بات من الصعب رؤية أي ناد أوروبي يحصد البطولات المحلية أو القارية بصفوف تخلو من لاعبين أفارقة بل أنهم يشكلون العمود الفقري في البناء الفني والخططي لأي فريق, لذا فإنه من المنطقي أن ينتظر متابعو كرة القدم رؤية منتخبات هؤلاء المحترفين على قدر عال من المستوى ومنافسين جديين في البطولات العالمية فكيف الحال إن كانت المسابقات قارية.
حلّت أمم أفريقيا 2010 حاملة الآمال الأخيرة لكوكبة مخضرمة من اللاعبين السمر المحترفين أوروبياً في تحقيق ولو لقب يشفي غليلها وغليل مواطنيها ويجعل لتوقعات المحللين بعضاً من الصحة ولوعود اللاعبين والإداريين شيئاً من الوفاء, إلا أنها على غرار سابقاتها فقد حزمت نجوم ساحل العاج والكاميرون ومالي حقائبها باكراً وعادت إلى نواديها التي لا ريب أن مدراءها الفنيين كانوا الأشد سعادة بالفشل المدوي لهؤلاء النجوم.
وفي مقابل فشل ديدييه دروغبا وكانوتيه وصامويل ايتو في صنع تاريخ مميز لأممهم وهم الذين دنوا من عمر "الشيخوخة الكروية" رأينا مجدداً أنّ الكلمة الفصل عادت للاعبين الأفارقة الذين يلعبون ضمن القارة وفي مقدمتهم لاعبو مصر التي أثبتت مجدداً رغم غياب الكثير من نجومها أمثال محمد أبو تريكة وأحمد بركات وعمرو زكي ومحمد شوقي, أنها الرقم الصعب المنال في القارة.
لا ريب أن الجيل العاجي تحديداً والكاميروني والمالي عموماً يعد ذهبياً بامتياز نظراً لما يتضمنه من نجوم كبار فالفيلة تقدمها في أنغولا لاعبو تشلسي الإنكليزي ديدييه دروغبا وسالومون كالو وبرشلونة الإسباني يايا توريه وشقيقه في مانشستر سيتي الإنكليزي حبيب كولوتوريه ونجم ليل الفرنسي الصاعد جيرفينيو وباكاري كونيه من مرسيليا الفرنسي فيما تقدم الأسود غير المروضة صامويل ايتو لاعب إنتر ميلان الإيطالي والكسندر سونغ ساعد دفاع ارسنال الإنكليزي والمخضرم جيريمي نجيتاب (المتسبب الرئيسي بالخسارة أمام مصر) أما النسور فحضرت مع فريديريك كانوتيه لاعب إشبيليه الإسباني وسيدو كيتا لاعب برشلونة ومامادو ديارا لاعب ريال مدريد وغيرهم الكثير من أصحاب العقود السخية.
والطريف أنه لا مجال لمقارنة أو مقاربة مالية بين اللاعبين المذكورين ولاعبي منتخب مصر البطل على سبيل المثال, فالقيمة الانتقالية لديديه دروغبا تقدر بـ38 مليون يورو أما إيتو فـ40 مليون يورو ويايا توريه 25 مليون يورو, فيما تقدر قيمة أفضل لاعب في البطولة أحمد حسن، نجم الأهلي المصري، بـ2,5 مليون يورو, أما القيمة الانتقالية لهداف البطولة، لاعب الاتحاد السكندري، محمد ناجي "جدو" فتوازي المليون يورو, ودون شك إن جمعنا القيمة التقديرية الانتقالية للاعبين المصريين الـ23 الذين حضروا إلى أنغولا قد لا توازي قيمة دروغبا وحده!
وبالرغم من هذه الفوارق في القيمة المادية والتي من المفترض والمنطقي أن تنعكس فوارق في القيمة الفنية إلا أن مقولة "عند الامتحان يكرم المرء أم يهان" أكرمت من اجتهد فقط بين 10 و31 كانون الثاني/يناير الماضي, فهان على هؤلاء النجوم المهان وتجرعوه راضون بل مرغمون بخلاف "فقراء أفريقيا" فمالي خرجت من الباب الضيق بحلولها ثالثة المجموعة الأولى وراء أنغولا والجزائر من فوز وتعادل وخسارة, فيما كان ربع النهائي أقصى ما استطاع لاعبو الكاميرون وساحل العاج فعله, دون أن ننسى دوراً أولاً مخيباً, استتبع برصاصتي رحمة عربيتين, إذ روضت مصر الأسود بـ3-1 مع هدف غير صحيح لأفضل لاعب في البطولة أحمد حسن رغم أن الكاميرون كانت الأفضل أداء, فيما لقنت الجزائر الفيلة درساً في القتال والفدائية الكروية مخرجة إياها بنتيجة 3-2 علماً أن هدفاً صحيحاً ألغي للعاجيين فيما كانت دقائق الشوط الإضافي الثاني تلفظ أنفاسها، لكن هذين الهدفين المذكورين لا يغيرا في المعادلة أمراً.
افتقدت هذه المنتخبات وخصوصاً ساحل العاج لأدنى مقومات فريق كرة قدم في أنغولا فحضر لاعبوها جسداً وغابوا روحاً ولعل ذلك كان أبرز نقاط الضعف التي عانى منها الفريق العاجي تحديداً الأكثر ترشيحاً وجذباً للأنظار نظراً لقافلته الثرية، إذ بدا أنه لا ولاء ولا عصبية ولا انصهار نفسي وكأنّ كل نجم جاء لشخصه متسلحاً بصيته الذائع وملايينه وليس بالمواطنية التي كانت جلية لدى المصريين والجزائرين وأدى امتزاجها مع عوامل فنية إلى نجاح مبهر.
ويدرك كل مطلع أن كرة القدم هي لعبة جماعية بامتياز تحتاج لانصهار وذوبان نفسي وروحي ومعنوي وتحفيزي كي يصار بعدها للوصول لإبداع فني أو على الأقل لنتيجة إيجابية وغالباً ما يستطيع أي فريق بلوغ النجاح المطلوب إن اجتمعت فيه العوامل السالفة الذكر بمعزل إن شحت بعض الشيء قدرات عناصره فنياً, والشواهد على ذلك كثيرة, ولا يخفى على أحد أن منتخبات كساحل العاج والكاميرون ومالي تمتلك كل المقدرات الفنية لكن الجانب المعنوي يكاد ينعدم حين تكون أفريقيا مسرحاً للمنافسات.
وكان من الطبيعي أن ينسحب التفكك النفسي والروحي وعدم الارتقاء بالتركيز الذهني إلى مستوى الحدث، على الأداء الفني الذي جاء واهناً لا بل صادماً لفرق يضعها المراقبون على قائمة المرشحين للعب دور طليعي في مونديال جنوب أفريقيا 2010, حتى أن نيجيريا ثالثة البطولة لم تقنع أبداً، كما وأنه إلى جانب العروض المخزية لساحل العاج والكاميرون بدا واضحاً قلة اكتراث اللاعبين بما حدث في الوقت الذي باتت فيه كرة القدم أكثر من مهنة بل صناعة ورسالة تفرض على اللاعب مسؤوليات تتخطاه, ليس فقط تجاه ناديه أم بلده الأم بل تجاه محبيه في شتى أنحاء العالم مع اعتبار النجم حالة معنوية وقدوة أخلاقية وسلوكية عامة.
ولعل السقوط المتتالي لمنتخبات مدججة بكافة أنواع الأسلحة الكروية في أمم أفريقيا بات يفرض مسؤولية على الاتحاد القاري نفسه ليعيد حساباته في كيفية تنظيم البطولة وجدولتها وتسويقها للرفع من مقامها, إذ يظهر أن هوة كبيرة بين طموحات الاتحادات المحلية ولاعبيها المحترفين أوروبياً الذين يولون السواد الأعظم من اهتماماتهم لناديهم لاعتبارات متنوعة يمكن تلخيصها بالمادية إن من حيث المال أو الشهرة أو الأضواء فبات أي لاعب يخشى على نفسه من الإصابة ويلعب مع منتخبه من باب تأدية الواجب والفرض الذي لا يستطيع الإملاء على الروح كما يملي على الجسد.
أما التوقيت السيئ للبطولة فحدث ولا حرج إذ أنه يأتي في خضم المنافسات الأوروبية المتنوعة محلياً وقارياً وفي وقت لا يستطيع أي ناد التخلي عن لاعبيه بسهولة وهو الذي دفع الملايين للفوز بخدماتهم فيصبح اللاعب مشتت العواطف والواجبات بين ناديه، حيث الضغط مهولاً، ومنتخبه, وغالباً ما تؤول الأفضلية للأوّل نظراً للمغريات الكبيرة -غير المنطقية- مما ينتج أداء سلبياً من اللاعب مع منتخب بلاده دون إغفال أن البطولة تنظم كل سنتين فيما نرى جميع البطولات الكبرى تقام كل أربع سنوات في العالم مما يعطي رونقا وقيمة أكبر للحدث ويتيح تحضيراً أفضل في ظل ازدحام الروزنامة العالمية مما يرهق اللاعب نفسيا وبدنياً وتحديداً أولئك المحترفون أوروبياً.
ومن نتاجات هذا التوقيت أيضاً سوء وقصر في عملية الإعداد والتحضير على صعيد المنتخب, خصوصاً أنه مطلوب من لاعبين مشتتين في أصقاع المعمورة إيجاد اللحمة والانسجام والكيميائية والانتقال من حالة نفسية وبيئية واجتماعية وظروف مناخية لأخرى في غضون أسبوعين أو عشرة أيام وهذا ما يعد أشبه بالإعجاز لأي مدير فني مهما علا شأنه فالوقت هو عامل مهم للإعلاء من شأن أي فريق في أي لعبة جماعية.
قد يقول البعض إن ما ينطبق على ساحل العاج والكاميرون من تغييرات متنوعة تتطلب انسجام سريع صعب المنال, ينسحب على جميع المنتخبات ولهذا شيء من الصحة وليس كلها إذ أن المنتخبات التي تخوض البطولة بلاعبين يلعبون داخل القارة وفي دولهم تحديداً تكون أعباؤهم على شتى اختلافاتها أقل من نظرائهم في أوروبا إلى جانب توفر السهولة في التقائهم دوماً مما يحصر المتغيرات بعوامل أقل كالجغرافيا مثلاً زائد أن حافزهم في إثبات الذات أقوى حين يلتقون مع نجوم عالميين وهذه العوامل تنطبق بشكل كبير على المنتخب المصري الذي كله من نتاج دوري محلي "قوي" باستثناء محمد زيدان لاعب بوروسيا دورتموند الألماني خصوصاً أن هذا المنتخب أكد نظرية تفوّق الأفريقي المحلي للمرة الثالثة على التوالي بعد لقبي 2006 و2008.
وما يستحق الإيضاح أن تفوق الأفريقي المحلي انطبق على مصر تحديداً وبشكل جزئي على غيرها لذا يعتبر منتخب الفراعنة حالة استثنائية إنما هذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على أمرين أولهما قدرة اللاعب الأفريقي المحلي على التفوق على نظرائه الأوروبيين متى توافرت العوامل اللازمة, ثانيها أن أصحاب الباع والشهرة في مستطيلات أوروبا الخضراء ليسوا هم أنفسهم الذين نراهم في أفريقيا, فهم يصبحون أقل شأناً حين تطأ أقدامهم منافسات أكبر مسابقة في القارة السمراء أو يتحجمون وهذا، وبمعزل عن الضغوطات التي يتعرض لها اللاعب، يفتح نافذة صحة الإنفاق المسرف في كبريات النوادي وأهلية اللاعبين في الحصول على مبالغ خيالية في الوقت الذي لا نرى فيه فوارق فنية مماثلة مع آخرين لا يملكون ذات المدخول.
وإلى جانب ما ذكر يبقى لبعض البطولات كدوري أبطال أوروبا مثلاً ولمونديال جنوب أفريقيا القادم على وجه الخصوص الدور البارز في التأثير على مردودات كبار اللاعبين, فكلنا نذكر كيف أدّت ساحل العاج في ألمانيا 2006 حيث وبالرغم من خروجها من الدور الأوّل إلا أنها كسبت الاحترام والتقدير لأدائها الرائع ولعل إغراء الظهور المشرّف في كأس العالم حيث الحافز أقوى بكثير بما لا يقاس جعل من بعض لاعبي المنتخبات التي تأهلت الاكتفاء بتقديم أقل الممكن كون الاستحقاق العالمي بعد خمسة أشهر ودرهم وقاية خير من قنطار علاج!