إذا كان الصليب عند الرومان والإغريق أداةَ تعذيب للأسرى والعبيد وقُطَّاع الطُّرق من غير الرومان والإغريق، أي رمزًا إلى الموت، فإنه يمثل عند الفراعنة رمزَ الحياة والبعث بعد الموت وخلود الروح؛ وهو يشبه عندهم رسمَ "عنخ" Ankh بالهيروغليفية، ويتألف من حرف T باللاتينية TAU، تعلوه دائرةٌ بيضاوية الشكل.
ويمثِّلُ الصليبُ في الإسلام، كما في اليهودية، حيث الصليب رمز إلى اللعنة ("ملعون مَن عُلِّقَ على خشبة" – تثنية الاشتراع 21: 23)، أداةَ تعذيب أيضًا وعقوبةً للمفسدين في الأرض، وهم قُطَّاع الطُّرق الذين يسرقون ويقتلون:
إنَّما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَه ويسعون في الأرض فسادًا أنْ يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّعَ أيديهم وأرجلُهم من خلاف أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم. (المائدة 33)
أما الصليب عند المسيحيين، فقد استمد قيمتَه كرمز دينيٍّ مقدس من المسيح نفسه. فبما أن المسيح جاء مُخلِّصًا بموته على الصليب، فقد تحوَّل الصليبُ إلى أداة خلاص وانعتاق، ولم يعدْ أداةَ تعذيب. الصليب، بهذا المعنى، ليس رمزًا إلى المسيح الذي مات عليه وحسب، بل ورمزٌ إلى المسيح المنتصر على الموت، الحيِّ بروحه التي لا تموت:
كما رفع موسى الحيةَ في البرِّية فكذلك يجب أن يُرفَع ابنُ الإنسان لتكون به الحياةُ الأبدية لكلِّ مَن يؤمن. (إنجيل يوحنا 3: 14)
والصليب، بحسب بولس الرسول، هو قدرة الله التي تنتصر على الموت:
[...] لأن الكلام على الصليب حماقةٌ عند الذين يسلكون سبيل الهلاك، وأما عند الذين يسلكون سبيل الخلاص [...] فهو قدرةُ الله. (الرسالة الأولى إلى الكورنثيين 1: 1
فالصليب، مثل مبضع الجرَّاح، أداةُ زوال للألم، وليس أداةَ ألم وتعذيب. وآلامُ الصليب مثل آلام المخاض التي تعاني منه الأم عند الولادة؛ إذْ إنها إيذان بمولود جديد، أي حياة جديدة. وآلام الصليب، مثل آلام مفارقة الروح للجسد، تمثِّل الانعتاق نحو فضاء أرحب.
الصليب المسيحي، إذن، رمزٌ إلى آلام السيد المسيح وموته وقيامته؛ أي رمز إلى تحقيق الإنسان لألوهيته وسيادته على الموت. فهو رمز خلاص، رمز فداء، رمز محبة.
ذكرَ القُمُّص زكريا بطرس في جملة معاني الصليب معنى "صلب المشيئة الشخصية":
شبَّهَ أحدُهم خشبتَي الصليب بإرادة الله وإرادة الإنسان: فالخشبةُ الرأسية التي ترتكز على الأرض هي إرادةُ الله النافذة "كما في السماء كذلك على الأرض" [إنجيل متى 6: 10]؛ أما الخشبةُ الأفقية المعلَّقة على الخشبة الرأسية فتُشبه إرادةَ الإنسان التي سُمِّرَتْ في إرادة الله وأصبحَ شعارُ المؤمن: "ولكن لا مشيئتي، بل مشيئتك" [إنجيل لوقا 22: 43].
وحتى إذا تأمَّلنا عميقًا في دلالة الصليب عند الرومان والإغريق والمسلمين وغيرهم ممَّن ينظر إلى الصليب كأداة تعذيب، رأينا أن عقوبةَ الصلب، في حدِّ ذاتها، تطهيرٌ من تَبِعات كَرْمية؛ أي أن الصليبَ يمثِّلُ أيضًا، في هذه الحالة، خلاصًا للمجرمين من خطاياهم، بحسب قانون كَرْما ("ما تزرعه إياه تحصد") بالمصطلح الهندوسي. أما الشكل الفني للصليب المسيحي فمأخوذ من الصليب اليهودي، أي الشجرة؛ وهو من شجرة على شكل حرف T، كان يُصلَب عليها المحكومُ عليه بالصلب.
وللمناسَبة، فقد استخدَمَتِ المسيحيةُ رمزيةَ شجرة العالَم، ثم حلَّ الصليبُ محلَّ الشجرة الكونية؛ وقد وصفَ أوريجينِس الإسكندري المسيحَ بـ"الشجرة الكونية".
في خصوص صليب المسيح، هناك سؤال – طفولي – يدور في أذهان المسلمين: ألا يستطيع اللهُ القادر أنْ يُنقِذَ ابنَه الوحيد – وهُنا يتعوَّذ المسلمون من هذه الكلمة ويقرؤون سورةَ الإخلاص! – أن ينقذَه من أيدي الرومان ويُنَجِّيَه من الصلب؟! ثم إذا كان الله قد أرسلَ ابنَه ليُصلَب من أجل أنْ يمحوَ خطيئةَ آدم، ألا يمكن له أنْ يمحوَ هذه الخطيئةَ دون اللجوء إلى هذه الخطة، وبذلك ينقذ ابنَه من الصلب؟!
هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر – طفوليٍّ أيضًا – يدور هذه المرة في أذهان المسيحيين: ألا يستطيعُ الله القادرُ أن يرفعَ نبيَّه عيسى إلى السماء من دون أن يلجأ إلى الخداع بصلب رجل آخر مكانَه، وذلك عندما ألقى شبهَ عيسى على شخص آخر (سواء كان يهوذا أم تيطاوس أم سرجس أم الحارس)؟!
كلُّ دين يرى الموضوعَ من زاويته، بينما المسألة أعمق من ذلك بكثير!
لو قارنَّا بين الآية 169 من سورة آل عمران التي تتكلم على قتل الشهداء وحياتهم:
ولا تحسبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم
وبين الآيتين 157-158 من سورة النساء التي تتكلم على قتل المسيح ورفعه:
وقولُهم [اليهود] إنَّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى بنَ مريمَ رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّهَ لهم وإنَّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتِّباعَ الظنِّ وما قتلوه يقينًا. بل رفعه اللهُ إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا،
لتوصَّلنا إلى الفكرة التالية: مع أن الشهداءَ قُتِلوا ظاهريًّا، إلا أنهم في الحقيقة أحياء؛ ومع أن المسيحَ قُتِلَ وصُلِبَ بحسب الظاهر، إلا أنه في الحقيقة (أي يقينًا) حي. بناءً على ذلك، يكون القتلُ حياةً: "... إن في قتلي حياتي" (الحلاج)؛ وتصبح أداةُ القتل أداةَ حياة، ويصير الصليبُ رمزَ حياة وانتصارًا على الموت.
القرآن لا ينفي قطعًا موتَ المسيح. وعلماءُ المسلمين اختلفوا، هم أيضًا، في مسألة نهاية المسيح: هل مات فعلاً، أم أنه رُفِعَ جسدًا وروحًا، أم رُفِعَ منزلةً ودرجةً فقط؟ مثلما اختلفَ المسيحيون في مسألة طبيعة المسيح. القرآنُ، إذن، نفى يقينيةَ صلب المسيح، كما نفى يقينيةَ قتل الشهداء. فالمسيحُ، بحسب إخوان الصفا، ماتَ وصُلِبَ وقامَ وتراءى لخاصَّته. ويحضرنا ما قاله الإمامُ الحلاج المصلوبُ الذي تألَّه:
وإذا كان بعضُهم ينفي أنْ يكونَ قصدُ الحلاج من عبارة "دين الصليب" هو الديانة المسيحية (الظاهرية) أو صليب يسوع المسيح حصرًا، فلا يمكنُ لنا أن ننفي أن الحلاجَ كان يقصد بذلك المعنى العميق الذي يكمن وراء باب الصليب، ألا وهو الخلاص: المعنى نفسه الذي ترمي إليه المسيحية.
إن حادثةَ ظهور المسيح بعدَ صلبه أدَّتْ إلى هذا الشك في حادثة الصلب نفسها. فصلبُ المسيح، إذن، ليسَ كصلب إنسان آخر؛ وبالتالي، فصليبُ المسيح ليس كأيِّ صليب آخَر. أي أن صليبَ المسيح ليس، كصليب الرومان واليهود، صليبَ تعذيب وقتل، بل صليبُ فداء وخلاصٍ وحياة.
ومهما كتَبْنا في هذا الشأن، تبقى المسألةُ مسألةَ قناعة شخصية.
المشكلة ليست في السؤال: هل صُلِبَ المسيحُ أم لم يُصلَب؟ المشكلة هي: هل سنستمرُّ في هذا الجدال العقيم وننسى ما يجبُ علينا فعلُه من أجل خلاصِنا الفردي؟! فسواء صُلِبَ المسيحُ أم لم يُصلَبْ، هل سيُعيقُنا هذا عن فعل الخير؟!
إذا كان إنكارُكَ لفكرة الصلب يزيدُ من تعلُّقِكَ أكثر بالشهوات والأنا الكاذبة، فمن الأفضل لكَ أن تؤمنَ بالصلب وتكفرَ بفكرة رفع المسيح التي لم ترفعْكَ إلى مستوى وعي أعلى. وإذا كان إيمانُكَ بالصلب سيزيدُ من اتِّكالكَ وتواكُلكَ ولامبالاتكَ وتعاليكَ على الآخَر وإلقاء أخطائكَ على شخص يسوعَ المسكين، بحجة أنه مات فداءً عنك، فالأفضل لكَ، على ما يبدو، أنْ تُنكِرَ الصلبَ بهذا المفهوم وتؤمنَ برفع يسوع المسيح إلى مرتبة الألوهية.
وإذا كان الصليبُ هو مفتاحُ الحياة ورمزُ تقاطُع الروح والمادة من خلال الحقيقة الواعية لذاتها، فلنحملْ هذا "المفتاح" معنا، ولنفهمْ رمزيتَه، ولنتمثَّلْ دلالاتِه، ولنعرفْ كيف نستعمله لخلاصنا، ولنستعملْه فعلاً، لا قولاً فقط.
الصليب هو هجرانُ الشهوات وعدمُ التفات القلب إلى انعكاسات الألوهة. فإذا كانت "الخطيئة الأصلية" – خطيئة آدم – هي الهبوط من المطلق إلى المقيَّد (النسبي) أو هي البُعد عن المطلق، فإن الصليب هو العودة إلى المطلق، أي هو تكفير عن الخطيئة الأصلية. الصليب هو الطريق الوحيد لعودة آدم عن حوله إلى حول الله، هو بابُ عودته عن ذاته الوهمية إلى ذات الله.
الصليب....
إذن، هو علامةُ انتصار الإنسان على المادة أو الشيطان. الصليب هو قوة العبور من الظلام إلى النور. الصليب هو العودة إلى الألوهة، أو هو "ضمُّ الإنسانية إلى الألوهية"، بحسب تعبير المطران جورج خضر في معرِض حديثه عن آلام المسيح على الصليب، إذْ يقول:
كلُّ العملية، من ألِفها إلى يائها، عمليةُ ضمِّ الإنسانية إلى الألوهية. هذا الضم بدأ بالتجسُّد الذي استمرَّ حتى الموت، وبعد الموت بالقيامة، وفي شخص يسوع المسيح القائل لمرثا أخت لعازر: "أنا هو القيامة والحياة" [إنجيل يوحنا 11: 25].
الصليب هو نزعُ الخوف من الموت، هو نزع الموت بذاته. وإذا كان "الكلمةُ–الإلهُ" قد صارَ بشرًا [أي تجسَّد] لكي نؤلَّه نحنُ (بحسب القديس أثناسيوس الكبير عن تجسُّد الكلمة)، فإننا، لكي نتألَّه، يجبُ أنْ نُصلَب. فالإلهُ قد تجسَّدَ مثلنا لكي نصيرَ مثلَه، أي لكي يضمَّنا إلى مملكته. فعمليةُ أنْ "نصيرَ مثلَه" أو أنْ "ننضمَّ إليه" هي عمليةُ الصلب نفسُها.
إذ ذاك، ألا يحق للحلاج أنْ يجاهرَ بـ"دين الصليب" وأنْ يناديَ أيضًا:
وبما أن الصليبَ هو المفتاحُ إلى الخلاص والحياة الأبدية، فليُسمَح لي أنْ أختم كلامي باسم الصليب.
ويمثِّلُ الصليبُ في الإسلام، كما في اليهودية، حيث الصليب رمز إلى اللعنة ("ملعون مَن عُلِّقَ على خشبة" – تثنية الاشتراع 21: 23)، أداةَ تعذيب أيضًا وعقوبةً للمفسدين في الأرض، وهم قُطَّاع الطُّرق الذين يسرقون ويقتلون:
إنَّما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَه ويسعون في الأرض فسادًا أنْ يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّعَ أيديهم وأرجلُهم من خلاف أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم. (المائدة 33)
أما الصليب عند المسيحيين، فقد استمد قيمتَه كرمز دينيٍّ مقدس من المسيح نفسه. فبما أن المسيح جاء مُخلِّصًا بموته على الصليب، فقد تحوَّل الصليبُ إلى أداة خلاص وانعتاق، ولم يعدْ أداةَ تعذيب. الصليب، بهذا المعنى، ليس رمزًا إلى المسيح الذي مات عليه وحسب، بل ورمزٌ إلى المسيح المنتصر على الموت، الحيِّ بروحه التي لا تموت:
كما رفع موسى الحيةَ في البرِّية فكذلك يجب أن يُرفَع ابنُ الإنسان لتكون به الحياةُ الأبدية لكلِّ مَن يؤمن. (إنجيل يوحنا 3: 14)
والصليب، بحسب بولس الرسول، هو قدرة الله التي تنتصر على الموت:
[...] لأن الكلام على الصليب حماقةٌ عند الذين يسلكون سبيل الهلاك، وأما عند الذين يسلكون سبيل الخلاص [...] فهو قدرةُ الله. (الرسالة الأولى إلى الكورنثيين 1: 1
فالصليب، مثل مبضع الجرَّاح، أداةُ زوال للألم، وليس أداةَ ألم وتعذيب. وآلامُ الصليب مثل آلام المخاض التي تعاني منه الأم عند الولادة؛ إذْ إنها إيذان بمولود جديد، أي حياة جديدة. وآلام الصليب، مثل آلام مفارقة الروح للجسد، تمثِّل الانعتاق نحو فضاء أرحب.
الصليب المسيحي، إذن، رمزٌ إلى آلام السيد المسيح وموته وقيامته؛ أي رمز إلى تحقيق الإنسان لألوهيته وسيادته على الموت. فهو رمز خلاص، رمز فداء، رمز محبة.
ذكرَ القُمُّص زكريا بطرس في جملة معاني الصليب معنى "صلب المشيئة الشخصية":
شبَّهَ أحدُهم خشبتَي الصليب بإرادة الله وإرادة الإنسان: فالخشبةُ الرأسية التي ترتكز على الأرض هي إرادةُ الله النافذة "كما في السماء كذلك على الأرض" [إنجيل متى 6: 10]؛ أما الخشبةُ الأفقية المعلَّقة على الخشبة الرأسية فتُشبه إرادةَ الإنسان التي سُمِّرَتْ في إرادة الله وأصبحَ شعارُ المؤمن: "ولكن لا مشيئتي، بل مشيئتك" [إنجيل لوقا 22: 43].
وحتى إذا تأمَّلنا عميقًا في دلالة الصليب عند الرومان والإغريق والمسلمين وغيرهم ممَّن ينظر إلى الصليب كأداة تعذيب، رأينا أن عقوبةَ الصلب، في حدِّ ذاتها، تطهيرٌ من تَبِعات كَرْمية؛ أي أن الصليبَ يمثِّلُ أيضًا، في هذه الحالة، خلاصًا للمجرمين من خطاياهم، بحسب قانون كَرْما ("ما تزرعه إياه تحصد") بالمصطلح الهندوسي. أما الشكل الفني للصليب المسيحي فمأخوذ من الصليب اليهودي، أي الشجرة؛ وهو من شجرة على شكل حرف T، كان يُصلَب عليها المحكومُ عليه بالصلب.
وللمناسَبة، فقد استخدَمَتِ المسيحيةُ رمزيةَ شجرة العالَم، ثم حلَّ الصليبُ محلَّ الشجرة الكونية؛ وقد وصفَ أوريجينِس الإسكندري المسيحَ بـ"الشجرة الكونية".
في خصوص صليب المسيح، هناك سؤال – طفولي – يدور في أذهان المسلمين: ألا يستطيع اللهُ القادر أنْ يُنقِذَ ابنَه الوحيد – وهُنا يتعوَّذ المسلمون من هذه الكلمة ويقرؤون سورةَ الإخلاص! – أن ينقذَه من أيدي الرومان ويُنَجِّيَه من الصلب؟! ثم إذا كان الله قد أرسلَ ابنَه ليُصلَب من أجل أنْ يمحوَ خطيئةَ آدم، ألا يمكن له أنْ يمحوَ هذه الخطيئةَ دون اللجوء إلى هذه الخطة، وبذلك ينقذ ابنَه من الصلب؟!
هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر – طفوليٍّ أيضًا – يدور هذه المرة في أذهان المسيحيين: ألا يستطيعُ الله القادرُ أن يرفعَ نبيَّه عيسى إلى السماء من دون أن يلجأ إلى الخداع بصلب رجل آخر مكانَه، وذلك عندما ألقى شبهَ عيسى على شخص آخر (سواء كان يهوذا أم تيطاوس أم سرجس أم الحارس)؟!
كلُّ دين يرى الموضوعَ من زاويته، بينما المسألة أعمق من ذلك بكثير!
لو قارنَّا بين الآية 169 من سورة آل عمران التي تتكلم على قتل الشهداء وحياتهم:
ولا تحسبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم
وبين الآيتين 157-158 من سورة النساء التي تتكلم على قتل المسيح ورفعه:
وقولُهم [اليهود] إنَّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى بنَ مريمَ رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّهَ لهم وإنَّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتِّباعَ الظنِّ وما قتلوه يقينًا. بل رفعه اللهُ إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا،
لتوصَّلنا إلى الفكرة التالية: مع أن الشهداءَ قُتِلوا ظاهريًّا، إلا أنهم في الحقيقة أحياء؛ ومع أن المسيحَ قُتِلَ وصُلِبَ بحسب الظاهر، إلا أنه في الحقيقة (أي يقينًا) حي. بناءً على ذلك، يكون القتلُ حياةً: "... إن في قتلي حياتي" (الحلاج)؛ وتصبح أداةُ القتل أداةَ حياة، ويصير الصليبُ رمزَ حياة وانتصارًا على الموت.
القرآن لا ينفي قطعًا موتَ المسيح. وعلماءُ المسلمين اختلفوا، هم أيضًا، في مسألة نهاية المسيح: هل مات فعلاً، أم أنه رُفِعَ جسدًا وروحًا، أم رُفِعَ منزلةً ودرجةً فقط؟ مثلما اختلفَ المسيحيون في مسألة طبيعة المسيح. القرآنُ، إذن، نفى يقينيةَ صلب المسيح، كما نفى يقينيةَ قتل الشهداء. فالمسيحُ، بحسب إخوان الصفا، ماتَ وصُلِبَ وقامَ وتراءى لخاصَّته. ويحضرنا ما قاله الإمامُ الحلاج المصلوبُ الذي تألَّه:
ألا أبْـلِـغْ أحبَّـائي بِـأنِّـي ركبْتُ البحرَ وانكسرَ السفينةْ
على دين الصليبِ يكونُ موتي فلا البطحـا أُريدُ ولا المدينةْ
على دين الصليبِ يكونُ موتي فلا البطحـا أُريدُ ولا المدينةْ
وإذا كان بعضُهم ينفي أنْ يكونَ قصدُ الحلاج من عبارة "دين الصليب" هو الديانة المسيحية (الظاهرية) أو صليب يسوع المسيح حصرًا، فلا يمكنُ لنا أن ننفي أن الحلاجَ كان يقصد بذلك المعنى العميق الذي يكمن وراء باب الصليب، ألا وهو الخلاص: المعنى نفسه الذي ترمي إليه المسيحية.
إن حادثةَ ظهور المسيح بعدَ صلبه أدَّتْ إلى هذا الشك في حادثة الصلب نفسها. فصلبُ المسيح، إذن، ليسَ كصلب إنسان آخر؛ وبالتالي، فصليبُ المسيح ليس كأيِّ صليب آخَر. أي أن صليبَ المسيح ليس، كصليب الرومان واليهود، صليبَ تعذيب وقتل، بل صليبُ فداء وخلاصٍ وحياة.
ومهما كتَبْنا في هذا الشأن، تبقى المسألةُ مسألةَ قناعة شخصية.
المشكلة ليست في السؤال: هل صُلِبَ المسيحُ أم لم يُصلَب؟ المشكلة هي: هل سنستمرُّ في هذا الجدال العقيم وننسى ما يجبُ علينا فعلُه من أجل خلاصِنا الفردي؟! فسواء صُلِبَ المسيحُ أم لم يُصلَبْ، هل سيُعيقُنا هذا عن فعل الخير؟!
إذا كان إنكارُكَ لفكرة الصلب يزيدُ من تعلُّقِكَ أكثر بالشهوات والأنا الكاذبة، فمن الأفضل لكَ أن تؤمنَ بالصلب وتكفرَ بفكرة رفع المسيح التي لم ترفعْكَ إلى مستوى وعي أعلى. وإذا كان إيمانُكَ بالصلب سيزيدُ من اتِّكالكَ وتواكُلكَ ولامبالاتكَ وتعاليكَ على الآخَر وإلقاء أخطائكَ على شخص يسوعَ المسكين، بحجة أنه مات فداءً عنك، فالأفضل لكَ، على ما يبدو، أنْ تُنكِرَ الصلبَ بهذا المفهوم وتؤمنَ برفع يسوع المسيح إلى مرتبة الألوهية.
وإذا كان الصليبُ هو مفتاحُ الحياة ورمزُ تقاطُع الروح والمادة من خلال الحقيقة الواعية لذاتها، فلنحملْ هذا "المفتاح" معنا، ولنفهمْ رمزيتَه، ولنتمثَّلْ دلالاتِه، ولنعرفْ كيف نستعمله لخلاصنا، ولنستعملْه فعلاً، لا قولاً فقط.
الصليب هو هجرانُ الشهوات وعدمُ التفات القلب إلى انعكاسات الألوهة. فإذا كانت "الخطيئة الأصلية" – خطيئة آدم – هي الهبوط من المطلق إلى المقيَّد (النسبي) أو هي البُعد عن المطلق، فإن الصليب هو العودة إلى المطلق، أي هو تكفير عن الخطيئة الأصلية. الصليب هو الطريق الوحيد لعودة آدم عن حوله إلى حول الله، هو بابُ عودته عن ذاته الوهمية إلى ذات الله.
الصليب....
إذن، هو علامةُ انتصار الإنسان على المادة أو الشيطان. الصليب هو قوة العبور من الظلام إلى النور. الصليب هو العودة إلى الألوهة، أو هو "ضمُّ الإنسانية إلى الألوهية"، بحسب تعبير المطران جورج خضر في معرِض حديثه عن آلام المسيح على الصليب، إذْ يقول:
كلُّ العملية، من ألِفها إلى يائها، عمليةُ ضمِّ الإنسانية إلى الألوهية. هذا الضم بدأ بالتجسُّد الذي استمرَّ حتى الموت، وبعد الموت بالقيامة، وفي شخص يسوع المسيح القائل لمرثا أخت لعازر: "أنا هو القيامة والحياة" [إنجيل يوحنا 11: 25].
الصليب هو نزعُ الخوف من الموت، هو نزع الموت بذاته. وإذا كان "الكلمةُ–الإلهُ" قد صارَ بشرًا [أي تجسَّد] لكي نؤلَّه نحنُ (بحسب القديس أثناسيوس الكبير عن تجسُّد الكلمة)، فإننا، لكي نتألَّه، يجبُ أنْ نُصلَب. فالإلهُ قد تجسَّدَ مثلنا لكي نصيرَ مثلَه، أي لكي يضمَّنا إلى مملكته. فعمليةُ أنْ "نصيرَ مثلَه" أو أنْ "ننضمَّ إليه" هي عمليةُ الصلب نفسُها.
إذ ذاك، ألا يحق للحلاج أنْ يجاهرَ بـ"دين الصليب" وأنْ يناديَ أيضًا:
اقتلوني يا ثـقاتي إنَّ في قتـلي حياتي
ومماتي في حيـاتي وحياتي في ممـاتي
إنَّ عندي مَحْوَ ذاتي مِن أجَـلِّ المَكْرُماتِ
ومماتي في حيـاتي وحياتي في ممـاتي
إنَّ عندي مَحْوَ ذاتي مِن أجَـلِّ المَكْرُماتِ
وبما أن الصليبَ هو المفتاحُ إلى الخلاص والحياة الأبدية، فليُسمَح لي أنْ أختم كلامي باسم الصليب.
محمد علي عبد الجليل
Comment