هل مسيحيّتي تبني حضارة؟
ما هي ثمار معتقدي الديني كإنسان للحضارة البشرية؟ يقول يسوع في انجيل متى:
“من ثمارهم تعرفونهم.هل يجتنون من الشوك عنبا او من الحسك تينا. 17 هكذا كل شجرة جيدة تصنع اثمارا جيدة.واما الشجرة الردية فتصنع اثمارا ردية.
18 لا تقدر شجرة جيدة ان تصنع اثمارا ردية ولا شجرة ردية ان تصنع اثمارا جيدة. 19 كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. 20 فاذا من ثمارهم تعرفونهم”(متى 7 : 16- 20)
شخصياً، أعتبر هذه المقولة هي أحد أهم أقوال يسوع المسجلة في الأناجيل لكونها تحمل طابعاً مباشراً وعملياً. لا نملك ما يكفي لأن نحكم على ما لا نراه، سواء الميتافيزيقا أو حتى نوايا الناس.
لكن لدينا التطبيق العملي للأفكار، فهل يمكن أن يكون فكراً مثمراً بغير ثمر؟ إن قولة يسوع مباشرة واضحة وفعالة جداً على الصعيد العملي.
حسناً، فلنأخذ تلك الحكمة إلى خطوة أبعد. حينما نرى معتقد أو منظومة فكرية معينة، أليس من الهام تقييمها على الصعيد العملي من خلال تأثيرها أو إسهامها في حياة البشر؟ أ
رى أن ذلك مشروع جداً ونتيجة التقييم جزء لا يتجزأ من حق التساؤل حول صحة بل وحقيقة مزاعم ذلك المعتقد.
على مستوى المعتقد الديني، لم يكن حق التساؤل حول تقييم المعتقد في ضوء تبعاته غريباً على الأجيال المتعاقبة.
على سبيل كان شعب اسرائيل كثير التساؤل حول مصدر المشكلة التي آلت بهم إلى الحقيقة العملية الثابتة وهي أنهم مسبيون. لماذا يملك عليهم ملك وثني وليس إلههم ملك اسرائيل ومسيحه؟
أدى ذلك إلى تطور مفهومهم عن الخطيئة والعلاقة مع الله ، من يقرأ كتابات السبي المتأخرة يرى أنهم يخرجون من الإطار الطقسي حول ماهية العبادة إلى إشكالية ضميرهم، الذبيحة الحقيقية. ب
عد السبي ظلوا تحت حكم اليونانيين ثم بعد المرحلة المكابية سقطوا في يد من لا يرحم، الرومان… في تلك المراحل كُتبت آخر كتاباتهم منها سفر دانيال ومن بعده الكتابات الأبوكاليبتية
وفيها أيضاً تعديل لمفاهيم كثيرة أهمها أن السبي والخضوع للحاكم الغير اسرائيلي ليست المشكلة، بل المشكلة أبعد وأكبر من ذلك.
المسيحية بطبيعتها العملية، كما سنرى لاحقاً، لا يمكن أن تحيا دون طرح تساؤلات حول دور معتقداتها وتأثيرها على الحضارة.
حينما يستقر بها الأمر فإن النتائج تكون سيئة، هذا هو الثابت تاريخياً. حينما ساد الكساد الفكري مع استقرار المعتقد وتأمينه بسلطات سياسية ضخمة،
صارت المسيحية عثرة وسبب في التخلف والرجعية شرقا (من منتصف القرن الرابع والقرن الخامس صعوداً) وغرباً (العصور الوسطى حتى الجيلين الأول والثاني من حركات الإصلاح).
مع تقلص الكهنوت في الغرب (وأقصد هنا الكهنوت الكاثوليكي ونفوذ رأس الكنيسة الأنجليكانية، ملك انجلترا) بسبب تقدم الجامعة في دراساتها التاريخية بزغ فجر عصر النهضة في أوروبا.
في القرن الثامن عشر بدأت في ألمانيا حركة ما يُسمى بتاريخ الأديان Religionsgeschichte وبدأت الدراسات النقدية في أخذ خطوة هامة وهي دراسة المكون التاريخي والإجتماعي للمعتقد الديني.
في بريطانيا بدأ التحرر من القيمة العقائدية إلى قضية الحق في طرح أسئلة حول ما حدث لأوروبا وما علاقة المعتقد المسيحي بذلك، مما أدى إلى تطوير منظومة استطاعت
لاحقاً أن تستوعب المنتج العلمي (مثلاً كروية الأرض والنشوء والإرتقاء..إلخ).
كل ذلك مهد الطريق إلى ما أعتقد انه نتيجة طبيعية وهو البدء في إثارة التساؤل حول طبيعة إسهام المسيحية في حياة أوروبا النهضة والمستقبل. كان المنتج العلمي
في ذلك الإتجاه شديد الغزارة ومع منتصف القرن التاسع عشر كان منتج هيجل وماركس في غاية الأهمية، إلا أن الأكثر إثراءً بل ويُعد مؤسس علم الإجتماع الديني بامتياز
قد جاء في مطلع القرن العشرين وهو رائد علم الإجتماع الأكاديمي الألماني ماكس فيبير Max Weber الذي دوّن أحد أهم كتب القرن العشرين
وهو the protestant work ethic and the spirit of capitalism.
تكمن أهمية الكتاب في كونه الدراسة الأولى والأعمق لدور المعتقدات المسيحية المختلفة (الطوائف الغربية) في صناعة المجتمعات الفاشلة والناجحة على أرض الواقع
سواء في أوروبا أو في الدولة الصاعدة حينها، الولايات المتحدة الأمريكية.
يكفي أن أذكر نقطتين من كتابيّ فيبر وماركس، بدون دخول في التفاصيل فالأمر متروك لك للإستزادة:
النقطة الأولى:
فيبر وضح أن إشكالية المنظومة الدينية الCultic الموجودة اليوم في التقليد تضع مفهوم الخلاص في نهاية مسار المؤمن ، أي أنه يتعبد ويجاهد..إلخ لكي يصل إلى الخلاص أو الجنة أو البعث.
هذا الأمر أثر سلوكياً بالسلب على اقتصاد وسياسة المقاطعات والدول الأوروبية التي تبعت كنائس لها تلك التراتبية الفكرية.
على النقيض، فإن قلب المنظومة في الإصلاح البروتستانتي في أكثر صوره راديكالية فيما يسمى بال Reformed Churches التي انتشرت في هولندا
(التي أوجدت نيو أمستردام التي صارت بعد ذلك نيويورك في امريكا)، سويسرا واسكتلندا (لاحظ أن البروتستانتية طيف من المقاربات والمعتقدات.. مش كلها بالصورة النمطية المعروفة عند التقليديين عنهم)
كان لها بالغ الأثر في صناعة ما يُسمى بال the Protestant Work Ethic الذي جعل اتباعه منتهين من مسألة الخلاص (أول التراك أو المسار) مما جعلهم يكتشفوا أثر ذلك على حياتهم العملية، فبات الشارع والمجتمع والنجاح في البناء والنهضة بديلاً للعبادة الطقسية الدينية في الكنيسة ونتيجة للخلاص وليس العكس، مما ساعد المجموعات التي انتشرت في أمريكا في صناعة نهضة صناعية وحضارية سريعة
(بالطبع الدراسة المفصلة التي قام فيبير بها مفيدة).
وبالتالي فإن هذه التراتبية العكسية في التفكير والسلوك أدت إلى تقدم عجلة الحريات والمفاهيم العملية في الدول البروتستانتية بمقابل تراجع الدين حتى سقط الأخير تقريباً وبقي نتاجه السلوكي وهو الأهم.
حاول، بعد قراءة الكتاب، أن تسأل هل يمكن أن يفسر هذا الأمر ظاهرة ثابتة وهي أن الدول الأكثر تخلفاً وفساداً هي الدول التي ينتشر فيها المعتقد التقليدي
(أمريكا اللاتينية، شرق أوروبا)هل يمكن أن يكون طرح فيبير إجابة على ذلك؟
أود فقط أن أضع أمامك أيضاً إحصائية نشرتها الإيكونوميست حول كيف يقيم الأوروبيون (من الدول المختلفة) أداء دولهم :لاحظ الإجماع على سلوك ألمانيا كأكثر الدول نظافة يد وعملاً بينما أكثر الدول فساداً وكسلاً هي اليونان وإيطاليا. لماذا؟
النقطة الثانية:
من كتاب ماركس حول دور الطبقة الوسطى في صناعة مكونات الأيديولوجيا النهضوية في ألمانيا. في هذه الطبقة هناك حلول بديلة للمثالية النظرية على مستوى
مادي والتي تؤدي بدورها إلى إيجاد بدائل للنظم الدينية والطبقية لدفع عجلة التقدم الحضاري.
كاستنتاج لما سبق وذكرته، فإني كأكاديمي معني بقضية طبيعة نشأة المسيحية ويسوع التاريخ فإني لا أجد أن المنظومات العقائدية المختلفة هي الجوهر
للعامل الديني المسيحي المؤثر على سلوك المجتمعات سابقاً، وإنما قدرة تلك المجتمعات على طرح أسئلة يُراجع فيها موقف المؤمن من أشد أساسيات ايمانه رسوخاً،
وهو ما يُسمى بال revisionism . ليس مفاجئاً أن يعاد النظر في حقيقة شخص ورسالة يسوع التاريخ منذ القرن الثامن عشر بالتزامن مع التغيرات الإجتماعية-الدينية في المنطقة.
وعليه، فإني أجد أن يسوع التاريخ هو ببساطة القوة المحركة لتلك الحضارة لأنه ببساطة جسّد المفهومين السابقين واللذين في اعتباري هما ماكينة حركة النهضة في أوروبا.
فيسوع في تعليمه عن حضور ملكوت الله لم يترك منظومة دينية وإلا عكسها. فكانت المغفرة للزاني والعشار والمهمشين لأسباب يعتقدون انها خاصة بالخطية سبقت الطريق
نحو ما يعتقده اليهود خطوات التطهير نحو الحصول على رضا الله. في جحيم يأس الخاطئ، كان يسوع يدعوه لمشاركة مائدة الملكوت منتهياً من القضية التي تقيّده نفسياً واجتماعياً
ألا وهي الشعور بأنه خاطئ ومنبوذ من الله وشعبه. لقد كانت قدرة يسوع المفجّرة للشفاء متجسدة في إسقاط الأحمال النفسية والإجتماعية المتروكة على كاهل معظم أفراد مجتمع
حينما قلب التراتبية الدينية التقليدية وجعل الفعل الحسن في الحياة ليس مقايضة للملكوت بل نتيجة وفعل وسلوك طبيعي ناتج عن التحرر من نير الأعباء السابق ذكرها.
لهذا فقد قدم يسوع كلمات صلاة الأبانا كبديل (وفي إشارة واضحة) للمنظومة المفصلة لصلاة الهيكل ، وقدّم الإنسان على السبت ، ونسخ الشريعة واضعا الإنسان فوقها.
هذا يفسر لماذا المجتمع المسيحي أخذ في الإنتشار سريعاً وقام في أوائل أيامه على تعاليم يسوع أو أقواله عن المغفرة والمساواة التي شكلت سريعا مجتمعات منتشرة في بقاع الأرض
لأن هم العبيد والمساكين والخطّائين في كل الأديان والمذاهب في العالم حينها واحد وما أجمل أن تنضم لمجتمع يضعك في المقدمة لابساً ثوباً أبيضاً ليتركك تنتج وتهنأ
بحياتك دون كنيسة أو معبد يقمعك في طريق معين وأنت في شكوك وخوف وترنح بين الأمل واليأس عن مستقبلك.
هذا بدوره صبّ في النقطة الثانية التي ذكرها مارك والتي تجلت في كسره لكل حواجز الطبقية بمائدة الشركة التي أجلس فيها العشار والزاني والغير معروف الأصل بل والأممي
مع الأكثر تديّناً وطهراً، بل وغنىً.
مينا منير