حديقة العزيزية (مرعي باشا الملاّح) والحديقة العامة بحلب
تمهيد:
إنّ التقرير الذي قدّمه الى المجلس البلدي بحلب المهندس الاستشاري شارل غودار، عضو المجلس البلدي ومدير سكة حديد بغداد، العام 1938 بعنوان "حلب ؛ دراسة جغرافية عمرانية اقتصادية سياسية واجتماعية"، وقام بترجمته وشرحه مشكوراً الدكتور محمود حريتاني وصدر عن دار شعاع العام 2011، كان تقريراً هاماً بما حواه من مواضيع تتعلق بمدينة حلب؛ تاريخها وتوسّعها وبعض أحيائها ومصلحة الأشغال العامة ونظام البلدية والمصالح التابعة لها من خدمات ونظافة وشؤون مالية واجتماعية واهتمام بالسياحة ودعامتي الاقتصاد فيها من زراعة وتجارة...مما أعطى فكرة واضحة عن حلب قبل الحرب العالمية الثانية وتضمّن الواقع والطموحات لدى البلدية العام 1938.
مصلحة الغرسيات والحدائق:
ويبيّن التقرير بين مواضيعه ان مصلحة الغرسيات بحلب تأسست عام1925، وأُوكلت اليها مهمة صيانة الحدائق العامة العائدة الى البلدية وغرس الأشجار على الطرق العامة.
كما يذكر ان الحدائق العامة في مدينة حلب ثلاث؛
بستان العزيزية أو بستان مرعي باشا وحديقة بيّوت
(ويقصد بها الحديقة القائمة بين ثانوية العروبة ومكتب دفن الموتى تبعد قليلا الى الشرق من قصر العدل) وقد كانت قيد التنظيم، وحديقة السبيل غربي المدينة.
وقد أوكلت حديقة السبيل والعزيزية الى مستأجرين لرعاية الأشجار والنباتات وزيادتها، والدخول الى هذه الحدائق مسموح للعامة بدون مقابل، ويحق للمستأجراستثمار مقهى وأطعمة في طرف من الحديقة.
من هنا يتأكد أنّه لم يكن هناك في منطقة العزيزية العام 1938 سوى حديقة واحدة وليس حديقتين هي "بستان العزيزية أو (وليس واو العطف) بستان مرعي باشا" وكانت الى الشرق من مقبرة العبّارة كما تبيّنها خريطة لمنطقة العزيزية
(أنظر الخريطة) مأخوذة في الثلاثينات من القرن الماضي، وقد وضع فوق بقعة منشية العزيزية الرقم 6 وكتب شرحها: حديقة مرعي باشا في زاوية المخطط، بما لا يدع مجالا للشك إنّ حديقة أو منشية العزيزية هي نفسها حديقة مرعي باشا الملاّح.
ويبدو واضحاً مكان مبيت حافلات الترامواي (جنوب مبنى مديرية النقل حالياً)، كما تظهر محطة الشام في آخر حي الجميلية (مكان مديرية مالية حلب حالياً).
وتظهر صورة أخرى (زوّدني بها مشكوراً الصديق المحامي علاء السيّد) مقبرة العبارة بوضوح مع الشارع الشرقي المحاذي لها مع انحرافه قليلا الى الغرب باتجاه ساحة تمثال قسطاكي الحمصي وكنيسة الملاك ميخائيل للروم الكاثوليك، بينما حديقة مرعي الملاح لا تظهر لوجودها خلف البناء العالي الذي أخذت الصورة من الجهة الجنوبية منه.
وأُضيفُ ان الحديقة الصغيرة التي كانت بجوار مخفر العزيزية الحالي الذي بني العام 1899 معروفة باسم "جنينة البطريرك"، ويُقصد به البطريرك جرجس شلحت لطائفة السريان الكاثوليك(أزهار ألف وردة ووردة حالياً)، الذي أصرّ عند اختياره للسدّة البطريركية، وبسبب وضعه الصحّي، أن يبقى كرسيه في حلب، وقام بشراء العديد من الأوقاف لصالح طائفته من بينها المبنيان الى الغرب من الشارع المجاور الى مخفر العزيزية، وأحد المبنَيين (وذُكر بداخله تاريخ البناء 1873 واسم المطران – آنئذ- جرجس شلحت) وبعد أن تمّ هدمه بالكامل يجري حالياً إنشاء مبنى حديث مكانه بطبقات عديدة، يضمّ مكاتب ومحلاّت تجارية ودور سكن تابعة لأوقاف طائفة السريان الكاثوليك.
ويذكر تقرير المستشار غودار في فصل الحياة الاجتماعية والسياحة(الصفحة 101 من النص المترجم) ضرورة إيجاد أماكن مخصّصة لاجتماع مختلف فئات السكان وتسليتهم وضرورة وجود الحدائق العامة والمقاهي والمسابح والمسارح والملاعب وأماكن السباق والمتاحف والمكاتب العامة والأندية ... ويكرّر وجود ثلاث حدائق قليل وغير كاف، وهي حديقة حي العزيزية أو حديقة مرعي باشا وحديقة بيّوت وحديقة السبيل. والأخيرة واسعة لكنها تبعد كيلومترين عن ساحة باب الفرج، ومع ذلك يرتادها الكثيرون في فصل الصيف للتمتّع بهوائها الشمالي الغربي العليل.
ويذكر:" انه وضع مشروع حدائق على ضفّتي نهر القويق بين حي العزيزية ومؤسّسة الكهرباء ومحطة بغداد وهي أرض خالية تابعة الى وقف العثمانية، يمكن أن ينظّم بها حديقة كبيرة جديرة بمدينة تعداد سكانها 300000 نسمة.
كما يذكر غودار انّه جُهّز مؤقّتاً ملعبان على ضفتي القويق في الجنوب الشرقي من محطّة بغداد، كما جهّز ملعب عسكري بجانب حي "قطار الشحن"
(ويظهر على مخطط غودارالملعبان وقد كتب عليهما بالفرنسية ستاد الفاسبوراكان وستاد الهومنتمن على إسم الناديين الرياضيين الشهيرين للأرمن بحلب والستاد العسكري القديم من الضفة الغربية للنهر). وقد لحظ في المخططات العمرانية إنشاء ملعبين".
فكرة الحديقة العامة الحالية بحلب:
ويذكر غودار انه حين التصديق على مخطط السيد دانجه قامت اللجنة العمرانية عام 1938 بوضع نظام عمراني صدّقه مجلس الوزراء، واتّخذت التدابير لخلق مدينة حديثة فيها حدائق.
وقد وُضعت توصية بانشاء حديقة بمحاذاة نهر القويق بين شارع فرنسا(القوتلي حالياً) وجسر محطة بغداد لتأمين النزهة لسكان المدينة مع إنشاء ساحات وتعريض بعض الشوارع. ويختم بالقول:لقد بذل الجهد وبقي التطبيق.
من الذكريات:
وكلنا نعرف الدور الكبير الذي قام به المهندس مجد الدين الجابري الذي انتُخب رئيسا للبلدية العام 1947 في إيجاد الحديقة العامة على أرض الواقع(حيث كتب على المخطّط بالفرنسية وقف العثمانية) وكانت بمساحة 17 هكتاراً وافتُتحت بعد سنتين للمواطنين، وأصبحت رئة تنفّس لسكّان حلب بجميع فئاتهم ومستوياتهم الاجتماعية.
إنّه عمل رائع لا يمكن أن تنساه مدينة حلب لابنها البار مجد الدين الجابري.
ومن ذكريات الطفولة؛ كان بيتنا في حيّ السليمانية، شارع الغزالي في عوجة الجب، وكنا نذهب، أولاد الحارة وأنا معهم، حوالي العام 1950 ولم نتجاوز الصف الخامس الابتدائي لنشاهد مباريات كرة القدم في الملعب القريب من نهر القويق عند أقدام طلعة جبل النهر، وكانت القبور تملأ المنطقة (سينما الزهراء وشارع بنسلفانيا ونقابة الأطباء حاليا) حيث مقابر اليهود والمسيحيين.
أمّا الحديقة العامة التي امتدّت من بداية الشارع المؤدّي الى محطّة بغداد الى الحدود الشمالية لساحة سعد الله الجابري فقد كانت آية في الروعة والتنسيق والانسجام بين أحواضها المائية بنوافيرها وممرّاتها وأشجارها وأحواض زهورها جميلة الألوان، وقد توسطها مبنى دائري ذي أعمدة مرمرية كان يشنّف آذان أهالي حلب بالموسيقى العسكرية والشعبية في المناسبات الوطنية، مما يملأ صدورنا نحن التلاميذ فرحا وفخاراً بوطننا الحبيب. وكان يقوم على رعاية الحديقة في الخمسينات من القرن الماضي المهندس الزراعي جورج منيّر (أبو جبرا) (1914 -1993) الذي كان فنّاناً بالفطرة(صورة للفنان جورج منيّر وإحدى لوحاته) له أعمال نحت ورسم رائعة، أسبغ فيها من روحه على تنظيم الحديقة العامة منذ إنشائها وحتى أيام الوحدة مع مصر، فأضحت جنّة للناظرين بترتيبها ونظافتها وممراتها المكسوّة بالأشجار والأزهار توزعت بينها المقاعد المريحة حيث تحلو الاستراحة وتستطاب.
وكم كان رائعاً مشهد الحديقة عند الاطلالة عليها من مدخلها الرئيسي من الجهة الشرقية حيث الدرجات الواسعة بعرض 20 متراً ونوافير المياه من كل جهة، وفي المقابل ينتصب تمثال الشاعر أبي فراس الحمداني ممسكاً بسيفه بكل شموخ وعنفوان، وقد أحاطت به الزهور بألوانها الزاهية من كل ناحية.
وكانت هناك ساعة كبيرة بساعدَي عقربين أحدهما أطول من الآخر لبيان الوقت، وقد رسمت أرقامها بالزهور الملوّنة. وتضم الحديقة اليوم عند مدخلها الشمالي تمثالاً نصفياً للشاعر البحتري وعند مدخلها الغربي تمثالاً نصفياً للأديب خليل الهنداوي.
كما هناك في ركن من الحديقة محترف للفنان والخطّاط عبدالرحمن حوَري يُبدع فيه رسومه ضمن أحضان الطبيعة الخلاّبة.
وكم كانت خطوة رائعة تلك التي قام بها مجلس مدينة حلب حديثا بتجهيز البركة الرئيسية الكبيرة وسط الحديقة بالتجهيزات اللازمة من حيث الصوت والنوافير لتقديم المقطوعات الموسيقية العالمية والشرقية والشعبية
(ومن بينها ألحان أغاني فيروز الشهيرة) مع حركات النوافير المائية البديعة وعلى أنغام الموسيقى تهبط المياه وترتفع وتشكّل تقاطعات وانحناءات منسجمة (هارموني) مع انسياب الموسيقى التصويرية المرافقة، تُعزف في أوقات محدّدة من أيام الاسبوع وتستمرّ ساعة من الزمن في كل مرّة، وقد استمتع بها أهالي حلب وخصوصا عند مشاهدتها مع نسائم أمسيات الربيع والخريف، وهي تشبه قليلاً بعض ما هناك في حدائق قصر فرساي(الصورة نوافير ماء في فرساي) في فرنسا.
وأذكر انه، بين ما كان يُروى في الخمسينات من القرن الماضي، كان هناك فكرة لإنشاء دار للأوبرا في الركن الجنوبي الشرقي من الحديقة الواسعة، ولا أعلم ماذا تمّ بتلك الفكرة الجيّدة، لأنّ حلب بأطياف مثقّفيها عطشى الى مسرح على مستوى رفيع وحديث تقدَّم فيه المسرحيات والقطع الموسيقية والغنائية العالمية. كما هي بحاجة كذلك الى مكتبة مركزية مجهّزة على أحدث الأساليب، وتضم أهمّ الكتب والمراجع وتتواصل مع أنحاء العالم. إن "دار الكتب الوطنية" التي أُنشئت لخدمة ربع مليون نسمة عام 1936 لم تعد مناسبة لمدينة تجاوز عدد سكانها المليونين.
ونغبّط أهالي دمشق على وجود مكتبة الأسد ودار الأوبرا والفنون فيها، دون حسد، وكم نتحسّر عندما تصلنا رسائل من كل من الدارين عن طريق الجهاز المحمول(الموبايل)، وبشكل شبه يوميّ، تعلن عن نشاطاتها اليومية من محاضرات ومعارض وندوات أو حفلات موسيقية وسواها. ترى أين وصلت فكرة المكتبة المركزية وأين هي دار الأوبرا في حلب؟
المرحوم جورج منيّر
نوافير الماء في قصر فرساي
تمهيد:
إنّ التقرير الذي قدّمه الى المجلس البلدي بحلب المهندس الاستشاري شارل غودار، عضو المجلس البلدي ومدير سكة حديد بغداد، العام 1938 بعنوان "حلب ؛ دراسة جغرافية عمرانية اقتصادية سياسية واجتماعية"، وقام بترجمته وشرحه مشكوراً الدكتور محمود حريتاني وصدر عن دار شعاع العام 2011، كان تقريراً هاماً بما حواه من مواضيع تتعلق بمدينة حلب؛ تاريخها وتوسّعها وبعض أحيائها ومصلحة الأشغال العامة ونظام البلدية والمصالح التابعة لها من خدمات ونظافة وشؤون مالية واجتماعية واهتمام بالسياحة ودعامتي الاقتصاد فيها من زراعة وتجارة...مما أعطى فكرة واضحة عن حلب قبل الحرب العالمية الثانية وتضمّن الواقع والطموحات لدى البلدية العام 1938.
مصلحة الغرسيات والحدائق:
ويبيّن التقرير بين مواضيعه ان مصلحة الغرسيات بحلب تأسست عام1925، وأُوكلت اليها مهمة صيانة الحدائق العامة العائدة الى البلدية وغرس الأشجار على الطرق العامة.
كما يذكر ان الحدائق العامة في مدينة حلب ثلاث؛
بستان العزيزية أو بستان مرعي باشا وحديقة بيّوت
(ويقصد بها الحديقة القائمة بين ثانوية العروبة ومكتب دفن الموتى تبعد قليلا الى الشرق من قصر العدل) وقد كانت قيد التنظيم، وحديقة السبيل غربي المدينة.
وقد أوكلت حديقة السبيل والعزيزية الى مستأجرين لرعاية الأشجار والنباتات وزيادتها، والدخول الى هذه الحدائق مسموح للعامة بدون مقابل، ويحق للمستأجراستثمار مقهى وأطعمة في طرف من الحديقة.
من هنا يتأكد أنّه لم يكن هناك في منطقة العزيزية العام 1938 سوى حديقة واحدة وليس حديقتين هي "بستان العزيزية أو (وليس واو العطف) بستان مرعي باشا" وكانت الى الشرق من مقبرة العبّارة كما تبيّنها خريطة لمنطقة العزيزية
(أنظر الخريطة) مأخوذة في الثلاثينات من القرن الماضي، وقد وضع فوق بقعة منشية العزيزية الرقم 6 وكتب شرحها: حديقة مرعي باشا في زاوية المخطط، بما لا يدع مجالا للشك إنّ حديقة أو منشية العزيزية هي نفسها حديقة مرعي باشا الملاّح.
ويبدو واضحاً مكان مبيت حافلات الترامواي (جنوب مبنى مديرية النقل حالياً)، كما تظهر محطة الشام في آخر حي الجميلية (مكان مديرية مالية حلب حالياً).
وتظهر صورة أخرى (زوّدني بها مشكوراً الصديق المحامي علاء السيّد) مقبرة العبارة بوضوح مع الشارع الشرقي المحاذي لها مع انحرافه قليلا الى الغرب باتجاه ساحة تمثال قسطاكي الحمصي وكنيسة الملاك ميخائيل للروم الكاثوليك، بينما حديقة مرعي الملاح لا تظهر لوجودها خلف البناء العالي الذي أخذت الصورة من الجهة الجنوبية منه.
وأُضيفُ ان الحديقة الصغيرة التي كانت بجوار مخفر العزيزية الحالي الذي بني العام 1899 معروفة باسم "جنينة البطريرك"، ويُقصد به البطريرك جرجس شلحت لطائفة السريان الكاثوليك(أزهار ألف وردة ووردة حالياً)، الذي أصرّ عند اختياره للسدّة البطريركية، وبسبب وضعه الصحّي، أن يبقى كرسيه في حلب، وقام بشراء العديد من الأوقاف لصالح طائفته من بينها المبنيان الى الغرب من الشارع المجاور الى مخفر العزيزية، وأحد المبنَيين (وذُكر بداخله تاريخ البناء 1873 واسم المطران – آنئذ- جرجس شلحت) وبعد أن تمّ هدمه بالكامل يجري حالياً إنشاء مبنى حديث مكانه بطبقات عديدة، يضمّ مكاتب ومحلاّت تجارية ودور سكن تابعة لأوقاف طائفة السريان الكاثوليك.
ويذكر تقرير المستشار غودار في فصل الحياة الاجتماعية والسياحة(الصفحة 101 من النص المترجم) ضرورة إيجاد أماكن مخصّصة لاجتماع مختلف فئات السكان وتسليتهم وضرورة وجود الحدائق العامة والمقاهي والمسابح والمسارح والملاعب وأماكن السباق والمتاحف والمكاتب العامة والأندية ... ويكرّر وجود ثلاث حدائق قليل وغير كاف، وهي حديقة حي العزيزية أو حديقة مرعي باشا وحديقة بيّوت وحديقة السبيل. والأخيرة واسعة لكنها تبعد كيلومترين عن ساحة باب الفرج، ومع ذلك يرتادها الكثيرون في فصل الصيف للتمتّع بهوائها الشمالي الغربي العليل.
ويذكر:" انه وضع مشروع حدائق على ضفّتي نهر القويق بين حي العزيزية ومؤسّسة الكهرباء ومحطة بغداد وهي أرض خالية تابعة الى وقف العثمانية، يمكن أن ينظّم بها حديقة كبيرة جديرة بمدينة تعداد سكانها 300000 نسمة.
كما يذكر غودار انّه جُهّز مؤقّتاً ملعبان على ضفتي القويق في الجنوب الشرقي من محطّة بغداد، كما جهّز ملعب عسكري بجانب حي "قطار الشحن"
(ويظهر على مخطط غودارالملعبان وقد كتب عليهما بالفرنسية ستاد الفاسبوراكان وستاد الهومنتمن على إسم الناديين الرياضيين الشهيرين للأرمن بحلب والستاد العسكري القديم من الضفة الغربية للنهر). وقد لحظ في المخططات العمرانية إنشاء ملعبين".
فكرة الحديقة العامة الحالية بحلب:
ويذكر غودار انه حين التصديق على مخطط السيد دانجه قامت اللجنة العمرانية عام 1938 بوضع نظام عمراني صدّقه مجلس الوزراء، واتّخذت التدابير لخلق مدينة حديثة فيها حدائق.
وقد وُضعت توصية بانشاء حديقة بمحاذاة نهر القويق بين شارع فرنسا(القوتلي حالياً) وجسر محطة بغداد لتأمين النزهة لسكان المدينة مع إنشاء ساحات وتعريض بعض الشوارع. ويختم بالقول:لقد بذل الجهد وبقي التطبيق.
من الذكريات:
وكلنا نعرف الدور الكبير الذي قام به المهندس مجد الدين الجابري الذي انتُخب رئيسا للبلدية العام 1947 في إيجاد الحديقة العامة على أرض الواقع(حيث كتب على المخطّط بالفرنسية وقف العثمانية) وكانت بمساحة 17 هكتاراً وافتُتحت بعد سنتين للمواطنين، وأصبحت رئة تنفّس لسكّان حلب بجميع فئاتهم ومستوياتهم الاجتماعية.
إنّه عمل رائع لا يمكن أن تنساه مدينة حلب لابنها البار مجد الدين الجابري.
ومن ذكريات الطفولة؛ كان بيتنا في حيّ السليمانية، شارع الغزالي في عوجة الجب، وكنا نذهب، أولاد الحارة وأنا معهم، حوالي العام 1950 ولم نتجاوز الصف الخامس الابتدائي لنشاهد مباريات كرة القدم في الملعب القريب من نهر القويق عند أقدام طلعة جبل النهر، وكانت القبور تملأ المنطقة (سينما الزهراء وشارع بنسلفانيا ونقابة الأطباء حاليا) حيث مقابر اليهود والمسيحيين.
أمّا الحديقة العامة التي امتدّت من بداية الشارع المؤدّي الى محطّة بغداد الى الحدود الشمالية لساحة سعد الله الجابري فقد كانت آية في الروعة والتنسيق والانسجام بين أحواضها المائية بنوافيرها وممرّاتها وأشجارها وأحواض زهورها جميلة الألوان، وقد توسطها مبنى دائري ذي أعمدة مرمرية كان يشنّف آذان أهالي حلب بالموسيقى العسكرية والشعبية في المناسبات الوطنية، مما يملأ صدورنا نحن التلاميذ فرحا وفخاراً بوطننا الحبيب. وكان يقوم على رعاية الحديقة في الخمسينات من القرن الماضي المهندس الزراعي جورج منيّر (أبو جبرا) (1914 -1993) الذي كان فنّاناً بالفطرة(صورة للفنان جورج منيّر وإحدى لوحاته) له أعمال نحت ورسم رائعة، أسبغ فيها من روحه على تنظيم الحديقة العامة منذ إنشائها وحتى أيام الوحدة مع مصر، فأضحت جنّة للناظرين بترتيبها ونظافتها وممراتها المكسوّة بالأشجار والأزهار توزعت بينها المقاعد المريحة حيث تحلو الاستراحة وتستطاب.
وكم كان رائعاً مشهد الحديقة عند الاطلالة عليها من مدخلها الرئيسي من الجهة الشرقية حيث الدرجات الواسعة بعرض 20 متراً ونوافير المياه من كل جهة، وفي المقابل ينتصب تمثال الشاعر أبي فراس الحمداني ممسكاً بسيفه بكل شموخ وعنفوان، وقد أحاطت به الزهور بألوانها الزاهية من كل ناحية.
وكانت هناك ساعة كبيرة بساعدَي عقربين أحدهما أطول من الآخر لبيان الوقت، وقد رسمت أرقامها بالزهور الملوّنة. وتضم الحديقة اليوم عند مدخلها الشمالي تمثالاً نصفياً للشاعر البحتري وعند مدخلها الغربي تمثالاً نصفياً للأديب خليل الهنداوي.
كما هناك في ركن من الحديقة محترف للفنان والخطّاط عبدالرحمن حوَري يُبدع فيه رسومه ضمن أحضان الطبيعة الخلاّبة.
وكم كانت خطوة رائعة تلك التي قام بها مجلس مدينة حلب حديثا بتجهيز البركة الرئيسية الكبيرة وسط الحديقة بالتجهيزات اللازمة من حيث الصوت والنوافير لتقديم المقطوعات الموسيقية العالمية والشرقية والشعبية
(ومن بينها ألحان أغاني فيروز الشهيرة) مع حركات النوافير المائية البديعة وعلى أنغام الموسيقى تهبط المياه وترتفع وتشكّل تقاطعات وانحناءات منسجمة (هارموني) مع انسياب الموسيقى التصويرية المرافقة، تُعزف في أوقات محدّدة من أيام الاسبوع وتستمرّ ساعة من الزمن في كل مرّة، وقد استمتع بها أهالي حلب وخصوصا عند مشاهدتها مع نسائم أمسيات الربيع والخريف، وهي تشبه قليلاً بعض ما هناك في حدائق قصر فرساي(الصورة نوافير ماء في فرساي) في فرنسا.
وأذكر انه، بين ما كان يُروى في الخمسينات من القرن الماضي، كان هناك فكرة لإنشاء دار للأوبرا في الركن الجنوبي الشرقي من الحديقة الواسعة، ولا أعلم ماذا تمّ بتلك الفكرة الجيّدة، لأنّ حلب بأطياف مثقّفيها عطشى الى مسرح على مستوى رفيع وحديث تقدَّم فيه المسرحيات والقطع الموسيقية والغنائية العالمية. كما هي بحاجة كذلك الى مكتبة مركزية مجهّزة على أحدث الأساليب، وتضم أهمّ الكتب والمراجع وتتواصل مع أنحاء العالم. إن "دار الكتب الوطنية" التي أُنشئت لخدمة ربع مليون نسمة عام 1936 لم تعد مناسبة لمدينة تجاوز عدد سكانها المليونين.
ونغبّط أهالي دمشق على وجود مكتبة الأسد ودار الأوبرا والفنون فيها، دون حسد، وكم نتحسّر عندما تصلنا رسائل من كل من الدارين عن طريق الجهاز المحمول(الموبايل)، وبشكل شبه يوميّ، تعلن عن نشاطاتها اليومية من محاضرات ومعارض وندوات أو حفلات موسيقية وسواها. ترى أين وصلت فكرة المكتبة المركزية وأين هي دار الأوبرا في حلب؟
المرحوم جورج منيّر
نوافير الماء في قصر فرساي
Comment