي، فيما كانت مصاريعه مستعصية على الفتح إلى حد ما، لتبدو السيارة أو ما تبقى منها أمام عيني حتحت بهذه الصورة: كانت "هيكلا حديديا" بكل المقاييس، كسته طبقة كثيفة من الصدأ، واختفى منه كل شيء: المحرك، مُبَرِّد المحرك "الرديتر"، مُغَيِّر السرعات "الجير"، بل وحتى مقابض الأبواب!! ولم يبق منها سوى الزجاج الأمامي وعدادات الوقود والسرعة التي كتبت بياناتها باللغة الإيطالية كدليل لا يقبل الشك على "عراقة" هذا "الهيكل" في "الماضي السعيد"، والذي احتفظ بمتانته وقوته رغم كل العقود التي تعاقبت عليه!
" وبدأت مرحلة البعث"
استغرقت عملية البحث عن قطع الغيار أكثر من ثلاث سنوات، أنفق حتحت خلالها مبالغ طائلة، لكن فرحته كانت تكبر شيئا فشيئا وهو يرى حلمه بتحريك السيارة يتحقق على أرض الواقع: طلاء الهيكل بالطبقة الأساس، ثم باللون الأزرق الغامق، مع إصلاحات مستمرة كانت تقترب معها "لحظة الانتصار" وإعادة بعثها للحياة.
كانت علامات الشعور بالفخر واضحة على ملامح حتحت وهو يكمل بالقول: " تمكنت من جلب قطع غيار هندية الصنع عبر الأنفاق، كلفتني غاليا، إذ استوردها لي تاجر مصري، أوصيته بجلبها من خلال بعض المعارف والمسافرين إلى مصر.
فيما كنت أحمل "الهيكل" من ورشة لأخرى من أجل إصلاح هذا "الهيكل" بأسرع ما يمكن، ولم أكن أستأمن عليه "المهنيين الصغار"، بل كنت آخذه إلى "أفضل المعلمين" في كل مجال ممكن: الميكانيكا والدهان والسمكرة، وقد ذهلوا جميعا من رؤيتهم لهيكل بهذا العمر! ".
وقبل ثلاثة شهور فقط، كان إنجاز حتحت واضحا لكل من حضر معه تجربة تشغيل "سيارته القديمة- الجديدة"، بعد أن اكتملت كافة قطع الغيار اللازمة لتشغيلها: حرك المفتاح في ثقب التشغيل ليزأر محركها معلنا خفق الحياة من جديد فيها.
"لها من المعجبين نصيب..!"
يتمم حتحت:"عندما أقودها أشعر وكأنني في عالم آخر: كأنني في مملكتي الخاصة التي لا ينازعني فيها أحد".
ارتسمت بعدها ابتسامة مرحة وهو يقول: " كما أنني وجدت لها "عشاقا" كثرا غيري من كبار السن الذي قاربوا سن الستين من العمر، وقد وجدت أحدهم يحتضنها ذات يوم وهي أمام محل الملابس الذي أديره، فيما كانت الدموع تغرق خديه المتغضنين، وهو يقول لي: ترفق بهذا الطراز، فإن لي فيه ذكريات عزيزة! فضلا عن آخرين كانوا يطوفون بها ذاهلين كلما أوقفتها جانبا..".
بدعوة كريمة منه، أخذني في جولة بالسيارة مع مصور الصحيفة، في شوارع غزة، شعرنا خلالها بروعة ما شعر به، حتى أن هذه "الكركوبة" كما يحلو للبعض أن يسميها بدت في عيوننا أعظم من أحلى سيارة "موديل سنتها"، فيما كانت – كالعادة – نظرات الإعجاب الجذل الممزوجة بالفضول الطاغي مرتسمة على وجه كل من رآها، ومن كل الأعمار. وإن شَهِدنا بأن النساء كن أشد ملاحظة من الرجال!.
سألته فجأة خلال جولتنا:
- لو عرض عليك بيعها، فبكم ستبيعها؟
كانت ساعتها نظرة الرجل المستخفة بالسؤال واضحة وهو يجيب:
- أنا لم أُصلحها من العدم كي أبيعها! وقد عرضت علي أسعار لا تتخيل ارتفاعها من أجل أن أتخلى عنها لكن رفضي كان السباق دائما، قبل حتى أن يكمل الراغب بالشراء عرضه! لم أجد ساعتها من جواب سوى أن تمتمت: معك كل الحق!.
Comment