النزول إلى مثوى الأموات
في الفن المسيحي الغربي، كثيراً ما يظهر المسيح وهو يخرج من القبر وفقاً لنموذج متوارث يشهد لقيامته من الموت.
تغيب هذه الصورة في الشرق حتى القرن الثامن عشر، ذلك أن قيامة السيد من قبره تبقى سرّا تذكره الأناجيل إلا أنها لا تصفه.
من جهة أخرى، صوّر الشرق المسيحي نزول السيد إلى الجحيم، وهو حدث لا يذكره الإنجيل في شكل مباشر، إلا أنه يتجذّر في تقليد يعود إلى المسيحية الأولى، وجعلت منه الكنيسة البيزنطية عيداً من أعياد السيّد الإثني عشر،
وأطلقت على الصورة التي تمثّله اسم "القيامة".
وفقاً للعقيدة المسيحية، صُلب المسيح يوم الجمعة ودُفن جسده في قبر حُفر في الصخر، ونزلت نفسه في سبت النور إلى مثوى الأموات حيث أرواح الراقدين تنتظر في العدم من دون مكافأة ولا قصاص لأن أبواب الفردوس مغلقة أمام الخليقة منذ سقوط آدم. مات المسيح بالجسد وكان على نفسه أن تنزل إلى الجحيم لتُسجن فيها،
لكن المخلص "وطئ الموت بالموت"، وحطّمت نفسه قدر الجحيم لتهب "الحياة للذين في القبور".
لا تحتلّ قيامة الأموات مقاما رفيعاً في الميراث العبراني، فالكتب الموسوية لا تذكرها بشكر جليّ ولا تجعل منها ركناً من أركان الإيمان الأساسية.
لا نجد ذكراً واضحاً للحياة الأخرى في هذه الأسفار، كما أننا لا نقف أمام أي حديث مباشر يقرّ بالحياة الأبدية للنفس البشرية.
نقرأ في سفر تثنية الإشتراع:
"الآن، إنني أنا هو ولا إله معي، أنا أميت وأنا أحيي، وأجرح وأشفي"
(32، 39)،
غير أن هذا "الإحياء" لا يجد له وصفاً إلاّ في بعض الأسفار التي تلي كتب الشريعة والتاريخ.
يقول أيوب "إن الغمام يتبدّد ويعبر، وكذا الهابط إلى مثوى الأموات لا يصعد" (7، 9)، ويبدو في قوله هذا موافقاً الاعتقاد الشائع بأن الأموات يهبطون إلى ما يُعرف بالـ"شؤول"، وهو تعبير مجهول الأصل يدلّ على أعماق الأرض حيث يهبط الأموات ويختلط الصالحون بالأشرار، وقد جاء ذكره مراراً في الكتاب المقدس.
في المقابل، نجد في "نشيد حنّة" إشارة إلى القيامة، حيث تصلّي المرأة التي حبس الرب رحمها وتتضرّع الى الذي "يميت ويحيي، ويُُحدِر إلى مثوى الأموات، ويُصعد منه" (1 صمويل 2، 6).
وتتجلّى هذه القيامة في الكتب النبوية بشكل خاص، يرى حزقيال كيف ينشأ العصب واللحم على العظام اليابسة قبل أن يحلّ عليها الروح ويحييها (37، 1-14)، ويتنبأ دانيال بقيامة الجسد ومكافأة الأبرار وعقاب الخطأة في "وقت النهاية"، حيث يستيقظ الكثير من الراقدين في أرض التراب، "بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرّذل الأبدي" (12، 2).
سجن الأرواح
تقدّم الأناجيل سرداً مفصّلا لمراحل صلب المسيح وموته، وتجعل من قيامته في اليوم الثالث أساساً من أسس العقيدة المسيحية الرئيسية.
وقد وجد هذا الحدث ترجمته التشكيلية منذ القرن الثالث في صورة النسوة الثلاث عند القبر، وهي الصورة التي تكررت في أكثر من تأليف في الشرق والغرب في مرحلة تكوين الفن المسيحي الأول.
من جهة أخرى، لا يتحدّث أي من الإنجيليين الأربعة عن نزول يسوع إلى مثوى الأموات بشكل مباشر، إلا أننا نجد في بعض رسائل العهد الجديد إشارات تتصل اتصالا مباشراً بهذا الحدث الغامض.
ففي رسالته الأولى، يقول بطرس إن المسيح
"أميت بجسده ولكنه أحييَ بالروح، فذهب بهذا الروح يبشر الأرواح التي في السجن"
(3، 19).
وفي رسالته إلى أهل أفسس، يؤكد بولس أن المسيح الذي صعد إلى ما فوق السموات "نزل أيضاً إلى أسافل الأرض" (4، 9). ويربط المفسّرون بين هذا النزول وقيام الكثير من القديسين الراقدين الذين خرجوا من القبور بعد قيامة السيد "ودخلوا المدينة المقدسة وتراءَوا لأناس كثيرين"، وفقاً لرواية متى (27، 52 – 53).
يمتلىء الأدب المسيحي الأول بالنصوص التي تصف مراحل نزول المسيح إلى الجحيم، ومنها نصوص لم تدخل ضمن قانون الكتاب المقدس واعتبرت منحولة، إلا أنها شكلت أساسا لكثير من كتابات آباء الكنيسة، مما ساهم في تكريس هذا الحدث في الذاكرة الجماعية.
بعد دفن يسوع، نزلت نفسه إلى مثوى الأموات فدمّرت أبواب العالم السفلي، وهزمت الشيطان وجنوده، وحرّرت الأبرار الذين ماتوا على الرجاء قبل مجيء المسيح، ونقلتهم إلى الفردوس،
فتحقق قول النبي داود:
"يا رب من مثوى الأموات أصعدت نفسي، ومن بين الهابطين في الهاوية أحييتني"
(مزمور 30، 4)
، وتمّت نبوءة أشعيا، فأطلق المأسورون من السجن، وخرج الجالسون في الظلمة من بيت الحبس (42، 7).
على الصعيد الفني، لم يصلنا من القرون الأولى أي تصوير لنزول المسيح إلى الجحيم، والأرجح أن التعبير عن القيامة اقتصر في الفن المسيحي الأول على مشهد حاملات الطيب أمام القبر.
يظهر المسيح وهو يمسك بيد آدم ليرفعه إليه في عدد من الصور يعود أقدمها إلى القرن الثامن.
على قطعة معدنية صغيرة من محفوظات متحف متروبوليتان في نيويورك ومصدرها على الأرجح الهلال الخصيب، نجد صورة منقوشة تمثل المسيح وهو يدوس بقدميه شخصاً صغيراً يرمز إلى الجحيم.
ينحني يسوع ويمد ذراعه ليمسك بيد آدم وينتشله من الهاوية، وتظهر حواء إلى جانب رفيقها وهي ترفع ذراعيها متضرّعة في اتجاه السيد. في الزاوية العليا اليسرى، نرى صورة نصفية لرجلين يعتمران تاجين من الطابع البيزنطي، مما يسمح بالتعرف الى داود ووارثه سليمان.
ويشغل الزاوية العليا اليمنى مستطيلان صغيران متقاطعان يرمزان إلى أبواب الجحيم التي حطّمها المسيح بحسب التقليد.
يتكرّر هذا التأليف على الجزء الأسفل من صليب معدني محفوظ في كنيسة فيكوبيسانو في محافظة توسكانا الإيطالية، مما يوحي أن هذه الصور "الصغرى" ما هي إلا نسخ مختزلة لصور "كبيرة" لم يحفظ منها التاريخ شيئاً.
تحضر الصورة المنقوشة من جديد على لوح صغير في متحف تبيليسي في جورجيا حيث يظهر آدم من فوق قبر فارغ، بينما يقف المسيح بين مستطيلين متوازيين كأنهما دفتا باب.
وترافق هذه الصورة عبارة يونانية تشير بشكل لا التباس فيه إلى الموضوع، "أناستاسيس"، أي "القيامة".
ويشير اختيار هذه العبارة الى دلالات الحدث المصوّر. نزول المسيح بالروح إلى الجحيم في سبت النور يعلن القيامة التي تبلغ مداها الأقصى مع خروج المسيح بالجسد من القبر، وهو الحدث الذي يعبّر عنه مشهد النسوة أمام القبر.
تحفظ روما أقدم صور جدارية تمثّل نزول المسيح إلى مثوى الأموات. في كنيسة القديسة مريم القديمة، يظهر المسيح وهو يدوس الشيطان وينتشل آدم من القبر.
تفوق مقاييس السيد في حجمها كل الذين يحوطونه مما يعمّق صورة تفوّقه، وقد اعتُمد هذا المبدأ في الصور المنقوشة الصغيرة، مما يسمح بالحديث عن نموذج إيقونوغرافي واحد اعتمده المصورون منذ القرن الثامن الذي أُنجز فيه هذا الرسم الجداري بحسب المؤرخين.
وفي كنيسة القديس إقليمندس، يظهر المسيح داخل هالة بيضوية وهو يطأ بقدمه الشيطان الذي يمسك برجل آدم في محاولة يائسة لمنعه من التقدم في اتجاه السيد.
يختصر لقاء آدم الجديد بآدم القديم مغزى هذا العيد الكبير، وقد دأب آباء الكنيسة على وصف هذا اللقاء وإبراز دلالاته مدى قرون من الزمن
. في عظة شهيرة تٌقرأ في سبت النور، يتحدّث إبيفانيوس رئيس أساقفة قسطندية في قبرص عن نزول المسيح إلى مثوى الأموات "ليرفع أخانا في العبودية آدم المحكوم عليه"، ويصف المخلّص بـ"الخروف الضال".
وفي المعنى نفسه، ينشد إفرام السرياني:
"إن الذي قال لآدم أين أنت قد صعد الآن فوق الصليب ليبحث عن ذاك الذي كان ضائعاً.
لقد نزل إلى الجحيم قائلاً:
هلمّ الآن يا صورتي ومثالي".
في الظلام وظلال الموت
في القرون الوسطى، تتكرّر صورة نزول المسيح إلى ما لا نهاية في الشرق البيزنطي، وتغيب إلى حد التلاشي في الغرب المسيحي بمختلف أقاليمه.
التأليف ثابت لا يتغيّر.
يحتل المسيح وسط الصورة.
نراه في لباس أبيض مما يعيد إلى الذهن تجلّيه على الجبل، حيث "أشعّ وجهه كالشمس"
(متى 2:17)
و"تلألأت ثيابه ناصعة البياض، حتى ليعجز أي قصار في الأرض أن يأتي بمثل بياضها"
(مرقص 9، 3)
. تحيط بقامة السيد هالة بيضوية شبيهة بتلك التي تحيط به في أيقونة "التجلّي"، مما يشهد للرابط الذي يجمع بين الحدثين. ينزل السيد إلى الهاوية ليضيء على القابعين في الظلام وظلال الموت.
يقف ظافراً فوق ردفي باب الجحيم وقد تبعثرت من حوله أقفال ومفاتيح وسلاسل محطّمة.
"أيها المسيح لقد نزلت إلى أسافل دركات الأرض وسحقت الأقفال الدهرية المثبتة الضابطة المعتقلين"
، يقول قانون عيد الفصح في الطقس البيزنطي.
يدخل يسوع مملكة الموت ليقيم الإنسان الأول ولينجّي معه الخليقة كلها.
نراه يقبض بيمناه على يد آدم الذي يظهر في هيئة شيخ جليل ذي لحية بيضاء.
في حركة موازية، يمسك السيد بيسراه يد حواء ليخرجها من القبر.
"لتستقبلني النسوة بالطيوب، لأني أنقد آدم وحواء وكل ذريتهما"،
يقول قانون الجناز البيزنطي.
تشكل قامات المسيح وآدم وحواء في ما بينها مثلثاً تحدّه مجموعتان من القامات تؤلفان مستطيلين متوازنين.
يقف أبرار العهد القديم وأنبياؤه وملوكه من حول السيد ويحدقون اليه.
يتقدم الملكان داود وسليمان الفريق الذي يقف من جهة يسار السيد.
ويبرز من الجهة المقابلة يوحنا المعمدان، وهو بحسب تعبير إبيفانيوس
"السابق والكارز للأحياء والأموات معاً"
، وهو "الذي عند ذبحه أرسل من سجن هيرودس إلى سجن الجحيم، إلى الراقدين منذ الدهر، الأبرار والمظلومين".
تتجلى الصورة في حلل جديدة في عوالم الشرق المسيحي الممتدة من جبال القوقاز إلى بلاد الحبشة.
في منمنمة من إنجيل سرياني من الموصل يعود إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر، يظهر المسيح وهو يمسك بيسراه صليبا طويلاً فوق أغلال الجحيم المبعثرة، يحوطه من جهة آدم وحواء، ومن الجهة الأخرى داود وسليمان ويوحنا المعمدان.
وترافق الصورة كتابة بالسريانية: "يسوع مخلّصاً آدم".
تتكرر الصورة في عدد لا يُحصى من الأيقونات الحبشية التي تجعل من نزول المسيح إلى مثوى الأموات نشيداً مظفراً يعلن غلبة الحياة وموت الموت.
يمدّ آدم الجديد يده إلى آدم القديم ليرفعه من الظلمة إلى النور.
الذي نزل إلى الأرض ينحدر إلى الجحيم ليحرّر الأموات.
أتى الموت عن يد إنسان، وعن يد إنسان أيضاً، كانت قيامة الأموات
(1 كورنتوس 15، 21).
في الفن المسيحي الغربي، كثيراً ما يظهر المسيح وهو يخرج من القبر وفقاً لنموذج متوارث يشهد لقيامته من الموت.
تغيب هذه الصورة في الشرق حتى القرن الثامن عشر، ذلك أن قيامة السيد من قبره تبقى سرّا تذكره الأناجيل إلا أنها لا تصفه.
من جهة أخرى، صوّر الشرق المسيحي نزول السيد إلى الجحيم، وهو حدث لا يذكره الإنجيل في شكل مباشر، إلا أنه يتجذّر في تقليد يعود إلى المسيحية الأولى، وجعلت منه الكنيسة البيزنطية عيداً من أعياد السيّد الإثني عشر،
وأطلقت على الصورة التي تمثّله اسم "القيامة".
وفقاً للعقيدة المسيحية، صُلب المسيح يوم الجمعة ودُفن جسده في قبر حُفر في الصخر، ونزلت نفسه في سبت النور إلى مثوى الأموات حيث أرواح الراقدين تنتظر في العدم من دون مكافأة ولا قصاص لأن أبواب الفردوس مغلقة أمام الخليقة منذ سقوط آدم. مات المسيح بالجسد وكان على نفسه أن تنزل إلى الجحيم لتُسجن فيها،
لكن المخلص "وطئ الموت بالموت"، وحطّمت نفسه قدر الجحيم لتهب "الحياة للذين في القبور".
لا تحتلّ قيامة الأموات مقاما رفيعاً في الميراث العبراني، فالكتب الموسوية لا تذكرها بشكر جليّ ولا تجعل منها ركناً من أركان الإيمان الأساسية.
لا نجد ذكراً واضحاً للحياة الأخرى في هذه الأسفار، كما أننا لا نقف أمام أي حديث مباشر يقرّ بالحياة الأبدية للنفس البشرية.
نقرأ في سفر تثنية الإشتراع:
"الآن، إنني أنا هو ولا إله معي، أنا أميت وأنا أحيي، وأجرح وأشفي"
(32، 39)،
غير أن هذا "الإحياء" لا يجد له وصفاً إلاّ في بعض الأسفار التي تلي كتب الشريعة والتاريخ.
يقول أيوب "إن الغمام يتبدّد ويعبر، وكذا الهابط إلى مثوى الأموات لا يصعد" (7، 9)، ويبدو في قوله هذا موافقاً الاعتقاد الشائع بأن الأموات يهبطون إلى ما يُعرف بالـ"شؤول"، وهو تعبير مجهول الأصل يدلّ على أعماق الأرض حيث يهبط الأموات ويختلط الصالحون بالأشرار، وقد جاء ذكره مراراً في الكتاب المقدس.
في المقابل، نجد في "نشيد حنّة" إشارة إلى القيامة، حيث تصلّي المرأة التي حبس الرب رحمها وتتضرّع الى الذي "يميت ويحيي، ويُُحدِر إلى مثوى الأموات، ويُصعد منه" (1 صمويل 2، 6).
وتتجلّى هذه القيامة في الكتب النبوية بشكل خاص، يرى حزقيال كيف ينشأ العصب واللحم على العظام اليابسة قبل أن يحلّ عليها الروح ويحييها (37، 1-14)، ويتنبأ دانيال بقيامة الجسد ومكافأة الأبرار وعقاب الخطأة في "وقت النهاية"، حيث يستيقظ الكثير من الراقدين في أرض التراب، "بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرّذل الأبدي" (12، 2).
سجن الأرواح
تقدّم الأناجيل سرداً مفصّلا لمراحل صلب المسيح وموته، وتجعل من قيامته في اليوم الثالث أساساً من أسس العقيدة المسيحية الرئيسية.
وقد وجد هذا الحدث ترجمته التشكيلية منذ القرن الثالث في صورة النسوة الثلاث عند القبر، وهي الصورة التي تكررت في أكثر من تأليف في الشرق والغرب في مرحلة تكوين الفن المسيحي الأول.
من جهة أخرى، لا يتحدّث أي من الإنجيليين الأربعة عن نزول يسوع إلى مثوى الأموات بشكل مباشر، إلا أننا نجد في بعض رسائل العهد الجديد إشارات تتصل اتصالا مباشراً بهذا الحدث الغامض.
ففي رسالته الأولى، يقول بطرس إن المسيح
"أميت بجسده ولكنه أحييَ بالروح، فذهب بهذا الروح يبشر الأرواح التي في السجن"
(3، 19).
وفي رسالته إلى أهل أفسس، يؤكد بولس أن المسيح الذي صعد إلى ما فوق السموات "نزل أيضاً إلى أسافل الأرض" (4، 9). ويربط المفسّرون بين هذا النزول وقيام الكثير من القديسين الراقدين الذين خرجوا من القبور بعد قيامة السيد "ودخلوا المدينة المقدسة وتراءَوا لأناس كثيرين"، وفقاً لرواية متى (27، 52 – 53).
يمتلىء الأدب المسيحي الأول بالنصوص التي تصف مراحل نزول المسيح إلى الجحيم، ومنها نصوص لم تدخل ضمن قانون الكتاب المقدس واعتبرت منحولة، إلا أنها شكلت أساسا لكثير من كتابات آباء الكنيسة، مما ساهم في تكريس هذا الحدث في الذاكرة الجماعية.
بعد دفن يسوع، نزلت نفسه إلى مثوى الأموات فدمّرت أبواب العالم السفلي، وهزمت الشيطان وجنوده، وحرّرت الأبرار الذين ماتوا على الرجاء قبل مجيء المسيح، ونقلتهم إلى الفردوس،
فتحقق قول النبي داود:
"يا رب من مثوى الأموات أصعدت نفسي، ومن بين الهابطين في الهاوية أحييتني"
(مزمور 30، 4)
، وتمّت نبوءة أشعيا، فأطلق المأسورون من السجن، وخرج الجالسون في الظلمة من بيت الحبس (42، 7).
على الصعيد الفني، لم يصلنا من القرون الأولى أي تصوير لنزول المسيح إلى الجحيم، والأرجح أن التعبير عن القيامة اقتصر في الفن المسيحي الأول على مشهد حاملات الطيب أمام القبر.
يظهر المسيح وهو يمسك بيد آدم ليرفعه إليه في عدد من الصور يعود أقدمها إلى القرن الثامن.
على قطعة معدنية صغيرة من محفوظات متحف متروبوليتان في نيويورك ومصدرها على الأرجح الهلال الخصيب، نجد صورة منقوشة تمثل المسيح وهو يدوس بقدميه شخصاً صغيراً يرمز إلى الجحيم.
ينحني يسوع ويمد ذراعه ليمسك بيد آدم وينتشله من الهاوية، وتظهر حواء إلى جانب رفيقها وهي ترفع ذراعيها متضرّعة في اتجاه السيد. في الزاوية العليا اليسرى، نرى صورة نصفية لرجلين يعتمران تاجين من الطابع البيزنطي، مما يسمح بالتعرف الى داود ووارثه سليمان.
ويشغل الزاوية العليا اليمنى مستطيلان صغيران متقاطعان يرمزان إلى أبواب الجحيم التي حطّمها المسيح بحسب التقليد.
يتكرّر هذا التأليف على الجزء الأسفل من صليب معدني محفوظ في كنيسة فيكوبيسانو في محافظة توسكانا الإيطالية، مما يوحي أن هذه الصور "الصغرى" ما هي إلا نسخ مختزلة لصور "كبيرة" لم يحفظ منها التاريخ شيئاً.
تحضر الصورة المنقوشة من جديد على لوح صغير في متحف تبيليسي في جورجيا حيث يظهر آدم من فوق قبر فارغ، بينما يقف المسيح بين مستطيلين متوازيين كأنهما دفتا باب.
وترافق هذه الصورة عبارة يونانية تشير بشكل لا التباس فيه إلى الموضوع، "أناستاسيس"، أي "القيامة".
ويشير اختيار هذه العبارة الى دلالات الحدث المصوّر. نزول المسيح بالروح إلى الجحيم في سبت النور يعلن القيامة التي تبلغ مداها الأقصى مع خروج المسيح بالجسد من القبر، وهو الحدث الذي يعبّر عنه مشهد النسوة أمام القبر.
تحفظ روما أقدم صور جدارية تمثّل نزول المسيح إلى مثوى الأموات. في كنيسة القديسة مريم القديمة، يظهر المسيح وهو يدوس الشيطان وينتشل آدم من القبر.
تفوق مقاييس السيد في حجمها كل الذين يحوطونه مما يعمّق صورة تفوّقه، وقد اعتُمد هذا المبدأ في الصور المنقوشة الصغيرة، مما يسمح بالحديث عن نموذج إيقونوغرافي واحد اعتمده المصورون منذ القرن الثامن الذي أُنجز فيه هذا الرسم الجداري بحسب المؤرخين.
وفي كنيسة القديس إقليمندس، يظهر المسيح داخل هالة بيضوية وهو يطأ بقدمه الشيطان الذي يمسك برجل آدم في محاولة يائسة لمنعه من التقدم في اتجاه السيد.
يختصر لقاء آدم الجديد بآدم القديم مغزى هذا العيد الكبير، وقد دأب آباء الكنيسة على وصف هذا اللقاء وإبراز دلالاته مدى قرون من الزمن
. في عظة شهيرة تٌقرأ في سبت النور، يتحدّث إبيفانيوس رئيس أساقفة قسطندية في قبرص عن نزول المسيح إلى مثوى الأموات "ليرفع أخانا في العبودية آدم المحكوم عليه"، ويصف المخلّص بـ"الخروف الضال".
وفي المعنى نفسه، ينشد إفرام السرياني:
"إن الذي قال لآدم أين أنت قد صعد الآن فوق الصليب ليبحث عن ذاك الذي كان ضائعاً.
لقد نزل إلى الجحيم قائلاً:
هلمّ الآن يا صورتي ومثالي".
في الظلام وظلال الموت
في القرون الوسطى، تتكرّر صورة نزول المسيح إلى ما لا نهاية في الشرق البيزنطي، وتغيب إلى حد التلاشي في الغرب المسيحي بمختلف أقاليمه.
التأليف ثابت لا يتغيّر.
يحتل المسيح وسط الصورة.
نراه في لباس أبيض مما يعيد إلى الذهن تجلّيه على الجبل، حيث "أشعّ وجهه كالشمس"
(متى 2:17)
و"تلألأت ثيابه ناصعة البياض، حتى ليعجز أي قصار في الأرض أن يأتي بمثل بياضها"
(مرقص 9، 3)
. تحيط بقامة السيد هالة بيضوية شبيهة بتلك التي تحيط به في أيقونة "التجلّي"، مما يشهد للرابط الذي يجمع بين الحدثين. ينزل السيد إلى الهاوية ليضيء على القابعين في الظلام وظلال الموت.
يقف ظافراً فوق ردفي باب الجحيم وقد تبعثرت من حوله أقفال ومفاتيح وسلاسل محطّمة.
"أيها المسيح لقد نزلت إلى أسافل دركات الأرض وسحقت الأقفال الدهرية المثبتة الضابطة المعتقلين"
، يقول قانون عيد الفصح في الطقس البيزنطي.
يدخل يسوع مملكة الموت ليقيم الإنسان الأول ولينجّي معه الخليقة كلها.
نراه يقبض بيمناه على يد آدم الذي يظهر في هيئة شيخ جليل ذي لحية بيضاء.
في حركة موازية، يمسك السيد بيسراه يد حواء ليخرجها من القبر.
"لتستقبلني النسوة بالطيوب، لأني أنقد آدم وحواء وكل ذريتهما"،
يقول قانون الجناز البيزنطي.
تشكل قامات المسيح وآدم وحواء في ما بينها مثلثاً تحدّه مجموعتان من القامات تؤلفان مستطيلين متوازنين.
يقف أبرار العهد القديم وأنبياؤه وملوكه من حول السيد ويحدقون اليه.
يتقدم الملكان داود وسليمان الفريق الذي يقف من جهة يسار السيد.
ويبرز من الجهة المقابلة يوحنا المعمدان، وهو بحسب تعبير إبيفانيوس
"السابق والكارز للأحياء والأموات معاً"
، وهو "الذي عند ذبحه أرسل من سجن هيرودس إلى سجن الجحيم، إلى الراقدين منذ الدهر، الأبرار والمظلومين".
تتجلى الصورة في حلل جديدة في عوالم الشرق المسيحي الممتدة من جبال القوقاز إلى بلاد الحبشة.
في منمنمة من إنجيل سرياني من الموصل يعود إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر، يظهر المسيح وهو يمسك بيسراه صليبا طويلاً فوق أغلال الجحيم المبعثرة، يحوطه من جهة آدم وحواء، ومن الجهة الأخرى داود وسليمان ويوحنا المعمدان.
وترافق الصورة كتابة بالسريانية: "يسوع مخلّصاً آدم".
تتكرر الصورة في عدد لا يُحصى من الأيقونات الحبشية التي تجعل من نزول المسيح إلى مثوى الأموات نشيداً مظفراً يعلن غلبة الحياة وموت الموت.
يمدّ آدم الجديد يده إلى آدم القديم ليرفعه من الظلمة إلى النور.
الذي نزل إلى الأرض ينحدر إلى الجحيم ليحرّر الأموات.
أتى الموت عن يد إنسان، وعن يد إنسان أيضاً، كانت قيامة الأموات
(1 كورنتوس 15، 21).
Comment