أول عرب عبدوا المسيح
بقلم د. طوني معلوف؛ ترجمة د. لميس جرجور معلوف
بقلم د. طوني معلوف؛ ترجمة د. لميس جرجور معلوف
في كل موسم لعيد الميلاد تُحكَى قصة ولادة المسيح بتفاصيلها الممتعة وتُستعرَض بطرق متنوعة. وتثير قصةُ المجوس الذين أتوا من المشرق ليعبدوا المولود ملك اليهود حشريةَ الكثيرين، وتستحوذ هوية زوار بيت لحم بسبب غموضها على النصيب الأكبر من الاهتمام في هذه القصة. فمن أين جاء هؤلاء يا ترى وما هي هوية العابدين المشرقيين الذين قصدوا أورشليم ليسجدوا للمسيح؟
تجد التقاليد المسيحية الغربية قبولاً واسعاً بين الكثير من العلماء في أيامنا، ووفقاً لهم فإن مجوس إنجيل متى هم إمّا كهنة زردشتيون من بلاد فارس أو فلكيّون كلدانيون جاؤوا من بلاد ما بين النهرين. ويسود الاعتقاد بأنهم أتوا إلى أورشليم مدفوعين بإيمان زردشتي تنبأ بميلاد ملك عظيم لليهود، ونتيجة لذلك يصرف كثيرون النظر عن احتمال الأصل العربي لعبدة المسيح هؤلاء. ويشير تقليد شائع يرجع لإنجيل الطفولة الأرمني إلى أن المجوس كانوا بلطسار (ملك العربية) وكاسبار (ملك الهند) وملكيور (ملك فارس). وتقدم مصادر أخرى لا أقل من ثلاثين اسماً مختلفاً للمجوس من مجموعات عرقية متنوعة.
إن التباين العظيم في هذه التقاليد يزيدنا اقتناعاً بأن أفضل وجهة نظر هي التي تتناسب بشكل أفضل مع معطيات النص في العهد الجديد. وهكذا نجد أنّ الأصل العربي يتناغم تماماً مع المعطيات الكتابية. وفضلاً عن ذلك، فإن الحجة القائمة بالنسبة لوجهات النظر البديلة متأثرة إما بالزرادشتية أو بعلم التنجيم وهو بحد ذاته علم مرفوض في العهد القديم (تثنية 10:18-12). ومع أن الاهتمام بالنجوم والفلك كان ذا أهمية فائقة للمجتمعات البدوية في الصحراء، فإن الأصل العربي للمجوس يعتمد بالأحرى على الدليل النصّي من التوقعات النبوية في العهد القديم.
1. كلمة "المجوس"
استخدمت الكلمة اليونانية magos في البداية للإشارة إلى أفراد سبط ميديّ تولّى المهام الكهنوتية في إمبراطورية مادي وفارس. وكان هؤلاء الكهنة ذوي قدرة على تفسير بعض العلامات والأحلام وتضمّنت ممارساتهم السحر والشعوذة. لكن بالإضافة إلى هذه الاستخدامات السلبية، فقد استخدمت الكلمة أيضاًَ للإشارة إلى "من يمتلك معرفة وحكمة فائقتين." وهكذا عيّن الملك نبوخذنصّر دانيال اليهوديّ رئيساً للمجوس. وبهذا المعنى أيضاً اعتُبِر موسى مجوسياً أيضاً في قصر فرعون. ويشير المؤرخ يوسيفوس إلى يهودي اسمه سمعان، دعي مجوسياً، وكان مشيراً لفيلكس والي اليهودية. وإذا أخذنا الكلمة بمعنى "من يملك معرفة فائقة" فإنه كان بين العرب القدماء كثير من المجوس. وبالحقيقة يعرّف لنا كتاب باروخ (من القرن الثالث ق.م.) "أولاد هاجر" العرب بأنهم "الذين يطلبون الحكمة على الأرض" (باروخ 23:3). فضلاً عن ذلك، توجد في الكتاب المقدس عدة شواهد عن حكمة العرب القدماء التي لم تفُقْها في القديم سوى حكمة سليمان (1ملوك 30:4).
2. رأي الكنيسة الأولى
من ناحية ثانية، فإن آباء الكنيسة الأولين اعتبروا العربية منشأً لمجوس الانجيل، وفي ذلك عكسوا على الأغلب تقليد الرسل. فأكليمندس الروماني (96م) يلمّح إلى ذلك في كتاباته. أما يوستنيانوس الشهيد (حوالي 150م) الذي ولد ونشأ في السامرة بفلسطين فهو يشير تسع مرات إلى المجوس الذين أتوا من العربية ليعبدوا المسيح المولود. وبدوره يبني ترتليانوس القرطاجي (حوالي 200 م.) رأيه على تقليد معروف في كل المشرق القديم وهو أول شخص يحدد هوية هؤلاء الزوار على أنهم ملوك أتوا من العربية.
3. الدعم الجغرافي
قدِم المجوس من المشرق (متى 1:2، 2، 9) الذي عُرِف في الازمنة الكتابية بالكلمة العبرية قِدِم وهو المكان الذي سكنت فيه الأسباط العربية المتعددة المنحدرة من إبراهيم (تكوين 1:25-6، 12-18). وعندما ولد المسيح كانت تلك المنطقة مرتبطة جغرافياً وسياسياً بابن إبراهيم البكر، أي بإسمعيل. ولا يزال البدو العرب في أيامنا يتحدثون عن توجههم إلى صحراء العربية بأنه تشريق (سير نحو الشرق) بغض النظر عن اتجاه سيرهم. وعلى النقيض من ذلك فإن القادمين إلى أرض فلسطين من فارس أو بابل أو أشور كانوا يدخلون فلسطين من الشمال؛ ولذلك كانت بلادهم تُسمّى في الكتاب باستمرار، "أرض الشمال" (إشعياء 31:14). وهكذا فَهِم القراء اليهود تماماً من متى البشير أن المجوس أتوا من الصحراء العربية الواقعة شرقيّ نهر الأردن.
4. طبيعة الهدايا
تمثل الهدايا التي قدّمها المجوس للمسيح من ذهب ولبان ومرّ المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية للعربية قديماً. ومن بين تلك الهدايا، كان اللبان والمر ينتجان بشكل شبه حصري في جنوب الجزيرة العربية. وبحسب شهادة المؤرخين اليونان والرومان، فإن هذه المواد التجارية جعلت مملكة سبأ القديمة في جنوب العربية أغنى أمة في العالم القديم. ويخبرنا المؤرخ هيرودتس بأنّ عرب الشمال كانوا يرسلون للإمبراطور الفارسيّ هدية سنوية قدرها ثلاثون طناً من اللبان عربون صداقتهم للفرس. وقبيل مجيء المسيح سيطر العرب الأنباط على تجارة القوافل التي كانت تضمّ الهدايا التي قدمها المجوس للمسيح.
5. الأدلّة الكتابية
يحوي الكتاب المقدس مؤشرات كثيرة عن نعمة الله العاملة بين أولاد إبراهيم المختونين الآخرين. فأيوب وأصدقاؤه، ويثرون حمو موسى، وملكة سبأ، وأجور ولموئيل (أمثال 30-31) والركابيون (إرميا 35) ما هم إلا مجرد أمثلة عن نعمة الله الظاهرة في أولاد إبراهيم المتعددين. ويشمل التراث الإبراهيمي للعرب القدماء التاريخَ النبويَّ أيضاً. وهكذا يتنبأ إشعياء عن مجيء العرب في فجر العهد المسيحاني لتقديم ولائهم وهداياهم للمسيح (مزمور 10:72-15؛ إشعياء 5:60-7). ويتم التركيز في النبوات على اللبان والذهب بشكل خاص كجزء من الكنوز المقدمة إلى المسيح من الأسباط العربية (إشعياء 6:60). وهكذا يتماشى الأصل العربي للمجوس مع التوقعات النبوية الكتابية.
6. النمط المتكرّر
أخيراً، يبدو أنه يوجد نمط يتكرر في الكتاب المقدس ويتواتر في معاملات الله الفدائية عبر التاريخ. نرى في هذا النمط أن حياة الممسوح من الله تتعرض للخطر، وبعد ذلك يستخدم الله بسلطانه المطلق مصر والعربية كرمزين للغنى والقوة للحفاظ على حياة مختاره قبل أن يقوم بعمله الخلاصيّ. وهكذا فإنّ يوسف بعد أن هدّده إخوته، اشتراه تجار البخور العرب وأنقذوا حياته، ثم صار محمياً في مصر تحضيراً لخدمته (تكوين 37). وقد تعرضت حياة موسى للخطر مرتين (خروج 1-2)، لكنّه حُفِظ في مصر أربعين سنة وفي العربية أربعين سنة قبل أن يبدأ بعمله الفدائي نيابة عن أمة إسرائيل. وتهدّدت هوية الأمة نفسها في بدايتها من قبل الحضارة الكنعانية (تكوين 38). فاقتادهم الله إلى مصر للحماية (31:46-34) ومن ثمّ إلى العربية قبل أن يقود الأمة لتقوم بدورها الخلاصي بين الأمم (خروج 6:19؛ غلاطية 25:4).
نتيجة لذلك، فإن الأصل العربي للمجوس يتوافق مع هذا النمط بشكل أكبر آخذاً ذروته في قصة طفولة يسوع المسيح. فقد حدث خطر محدق على حياة المسيح، وأُحضِر غنى العربية إليه رمزياً بواسطة الحكماء العرب، وقد أمّن هذا ما يلزم لعائلة يوسف الفقيرة (لوقا 24:2) للسفر إلى مصر للحماية. وقد قدّم متى المسيح نوراً لكل الأمم بينما يضع العهد القديم أولاد إبراهيم الآخرين أولاً في مخطط الله لافتقاد الأمم (إشعياء 6:42، 11؛ 5:60-7؛ غلاطية 17:1)
فماذا لو كان المجوس عرباً قدماء؟
هناك عدّة أمور نستخلصها من ذلك. فأول كل شيء، يقدم لنا الكتاب أرض العربية على أنها تحمل تراثاً كتابياً. وينتشر التراث الإبراهيمي للعرب في أجزاء كثيرة من الكتب المقدسة. ويجب تذكر هذه الصورة الكتابية الجميلة على الرغم من الطابع السلبي الذي طغى على صورة العرب في العالم اليوم بعد أحداث 11 ايلول.
من ناحية ثانية، يصور لنا العهد الجديد المجوس العرب والرعاة اليهود كعابدين لنفس المسيح الملك (متى 1:2-12؛ لوقا 8:2-20). وقد وصف النبي إشعياء هذا الملك بأنه رئيس السلام (إشعياء 6:9). فالسلام الحقيقي في شرقنا المنهك لن يتم إلا بعد شفاء القلوب الجريحة أولاً وإتيانها للمسيح. فلنصلِّ لكي يرسل الله نهضة روحية إلى عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. وكما طلب العرب المسيح الملك ليعبدوه في المجيء الأول، فإنّ النبوات الكتابية تقدم أساساً لتوقع افتقاد كبير بينهم في مجيئه الثاني.
أخيراً، وبغض النظر عن الرموز التي أعطيت لاحقاً للهدايا فإن المجوس العرب قدموا للمسيح مصدر قوتهم وفخر ملكهم. وهذا يدعونا لأن نكرم الله من أموالنا ونعترف به مصدراً لخيرنا ونقدم له عبادتنا مع الشكر.
Comment