تحياتي هذا كتاب
خمس حقائق عن الإيمان المسيحي
بقلم خادم الرب الأخ المرحوم ناشد حنا
أرجوا ان يعجبكم منقول من موقع بيت الله
نعمة ربنا يسوع معكم
مقدمة
لا أقصد بهذا الكتيب الصغير أن أتناول كل حقائق الإيمان المسيحي لأن هذا الموضوع أكبر بكثير من أن تسعه صفحات قليلة كهذه. ولكني أقصد أن أضع في أيدي من يريدون المعرفة ومن يرغبون في التثبت في الإيمان دون أن يكون لديهم الوقت الكافي للبحث المستفيض, أضع في أيديهم خيوط الحق الإلهي ليرجعوا بعد ذلك إلي الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله الحية الفعالة.
نحن لا نبني إيماننا المسيحي علي الأبحاث العلمية أو آراء الفلاسفة. فإن المصدر الوحيد لإيماننا هو إعلان الله عن ذاته في الكتاب المقدس الذي أعطاه لنا موحى به منه لكي نعرفه ونحبه ونعبده, وتكون لنا به صلة وثيقة من الآن وإلي الأبد, لأنه هكذا شاء في محبته ونعمته, إذ أن البشر أسمي مخلوقاته وقد أودع فيهم نسمة من عنده, خالدة لا تفني بل تبقي إلي الأبد.
إننا نشكر الله لأجل الوحي والإعلان الإلهي, لأن ما لم يستطع العلماء والحكماء أن يدركوه أعلنه الله للبسطاء المخلصين كما قال المسيح له المجد «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» ( متى 25:11) . وقد أفردت في هذا الكتيب فصلا خاصا لإثبات وحي الكتاب المقدس وعدم وصول أي تحريف إليه.
وكما قلت إنه لا يمكنني في هذه العجالة, كما سبقت الإشارة أن أتناول كل حقائق الإيمان المسيحي, ولكني أقتصر علي خمس حقائق رئيسية هي أن:
1-الله الواحد ثلاثة أقانيم.
لا أقصد بهذا الكتيب الصغير أن أتناول كل حقائق الإيمان المسيحي لأن هذا الموضوع أكبر بكثير من أن تسعه صفحات قليلة كهذه. ولكني أقصد أن أضع في أيدي من يريدون المعرفة ومن يرغبون في التثبت في الإيمان دون أن يكون لديهم الوقت الكافي للبحث المستفيض, أضع في أيديهم خيوط الحق الإلهي ليرجعوا بعد ذلك إلي الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله الحية الفعالة.
نحن لا نبني إيماننا المسيحي علي الأبحاث العلمية أو آراء الفلاسفة. فإن المصدر الوحيد لإيماننا هو إعلان الله عن ذاته في الكتاب المقدس الذي أعطاه لنا موحى به منه لكي نعرفه ونحبه ونعبده, وتكون لنا به صلة وثيقة من الآن وإلي الأبد, لأنه هكذا شاء في محبته ونعمته, إذ أن البشر أسمي مخلوقاته وقد أودع فيهم نسمة من عنده, خالدة لا تفني بل تبقي إلي الأبد.
إننا نشكر الله لأجل الوحي والإعلان الإلهي, لأن ما لم يستطع العلماء والحكماء أن يدركوه أعلنه الله للبسطاء المخلصين كما قال المسيح له المجد «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» ( متى 25:11) . وقد أفردت في هذا الكتيب فصلا خاصا لإثبات وحي الكتاب المقدس وعدم وصول أي تحريف إليه.
وكما قلت إنه لا يمكنني في هذه العجالة, كما سبقت الإشارة أن أتناول كل حقائق الإيمان المسيحي, ولكني أقتصر علي خمس حقائق رئيسية هي أن:
1-الله الواحد ثلاثة أقانيم.
الله الواحد
ثلاثة أقانيم وليس ثلاثة آلهة
أن أدخل بكل خشوع وإجلال إلي الكلام عن حقيقة الله عز وجل أري لزاما علي أن أمهد لذلك بتأملات مختصرة عن وجود الله.
وجود الله
الله هو واجب الوجود, أي لابد أن يكون موجودا , وإلا فمن خلق هذا العالم بنواميسه الدقيقة؟ ومن خلقني أنا؟ ولمن أنا مدين بوجودي وكياني؟ ان الدليل علي وجود الله موجود في كيان الإنسان الكافر الذي يرفع عقيرته منكرا وجوده, إذ في داخله الضمير الذي هو صوت الله, وصوت الأبدية أيضاً في قلبه كما هو مكتوب «صنع الله الكل حسنا في وقته, وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم» (جامعة 11:3) . وفي داخل الإنسان روح عاقل ليس موجود في الحيوانات, مصدره الله ذاته كما هو مكتوب «ولكن في الناس روحا ونسمة القدير تعقلهم» (أيوب 8:32) . وبسبب نسمة القدير في الإنسان لا يشبعه العالم المادي كله, ولا يمكن أن يستريح قلبه أو يشبع إلا بالله. والغريزة الدينية قد وضعها الله في الإنسان دون سائر المخلوقات, غريزة الرغبة في التعبد وغريزة الشعور بالضعف, وبالحاجة إلي الاعتماد علي قوة أعلي منه, خصوصا أمام الأهوال, وأمام المجهول, وأمام الموت حيث يحس الإنسان بحقارته, فإذا تعرض للغرق أو للحريق مثلا يصرخ لا شعوريا «يا رب» مستنجدا بمن هو أعلي وأقوي منه.
الفخاري يصنع الإناء الجميل الذي يتحدث عن دقة وبراعة صانعه, ولكن لا علاقة بين الإناء وبين صانعه. لكن الله صنعنا وهو دائم الاتصال بنا «إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء. وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون علي وجه الأرض. وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم. لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسوه فيجدوه مع أنه (هو) عن كل واحد منا ليس بعيدا . لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد» (أعمال 25:17-28) .
ومن محبته للبشر أعلن ذاته لهم في كتابه, وكلمهم «بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة» (عبرانيين 1:1) .
لا يوجد إنسان عاقل ينكر وجود الله ولكن «قال الجاهل في قلبه ليس إله» (مزمور1:14) , أي أنه يحاول أن يغالط نفسه ويسكت صوت عقله, ويوجد سبب لهذا, يذكره الكتاب المقدس بعد هذه العبارة «فسدوا ورجسوا بأفعالهم». فالعلة ليست في عقله لكن في قلبه الذي يحب الفساد والرجس وصوت الضمير في داخله يقول إن الله ديان لهذا الفساد. وكما تخفي النعامة رأسها في الرمال لكي تبعد عن عينيها منظر الصياد, هكذا الجاهل يري أن خير مهرب من الدينونة هو أن يقنع نفسه أنه «ليس إله».
ويشهد الكتاب المقدس أن الوثنيين لم يجهلوا وجود الله « إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وأبدلوا مجد الله الذي لا يفني بشبه صورة الإنسان الذي يفني والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلي النجاسة» (رومية19:1-24) . فهم عرفوا الله ولكنهم لم يمجدوه, والسبب في ذلك هو شهوات قلوبهم ونجاستهم. وقد قال أيوب عن مثل هؤلاء«فيقولون لله ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر » (أيوب 14:21) . فهم لا ينكرونه ولكن يبعدونه عن أنفسهم. أو يريدون أن يقطعوا قيوده ويطرحوا عنهم ربطه (مزمور3:2) .
فالعقل السليم يستطيع أن يعرف وجود الله ولكنه يعجز عن معرفة ذاته وحقيقة كيانه وجوهره لأن العقل محدود, والله عظيم وغير محدود كما جاء في سفر أيوب «أإلى عمق الله تتصل أم إلي نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلي من السموات فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية فماذا تدري؟» (أيوب7:11) . وأيضاً «عند الله جلال مرهب. القدير لا ندركه» (أيوب22:37, 23). من هنا لزم الإعلان الإلهي. لأنه لو لم يعلن الله ذاته لنا ما كنا لنعرفه.
وقد سئل أحد علماء الصوفية «ما الدليل على الله؟» فقال «الله». ولما سئل «فما العقل؟» قال «العقل عاجز. والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله». وقال "ابن عطا": «العقل آلة للعبودية (أي للتعبد) وليس للإشراف علي الربوبية» وهذا صحيح تماما , لأننا نعبد الله بالروح وبالعقل «عبادة عقلية» (رومية1:12) . ولكننا نعرفه بموجب الإعلان الإلهي, ونؤمن به بالقلب «إن آمنت بقلبك» (رومية9:10) . أما العقل فينحني خاشعا للإعلان الإلهي ولا يستطيع أن يعترض عليه لأنه ليس ضد العقل, بل هو أكبر منه ويسمو فوقه.
ولنأخذ مثلا بسيطا علي عجز العقل المحدود عن إدراك الله غير المحدود. هل يستطيع العقل أن يدرك "الأزل"؟ ليرجع العقل إلي ملايين الملايين من السنين, هل يكون قد وصل إلي شيء من أبعاد الأزل؟ كلا , لأن الأزل لا أبعاد له. وإذا ذهب الخيال إلي ملايين الملايين من السنين قبل التي وصل إليها أولا , هل يكون قد وصل إلي شيء؟ كلا... وهكذا "الأبد". وما أصدق ما قاله أليهو «هوذا الله عظيم ولا نعرفه وعدد سنيه لا يفحص» (أيوب 26:36) . لقد أعطانا الله العقل لنفهم به خليقة الله ولنعبد به الخالق بخشوع, ولكن إذا تطاولت عقولنا محاولة فحص الذات الإلهية فإننا نخسرها ونخسر أنفسنا.
إن الله هو خالقنا العظيم الذي أعطانا هذا الكيان الثلاثي العجيب المركب من الروح والنفس والجسد, هذا الكيان الذي لم نستطع للآن أن نحيط بكل أسراره ودقائقه, فمنذ القديم قد تفرغ بعض العلماء لدراسة الطب ووظائف أجهزة الجسم, وتفرغ آخرون لدراسة علم النفس, وآخرون لدراسة الروحيات وسر الحياة وما بعد الموت, وللآن كل هذه الدراسات مستمرة ومتجددة, وتكتشف الجديد دائما ولكنها تعترف كلها أنها لم تصل.
والله هو أيضاً خالق السموات والأرض وكل ما فيها, وواضع قوانينها وأسرارها وحافظ كيانها بكلمة قدرته, ومنذ القديم يوجد علماء تفرغوا لدراسة علم الفلك والكواكب والفضاء وآخرون لدراسة الجيولوجيا, وآخرون للطبيعة والكيمياء, وآخرون للهندسة والرياضيات, وآخرون للنبات والحيوان, وغير هذه من العلوم بشتى فروعها. ومنهم من كرس حياته كلها لدراسة علم الحشرات, وعلم الطفيليات, والمخلوقات الدقيقة التي لا تري إلا بالمجهر الإلكتروني, وجميعهم مع ما يصلون إليه من جديد يعترفون بأنهم لا يزالون علي هامش المعرفة وعلي شاطئ المعرفة وعلي شاطئ محيط العلم.
فكم هو عظيم ذلك الخالق غير المحدود الذي يملأ السموات والأرض ولا تسعه سماء السموات, الأزلي الذي لا بداءة له, والأبدي لا نهاية له, غير المحدود في قدرته وسلطانه, وفي علمه وحكمته, وفي كل شيء. أجل, هو أعظم من أن يحيط به عقل الإنسان المخلوق المحدود.
ولقد أوجد الله في البشر غريزة دينية فأخذوا يتلمسون الله لعلهم يجدونه, ولكنه لم يجدوه لأن الشيطان أعمي أذهانهم والخطية أظلمت قلوبهم كما سبق القول. وهكذا جميع البشر بما فيهم الفلاسفة صنعوا لأنفسهم آلهة بحسب تصور عقولهم-أوثانا أودعوا فيها صورة ما يظنون وما يتمنون أن يكون إلههم (انظروا رومية الأصحاح الأول), ويبين الوحي الإلهي جهلهم بقوله عن الذي يصنع الوثن «نجر خشبا مد الخيط.. يصنعه بالأزاميل. وبالدوارة يرسمه. فيصنعه كشبه رجل كجمال إنسان ليسكن في البيت.. غرس سنوبرا والمطر ينميه.. ويأخذ منه ويتدفأ. يشعل أيضاً ويخبز خبزا . ثم يصنع إلها فيسجد. قد صنعه صنما وخر له. نصفه أحرقه بالنار. علي نصفه يأكل لحما . يشوي مشويا ويشبع. يتدفأ أيضاً ويقول بخ قد تدفأت... وبقيته قد صنعه إلها صنما لنفسه. يخر له ويسجد ويصلي إليه ويقول نجني لأنك أنت إلهي» (إشعياء 13:44-17) .
أما الفلاسفة الذين لم يصنعوا لأنفسهم أوثانا ليسجدوا لها إشباعا لغريزتهم الدينية, فتساموا عن الأصنام المادية ورسموا في خيالهم كائنا روحيا عظيما جدا يجلس علي عرش كبير ونسبوا إليه الوحدانية المطلقة. وهذه الوحدانية تتطلب أنه لا يتميز بمميزات, وليس له ماهية أو كيان أو صفة من الصفات. ورغبة في تعظيمه بحسب فكرهم والمحافظة علي وحدانيته نز هوه عن كل شيء في الوجود حتى عن العلم والبصر والسمع. ولكن إلها مثل هذا يكون وهما لا حقيقة ويكون هو والعدم سواء, وذلك كالنقطة الهندسية الفرضية التي لا وجود لها, وإله خيالي مثل هذا لا يتصل بمخلوقاته ولا يراهم أو يسمعهم, هو والوثن سواء.
ولكن شكرا لله لأنه يوجد فلاسفة آخرون كثيرون رأوا أن تنزيه الله عن كل شيء يجرده من الكمال اللائق به, ولذلك وصلوا إلي أن وحدانية الله هي وحدانية إذا جامعة, وأن كانوا قد تحيروا في إدراكها. وهذه الحيرة طبيعية لأن الله فوق العقل المحدود كما أسلفنا القول. ولكننا إذا رمنا الحقيقة التي تستريح إليها نفوسنا وتطمئن بها قلوبنا, فلا يمكن أن نستمدها إلا من الله نفسه إذا كان قد شاء أن يعلن ذاته لنا, لأننا نحن لا نستطيع أن نصل إليه, أما هو فيستطيع أن يصل إلينا إذا شاء. وتبارك اسمه وتعالي لأنه شاء أن يعلن لنا ذاته وصفاته في الكتاب المقدس الذي أوحي به إلينا.
وحدانية الله
يخبرنا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد أن الله واحد, لا إله إلا هو. ومجرد ذكر اسم «الله» بال التعريف دليل علي وحدانيته. وإليك بعض الشواهد من الكتاب المقدس.
من العهد القديم: «فاعلم اليوم وردد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل ليس سواه» ( تثنية 39:4) . «اسمع يا اسرائيل الرب إلهنا رب واحد» (تثنية 4:6) . «أنا الرب صانع كل شيء ناشر السموات وحدي باسط الأرض. من معي» (أشعياء 24:44) . «أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري, ليس سواي» (إشعيا 21:45) . «أليس إله واحد خلقنا» (ملاخي 10:2) .
ومن العهد الجديد:«بالحق قلت لأنه الله واحد» (مرقس 32:12) . «المجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه» (يوحنا 44:5) . «لأن الله واحد» (رومية 30:3) . «نعلم أن ليس إله آخر إلا واحدا » (كورنثوس الأولى 8:4) «لأنه يوجد إله واحد» (تيموثاوس الأولى 5:2) . «أنت تؤمن أن الله واحد. حسنا تفعل» (يعقوب 19:2) .
نوع وحدانية الله
قبل أن أ بي ن بالأدلة العقلية والنقلية والمنطقية النوع الوحيد للوحدانية التي تليق بالله جل جلاله, أرجع إلي الكتاب المقدس الذي اقتبسنا منه بعض الآيات الدالة علي وحدانية الله حيث نجد فيه صيغة الجمع في اسم الله عز وجل; تلك الصيغة التي وردت في العهد القديم نحو ثلاثة آلاف مرة, فضلا عن العبارات الكثيرة الواضحة التي نجد فيها لا ما يفيد الجمع فقط بل الثالوث بالتحديد. وإليك بعض الشواهد الكتابية من العهد القديم :
أول آية في الكتاب المقدس هي «في البدء خلق الله (ايلوهيم بصيغة الجمع) السماوات والأرض» وفي عدد 26 من نفس الأصحاح يقول الله «نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا».
وفي عدد 22 من الأصحاح الثالث يقول الله «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا» وقوله تعالي كواحد يدل علي وجود أقانيم في اللاهوت. وفي العدد السابع من الأصحاح الحادي عشر يقول الله «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم» .
وفي مزمور 6:45 - 7 نقرأ «كرسيك يا الله إلي دهر الدهور (وذلك عن الابن)» (عبرانيين 8:1) من أجل ذلك مسحك الله إلهك (عن الآب) بدهن الابتهاج». وهنا نري الآب والابن.
وفي المزمور الثاني نجد الله الآب الماسح, والله الابن الممسوح, والروح القدس المسحة «لكم مسحة من القدوس» (1 يوحنا 20:2) , فنقرأ قول الآب عن الابن «أما أنا فقد مسحت ملكي» (مزمور 6:2) . وقول الابن عن الآب «قال لي أنت ابني» (ع7). وقول الروح القدس عن الابن «اعبدوا الرب بخوف.. قبلوا الابن لئلا يغضب» (ع 11, 12).
وفي مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي» وهنا نري الآب والابن. وفي إشعياء 8:6 نقرأ «من أرسل (بالمفرد) ومن يذهب من أجلنا (بالجمع)».
وفي إشعياء 12:48, 16 نقرأ «أنا هو الأول وأنا الآخر (الابن)... منذ وجوده (الآب) أنا هناك (الابن). والآن السيد الرب (الآب) أرسلني (الابن) وروحه (الروح القدس)». وهنا نري ثالوثا في اللاهوت.
ثم إليك هذه الشواهد من العهد الجديد:نقرأ في متى 16:3 و 17أن الرب يسوع له المجد عندما اعتمد من يوحنا في نهر الأردن انفتحت له السموات وأتي عليه الروح القدس «نازلا مثل حمامة. وصوت من السموات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وهنا أيضاً نري الأقانيم الثلاثة.
ونقرأ في متى 19:28 قول الرب يسوع لتلاميذه «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح والقدس» فنجد هنا أقانيم اللاهوت الثلاثة ونلاحظ أن الرب يسوع يقول "باسم" لا "بأسماء"; لأن الثلاثة هم واحد, الله الواحد.
ونقرأ في إنجيل يوحنا 16:14, 17, 26 «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلي الأبد روح الحق» وهنا نجد الأقانيم الثلاثة.
ونقرأ في كورنثوس الثانية 14:13«نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس» وهنا نري الأقانيم الثلاثة.
ونقرأ في غلاطية 6:4«بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلي قلوبكم صارخا يا أبا الآب», وهنا نري الأقانيم الثلاثة. وكذلك في أفسس 18:2حيث نقرأ «لأن به (المسيح) لنا كلينا قدوما في روح واحد إلي الآب» وكذلك نقرأ في رسالة يهوذا عدد 20 «مصلين في الروح القدس, واحفظوا أنفسكم في محبة الله (الآب) منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح».
ولأن الله بثالوث أقانيمه هو إله واحد, لذلك عندما يذكر الكتاب المقدس أقنومين أو أكثر لا يأتي بالفعل في صيغة المثني أو الجمع بل في صيغة المفرد. مثال ذلك قوله «والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي (بالمفرد) طريقنا» (تسالونيكي الأولى 11:3) . وأيضاً «وربنا نفسه يسوع المسيح, والله أبونا يعزي (بالمفرد) قلوبكم» (تسالونيكي الثانية 16:2) . ونلاحظ في هذه الآية تقدم ذكر الابن عن الآب لأن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت. ومن الخطأ أن نقول:الأقنوم الأول, والثاني, والثالث. نقرأ أيضاً «صارت ممالك العالم لربنا (الآب) ومسيحه (الابن) فسيملك (بالمفرد) إلي أبد الآبدين» (رؤيا 15:11) . وأيضاً «وعرش الله والخروف (المسيح الفادي) يكون فيها (عرش واحد) وعبيده يخدمونه (بالمفرد)» (رؤيا 3:22) .
الثالوث الأقدس
مما تقدم نري أن الله أعلن ذاته في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد, إلها واحدا , لا نظير له, ولا شريك; في ثلاثة أقانيم الثالوث الأقداس: الآب والابن والروح القدس. الآب هو الله, والابن هو الله, والروح القدس هو الله; لا ثلاثة آلهة بل إلها واحدا , ذاتا واحدة, جوهرا واحدا , لاهوتا واحدا . ولكن ثلاثة أقانيم متحدين بغير امتزاج, ومتميزين بغير انفصال. وكل أقنوم أزلي, أبدي, غير محدود, لا يتحيز بمكان أو زمان, كلي العلم, كلي القدرة, كلي السلطان, لأن الأقانيم ذات واحدة.
وكلمة «أقانيم» كلمة سريانية, وهي الوحيدة في كل لغات العالم التي تستطيع أن تعطي هذا المعني; أي تميزا مع عدم الانفصال أو الاستقلال. لأنه بما أن الله لا شبيه له بين كل الكائنات, وبما أن لغات البشر إنما تصف الكائنات المحدودة, فلا توجد فيها كلمة تعطينا وصفا للذات الإلهية بحسب الإعلان الإلهي. وبهذه المناسبة أقول إنه لا يجوز بالمرة تشبيه الله الواحد من جهة أقانيمه الثلاثة بتشبيهات من الكائنات كالشمس وغيرها, لأن كل الكائنات محدودة ومركبة, والله غير محدود ولا تركيب فيه وقد استعملت بعض اللغات كالانجليزية كلمة «شخص» للتعبير عن الأقنوم ولكن كل شخص كائن مركب والله لا تركيب فيه, والأشخاص المتميزون منفصلون, ومهما تماثلوا لا يمكن أن يتعادلوا تماما أو يتحدوا. أما كلمة أقانيم فتعني شخصيات متميزة, ولكن متحدة «بغير امتزاج» وهم ذات واحدة. وربما تكون أقرب كلمة عربية لمدلول الأقانيم هي كلمة «تعينات». وقد تبدو هذه الحقيقة معقدة فعلا وصعبة الاستيعاب, ولكن أليس هذا دليلا واضحا علي صحتها وعلي أن الله نفسه هو الذي أعلن ذاته بها؟ لأن الإنسان إذا أراد أن يزيف إيمانا أو يصنعه, فإنما يصنعه وفق الفطرة البشرية وفي مستوي العقل ليسهل قبوله واستيعابه. أما إذا كان الأمر خاصا بحقيقة الله غير المحدود فلابد أن يكون الإعلان كبيرا فوق الفهم الطبيعي, وأسمي من العقل ولكن لا يتعارض معه, ليكون المجال لقبول الإعلان الإلهي, للإيمان ولنور الله في القلب, كما يقول الكتاب المقدس أن «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه (أي في ما لروح الله) روحيا » (رسالة كورنثوس الأولى 14:2) .
فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثا , وإن كان يبدو صعبا , ولكنه معقول, بل هو المعقول, لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله; لأنها تقتضي تنزيهه عن الصفات والعلاقات, ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات, وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منزه عن التغير, وهو مكتف بذاته, مستغن عن مخلوقاته. إذا , لابد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأنه لا شريك له ولا تركيب فيه. ولابد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة; أي جامعة لتعينات الذات الواحدة, لأن من لا تعين له لا وجود له.
ولا تناقض بين الوحدانية والتعينات, لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته, لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل, مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلا إن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها, أو إن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه, ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب, والآب يحب الابن, قبل إنشاء العالم, والروح القدس هو «روح المحبة». وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.
ولابد من الإقرار بتعينات الله وإلا جعلناه جوهرآ غامضا لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه بينما يتفق الجميع علي أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته, حاشا. بل هم ذات واحدة, جوهر واحد, لاهوت واحد.
لا شك أن هذه الحقيقة فوق الإدراك البشري لأنه لا شبيه لهذه الوحدانية في الكائنات المنظورة, ولكن هذه الحقيقة لا تتعارض مع العقل ولا يرفضها المنطق, كيف نستصعب أن ندرك أن الله واحد ولكنه مثلث الأقانيم بينما نقبل بسهولة أن الإنسان واحد وهو مثلث الكيان, روح ونفس وجسد, روح تعقل ونفس تحس وتشعر وجسد يتحرك, أما الحيوان فليس له الروح العاقل فهو نفس وجسد فقط ونفسه في دمه ويتلاشى بموته (لاويين 11:17) , أما نفس الإنسان فهي خالدة. قال الرب يسوع لتلاميذه لكي يشجعهم علي الشهادة والاستشهاد من أجله «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها» (متى 28:10) . فالإنسان لا يستطيع أن يقتل النفس لحظة واحدة, وحتى الجسد الذي قتله لا يستطيع أن يمنعه من القيامة.
عقيدة الثالوث ليست مقتبسة من الوثنية
يقول البعض - إما عن عدم درس وفهم أو عن سوء نية بغرض التضليل - يقولون إن عقيدة الثالوث كانت موجودة عند الوثنيين في الهند, وكانوا يطلقون علي إلههم المثلث: براهما, وفشنو, وسيفا. ويقولون إن البوذيين كانوا يعتقدون أن بوذا ذو ثلاثة أقانيم: الأول والوسط والآخر. وإن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بآلهة ثلاثية: الأولى أمون, وكونس, وموت; والثانية:أوزوريس, وايزيس, وحورس; والثالثة:خنوم, وساتيت, وعنقت. وإن الأول من كل مجموعة هو الآب والثاني هو الابن والثالث هو الروح القدس كما هو الحال عند المسيحيين. ويقولون إن البابليين والفرس والصينيين كانوا يعتنقون مثل هذه العقيدة.
والواقع أن كل هذه الأقوال هراء في هراء وليس لها أي نصيب من الصحة. وهي تقال لتضليل غير الدارسين. ولكن بالدرس الدقيق لتلك الديانات يتضح أن براهما وفشنو وسيفا عند الهنود ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماما . أما بوذا فكان رجلا عاديا عاش في الهند حوالي سنة 500 قبل الميلاد وكانت له تعاليم معينة. أما آلهة المصريين فهي لا تنص علي أن كل مجموعة من آلهتهم إله واحد بل ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماما فكانوا يمثلون أمون برجل وكونس (أو خنسو) بالقمر, وموت بأنثي النسر, وأوزوريس برجل, وايزيس بأمرأة, وحورس بالصقر, وخنوم بالكبش, وساتيت بامرأة هي زوجته الأولى, وعنقت زوجته الثانية. ولا مجال هنا للكلام عن الأوثان الأخرى عند البابليين والفرس وغيرهم.
تميز الأقانيم
أقانيم اللاهوت الثلاثة متحدون في الجوهر واللاهوت, ولكل أقنوم كامل صفات اللاهوت, أي أزلي وأبدي وغير محدود وكلي القدرة والعلم والسلطان والقداسة, ولكن الأقانيم متميزون, أي أن لكل أقنوم بعض أعمال خاصة لا نستطيع أن ننسبها إلي الأقنومين الأخرين, فهناك تميز واتحاد, ولكن ليس هناك امتزاج; أي لا نستطيع أن نقول أن الابن هو الآب ولا الآب هو الابن, مع أن الابن والآب واحد.
وواضح جدا من الكتاب أن أقنوم الابن هو الذي جاء إلي العالم متجسدا م رس لا من الآب ليتمم عمل الفداء بموته الكفاري علي الصليب, فمكتوب «في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يوحنا 10:4) و«هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 16:3) «ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة» (غلاطية 4:4) . والابن يقول «خرجت من عند الآب, وقد أتيت إلي العالم, وأيضاً أترك العالم وأذهب إلي الآب» (يوحنا 28:16) . فالآب هو الذي أرسل الابن, وهو الذي بذله لأجلنا وهو الذي قدمه كفارة عن خطايانا. والابن هو الذي خرج مولودا من عذراء, وهو الذي مات علي الصليب حاملا قصاص خطايانا. ولا نستطيع أن ننسب إلي الابن ما اختص به الآب. ولا ننسب إلي الآب ما اختص به الابن فنقول مثلا إن الآب تجسد وأتي إلي العالم مولودا ومات علي الصليب. هذا خطأ محض لأن الذي تجسد هو أقنوم الابن فقط. ولا يجوز أن نقع في هذا الخلط في الكلام أو في الصلاة.
والروح القدس جاء إلي العالم في يوم الخمسين مرسلا من الآب والابن, جاء غير متجسد ليشهد للابن وليسكن في جميع المؤمنين - بعد أن ولدهم ولادة ثانية - في كل الأجيال وفي كل مكان في العالم, وهذا دليل علي لاهوته غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان.
ومن اختصاص الابن أيضاً أن يدين الأشرار, الأحياء والأموات لأنه هو الذي أكمل الفداء علي الصليب. ومما يبين هذا التميز بوضوح قول الوحي «الآب لا يدين أحدا بل قد أعطي كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب» (يوحنا 22:5) .
ومن سخف القول أن هذا التميز يعني انقساما أو تجزيئا في اللاهوت, وسبق أن أوضحنا الرد علي هذا الاعتراض لأن اللاهوت واحد غير محدود لا يد رك ولا ينقسم لأنه لا تركيب فيه. ولكن التميز هو في الأقانيم أو تعينات الله المتحدة في الجوهر بغير انقسام أو امتزاج.
ومن سخف القول أيضاً إنه إذا كان الله قد تجسد ونزل من السماء إلي هذا العالم فهل كانت السماء خالية في مدة التجسد؟ ومن الذي كان يدير الكون في تلك المدة؟ فواضح أن الذي تجسد هو أقنوم الابن الذي شهد عنه الآب من السماء أكثر من مرة قائلا «هذا هو ابني الحبيب» (متى 17:3, 5:17) وحتى بالنسبة لأقنوم الابن الذي تجسد فإنه بلاهوته لم يترك السماء, ولم يكن يخلو منه مكان كقوله لنيقوديموس «وليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا 13:3) . ومن الخطأ تطبيق ما للكائنات المحدودة, التي تقع تحت حس نا وبصرنا, علي الله غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان من الأزل وإلي الأبد, وبتطبيق أقيسة المحدود علي الله غير المحدود.
طبيعة الله
تكلمنا فيما سلف عن جوهر الله, لاهوته, وعن صفات الله, وأعماله, ونضيف هنا كلمة مختصرة عن طبيعة الله.
يخبرنا الكتاب المقدس في رسالة يوحنا الرسول الأولى عن طبيعة الله قائلا «الله نور وليس فيه ظلمة البتة» (5:1). وفي أصحاح 4 يقول مرتين «الله محبة» (ع 8, 16). ليست هاتان صفتين لله بل هما طبيعة الله: نور; يتضمن القداسة والحق والبر, ومحبة; وتتضمن الرحمة والرأفة والنعمة والحنان... إلخ. ولا يمكن أن الله عز وجل يعمل عملا إلا إذا كان متوافقا مع طبيعته في الناحيتين.
التزام حدود المكتوب
عندما نتأمل في حقيقة الله غير المحدود وغير المدرك, في جوهره, وأقانيمه, وطبيعته, وصفاته; يجب أن نحرص كل الحرص علي التزام حدود الإعلان الإلهي بكل دقة, وأن لا نرتئي فوق ما هو مكتوب أو نضيف أي شيء من أنفسنا, لئلا يضل العقل في متاهات الخيال, سيما وأن الشيطان لنا بالمرصاد ليوقعنا في حبائل الكفر أو المساس بجلال الذات القدسية بأي شكل من الأشكال.
ونحن نشكر الله لأننا مارسنا إيماننا عملي ,ا ونلنا اليقين بالغفران والتبرير والخلاص, واطمأنت قلوبنا إلي مصيرنا الأبدي السعيد في المجد علي أساس موت المسيح لأجلنا, واحتماله دينونة خطايانا علي الصليب. كما أن نفوسنا امتلأت هناء واكتفاء, عب ر عنه بعض المؤمنين بقولهم «لا يعوزني شيء», وأيضاً «من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض», وأيضاً «قلت للرب أنت سيدي خيري لا شيء غيرك» (مزامير 23, 73, 16) وأيضاً «يسوع المسيح الذي وان لم تروه تحبونه.. وتؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد» (بطرس الأولى8:1) .
ثم أن الإيمان القلبي الحي يثمر أعمالا صالحة في الحياة العملية «وأما ثمر الروح فهو محبة, فرح, سلام, طول أناة, لطف, صلاح, إيمان, وداعة, تعفف» (غلاطية 22:5, 23). وهو أيضاً يعطي للمؤمن النصرة علي الخطايا والشهوات, ومحبة المال والماديات ويجعله يسلك سلوكا سماويا وهو علي الأرض.
هذا وقد اختبرنا إلهنا الذي نؤمن به, بكيفية لا يسهل علينا التعبير عنها إلا بأن نقول للآخرين «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» (مزمور 8:34) فمع أن الله عظيم بلا حدود, ويدير الأكوان, إلا أنه يسمع صلوات المؤمنين به, وينقذهم من كل ضيقاتهم ويهتم بدقائق أمورهم, لدرجة أن قال المسيح «وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة» (متى 30:10) .
ونجد القول المشجع «لا تخف» في الكتاب المقدس بمعدل مرة لكل يوم من أيام السنة تقريبا ونجد أقوالا كثيرة أخري مثل «لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدي الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع» (فيلبي 6:4 - 7) . وأيضاً «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم» (بطرس الأولى 7:5) .
كما أن المؤمن عندما يدخل روحيا ليسجد في مقادس الله, في شركة عميقة معه, يختبر لذة وسعادة تفوق كل وصف ولذلك يقول أحدهم «تشتاق بل تتوق نفسي إلي ديار الرب, قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي» (مزمور 2:48) . ويقول داود النبي والملك «واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلي جمال الرب وأتفرس «فيه» في هيكله» (مزمور 4:27) . ويقول أيضاً «أمامك شبع سرور» (مزمور 11:61) . وأيضاً «كما من شحم ودسم تشبع نفسي وبشفتي الابتهاج يسبحك فمي» (مزمور 5:63) .
حذار أيها الصديق العزيز أن تكتفي بأن تكون مسيحيا بالاسم فقط, دون أن تختبر الحياة الجديدة في المسيح, وسكني الروح القدس فيك. إن الإيمان الذي لا يجدد الحياة, ويغير السلوك, ويفتح القلب للمسيح ليحل فيه ويملأه, هو إيمان فارغ وميت لا يغني شيئا , بل هو شبيه بمصباح لا زيت فيه ولا نور له, أو كغصن جاف لا حياة فيه ولا ثمر له.
أدعوك أيها الصديق الآن أن تأتي بقلبك إلي المسيح فيخلصك من كل خطاياك ومشاكلك, ويسعدك حاضرا وأبديا , فقد قال بفمه الكريم, «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (متى 28:11) .
وجود الله
الله هو واجب الوجود, أي لابد أن يكون موجودا , وإلا فمن خلق هذا العالم بنواميسه الدقيقة؟ ومن خلقني أنا؟ ولمن أنا مدين بوجودي وكياني؟ ان الدليل علي وجود الله موجود في كيان الإنسان الكافر الذي يرفع عقيرته منكرا وجوده, إذ في داخله الضمير الذي هو صوت الله, وصوت الأبدية أيضاً في قلبه كما هو مكتوب «صنع الله الكل حسنا في وقته, وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم» (جامعة 11:3) . وفي داخل الإنسان روح عاقل ليس موجود في الحيوانات, مصدره الله ذاته كما هو مكتوب «ولكن في الناس روحا ونسمة القدير تعقلهم» (أيوب 8:32) . وبسبب نسمة القدير في الإنسان لا يشبعه العالم المادي كله, ولا يمكن أن يستريح قلبه أو يشبع إلا بالله. والغريزة الدينية قد وضعها الله في الإنسان دون سائر المخلوقات, غريزة الرغبة في التعبد وغريزة الشعور بالضعف, وبالحاجة إلي الاعتماد علي قوة أعلي منه, خصوصا أمام الأهوال, وأمام المجهول, وأمام الموت حيث يحس الإنسان بحقارته, فإذا تعرض للغرق أو للحريق مثلا يصرخ لا شعوريا «يا رب» مستنجدا بمن هو أعلي وأقوي منه.
الفخاري يصنع الإناء الجميل الذي يتحدث عن دقة وبراعة صانعه, ولكن لا علاقة بين الإناء وبين صانعه. لكن الله صنعنا وهو دائم الاتصال بنا «إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء. وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون علي وجه الأرض. وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم. لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسوه فيجدوه مع أنه (هو) عن كل واحد منا ليس بعيدا . لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد» (أعمال 25:17-28) .
ومن محبته للبشر أعلن ذاته لهم في كتابه, وكلمهم «بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة» (عبرانيين 1:1) .
لا يوجد إنسان عاقل ينكر وجود الله ولكن «قال الجاهل في قلبه ليس إله» (مزمور1:14) , أي أنه يحاول أن يغالط نفسه ويسكت صوت عقله, ويوجد سبب لهذا, يذكره الكتاب المقدس بعد هذه العبارة «فسدوا ورجسوا بأفعالهم». فالعلة ليست في عقله لكن في قلبه الذي يحب الفساد والرجس وصوت الضمير في داخله يقول إن الله ديان لهذا الفساد. وكما تخفي النعامة رأسها في الرمال لكي تبعد عن عينيها منظر الصياد, هكذا الجاهل يري أن خير مهرب من الدينونة هو أن يقنع نفسه أنه «ليس إله».
ويشهد الكتاب المقدس أن الوثنيين لم يجهلوا وجود الله « إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وأبدلوا مجد الله الذي لا يفني بشبه صورة الإنسان الذي يفني والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلي النجاسة» (رومية19:1-24) . فهم عرفوا الله ولكنهم لم يمجدوه, والسبب في ذلك هو شهوات قلوبهم ونجاستهم. وقد قال أيوب عن مثل هؤلاء«فيقولون لله ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر » (أيوب 14:21) . فهم لا ينكرونه ولكن يبعدونه عن أنفسهم. أو يريدون أن يقطعوا قيوده ويطرحوا عنهم ربطه (مزمور3:2) .
فالعقل السليم يستطيع أن يعرف وجود الله ولكنه يعجز عن معرفة ذاته وحقيقة كيانه وجوهره لأن العقل محدود, والله عظيم وغير محدود كما جاء في سفر أيوب «أإلى عمق الله تتصل أم إلي نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلي من السموات فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية فماذا تدري؟» (أيوب7:11) . وأيضاً «عند الله جلال مرهب. القدير لا ندركه» (أيوب22:37, 23). من هنا لزم الإعلان الإلهي. لأنه لو لم يعلن الله ذاته لنا ما كنا لنعرفه.
وقد سئل أحد علماء الصوفية «ما الدليل على الله؟» فقال «الله». ولما سئل «فما العقل؟» قال «العقل عاجز. والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله». وقال "ابن عطا": «العقل آلة للعبودية (أي للتعبد) وليس للإشراف علي الربوبية» وهذا صحيح تماما , لأننا نعبد الله بالروح وبالعقل «عبادة عقلية» (رومية1:12) . ولكننا نعرفه بموجب الإعلان الإلهي, ونؤمن به بالقلب «إن آمنت بقلبك» (رومية9:10) . أما العقل فينحني خاشعا للإعلان الإلهي ولا يستطيع أن يعترض عليه لأنه ليس ضد العقل, بل هو أكبر منه ويسمو فوقه.
ولنأخذ مثلا بسيطا علي عجز العقل المحدود عن إدراك الله غير المحدود. هل يستطيع العقل أن يدرك "الأزل"؟ ليرجع العقل إلي ملايين الملايين من السنين, هل يكون قد وصل إلي شيء من أبعاد الأزل؟ كلا , لأن الأزل لا أبعاد له. وإذا ذهب الخيال إلي ملايين الملايين من السنين قبل التي وصل إليها أولا , هل يكون قد وصل إلي شيء؟ كلا... وهكذا "الأبد". وما أصدق ما قاله أليهو «هوذا الله عظيم ولا نعرفه وعدد سنيه لا يفحص» (أيوب 26:36) . لقد أعطانا الله العقل لنفهم به خليقة الله ولنعبد به الخالق بخشوع, ولكن إذا تطاولت عقولنا محاولة فحص الذات الإلهية فإننا نخسرها ونخسر أنفسنا.
إن الله هو خالقنا العظيم الذي أعطانا هذا الكيان الثلاثي العجيب المركب من الروح والنفس والجسد, هذا الكيان الذي لم نستطع للآن أن نحيط بكل أسراره ودقائقه, فمنذ القديم قد تفرغ بعض العلماء لدراسة الطب ووظائف أجهزة الجسم, وتفرغ آخرون لدراسة علم النفس, وآخرون لدراسة الروحيات وسر الحياة وما بعد الموت, وللآن كل هذه الدراسات مستمرة ومتجددة, وتكتشف الجديد دائما ولكنها تعترف كلها أنها لم تصل.
والله هو أيضاً خالق السموات والأرض وكل ما فيها, وواضع قوانينها وأسرارها وحافظ كيانها بكلمة قدرته, ومنذ القديم يوجد علماء تفرغوا لدراسة علم الفلك والكواكب والفضاء وآخرون لدراسة الجيولوجيا, وآخرون للطبيعة والكيمياء, وآخرون للهندسة والرياضيات, وآخرون للنبات والحيوان, وغير هذه من العلوم بشتى فروعها. ومنهم من كرس حياته كلها لدراسة علم الحشرات, وعلم الطفيليات, والمخلوقات الدقيقة التي لا تري إلا بالمجهر الإلكتروني, وجميعهم مع ما يصلون إليه من جديد يعترفون بأنهم لا يزالون علي هامش المعرفة وعلي شاطئ المعرفة وعلي شاطئ محيط العلم.
فكم هو عظيم ذلك الخالق غير المحدود الذي يملأ السموات والأرض ولا تسعه سماء السموات, الأزلي الذي لا بداءة له, والأبدي لا نهاية له, غير المحدود في قدرته وسلطانه, وفي علمه وحكمته, وفي كل شيء. أجل, هو أعظم من أن يحيط به عقل الإنسان المخلوق المحدود.
ولقد أوجد الله في البشر غريزة دينية فأخذوا يتلمسون الله لعلهم يجدونه, ولكنه لم يجدوه لأن الشيطان أعمي أذهانهم والخطية أظلمت قلوبهم كما سبق القول. وهكذا جميع البشر بما فيهم الفلاسفة صنعوا لأنفسهم آلهة بحسب تصور عقولهم-أوثانا أودعوا فيها صورة ما يظنون وما يتمنون أن يكون إلههم (انظروا رومية الأصحاح الأول), ويبين الوحي الإلهي جهلهم بقوله عن الذي يصنع الوثن «نجر خشبا مد الخيط.. يصنعه بالأزاميل. وبالدوارة يرسمه. فيصنعه كشبه رجل كجمال إنسان ليسكن في البيت.. غرس سنوبرا والمطر ينميه.. ويأخذ منه ويتدفأ. يشعل أيضاً ويخبز خبزا . ثم يصنع إلها فيسجد. قد صنعه صنما وخر له. نصفه أحرقه بالنار. علي نصفه يأكل لحما . يشوي مشويا ويشبع. يتدفأ أيضاً ويقول بخ قد تدفأت... وبقيته قد صنعه إلها صنما لنفسه. يخر له ويسجد ويصلي إليه ويقول نجني لأنك أنت إلهي» (إشعياء 13:44-17) .
أما الفلاسفة الذين لم يصنعوا لأنفسهم أوثانا ليسجدوا لها إشباعا لغريزتهم الدينية, فتساموا عن الأصنام المادية ورسموا في خيالهم كائنا روحيا عظيما جدا يجلس علي عرش كبير ونسبوا إليه الوحدانية المطلقة. وهذه الوحدانية تتطلب أنه لا يتميز بمميزات, وليس له ماهية أو كيان أو صفة من الصفات. ورغبة في تعظيمه بحسب فكرهم والمحافظة علي وحدانيته نز هوه عن كل شيء في الوجود حتى عن العلم والبصر والسمع. ولكن إلها مثل هذا يكون وهما لا حقيقة ويكون هو والعدم سواء, وذلك كالنقطة الهندسية الفرضية التي لا وجود لها, وإله خيالي مثل هذا لا يتصل بمخلوقاته ولا يراهم أو يسمعهم, هو والوثن سواء.
ولكن شكرا لله لأنه يوجد فلاسفة آخرون كثيرون رأوا أن تنزيه الله عن كل شيء يجرده من الكمال اللائق به, ولذلك وصلوا إلي أن وحدانية الله هي وحدانية إذا جامعة, وأن كانوا قد تحيروا في إدراكها. وهذه الحيرة طبيعية لأن الله فوق العقل المحدود كما أسلفنا القول. ولكننا إذا رمنا الحقيقة التي تستريح إليها نفوسنا وتطمئن بها قلوبنا, فلا يمكن أن نستمدها إلا من الله نفسه إذا كان قد شاء أن يعلن ذاته لنا, لأننا نحن لا نستطيع أن نصل إليه, أما هو فيستطيع أن يصل إلينا إذا شاء. وتبارك اسمه وتعالي لأنه شاء أن يعلن لنا ذاته وصفاته في الكتاب المقدس الذي أوحي به إلينا.
وحدانية الله
يخبرنا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد أن الله واحد, لا إله إلا هو. ومجرد ذكر اسم «الله» بال التعريف دليل علي وحدانيته. وإليك بعض الشواهد من الكتاب المقدس.
من العهد القديم: «فاعلم اليوم وردد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل ليس سواه» ( تثنية 39:4) . «اسمع يا اسرائيل الرب إلهنا رب واحد» (تثنية 4:6) . «أنا الرب صانع كل شيء ناشر السموات وحدي باسط الأرض. من معي» (أشعياء 24:44) . «أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري, ليس سواي» (إشعيا 21:45) . «أليس إله واحد خلقنا» (ملاخي 10:2) .
ومن العهد الجديد:«بالحق قلت لأنه الله واحد» (مرقس 32:12) . «المجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه» (يوحنا 44:5) . «لأن الله واحد» (رومية 30:3) . «نعلم أن ليس إله آخر إلا واحدا » (كورنثوس الأولى 8:4) «لأنه يوجد إله واحد» (تيموثاوس الأولى 5:2) . «أنت تؤمن أن الله واحد. حسنا تفعل» (يعقوب 19:2) .
نوع وحدانية الله
قبل أن أ بي ن بالأدلة العقلية والنقلية والمنطقية النوع الوحيد للوحدانية التي تليق بالله جل جلاله, أرجع إلي الكتاب المقدس الذي اقتبسنا منه بعض الآيات الدالة علي وحدانية الله حيث نجد فيه صيغة الجمع في اسم الله عز وجل; تلك الصيغة التي وردت في العهد القديم نحو ثلاثة آلاف مرة, فضلا عن العبارات الكثيرة الواضحة التي نجد فيها لا ما يفيد الجمع فقط بل الثالوث بالتحديد. وإليك بعض الشواهد الكتابية من العهد القديم :
أول آية في الكتاب المقدس هي «في البدء خلق الله (ايلوهيم بصيغة الجمع) السماوات والأرض» وفي عدد 26 من نفس الأصحاح يقول الله «نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا».
وفي عدد 22 من الأصحاح الثالث يقول الله «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا» وقوله تعالي كواحد يدل علي وجود أقانيم في اللاهوت. وفي العدد السابع من الأصحاح الحادي عشر يقول الله «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم» .
وفي مزمور 6:45 - 7 نقرأ «كرسيك يا الله إلي دهر الدهور (وذلك عن الابن)» (عبرانيين 8:1) من أجل ذلك مسحك الله إلهك (عن الآب) بدهن الابتهاج». وهنا نري الآب والابن.
وفي المزمور الثاني نجد الله الآب الماسح, والله الابن الممسوح, والروح القدس المسحة «لكم مسحة من القدوس» (1 يوحنا 20:2) , فنقرأ قول الآب عن الابن «أما أنا فقد مسحت ملكي» (مزمور 6:2) . وقول الابن عن الآب «قال لي أنت ابني» (ع7). وقول الروح القدس عن الابن «اعبدوا الرب بخوف.. قبلوا الابن لئلا يغضب» (ع 11, 12).
وفي مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي» وهنا نري الآب والابن. وفي إشعياء 8:6 نقرأ «من أرسل (بالمفرد) ومن يذهب من أجلنا (بالجمع)».
وفي إشعياء 12:48, 16 نقرأ «أنا هو الأول وأنا الآخر (الابن)... منذ وجوده (الآب) أنا هناك (الابن). والآن السيد الرب (الآب) أرسلني (الابن) وروحه (الروح القدس)». وهنا نري ثالوثا في اللاهوت.
ثم إليك هذه الشواهد من العهد الجديد:نقرأ في متى 16:3 و 17أن الرب يسوع له المجد عندما اعتمد من يوحنا في نهر الأردن انفتحت له السموات وأتي عليه الروح القدس «نازلا مثل حمامة. وصوت من السموات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وهنا أيضاً نري الأقانيم الثلاثة.
ونقرأ في متى 19:28 قول الرب يسوع لتلاميذه «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح والقدس» فنجد هنا أقانيم اللاهوت الثلاثة ونلاحظ أن الرب يسوع يقول "باسم" لا "بأسماء"; لأن الثلاثة هم واحد, الله الواحد.
ونقرأ في إنجيل يوحنا 16:14, 17, 26 «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلي الأبد روح الحق» وهنا نجد الأقانيم الثلاثة.
ونقرأ في كورنثوس الثانية 14:13«نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس» وهنا نري الأقانيم الثلاثة.
ونقرأ في غلاطية 6:4«بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلي قلوبكم صارخا يا أبا الآب», وهنا نري الأقانيم الثلاثة. وكذلك في أفسس 18:2حيث نقرأ «لأن به (المسيح) لنا كلينا قدوما في روح واحد إلي الآب» وكذلك نقرأ في رسالة يهوذا عدد 20 «مصلين في الروح القدس, واحفظوا أنفسكم في محبة الله (الآب) منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح».
ولأن الله بثالوث أقانيمه هو إله واحد, لذلك عندما يذكر الكتاب المقدس أقنومين أو أكثر لا يأتي بالفعل في صيغة المثني أو الجمع بل في صيغة المفرد. مثال ذلك قوله «والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي (بالمفرد) طريقنا» (تسالونيكي الأولى 11:3) . وأيضاً «وربنا نفسه يسوع المسيح, والله أبونا يعزي (بالمفرد) قلوبكم» (تسالونيكي الثانية 16:2) . ونلاحظ في هذه الآية تقدم ذكر الابن عن الآب لأن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت. ومن الخطأ أن نقول:الأقنوم الأول, والثاني, والثالث. نقرأ أيضاً «صارت ممالك العالم لربنا (الآب) ومسيحه (الابن) فسيملك (بالمفرد) إلي أبد الآبدين» (رؤيا 15:11) . وأيضاً «وعرش الله والخروف (المسيح الفادي) يكون فيها (عرش واحد) وعبيده يخدمونه (بالمفرد)» (رؤيا 3:22) .
الثالوث الأقدس
مما تقدم نري أن الله أعلن ذاته في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد, إلها واحدا , لا نظير له, ولا شريك; في ثلاثة أقانيم الثالوث الأقداس: الآب والابن والروح القدس. الآب هو الله, والابن هو الله, والروح القدس هو الله; لا ثلاثة آلهة بل إلها واحدا , ذاتا واحدة, جوهرا واحدا , لاهوتا واحدا . ولكن ثلاثة أقانيم متحدين بغير امتزاج, ومتميزين بغير انفصال. وكل أقنوم أزلي, أبدي, غير محدود, لا يتحيز بمكان أو زمان, كلي العلم, كلي القدرة, كلي السلطان, لأن الأقانيم ذات واحدة.
وكلمة «أقانيم» كلمة سريانية, وهي الوحيدة في كل لغات العالم التي تستطيع أن تعطي هذا المعني; أي تميزا مع عدم الانفصال أو الاستقلال. لأنه بما أن الله لا شبيه له بين كل الكائنات, وبما أن لغات البشر إنما تصف الكائنات المحدودة, فلا توجد فيها كلمة تعطينا وصفا للذات الإلهية بحسب الإعلان الإلهي. وبهذه المناسبة أقول إنه لا يجوز بالمرة تشبيه الله الواحد من جهة أقانيمه الثلاثة بتشبيهات من الكائنات كالشمس وغيرها, لأن كل الكائنات محدودة ومركبة, والله غير محدود ولا تركيب فيه وقد استعملت بعض اللغات كالانجليزية كلمة «شخص» للتعبير عن الأقنوم ولكن كل شخص كائن مركب والله لا تركيب فيه, والأشخاص المتميزون منفصلون, ومهما تماثلوا لا يمكن أن يتعادلوا تماما أو يتحدوا. أما كلمة أقانيم فتعني شخصيات متميزة, ولكن متحدة «بغير امتزاج» وهم ذات واحدة. وربما تكون أقرب كلمة عربية لمدلول الأقانيم هي كلمة «تعينات». وقد تبدو هذه الحقيقة معقدة فعلا وصعبة الاستيعاب, ولكن أليس هذا دليلا واضحا علي صحتها وعلي أن الله نفسه هو الذي أعلن ذاته بها؟ لأن الإنسان إذا أراد أن يزيف إيمانا أو يصنعه, فإنما يصنعه وفق الفطرة البشرية وفي مستوي العقل ليسهل قبوله واستيعابه. أما إذا كان الأمر خاصا بحقيقة الله غير المحدود فلابد أن يكون الإعلان كبيرا فوق الفهم الطبيعي, وأسمي من العقل ولكن لا يتعارض معه, ليكون المجال لقبول الإعلان الإلهي, للإيمان ولنور الله في القلب, كما يقول الكتاب المقدس أن «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه (أي في ما لروح الله) روحيا » (رسالة كورنثوس الأولى 14:2) .
فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثا , وإن كان يبدو صعبا , ولكنه معقول, بل هو المعقول, لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله; لأنها تقتضي تنزيهه عن الصفات والعلاقات, ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات, وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منزه عن التغير, وهو مكتف بذاته, مستغن عن مخلوقاته. إذا , لابد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأنه لا شريك له ولا تركيب فيه. ولابد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة; أي جامعة لتعينات الذات الواحدة, لأن من لا تعين له لا وجود له.
ولا تناقض بين الوحدانية والتعينات, لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته, لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل, مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلا إن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها, أو إن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه, ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب, والآب يحب الابن, قبل إنشاء العالم, والروح القدس هو «روح المحبة». وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.
ولابد من الإقرار بتعينات الله وإلا جعلناه جوهرآ غامضا لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه بينما يتفق الجميع علي أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته, حاشا. بل هم ذات واحدة, جوهر واحد, لاهوت واحد.
لا شك أن هذه الحقيقة فوق الإدراك البشري لأنه لا شبيه لهذه الوحدانية في الكائنات المنظورة, ولكن هذه الحقيقة لا تتعارض مع العقل ولا يرفضها المنطق, كيف نستصعب أن ندرك أن الله واحد ولكنه مثلث الأقانيم بينما نقبل بسهولة أن الإنسان واحد وهو مثلث الكيان, روح ونفس وجسد, روح تعقل ونفس تحس وتشعر وجسد يتحرك, أما الحيوان فليس له الروح العاقل فهو نفس وجسد فقط ونفسه في دمه ويتلاشى بموته (لاويين 11:17) , أما نفس الإنسان فهي خالدة. قال الرب يسوع لتلاميذه لكي يشجعهم علي الشهادة والاستشهاد من أجله «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها» (متى 28:10) . فالإنسان لا يستطيع أن يقتل النفس لحظة واحدة, وحتى الجسد الذي قتله لا يستطيع أن يمنعه من القيامة.
عقيدة الثالوث ليست مقتبسة من الوثنية
يقول البعض - إما عن عدم درس وفهم أو عن سوء نية بغرض التضليل - يقولون إن عقيدة الثالوث كانت موجودة عند الوثنيين في الهند, وكانوا يطلقون علي إلههم المثلث: براهما, وفشنو, وسيفا. ويقولون إن البوذيين كانوا يعتقدون أن بوذا ذو ثلاثة أقانيم: الأول والوسط والآخر. وإن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بآلهة ثلاثية: الأولى أمون, وكونس, وموت; والثانية:أوزوريس, وايزيس, وحورس; والثالثة:خنوم, وساتيت, وعنقت. وإن الأول من كل مجموعة هو الآب والثاني هو الابن والثالث هو الروح القدس كما هو الحال عند المسيحيين. ويقولون إن البابليين والفرس والصينيين كانوا يعتنقون مثل هذه العقيدة.
والواقع أن كل هذه الأقوال هراء في هراء وليس لها أي نصيب من الصحة. وهي تقال لتضليل غير الدارسين. ولكن بالدرس الدقيق لتلك الديانات يتضح أن براهما وفشنو وسيفا عند الهنود ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماما . أما بوذا فكان رجلا عاديا عاش في الهند حوالي سنة 500 قبل الميلاد وكانت له تعاليم معينة. أما آلهة المصريين فهي لا تنص علي أن كل مجموعة من آلهتهم إله واحد بل ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماما فكانوا يمثلون أمون برجل وكونس (أو خنسو) بالقمر, وموت بأنثي النسر, وأوزوريس برجل, وايزيس بأمرأة, وحورس بالصقر, وخنوم بالكبش, وساتيت بامرأة هي زوجته الأولى, وعنقت زوجته الثانية. ولا مجال هنا للكلام عن الأوثان الأخرى عند البابليين والفرس وغيرهم.
تميز الأقانيم
أقانيم اللاهوت الثلاثة متحدون في الجوهر واللاهوت, ولكل أقنوم كامل صفات اللاهوت, أي أزلي وأبدي وغير محدود وكلي القدرة والعلم والسلطان والقداسة, ولكن الأقانيم متميزون, أي أن لكل أقنوم بعض أعمال خاصة لا نستطيع أن ننسبها إلي الأقنومين الأخرين, فهناك تميز واتحاد, ولكن ليس هناك امتزاج; أي لا نستطيع أن نقول أن الابن هو الآب ولا الآب هو الابن, مع أن الابن والآب واحد.
وواضح جدا من الكتاب أن أقنوم الابن هو الذي جاء إلي العالم متجسدا م رس لا من الآب ليتمم عمل الفداء بموته الكفاري علي الصليب, فمكتوب «في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يوحنا 10:4) و«هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 16:3) «ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة» (غلاطية 4:4) . والابن يقول «خرجت من عند الآب, وقد أتيت إلي العالم, وأيضاً أترك العالم وأذهب إلي الآب» (يوحنا 28:16) . فالآب هو الذي أرسل الابن, وهو الذي بذله لأجلنا وهو الذي قدمه كفارة عن خطايانا. والابن هو الذي خرج مولودا من عذراء, وهو الذي مات علي الصليب حاملا قصاص خطايانا. ولا نستطيع أن ننسب إلي الابن ما اختص به الآب. ولا ننسب إلي الآب ما اختص به الابن فنقول مثلا إن الآب تجسد وأتي إلي العالم مولودا ومات علي الصليب. هذا خطأ محض لأن الذي تجسد هو أقنوم الابن فقط. ولا يجوز أن نقع في هذا الخلط في الكلام أو في الصلاة.
والروح القدس جاء إلي العالم في يوم الخمسين مرسلا من الآب والابن, جاء غير متجسد ليشهد للابن وليسكن في جميع المؤمنين - بعد أن ولدهم ولادة ثانية - في كل الأجيال وفي كل مكان في العالم, وهذا دليل علي لاهوته غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان.
ومن اختصاص الابن أيضاً أن يدين الأشرار, الأحياء والأموات لأنه هو الذي أكمل الفداء علي الصليب. ومما يبين هذا التميز بوضوح قول الوحي «الآب لا يدين أحدا بل قد أعطي كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب» (يوحنا 22:5) .
ومن سخف القول أن هذا التميز يعني انقساما أو تجزيئا في اللاهوت, وسبق أن أوضحنا الرد علي هذا الاعتراض لأن اللاهوت واحد غير محدود لا يد رك ولا ينقسم لأنه لا تركيب فيه. ولكن التميز هو في الأقانيم أو تعينات الله المتحدة في الجوهر بغير انقسام أو امتزاج.
ومن سخف القول أيضاً إنه إذا كان الله قد تجسد ونزل من السماء إلي هذا العالم فهل كانت السماء خالية في مدة التجسد؟ ومن الذي كان يدير الكون في تلك المدة؟ فواضح أن الذي تجسد هو أقنوم الابن الذي شهد عنه الآب من السماء أكثر من مرة قائلا «هذا هو ابني الحبيب» (متى 17:3, 5:17) وحتى بالنسبة لأقنوم الابن الذي تجسد فإنه بلاهوته لم يترك السماء, ولم يكن يخلو منه مكان كقوله لنيقوديموس «وليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا 13:3) . ومن الخطأ تطبيق ما للكائنات المحدودة, التي تقع تحت حس نا وبصرنا, علي الله غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان من الأزل وإلي الأبد, وبتطبيق أقيسة المحدود علي الله غير المحدود.
طبيعة الله
تكلمنا فيما سلف عن جوهر الله, لاهوته, وعن صفات الله, وأعماله, ونضيف هنا كلمة مختصرة عن طبيعة الله.
يخبرنا الكتاب المقدس في رسالة يوحنا الرسول الأولى عن طبيعة الله قائلا «الله نور وليس فيه ظلمة البتة» (5:1). وفي أصحاح 4 يقول مرتين «الله محبة» (ع 8, 16). ليست هاتان صفتين لله بل هما طبيعة الله: نور; يتضمن القداسة والحق والبر, ومحبة; وتتضمن الرحمة والرأفة والنعمة والحنان... إلخ. ولا يمكن أن الله عز وجل يعمل عملا إلا إذا كان متوافقا مع طبيعته في الناحيتين.
التزام حدود المكتوب
عندما نتأمل في حقيقة الله غير المحدود وغير المدرك, في جوهره, وأقانيمه, وطبيعته, وصفاته; يجب أن نحرص كل الحرص علي التزام حدود الإعلان الإلهي بكل دقة, وأن لا نرتئي فوق ما هو مكتوب أو نضيف أي شيء من أنفسنا, لئلا يضل العقل في متاهات الخيال, سيما وأن الشيطان لنا بالمرصاد ليوقعنا في حبائل الكفر أو المساس بجلال الذات القدسية بأي شكل من الأشكال.
ونحن نشكر الله لأننا مارسنا إيماننا عملي ,ا ونلنا اليقين بالغفران والتبرير والخلاص, واطمأنت قلوبنا إلي مصيرنا الأبدي السعيد في المجد علي أساس موت المسيح لأجلنا, واحتماله دينونة خطايانا علي الصليب. كما أن نفوسنا امتلأت هناء واكتفاء, عب ر عنه بعض المؤمنين بقولهم «لا يعوزني شيء», وأيضاً «من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض», وأيضاً «قلت للرب أنت سيدي خيري لا شيء غيرك» (مزامير 23, 73, 16) وأيضاً «يسوع المسيح الذي وان لم تروه تحبونه.. وتؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد» (بطرس الأولى8:1) .
ثم أن الإيمان القلبي الحي يثمر أعمالا صالحة في الحياة العملية «وأما ثمر الروح فهو محبة, فرح, سلام, طول أناة, لطف, صلاح, إيمان, وداعة, تعفف» (غلاطية 22:5, 23). وهو أيضاً يعطي للمؤمن النصرة علي الخطايا والشهوات, ومحبة المال والماديات ويجعله يسلك سلوكا سماويا وهو علي الأرض.
هذا وقد اختبرنا إلهنا الذي نؤمن به, بكيفية لا يسهل علينا التعبير عنها إلا بأن نقول للآخرين «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» (مزمور 8:34) فمع أن الله عظيم بلا حدود, ويدير الأكوان, إلا أنه يسمع صلوات المؤمنين به, وينقذهم من كل ضيقاتهم ويهتم بدقائق أمورهم, لدرجة أن قال المسيح «وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة» (متى 30:10) .
ونجد القول المشجع «لا تخف» في الكتاب المقدس بمعدل مرة لكل يوم من أيام السنة تقريبا ونجد أقوالا كثيرة أخري مثل «لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدي الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع» (فيلبي 6:4 - 7) . وأيضاً «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم» (بطرس الأولى 7:5) .
كما أن المؤمن عندما يدخل روحيا ليسجد في مقادس الله, في شركة عميقة معه, يختبر لذة وسعادة تفوق كل وصف ولذلك يقول أحدهم «تشتاق بل تتوق نفسي إلي ديار الرب, قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي» (مزمور 2:48) . ويقول داود النبي والملك «واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلي جمال الرب وأتفرس «فيه» في هيكله» (مزمور 4:27) . ويقول أيضاً «أمامك شبع سرور» (مزمور 11:61) . وأيضاً «كما من شحم ودسم تشبع نفسي وبشفتي الابتهاج يسبحك فمي» (مزمور 5:63) .
حذار أيها الصديق العزيز أن تكتفي بأن تكون مسيحيا بالاسم فقط, دون أن تختبر الحياة الجديدة في المسيح, وسكني الروح القدس فيك. إن الإيمان الذي لا يجدد الحياة, ويغير السلوك, ويفتح القلب للمسيح ليحل فيه ويملأه, هو إيمان فارغ وميت لا يغني شيئا , بل هو شبيه بمصباح لا زيت فيه ولا نور له, أو كغصن جاف لا حياة فيه ولا ثمر له.
أدعوك أيها الصديق الآن أن تأتي بقلبك إلي المسيح فيخلصك من كل خطاياك ومشاكلك, ويسعدك حاضرا وأبديا , فقد قال بفمه الكريم, «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (متى 28:11) .
ما معنى أن المسيح هو ابن الله
في الفصل السابق أن الله الواحد ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس, فالابن أقنوم إلهي أزلي. وموضوعنا الآن هو اسم «الابن» وما ي قص د به, وهذا نجده معلنا بوضوح في عدة فصول في الكتاب المقدس. وقبل كل شيء يجب أن نستبعد من أذهاننا بالتمام فكرة الولادة; فالابن ليس مولودا من الله في الأزل; لا ولادة روحية ولا طبيعية كما هو موجود في بعض الديانات الوثنية كديانة قدماء المصريين وغيرهم حيث يوجد إلهات زوجات للآلهة وبناء عليه يوجد أبناء للآلهة, وهذا ما يعترض عليه البعض, أن يكون لله ابن من "صاحبة" وهو ما ترفضه المسيحية تماما . فالمسيحية بعيدة كل البعد, وسامية كل السمو عن هذا التفكير, إذ هي روحية من كل الوجوه في عبادتها «نعبد الله بالروح.. ولا نتكل علي الجسد» (فيلبي 3:3) , وسلوكها بالروح «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد» (غلاطية 5 :61), وبركاتها «روحية في السماويات» (أفسس 1 :3), والتمتعات الموعود بها المؤمنون تمتعات روحية سماوية لا أرضية. وكذلك بنوة الابن الأزلية بنوة روحية فريدة تدل علي المحبة, والمقام, والمعادلة للآب, وإعلان مجده وصفاته.
فأقنوم الابن هو المعلن لله الذي لا يمكن أن يعلنه سواه «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الاب «أي موضوع محبته», «ابن محبته» (كولوسي 13:1) «هو خب ر (أي أعلن)» (يوحنا 18:1) . فالله الذي لا يمكن رؤيته يصبح من الميسور لنا رؤيته ومعرفته في أقنوم الابن «الله الذي ظهر في الجسد» (تيموثاوس الأولى 16:3) . «لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح» (كورنثوس الثانية 6:4) «بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين 3:1) . وهو «صورة الله» (كولوسي 1 :15) لذلك قال لفيلبس «الذي رآني فقد رأي الآب.. صدقوني أني في الآب والأب في» (يوحنا 9:14, 11).
ومدلول اسم «الابن» في إعلانه للآب كمدلول «الكلمة» من حيث إعلان الله, فنقرأ «في البدء (الأزل) كان الكلمة... وكان الكلمة الله» ثم نقرأ «والكلمة صار جسدا وحل بيننا (لكي يعلن الله)» (يوحنا 1: 1- 14 ) .
وبنوة المسيح شهد بها الكتاب في العهد القديم أيضاً . وأول إعلان عن ذلك نجده في المزمور الثاني مرتين حيث نقرأ «قال لي أنت ابني» وأيضاً «قبلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق» (عدد 7, 12) ثم في (أمثال 4:30) «ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت». وكان اليهود يعرفون أن البنوة تعني المعادلة لله, لذلك أرادوا أن يقتلوا المسيح لأنه قال «إن الله أبوه معادلا نفسه بالله» (يوحنا 18:5) . ومرة أخري عندما قال «أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي» تناولوا حجارة ليرجموه قائلين «وأنت إنسان تجعل نفسك إلها (الله) لأنه قال أبي» (يوحنا 31:10-33) . وقال له رئيس الكهنة عند محاكمته «أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع أنا هو» (مرقس 61:14, 62).
وقد ورد اسم «الابن» في الكتاب المقدس أربعين مرة بخلاف ما ذكر مضافا إلي الضمائر كقول الله «ابني» وقول الوحي «أرسل ابنه», وذكرت كلمة الابن الوحيد خمس مرات في إنجيل يوحنا وفي رسالته الأولى. ولسمو مقام الابن ومعادلته للآب بقول الرسول يوحنا «كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً . ومن يعترف بالابن فله الآب أيضاً » (يوحنا الأولى 23:2) . ويقول الله في المزمور الثاني «أنت ابني» أزليا بلا بدء ولا كيفية لهذه البنوة, لا ولادة ولا خلق. ثم يقول «أنا اليوم ولدتك» وذلك بالتجسد مولودا من العذراء مريم. وقوله «أنت ابني» قبل قوله «أنا اليوم ولدتك» دليل علي وجوده أزليا قبل التجسد. ونجد هذا أيضاً في القول «لم ا جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا » (غلاطية 4 :4), وأيضاً «أرسل الله ابنه في شبه جسد الخطية» أي في جسد مثلنا ولكن خال من الخطية (رومية 3:8) .
فللمسيح إذا بنوتان; البنوة الأزلية التي تكلمنا عنها, وبنوته في الزمان بولادته من العذراء مريم حيث نقرأ قول الملاك جبرائيل لمريم «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعي ابن الله» (لوقا 35:1) . وهذه البنوة تختلف عن بنوة كل البشر والملائكة لله كمخلوقاته, وتختلف أيضاً عن بنوة المؤمنين الروحية له كمن أخذوا طبيعته الأدبية « كل من يصنع البر مولود منه» (يوحنا الأولى 29:2) . ولذلك ي دعي المسيح «ابن الله الوحيد», وأيضاً «ابن واحدا حبيبا إليه» (مرقس 6:12) . أما عن المؤمنين في قال «أبناء كثيرين» (عبرانيين 10:2) ولا يقول المسيح لتلاميذه: أصعد إلي أبينا, بل «إلي أبي وأبيكم» (يوحنا 71:02) لأن بنوته متميزة, والمؤمنون يدعون «أولاد الله» (يو 12 :1,1يو 1 :3,2) وأيضاً «أبناء الله» (غلا 6:3) , أما المسيح فيقال له «ابن الله» فقط, فلا يقال الوالد والولد, بل «الآب والابن». والمسيح وحده هو الذي يدعي «ابن الآب» (رسالة يوحنا الثانية عدد3) لأن بنوته للآب أزلية «قبل كون العالم» (يوحنا 5:17) .
ونلخص فيما يلي بعض معاني بنوة الابن للآب; فهي تدل علي:
1- المحبة الأزلية الفريدة (يوحنا 20:5, 24:17, كولوسي 13:1, رسالة يوحنا الثانية 3 )
2- الوحدة في الصورة الإلهية (كورنثوس الثانية 4:4, فيلبي 6:2, كولوسي 15:1, عبرانيين 3:1, يوحنا 9:14).
3- المعادلة لله (يوحنا 7:5, 33:10).
4- الوحدانية في جوهر اللاهوت «أنا والآب واحد» ( يوحنا 30:01) .
5- المقام الإلهي (يوحنا 23:5, رسالة يوحنا الأولى 23:2).
6- أنها وحدانية فريدة لا مثيل لها (يوحنا 18:1) .
7- أنها وحدة سرية فائقة «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب» ( متى 27:11) .
فأقنوم الابن هو المعلن لله الذي لا يمكن أن يعلنه سواه «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الاب «أي موضوع محبته», «ابن محبته» (كولوسي 13:1) «هو خب ر (أي أعلن)» (يوحنا 18:1) . فالله الذي لا يمكن رؤيته يصبح من الميسور لنا رؤيته ومعرفته في أقنوم الابن «الله الذي ظهر في الجسد» (تيموثاوس الأولى 16:3) . «لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح» (كورنثوس الثانية 6:4) «بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين 3:1) . وهو «صورة الله» (كولوسي 1 :15) لذلك قال لفيلبس «الذي رآني فقد رأي الآب.. صدقوني أني في الآب والأب في» (يوحنا 9:14, 11).
ومدلول اسم «الابن» في إعلانه للآب كمدلول «الكلمة» من حيث إعلان الله, فنقرأ «في البدء (الأزل) كان الكلمة... وكان الكلمة الله» ثم نقرأ «والكلمة صار جسدا وحل بيننا (لكي يعلن الله)» (يوحنا 1: 1- 14 ) .
وبنوة المسيح شهد بها الكتاب في العهد القديم أيضاً . وأول إعلان عن ذلك نجده في المزمور الثاني مرتين حيث نقرأ «قال لي أنت ابني» وأيضاً «قبلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق» (عدد 7, 12) ثم في (أمثال 4:30) «ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت». وكان اليهود يعرفون أن البنوة تعني المعادلة لله, لذلك أرادوا أن يقتلوا المسيح لأنه قال «إن الله أبوه معادلا نفسه بالله» (يوحنا 18:5) . ومرة أخري عندما قال «أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي» تناولوا حجارة ليرجموه قائلين «وأنت إنسان تجعل نفسك إلها (الله) لأنه قال أبي» (يوحنا 31:10-33) . وقال له رئيس الكهنة عند محاكمته «أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع أنا هو» (مرقس 61:14, 62).
وقد ورد اسم «الابن» في الكتاب المقدس أربعين مرة بخلاف ما ذكر مضافا إلي الضمائر كقول الله «ابني» وقول الوحي «أرسل ابنه», وذكرت كلمة الابن الوحيد خمس مرات في إنجيل يوحنا وفي رسالته الأولى. ولسمو مقام الابن ومعادلته للآب بقول الرسول يوحنا «كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً . ومن يعترف بالابن فله الآب أيضاً » (يوحنا الأولى 23:2) . ويقول الله في المزمور الثاني «أنت ابني» أزليا بلا بدء ولا كيفية لهذه البنوة, لا ولادة ولا خلق. ثم يقول «أنا اليوم ولدتك» وذلك بالتجسد مولودا من العذراء مريم. وقوله «أنت ابني» قبل قوله «أنا اليوم ولدتك» دليل علي وجوده أزليا قبل التجسد. ونجد هذا أيضاً في القول «لم ا جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا » (غلاطية 4 :4), وأيضاً «أرسل الله ابنه في شبه جسد الخطية» أي في جسد مثلنا ولكن خال من الخطية (رومية 3:8) .
فللمسيح إذا بنوتان; البنوة الأزلية التي تكلمنا عنها, وبنوته في الزمان بولادته من العذراء مريم حيث نقرأ قول الملاك جبرائيل لمريم «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعي ابن الله» (لوقا 35:1) . وهذه البنوة تختلف عن بنوة كل البشر والملائكة لله كمخلوقاته, وتختلف أيضاً عن بنوة المؤمنين الروحية له كمن أخذوا طبيعته الأدبية « كل من يصنع البر مولود منه» (يوحنا الأولى 29:2) . ولذلك ي دعي المسيح «ابن الله الوحيد», وأيضاً «ابن واحدا حبيبا إليه» (مرقس 6:12) . أما عن المؤمنين في قال «أبناء كثيرين» (عبرانيين 10:2) ولا يقول المسيح لتلاميذه: أصعد إلي أبينا, بل «إلي أبي وأبيكم» (يوحنا 71:02) لأن بنوته متميزة, والمؤمنون يدعون «أولاد الله» (يو 12 :1,1يو 1 :3,2) وأيضاً «أبناء الله» (غلا 6:3) , أما المسيح فيقال له «ابن الله» فقط, فلا يقال الوالد والولد, بل «الآب والابن». والمسيح وحده هو الذي يدعي «ابن الآب» (رسالة يوحنا الثانية عدد3) لأن بنوته للآب أزلية «قبل كون العالم» (يوحنا 5:17) .
ونلخص فيما يلي بعض معاني بنوة الابن للآب; فهي تدل علي:
1- المحبة الأزلية الفريدة (يوحنا 20:5, 24:17, كولوسي 13:1, رسالة يوحنا الثانية 3 )
2- الوحدة في الصورة الإلهية (كورنثوس الثانية 4:4, فيلبي 6:2, كولوسي 15:1, عبرانيين 3:1, يوحنا 9:14).
3- المعادلة لله (يوحنا 7:5, 33:10).
4- الوحدانية في جوهر اللاهوت «أنا والآب واحد» ( يوحنا 30:01) .
5- المقام الإلهي (يوحنا 23:5, رسالة يوحنا الأولى 23:2).
6- أنها وحدانية فريدة لا مثيل لها (يوحنا 18:1) .
7- أنها وحدة سرية فائقة «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب» ( متى 27:11) .
المسيح ليس نبيا مرسلاً فقط
بل هو الله ظاهرا في الجسد
في الفصل الأول أن الله ثلاثة أقانيم, الآب والابن والروح القدس. وأوضحنا في الفصل الثاني أن الابن هو الأقنوم الإلهي الذي أعلن الله ولم يكن ممكنا أن يعلنه سواه لأنه «المعادل لله», بل هو «صورة الله», «ورسم جوهره». وفي هذين الفصلين, بما فيهما من أدلة كثيرة, كل الكفاية لاثبات لاهوت الابن. ولكننا نريد في هذا الفصل أن نبين بنوع خاص أن المسيح, الذي ولد من العذراء مريم, «صائرا في شبه الناس», وعاش هنا علي الأرض «في الهيئة كإنسان», فجاع, وعطش, وتعب من السفر, ونام في السفينة, وأهين من البشر; هو نفسه الذي «حل فيه كل ملء اللاهوت جسديا » فكان بناسوته متحيزا , وبلاهوته يملأ السماء والأرض, متحدا مع الآب والروح القدس. وهذا سر شخصه الفائق «الذي لا يعرفه إلا الآب» (متى 27:11) , وهذا سر عظيم «عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (تيموثاوس الأولي 16:3) .
لو أن المسيحيين أرادوا أن يتفادوا هذه المشكلة العويصة لكان من اليسير عليهم أن يقولوا إن المسيح كان نبيا مرسلا من الله أو إنه أفضل الأنبياء والمرسلين, ولا يقولون إنه هو الله نفسه جاء إلي هذا العالم. ولكن ليس الأمر بيدهم لأنهم لم يصوغوا إيمانهم لأنفسهم بل قبلوه من الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس, وهو إعلان صادق (كما سنبين في الفصل الخامس); سواء استطعنا أن نستوعبه أم لم نستطع. ولكن شكرا لله لأنه مقبول بالإيمان, بل ومعقول ويملأ القلب راحة وسلاما .
إن الصعوبة الكبرى تتجسم أمام الذين ينظرون إلي أن ولادة المسيح هي بدء وجوده كأي إنسان آخر, بينما لو أمعنوا النظر لرأوا أن نفس ولادته بالجسد لم تكن ولادة عادية كسائر البشر, بل كانت من عذراء لم يمسسها رجل. ولم يتكون جسده الطاهر من زرع بشر بل من روح الله كقوله الكريم «هيأت لي جسدا ». فالنظرة الصحيحة هي أنه أقنوم الهي كائن منذ الأزل, ولكنه في الوقت المعين اتخذ ناسوتا طاهرا ليس له مثيل, إذ هو مهيأ له بكيفية معجزية فريدة, اتخذه ليجئ إلي العالم, ظاهرا في الجسد لغرض عظيم وهو تمجيد الله الذي أهانه الإنسان بعصيانه والتكفير عن خطايا البشر, كما سنبين ذلك بالتفصيل في الفصل التالي. وعبارة «ظهر في الجسد» تفيد سابق وجوده قبل ظهوره إذ لا يمكن أن يقال هذا عن أي إنسان, لأن كل إنسان قد بدأ وجوده عند ولادته.
أما المسيح الذي ولد في بيت لحم من العذراء مريم فمكتوب عنه قبل ولادته بمئات السنين «وأما أنت يا بيت لحم.. فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا ... ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 2:5) . ونقرأ «الكلمة كان عند الله. وكان الكلمة (الابن) الله... والكلمة صار جسدا » (يوحنا 1:1, 14), وهنا نري لاهوت الابن السابق لناسوته. ونقرأ في أشعياء 6:9, قبل ولادة المسيح بسبعمائة سنة «لأنه يولد لنا ولد ون عطي ابنا (المسيح كمن ولد من العذراء)... ويدعي اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا (الله القدير أي المسيح في مقامه الإلهي)». واسمه العجيب المشار إليه هنا هو «عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 32:1) , أي الله ظهر بين البشر. واسمه أيضاً «يسوع» (متى 21:1) ; وهي كلمة عبرانية معناها «الرب المخلص». فكلا الاسمين اللذين د عي بهما عند ولادته يدلان علي لاهوته.
إن الصعوبة تبدو لمن ينظر إلي المسيح كإنسان جعله المسيحيون إلها , بينما الحقيقة هي العكس, أنه الله تنازل ليصير إنسانا , محتفظا في نفس الوقت بلاهوته, وهذا بحسب قدرته الفائقة.والتنازل هو من حقه الذي لا اعتراض عليه, لأنه يمكن الاعتراض علي من يرفع نفسه فوق حقيقته, أما العالي الرفيع إذا تنازل واتضع فهذا مما يمجده في عيوننا, سيما وأن هذا التنازل هو من أجلنا.
ولزيادة التأكيد نأتي بعدة شواهد أخري من الكتاب المقدس تؤكد لاهوت المسيح بما لا يدع مجالا للشك: فقد ذكر عنه بصريح العبارة أنه الله «وأما عن الابن كرسيك يا الله إلي دهر الدهور» (عبرانيين 1, مزمور 45). وأيضاً «صعدت إلي العلاء سبيت سبيا قبلت عطايا بين الناس.. أيها الرب الإله» (مزمور 18:68) , والذي فعل هذا هو المسيح (أفسس 8:4 و 9) . ومكتوب أيضاً «صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلا لإلهنا» (أشعياء3:40) , ويقال هنا «الرب» و «إلهنا» عن المسيح الذي أعد المعمدان طريقه (يوحنا 32:1) .
وقال المسيح نفسه «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن (أي يهوه السرمدي)» (يوحنا 58:8) . ويقول المسيح «أبني كنيستي» (متى 18:16) بينما في أعمال 28:20 نقرأ «كنيسة الله».
وقال له توما «ربي وإلهي» (يوحنا 28:20) . ويقول عنه الرسول بولس «الكائن علي الكل إلها مباركا (الله المبارك) إلي الأبد» (رومية 5:9) . ويقول يوحنا «يسوع المسيح... هذا هو الإله الحق (الله الحقيقي)» (يوحنا الأولي 20:5) وأيضاً «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (كورنثوس الأولي 8:2) .
ومكتوب أيضاً «منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح» «أو إلهنا ومخلصناالعظيم يسوع المسيح» (تيطس 31:2) . وهو أيضاً «رب الأرباب وملك الملوك» الذي هو اسم الله وحده (تثنية 17:10) .
كما نسبت إلي المسيح في الكتاب المقدس أعمال إلهية وصفات إلهية, منها أنه خالق كل شيء, «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يوحنا 2:1) . وأيضاً «الكل به وله قد خلق» (كولوسي 16:1) وأيضاً «الذي به (بالمسيح) أيضاً عمل العالمين... بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين 2:1) . وأيضاً «كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم» (يوحنا 10:1) .
وهو أيضاً «القادر علي كل شيء» (رؤيا 8:1) . «الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده... بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء» (فيلبي 21:3) . وهو «حامل كل شيء بكلمة قدرته» (عبرانيين 3:1) .
وهو العليم بكل شيء, فقد «قال له تلاميذه.. نعلم أنك عالم بكل شيء» (يوحنا 30:16) . وقال له بطرس «يا رب أنت تعلم كل شيء» (يوحنا 17:21) وهو «الفاحص الكلى والقلوب» (رؤيا 23:2) . وهذه صفة الله وحده (أرميا 10:17) .
وهو الأزلي الأبدي الذي لا يتغير. ونضيف إلي الشواهد السابقة عن ذلك ما يأتي:«يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلي الأبد» (عبرانيين 8:13) . وقيل عن المسيح الذي كانت أيامه قصيرة علي الأرض «إلي دهر الدهور سنوك. من قدم أسست الأرض. والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقي... أنت هو وسنوك لن تنتهي» (مزمور 25:102-27) .
وهو الموجود في كل مكان وزمان, فقد قال «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (متى 02:81) . وأيضاً «وها أنا معكم كل الأيام إلي انقضاء الدهر» (متى 20:28) , وهذه صفة الله وحده; «أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب» (أرميا 42:32) .
وهو الذي يقبل أرواح المنتقلين كما صلي استفانوس «أيها الرب يسوع اقبل روحي» (أعمال 59:7) . وهو الذي يقيم الأموات, كما قال بفمه الكريم «كل من يري الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يوحنا 6 :40). وهو «العتيد أن يدين الأحياء والأموات» (تيموثاوس الثانية 1:4) «وهو الذي يغفر الخطايا» (لوقا 20:5, 17:7) ويعطي الحياة الأبدية (يوحنا 28:01) . وهذان من اختصاص الله وحده.
وقد شهد له نثنائيل قائلا «أنت ابن الله. أنت ملك اسرائيل» (يوحنا 49:1) . وقالت مرثا التي أقام المسيح أخاها «أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلي العالم» ( يوحنا 27:11) . وقال بطرس الرسول «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (متى 16:16) .
إن المسيحيين لا يؤلهون الإنسان, ولا يؤلهون ناسوت المسيح, لأنه كان ناسوتا محدودا متحيزا «أي لا يوجد إلا في مكان واحد في وقت واحد» ولكنهم يؤمنون أن هذا الناسوت كان يحل فيه ملء اللاهوت» بغير اختلاط أو امتزاج (كولوسي 19:1, 9:2). فالمسيح له المجد هو «الله (الذي) ظهر في الجسد», فكان في هذا العالم إنسانا كاملا (كامل الإنسانية), لكن في نفس الوقت كان بلاهوته يملأ السموات والأرض. فكانت له طبيعتان, طبيعة إنسانية منزهة عن الخطية, ولكن لها خصائص الإنسان الذي يجوع ويعطش ويتعب ويتألم, وطبيعة إلهية ظهرت في الوقت نفسه في علمه بكل شيء, وقدرته علي كل شيء كما رأينا. ويشار إلي الطبيعتين معا في عدة آيات من الكتاب المقدس, منها: «كرسيك يا الله إلي دهر الدهور (طبيعته الإلهية)... من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج (طبيعته الإنسانية)» (مزمور 6:45 و 7) , وأيضاً «الإنسان الثاني (طبيعته الإنسانية) الرب من السماء (طبيعته الإلهية)» (كورنثوس الأولي 47:15) .
وعدم فهم هذه الحقيقة هو الذي يثير اعتراضات كثيرة, فعندما يقرأ البعض الآيات التي تتكلم عن طبيعة المسيح الإنسانية أو عن كون الله أعظم منه, يقولون لأول وهلة: إذا المسيح إنسان فقط. ولكن إذا وضعنا في أذهاننا الحقيقية السامية الفائقة الإدراك المعلنة في الكتاب المقدس, وهي أن المسيح هو الله وإنسان معا , زالت الصعوبة تماما . وهذه الحقيقة لا يقبلها إلا الإيمان, ومع ذلك فهي حقيقة معقولة لها ما يبررها كما سنري في الفصل التالي.
وإليك أمثلة من الآيات التي تدل علي طبيعة المسيح الإنسانية التي بها يعثر كثيرون: «إلهي إلهي لماذا تركتني» (مز 1:22) . وأيضاً «إني أصعد إلي أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 17:02) . وأيضاً «أبي أعظم مني» (يوحنا 28:14) .
وحدانية الأقانيم في الذات الإلهية وفي كل صفات اللاهوت وخواصه
تكلمنا بإسهاب عن لاهوت المسيح - ابن الله - لأنه هو الذي يكثر فيه التساؤل. ولابد لنا الآن, وإن كنا قد أشرنا إلي ذلك قبلا , أن نبي ن أن الأقانيم الثلاثة هم الذات الإلهية الواحدة, واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته ولا أسبقية لأقنوم علي أقنوم وإن بدا ذلك, لأول وهلة من أسماء الأقانيم. ويخطئ الذين يقولون: الأقنوم الأول والثاني والثالث; لأنه لا يوجد ترتيب لذكر الأقانيم في الكتاب المقدس بل يذكر الآب أولا مرة, والابن أولا مرة اخري, والروح القدس أولا مرة غيرهما, وهكذا. كما أن أسماء الأقانيم لا تدل علي أسبقية الآب عن الابن مثلا , أو اشتقاق الروح القدس من الآب والابن. حاشا. لأن أسماء الأقانيم تدل علي التعادل, وعلي العلاقة الروحية الأزلية, فالآب يحب الابن في الأزل «قبل كون العالم» (يوحنا 25:17) . والابن يحب الآب (يوحنا 31:14) . والروح القدس «روح المحبة» (رومية 30:15, تيموثاوس الثانية 7:1). ولا يقال عن الآب الوالد بل الآب; لأن أبو ة الآب للابن هي علاقة محبة روحية سامية كما سبق القول, إذ أن الله بأقانيمه الثلاثة محبة «الله محبة». وقد ظهرت هذه المحبة بكمالها للبشر في إرسال الآب للابن كفارة عن خطايانا, وفي تطوع الابن ببذل نفسه كفارة من أجلنا, وذلك بروح أزلي.
وقد قيل في الكتاب المقدس عن الآب إنه الله «الله أبونا» (تسالونكي الثانية 16:2) . وقيل إننا باللسان «نبارك الله الآب» (يعقوب 9:3) ; ولا جدال في لاهوت الآب. أما لاهوت الابن فقد أوردنا عنه آيات كثيرة جدا في هذا الفصل. بقي أن نقول كلمة عن «الله الروح القدس», سيما وأن البعض لا يدركون أقنوميته ويتصورون أنه قوة أو تأثير أو صفة من صفات الله, والبعض عن عدم معرفة يتكلمون عنه بصيغة التأنيث فيقولون مثلا «حلت الروح» أو «الروح التي».
أقنومية الروح القدس ولاهوته
الروح القدس له كل المميزات والصفات الإلهية :
1-فهو كلي العلم «يفحص كل شيء حتى أعماق الله وأمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله» (كورنثوس الأولي 2: 10 - 11 ) .
2-وهو يفعل كما يشاء (كورنثوس الأولي 12: 11) .
3-وهو أزلي (عبرانيين 14:9) .
4-ويعرف المستقبل ويخبر به ( لوقا 26:2, يوحنا 16: 13).
5-وهو كلي القدرة ( رومية 15: 19) .
6-وهو القدوس وهذه صفة الله وحده (أفسس 03:4-انظر رؤيا 8:4).
7-وهو الحق «الروح هو الحق» (يوحنا الأولي 6:5) .
8-وله ينسب الخلق (أيوب 4:23, مزمور 6:33, مزمور 104: 30).
9-وهو موجود في كل مكان (مزمور 139: 7 ,8) وهو يسكن في جميع المؤمنين في كل زمان ومكان (يوحنا 17:14, أفسس 13:1).
01-وهو المحيي (يوحنا 63:6, كورنثوس الثانية 6:3, رومية 11:8).
11-وهو مصدر الوحي «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (بطرس الثانية 21:1) .
21- ويذكر صراحة أن الروح القدس هو الله, فقد قال بطرس لحنانيا «لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب علي الروح القدس... أنت لم تكذب علي الناس بل علي الله» (أعمال 4:5) .
أما بخصوص كون الروح القدس أقنوما , يتكلم ويسمع ويخبر ويحب, ويحزن, وليس مجرد قوة أو تأثير فيكفي أن نورد الشواهد الآتية:«قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل» (أعمال 2:13) «روح أبيكم... يتكلم فيكم» (متى 20:10) . «ومتى جاء ذاك روح الحق.. كل ما يسمع ويتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 13:16) ومكتوب أيضاً «أطلب إليكم أيها الأخوة.. بمحبة الروح» (رومية 15 : 30). ويقول الرسول بولس «لا تحزنوا روح الله القدوس» (أفسس 30:4) .
لو أن المسيحيين أرادوا أن يتفادوا هذه المشكلة العويصة لكان من اليسير عليهم أن يقولوا إن المسيح كان نبيا مرسلا من الله أو إنه أفضل الأنبياء والمرسلين, ولا يقولون إنه هو الله نفسه جاء إلي هذا العالم. ولكن ليس الأمر بيدهم لأنهم لم يصوغوا إيمانهم لأنفسهم بل قبلوه من الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس, وهو إعلان صادق (كما سنبين في الفصل الخامس); سواء استطعنا أن نستوعبه أم لم نستطع. ولكن شكرا لله لأنه مقبول بالإيمان, بل ومعقول ويملأ القلب راحة وسلاما .
إن الصعوبة الكبرى تتجسم أمام الذين ينظرون إلي أن ولادة المسيح هي بدء وجوده كأي إنسان آخر, بينما لو أمعنوا النظر لرأوا أن نفس ولادته بالجسد لم تكن ولادة عادية كسائر البشر, بل كانت من عذراء لم يمسسها رجل. ولم يتكون جسده الطاهر من زرع بشر بل من روح الله كقوله الكريم «هيأت لي جسدا ». فالنظرة الصحيحة هي أنه أقنوم الهي كائن منذ الأزل, ولكنه في الوقت المعين اتخذ ناسوتا طاهرا ليس له مثيل, إذ هو مهيأ له بكيفية معجزية فريدة, اتخذه ليجئ إلي العالم, ظاهرا في الجسد لغرض عظيم وهو تمجيد الله الذي أهانه الإنسان بعصيانه والتكفير عن خطايا البشر, كما سنبين ذلك بالتفصيل في الفصل التالي. وعبارة «ظهر في الجسد» تفيد سابق وجوده قبل ظهوره إذ لا يمكن أن يقال هذا عن أي إنسان, لأن كل إنسان قد بدأ وجوده عند ولادته.
أما المسيح الذي ولد في بيت لحم من العذراء مريم فمكتوب عنه قبل ولادته بمئات السنين «وأما أنت يا بيت لحم.. فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا ... ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 2:5) . ونقرأ «الكلمة كان عند الله. وكان الكلمة (الابن) الله... والكلمة صار جسدا » (يوحنا 1:1, 14), وهنا نري لاهوت الابن السابق لناسوته. ونقرأ في أشعياء 6:9, قبل ولادة المسيح بسبعمائة سنة «لأنه يولد لنا ولد ون عطي ابنا (المسيح كمن ولد من العذراء)... ويدعي اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا (الله القدير أي المسيح في مقامه الإلهي)». واسمه العجيب المشار إليه هنا هو «عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 32:1) , أي الله ظهر بين البشر. واسمه أيضاً «يسوع» (متى 21:1) ; وهي كلمة عبرانية معناها «الرب المخلص». فكلا الاسمين اللذين د عي بهما عند ولادته يدلان علي لاهوته.
إن الصعوبة تبدو لمن ينظر إلي المسيح كإنسان جعله المسيحيون إلها , بينما الحقيقة هي العكس, أنه الله تنازل ليصير إنسانا , محتفظا في نفس الوقت بلاهوته, وهذا بحسب قدرته الفائقة.والتنازل هو من حقه الذي لا اعتراض عليه, لأنه يمكن الاعتراض علي من يرفع نفسه فوق حقيقته, أما العالي الرفيع إذا تنازل واتضع فهذا مما يمجده في عيوننا, سيما وأن هذا التنازل هو من أجلنا.
ولزيادة التأكيد نأتي بعدة شواهد أخري من الكتاب المقدس تؤكد لاهوت المسيح بما لا يدع مجالا للشك: فقد ذكر عنه بصريح العبارة أنه الله «وأما عن الابن كرسيك يا الله إلي دهر الدهور» (عبرانيين 1, مزمور 45). وأيضاً «صعدت إلي العلاء سبيت سبيا قبلت عطايا بين الناس.. أيها الرب الإله» (مزمور 18:68) , والذي فعل هذا هو المسيح (أفسس 8:4 و 9) . ومكتوب أيضاً «صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلا لإلهنا» (أشعياء3:40) , ويقال هنا «الرب» و «إلهنا» عن المسيح الذي أعد المعمدان طريقه (يوحنا 32:1) .
وقال المسيح نفسه «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن (أي يهوه السرمدي)» (يوحنا 58:8) . ويقول المسيح «أبني كنيستي» (متى 18:16) بينما في أعمال 28:20 نقرأ «كنيسة الله».
وقال له توما «ربي وإلهي» (يوحنا 28:20) . ويقول عنه الرسول بولس «الكائن علي الكل إلها مباركا (الله المبارك) إلي الأبد» (رومية 5:9) . ويقول يوحنا «يسوع المسيح... هذا هو الإله الحق (الله الحقيقي)» (يوحنا الأولي 20:5) وأيضاً «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (كورنثوس الأولي 8:2) .
ومكتوب أيضاً «منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح» «أو إلهنا ومخلصناالعظيم يسوع المسيح» (تيطس 31:2) . وهو أيضاً «رب الأرباب وملك الملوك» الذي هو اسم الله وحده (تثنية 17:10) .
كما نسبت إلي المسيح في الكتاب المقدس أعمال إلهية وصفات إلهية, منها أنه خالق كل شيء, «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يوحنا 2:1) . وأيضاً «الكل به وله قد خلق» (كولوسي 16:1) وأيضاً «الذي به (بالمسيح) أيضاً عمل العالمين... بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين 2:1) . وأيضاً «كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم» (يوحنا 10:1) .
وهو أيضاً «القادر علي كل شيء» (رؤيا 8:1) . «الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده... بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء» (فيلبي 21:3) . وهو «حامل كل شيء بكلمة قدرته» (عبرانيين 3:1) .
وهو العليم بكل شيء, فقد «قال له تلاميذه.. نعلم أنك عالم بكل شيء» (يوحنا 30:16) . وقال له بطرس «يا رب أنت تعلم كل شيء» (يوحنا 17:21) وهو «الفاحص الكلى والقلوب» (رؤيا 23:2) . وهذه صفة الله وحده (أرميا 10:17) .
وهو الأزلي الأبدي الذي لا يتغير. ونضيف إلي الشواهد السابقة عن ذلك ما يأتي:«يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلي الأبد» (عبرانيين 8:13) . وقيل عن المسيح الذي كانت أيامه قصيرة علي الأرض «إلي دهر الدهور سنوك. من قدم أسست الأرض. والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقي... أنت هو وسنوك لن تنتهي» (مزمور 25:102-27) .
وهو الموجود في كل مكان وزمان, فقد قال «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (متى 02:81) . وأيضاً «وها أنا معكم كل الأيام إلي انقضاء الدهر» (متى 20:28) , وهذه صفة الله وحده; «أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب» (أرميا 42:32) .
وهو الذي يقبل أرواح المنتقلين كما صلي استفانوس «أيها الرب يسوع اقبل روحي» (أعمال 59:7) . وهو الذي يقيم الأموات, كما قال بفمه الكريم «كل من يري الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يوحنا 6 :40). وهو «العتيد أن يدين الأحياء والأموات» (تيموثاوس الثانية 1:4) «وهو الذي يغفر الخطايا» (لوقا 20:5, 17:7) ويعطي الحياة الأبدية (يوحنا 28:01) . وهذان من اختصاص الله وحده.
وقد شهد له نثنائيل قائلا «أنت ابن الله. أنت ملك اسرائيل» (يوحنا 49:1) . وقالت مرثا التي أقام المسيح أخاها «أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلي العالم» ( يوحنا 27:11) . وقال بطرس الرسول «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (متى 16:16) .
إن المسيحيين لا يؤلهون الإنسان, ولا يؤلهون ناسوت المسيح, لأنه كان ناسوتا محدودا متحيزا «أي لا يوجد إلا في مكان واحد في وقت واحد» ولكنهم يؤمنون أن هذا الناسوت كان يحل فيه ملء اللاهوت» بغير اختلاط أو امتزاج (كولوسي 19:1, 9:2). فالمسيح له المجد هو «الله (الذي) ظهر في الجسد», فكان في هذا العالم إنسانا كاملا (كامل الإنسانية), لكن في نفس الوقت كان بلاهوته يملأ السموات والأرض. فكانت له طبيعتان, طبيعة إنسانية منزهة عن الخطية, ولكن لها خصائص الإنسان الذي يجوع ويعطش ويتعب ويتألم, وطبيعة إلهية ظهرت في الوقت نفسه في علمه بكل شيء, وقدرته علي كل شيء كما رأينا. ويشار إلي الطبيعتين معا في عدة آيات من الكتاب المقدس, منها: «كرسيك يا الله إلي دهر الدهور (طبيعته الإلهية)... من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج (طبيعته الإنسانية)» (مزمور 6:45 و 7) , وأيضاً «الإنسان الثاني (طبيعته الإنسانية) الرب من السماء (طبيعته الإلهية)» (كورنثوس الأولي 47:15) .
وعدم فهم هذه الحقيقة هو الذي يثير اعتراضات كثيرة, فعندما يقرأ البعض الآيات التي تتكلم عن طبيعة المسيح الإنسانية أو عن كون الله أعظم منه, يقولون لأول وهلة: إذا المسيح إنسان فقط. ولكن إذا وضعنا في أذهاننا الحقيقية السامية الفائقة الإدراك المعلنة في الكتاب المقدس, وهي أن المسيح هو الله وإنسان معا , زالت الصعوبة تماما . وهذه الحقيقة لا يقبلها إلا الإيمان, ومع ذلك فهي حقيقة معقولة لها ما يبررها كما سنري في الفصل التالي.
وإليك أمثلة من الآيات التي تدل علي طبيعة المسيح الإنسانية التي بها يعثر كثيرون: «إلهي إلهي لماذا تركتني» (مز 1:22) . وأيضاً «إني أصعد إلي أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 17:02) . وأيضاً «أبي أعظم مني» (يوحنا 28:14) .
وحدانية الأقانيم في الذات الإلهية وفي كل صفات اللاهوت وخواصه
تكلمنا بإسهاب عن لاهوت المسيح - ابن الله - لأنه هو الذي يكثر فيه التساؤل. ولابد لنا الآن, وإن كنا قد أشرنا إلي ذلك قبلا , أن نبي ن أن الأقانيم الثلاثة هم الذات الإلهية الواحدة, واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته ولا أسبقية لأقنوم علي أقنوم وإن بدا ذلك, لأول وهلة من أسماء الأقانيم. ويخطئ الذين يقولون: الأقنوم الأول والثاني والثالث; لأنه لا يوجد ترتيب لذكر الأقانيم في الكتاب المقدس بل يذكر الآب أولا مرة, والابن أولا مرة اخري, والروح القدس أولا مرة غيرهما, وهكذا. كما أن أسماء الأقانيم لا تدل علي أسبقية الآب عن الابن مثلا , أو اشتقاق الروح القدس من الآب والابن. حاشا. لأن أسماء الأقانيم تدل علي التعادل, وعلي العلاقة الروحية الأزلية, فالآب يحب الابن في الأزل «قبل كون العالم» (يوحنا 25:17) . والابن يحب الآب (يوحنا 31:14) . والروح القدس «روح المحبة» (رومية 30:15, تيموثاوس الثانية 7:1). ولا يقال عن الآب الوالد بل الآب; لأن أبو ة الآب للابن هي علاقة محبة روحية سامية كما سبق القول, إذ أن الله بأقانيمه الثلاثة محبة «الله محبة». وقد ظهرت هذه المحبة بكمالها للبشر في إرسال الآب للابن كفارة عن خطايانا, وفي تطوع الابن ببذل نفسه كفارة من أجلنا, وذلك بروح أزلي.
وقد قيل في الكتاب المقدس عن الآب إنه الله «الله أبونا» (تسالونكي الثانية 16:2) . وقيل إننا باللسان «نبارك الله الآب» (يعقوب 9:3) ; ولا جدال في لاهوت الآب. أما لاهوت الابن فقد أوردنا عنه آيات كثيرة جدا في هذا الفصل. بقي أن نقول كلمة عن «الله الروح القدس», سيما وأن البعض لا يدركون أقنوميته ويتصورون أنه قوة أو تأثير أو صفة من صفات الله, والبعض عن عدم معرفة يتكلمون عنه بصيغة التأنيث فيقولون مثلا «حلت الروح» أو «الروح التي».
أقنومية الروح القدس ولاهوته
الروح القدس له كل المميزات والصفات الإلهية :
1-فهو كلي العلم «يفحص كل شيء حتى أعماق الله وأمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله» (كورنثوس الأولي 2: 10 - 11 ) .
2-وهو يفعل كما يشاء (كورنثوس الأولي 12: 11) .
3-وهو أزلي (عبرانيين 14:9) .
4-ويعرف المستقبل ويخبر به ( لوقا 26:2, يوحنا 16: 13).
5-وهو كلي القدرة ( رومية 15: 19) .
6-وهو القدوس وهذه صفة الله وحده (أفسس 03:4-انظر رؤيا 8:4).
7-وهو الحق «الروح هو الحق» (يوحنا الأولي 6:5) .
8-وله ينسب الخلق (أيوب 4:23, مزمور 6:33, مزمور 104: 30).
9-وهو موجود في كل مكان (مزمور 139: 7 ,8) وهو يسكن في جميع المؤمنين في كل زمان ومكان (يوحنا 17:14, أفسس 13:1).
01-وهو المحيي (يوحنا 63:6, كورنثوس الثانية 6:3, رومية 11:8).
11-وهو مصدر الوحي «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (بطرس الثانية 21:1) .
21- ويذكر صراحة أن الروح القدس هو الله, فقد قال بطرس لحنانيا «لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب علي الروح القدس... أنت لم تكذب علي الناس بل علي الله» (أعمال 4:5) .
أما بخصوص كون الروح القدس أقنوما , يتكلم ويسمع ويخبر ويحب, ويحزن, وليس مجرد قوة أو تأثير فيكفي أن نورد الشواهد الآتية:«قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل» (أعمال 2:13) «روح أبيكم... يتكلم فيكم» (متى 20:10) . «ومتى جاء ذاك روح الحق.. كل ما يسمع ويتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 13:16) ومكتوب أيضاً «أطلب إليكم أيها الأخوة.. بمحبة الروح» (رومية 15 : 30). ويقول الرسول بولس «لا تحزنوا روح الله القدوس» (أفسس 30:4) .
المسيح, وهو الله ظاهرا في الجسد, مات مصلوبا
رأينا من الفصول السابقة أن الله الواحد ثلاثة أقانيم, وأنه مكتف بذاته ويمارس صفاته مع ذاته أزليا , في وحدة ومحبة فائقة الإدراك بين الأقانيم الثلاثة. عرفنا الله, لا كما صورته لنا عقولنا, بل كما أعلن ذاته لنا في كتابه المقدس, وفي أقنوم الابن الذي جاء متجسدا إلي هذا العالم ليعلن الله, ومعرفة الله هي أعظم وأثمن شيء في الوجود.
هنا يأتي السؤال الهام: هل نستطيع, طالما أننا قد عرفنا الله, أن نصل إليه في حالتنا هذه, أو أن نقترب منه بمجهوداتنا وننال الحظوة لديه ببرنا؟ هل يمكن أن تكون لنا شركة معه الآن ونحن هنا علي الأرض ثم نساكنه في الأبدية التي لا نهاية لها؟
الجواب كلا; لأنه قدوس, كلي القداسة, ونحن بحسب الطبيعة خطاة نجسون كل النجاسة. هذا فضلا عن أنه تعالي قد أصدر علينا حكما بالموت الأبدي نتيجة لعصياننا عليه. ومن أين لنا أن نخلص من هذا الحكم من جهة, وأن نتوافق مع قداسته من الجهة الأخرى؟
إن ملائكته اللامعين القديسين الذين لم يخطئوا يغطون وجوههم أمامه, لا بالنسبة لمجده وجلاله فقط, بل بالنسبة لقداسته الفائقة, إذ وهم يغطون وجوههم ينادون قائلين «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» (إشعياء 2:6 - 3) , فكيف يمكن أن يقترب منه الإنسان الخاطئ «إلي ملائكته ينسب حماقة فكم بالحري سكان بيوت من طين الذين أساسهم في التراب» (أيوب 18:4, 19). وقال آخر «السلطان والهيبة عنده... فكيف يتبرر الإنسان عند الله.. هوذا نفس القمر لا يضئ والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود» (أيوب 2:25-6) .
وإذا كنا لا نستطيع أن نصل إلي الله فما الفائدة من معرفته؟ إنها لا تزيدنا إلا حسرة وألما . ولكن شكرا لله لأنه وجد حلا وحيدا لهذه المشكلة المستعصية. وقبل أن نوضح هذا الحل الإلهي لابد أن نشير إلي حقيقة حالنا كبشر كما يكشفها لنا الله في كتابه المقدس, لنري البعد الشاسع والهوة السحيقة بيننا وبين الله وكيفية السبيل الي عبورها.
حقيقة حالنا كبشر خطاة
لقد خلق الله الإنسان في حالة البرارة والطهارة كما هو مكتوب «الله صنع الإنسان مستقيما » (جامعة 29:7) . ولكن الإنسان عصي الله وتعدي الوصية الوحيدة التي أعطاها له, فوقع تحت طائلة القصاص الذي أصدره الله وأنذره به مقدما قائلا «يوم تأكلمنها (أي من شجرة معرفة الخير والشر) موتا تموت» (تكوين 17:2) . ولهذا الموت ثلاثي:موت روحي, وموت جسدي, وموت أبدي. الموت الروحي هو الانفصال عن الله, وهذا ما حدث بمجرد السقوط في الخطية, إذ شعر آدم وحواء بعدم توافقهما مع محضر الله, فاختبأ آدم وإمرأته«في وسط شجر الجنة» قبل أن يطردهما الله منها.
وهذا الموت الروحي سري في كيانهما مفسدا طبيعتهما, وتوارثه نسلهما. كما هو مكتوب «بإنسان واحد دخلت الخطية إلي العالم.. وبالخطية الموت. وهكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رو 12:5) . وقد شهد بذلك داود النبي إذ قال «هأنذا بالأثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي» (مزمور 5:51) . وشهد بذلك بعض العلماء فقال أرسطو «إن أكثر أعمال الإنسان محكومة بالعواطف والشهوات. لذلك فانه يقع في الخطأ مهما علم العقل بضرره. فالإنسان يفكر جيدا ويرشده فكره إلي الصواب, لكن تتغلب عليه شهوته فتغويه». وقال آخر «إن الأطفال يأتون إلي العالم وفي طبيعتهم العناد والشر والأنانية». وكلنا نعرف الحقيقة المتداولة «النفس أمارة بالسوء» مع أن الله لم يخلقها هكذا ولكنها فسدت بالسقوط وهذا أمر طبيعي فالحية لا تلد إلا حية, والخنزيرة لا يمكن أن تلد حملا , وكذلك لا يجتنون من الشوك عنبا ولا من الحسك تينا , ولا تقدر شجرة رديئة أن تصنع أثماراً جيدة. (متى 16:7- 18). فالناس خطاة لسببين :
أولا :لأنهم مولودون بطبيعة فاسدة.
ثانيا :لأنهم يخطئون بإرادتهم نتيجة لتلبية رغبات طبيعتهم الفاسدة. كما يقول الرسول «إذ أخطأ الجميع», وأيضاً «الجميع زاغوا وفسدوا معا «أي أنتنوا ولم يعد لهم نفع». ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد» ( رومية 12:3) .
هذا هو الموت الروحي. أما الموت الجسدي فحكم به الله علي الإنسان بقوله لآدم «حتى تعود إلي الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلي تراب تعود» (تكوين 19:3) . ولكن العودة إلي التراب ليست هي النهاية لأن نفس الإنسان خالدة تبقي إلي الأبد, لذلك يقول الرسول بولس «وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عبرانيين 27:9) . وبعد الدينونة (المحاكمة) أمام العرش العظيم الأبيض, يطرح جميع الأشرار في النار الأبدية ويقول الكتاب «هذا هو الموت الثاني» (رؤيا 14:02) , أي بعد الموت الجسدي الأول. وعذاب النار الأبدية حقيقة مؤكدة في الكتاب المقدس.
وخلاصة القول هي أن السقوط جلب علي البشر:
1- الموت الروحي أي الانفصال عن الله ويتبع هذا فساد الطبيعة البشرية التي صارت مستودعا لكل بذور الشر والعداوة والقتل والأنانية والشهوات بدرجة تجعل الناس أنفسهم ينفرون من هذه الشرور في الأخرين, فكم بالحري هي كريهة في نظر الله؟!
2- الموت الجسدي أي انفصال الروح عن الجسد الذي يعود إلي التراب الذي أخذ منه.
3- العذاب الأبدي الذي هو قضاء الله علي جميع الخطاة.
وبناء عليه فلا يمكن أن يقترب الإنسان إلي الله, أو تكون له معه علاقة حاضرا وأبديا إلا إذا تم إيفاء مطاليب عدل الله, وإنقاذ الإنسان من عواقب السقوط الوبيلة السابق الإشارة إليها, حتى يمكن أن تزول عنه صفة الذنب ويتبرر أمام الله. ولابد أيضاً من إعطاء الإنسان طبيعة جديدة بها يتوافق مع الله ويصلح لمساكنته. ومعالجة حالة الإنسان من كل الوجوه بالكيفية التي ذكرناها مستحيلة علي الإنسان تماما بالرغم من كل محاولاته المستمرة.
حالة الإنسان الساقط والعلاج الإلهي في (تكوين 3)
مما يسترعي النظر أن الفصل الذي يخبرنا عن سقوط الإنسان في أول صفحات الكتاب المقدس, تكوين 3, يرينا بوضوح :
1-نتائج السقوط الوبيلة التي أشرنا إليها.
2-فشل جهود الإنسان لمعالجة حالته وعودته للاقتراب إلي الله.
3-العلاج الإلهي الكامل الذي يكفل التبرير والقبول والخلاص من العقاب الأبدي, وكأن الله قد أودع كل بذور مقاصده الصالحة نحو الإنسان في الصفحات الأولى من كتابه المقدس.
ونبين باختصار كيف نجد هذه النقاط الهامة الثلاث في أصحاحي 3, 4 من سفر التكوين.
لم يستسلم الإنسان لله ليعالج حاله التعيس, بل حاول أن يعالج أمره بنفسه. عندما نقول الإنسان نقصد آدم وحواء معا «فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر» (تكوين 7:3) . وكل ما استطاعت هذه المآزر أن تفعله هو أن تغطي عري الواحد منهما عن الآخر, وليس عن الله لأن آدم وهو متزر بالمآزر يقول لله «لأني عريان». وأوراق التين تمثل كل الوسائل البشرية في كل العصور لمحاولة إصلاح طبيعة الإنسان وتهذيبها, وكل وسائل الصقل وتحسين الأخلاق والمظهر, فان هذه كلها إنما تخفي مخازي الإنسان الداخلية عن إخوانه, ولكنها لا يمكن أبدا أن تخفيها عن نظر الله أو أن تصلح طبيعة الإنسان بأية درجة من الإصلاح, كما هو مكتوب «المولود من الجسد جسد هو» (يوحنا 6:3) وأيضاً «اهتمام الجسد هو موت.. هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعا لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله» (رومية 6:8-8) . ونري صورة لذلك في إشعياء النبي إذ لم يستطع أن يكتشف حقيقة حاله إلا في نور مجد الرب فصرخ قائلا «ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين» (إشعياء 5:6) .
ثم نجد في تكوين 4 أن قايين أول ابن لآدم حاول أن يقترب إلي الله بأعماله, بمجهوده وتعب يديه, فرفضه الله ولم ينظر إليه. هذا هو الطريق الذي اختطه قايين لنفسه, متجاهلا فساد طبيعته وقضاء الله عليه بالموت كخاطئ. وهو نفس الطريق الذي يسير فيه كل من يظن أن أعماله الصالحة يمكن أن تؤهله للاقتراب من الله بينما يقول الكتاب صراحة «ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين» (يهوذا 11).
أما العلاج الإلهي فيتمثل أولا وقبل كل شيء في الوعد الإلهي بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية, ثم في أقمصة الجلد التي صنعها «الرب الإله لآدم وامرأته... وألبسهما» (تكوين 21:3) . أما نسل المرأة فهو المسيح; المخلص الوحيد الذي «جاء مولودا من امرأة», من عذراء لم تعرف رجلا إذ ح ب ل به فيها من الروح القدس (متى 20:1) . أما سحقه رأس الحية فكان بالموت علي الصليب المشار إليه بالقول «أنت تسحقين عقبه» (أي طبيعته الإنسانية), وفي ذلك مكتوب أيضاً أن المسيح اشترك في اللحم والدم «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس» (عبرانيين 14:2) .
وهنا نجد ثلاث حقائق في غاية الأهمية; هي خلاصة موضوع هذا الكتيب:
1-لاهوت المسيح, لأنه من ذا الذي يقوي علي سحق رأس الشيطان إلا الله.
2-ناسوت المسيح الذي به صار نسل المرأة. لكي يسحقه باعتباره الإنسان.
3-موت المسيح الكفاري الذي بواسطته انتصر علي الشيطان وسحقه.
أما أقمصة الجلد ففيها إشارة واضحة إلي الفداء والكفارة. وسنتكلم عن ذلك بالتفصل, لأنه السر في موت المسيح مصلوبا الذي هو موضوع هذا الفصل. ولكن قبل ذلك أشير إلي نقطتين في الأصحاح الثالث من سفر التكوين:النقطة الأولى أن آدم بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة آمن, ولذلك كساه الله بقميص الجلد بعد إيمانه. وهذا هو طريق الله للتبرير دائما : السمع, والإيمان, ولبس المسيح كثوب البر. ويتمثل هذا في القول «متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه» (رومية 24:3) . أما دليل الإيمان في آدم فهو أنه بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة دعا اسم امرأته حواء «أي حياة» لأنها أم كل حي, مع أنه سمع قبل ذلك مباشرة أنه سيموت ويعود إلي الأرض التي أخذ منها, ولكنه بالإيمان بوعد الله عن نسل المرأة ارتفع فوق دائرة الموت ودعا اسم امرأته «حياة» وبعد ذلك نقرأ مباشرة «صنع الرب الإله لآدم وإمرأته أقمصة من جلد وألبسهما» فجاء التبرير نتيجة للإيمان.
أما النقطة الثانية فنجدها في آخر هذا الأصحاح الثالث من التكوين وهي أن الله «أقام الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة» (تكوين 24:3) .
وفي هذا نجد الإشارة إلي أن الوصول إلي «شجرة الحياة», أو بالحري نوال الحياة إلي الأبد, يحول دونه «الكروبيم ولهيب السيف المتقلب». ولم يستطع أحد أن يفتح لنا هذا الطريق ويوصلنا إلي الحياة الأبدية إلا المسيح الذي تنبأ عنه زكريا قبل مجيء المسيح بالجسد بخمسمائة سنة قائلا «استيقظ يا سيف علي راعي وعلي رجل رفقتي (المسيح) اضرب الراعي» (زكريا 7:13) . أما الكروبيم فكانت مصورة علي حجاب الهيكل (خروج 31:26) . ولما مات المسيح علي الصليب نقرأ «فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلي اثنين من فوق إلي أسفل» (متى 50:27, 51), أي أن الكروبيم الحارسين لطريق شجرة الحياة قد أفسحوا الطريق للوصول إلي حضرة الله, والتمتع بالحياة الأبدية علي أساس الإيمان بموت المسيح الذي احتمل ضربة سيف العدل الإلهي عوضا عنا.
حتمية الفداء بموت المسيح
رأينا فيما سلف أنه لا يمكن للإنسان تمجيد الله ومحو الإهانة التي لحقته بسبب العصيان, كما لا يمكنه تخليص نفسه من عواقب سقوطه والحصول علي التبرير والقبول لديه تعالي. ومن ثم لزم موت المسيح لفدائه ولتحقيق هذه الأغراض.
وهنا يأتي السؤال:ألم تكن هناك وسيلة أخري؟ الجواب كلا. وهنا يأتي سؤال آخر: كيف يسوغ لنا أن نحصر قدرة الله غير المحدودة في وسيلة واحدة لا بديل لها؟ الجواب:أن الله يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أي أمر, ولكن ذلك في مجال كماله المطلق وتوافق جميع صفاته معا . فلا يقدر الله مثلا أن ينكر نفسه (تيموثاوس الثانية 13:2) . ولا يمكن أن ينكث عهده «لا أكذب من جهة أمانتي. لا أنقض عهدي. ولا أغير ما خرج من شفتي» (مزمور 34:98, عبرانيين 18:6).
وبما أن الله عادل وقدوس, فلا يتفق مع عدله وقداسته أن يتساهل مع الخطية أو يدعها تمر بدون توقيع القصاص الذي صدر منه تعالي «أجرة الخطية هي موت» (رومية 23:6) . صحيح أن الله غفور رحيم, ونحن نعتز برحمته ومحبته اللتين لا حد لهما. لكن الرحمة لا يمكن أن تتجه إلا متوافقة مع القداسة والعدل. فالذين يريحون ضمائرهم بترك أمر خطاياهم إلي رحمة الله هم واهمون إن لم يستندوا علي الأساس الصحيح للرحمة وهو الفداء بواسطة بديل كفء يتحمل كل متطلبات العدل, وحينئذ يتسع المجال أمام رحمة الله لتتجه للبشر الخطاة لقبولهم وتبريرهم عدلا حيث يكون الله «بارا (عادلا ) ويبرر من هو من الإيمان بيسوع» (رومية 26:3) . ولا يوجد بديل كفء إلا المسيح وحده كما سنري. والصليب هو الحل الوحيد الذي تمت فيه النبوة «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (مزمور 10:85) .
ومبدأ الفداء يملأ الكتاب المقدس من أوله إلي آخره, فقد رأيناه لأول مرة في تكوين 3 ثم في تكوين4 كما سبقت الإشارة. وكان تقديم الذبائح هو طريق العبادة المقبولة لدي الله كما نري في نوح حيث نقرأ أنه «أصعد محرقات علي المذبح فتنسم الرب رائحة الرضا» (تكوين 21:8) . وكان إبراهيم يقيم المذبح ملازما لخيمته. كما نقرأ عن أيوب الذي كان معاصرا لإبراهيم أنه كان يقدم ذبائح بعدد بنيه لفدائهم من القصاص علي ما قد يكون صدر منهم من خطايا ولو بالفكر. وقال الله «أنا أعطيتكم الدم علي المذبح للتكفير عن نفوسكم لأن الدم يكفر عن النفس» (لاويين 10:17) ولذلك قال الرسول بولس «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عبرانيين 22:9) .
وتقديم الذبائح يفيد الاعتراف بالخطايا وباستحقاق الموت. وقد رسم الله لشعبه قديما في سفر اللاويين أربعة أنواع رئيسية من الذبائح هي: المحرقة, وذبيحة الخطية, وذبيحة الاثم, وذبيحة السلامة. ومن الذبائح ما كانوا يضعون أياديهم علي رؤوسها ويقرون بخطاياهم رمزا لانتقال هذه الخطايا إلي الذبيحة قبل ذبحها. أما المحرقة فكانوا يضعون أيديهم علي رأسها رمزا لانتقال براءتها إلي مقدم الذبيحة.
ولم تكن تلك الذبائح إلا رمزا لتقديم المسيح نفسه ذبيحة لله بحسب رسم المشورات الأزلية. ولذلك لما رأي يوحنا المعمدان المسيح مقبلا إليه قال «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا 29:1) . أما الذبائح في ذاتها فلم تكن ترفع خطايا «لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا» «لذلك عند دخوله إلي العالم يقول (المسيح) ذبيحة وقربانا لم ترد ولكن هيأت لي جسدا .. هأنذا أجئ في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله.. ينزع الأول (أي الذبائح الحيوانية) لكي يثبت الثاني (أي ذبيحة المسيح) فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عبرانيين 4:10-10) . ولذلك قال داود «لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضي» (مزمور 6:51) . وقال ميخا «بم أتقدم للرب. هل أتقدم بمحرقات.. هل أعطي بكري عن معصيتي؟ ثمرة جسدي عن خطية نفسي» (ميخا 6:6, 7).
الشروط الواجب توافرها في الفادي
1-لابد أن يكون الفادي إنسانا , ولذلك دعي المسيح «ابن الإنسان» و«الإنسان الثاني» و«آدم الأخير» لكي يستطيع أن يموت عن البشر ليفيديهم.
2-يجب أن يكون هذا الإنسان بارا وكاملا لأن الخاطئ لا يمكن أن يفدي الخاطئ, لذلك مكتوب «الأخ لن يفدي الإنسان فداء ولا يعطي الله كفارة عنه. وكريمة هي فدية نفوسهم فغلقت إلي الدهر» (مزمور 7:49, 8). والمسيح له المجد مكتوب عنه أنه «لم يفعل خطية» و«لم يعرف خطية» و«ليس فيه خطية» وقد شهد ببره جميع أعدائه, حتى مسلمه يهوذا, وبيلاطس نفسه الذي حكم عليه.
3-أن تكون قيمته أعظم من قيمة كل البشر معا , لأنه لا يفدي إنسانا واحدا بل ملايين المؤمنين في كل الأجيال. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح الذي هو الله «الذي ظهر في الجسد» أي غير المحدود.
4-أن يكون ملكا لنفسه, أي غير مخلوق لأن كل مخلوق هو ملك خالقه, ولا يمكن أن يقدم لله ما لا يملكه. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح له المجد الذي هو الخالق. وقد قال «لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً » (يوحنا 18:01) .
5-أن يكون قادرا وراغبا في تحمل قصاص خطايا كل البشر الذين ينوب عنهم. كما أنه يكون قادرا أن يعطي لمن يفديهم حياة روحية وطبيعة أدبية تتوافق مع الله.
وبناء عليه لا يمكن إن يكون الفادي إلا المسيح وحده الذي هو الله وإنسان معا .
محبة الله الفائقة المعرفة
يقول قائل: ما الذي يلزم الله بسلوك هذا الطريق الشاق الفائق العقل لفداء بشر خطاة كان يمكن أن يبيدهم ويخلق أفضل منهم؟! إني فعلا أعذر مقدم هذا السؤال, لأنه من ذا الذي يستطيع أن يعرف محبة الله أو يصل إلي بعض أغوارها! والرسول بولس نفسه يقول إنها «فائقة المعرفة» (أفسس 19:3) ويقول يوحنا الرسول «المحبة هي من الله.. ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلي العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (الرسالة الأولى 7:4-10) . وقال أيضاً «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 16:3) . وقال الرسول بولس «الله بي ن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 8:5) , إني لا أري في سؤال السائل اعتراضا , بل تعجبا , وحق له أن يتعجب لأن الله عجيب في كل شيء, لاسيما في المحبة التي هي طبيعته.
هذه المحبة هي التي خططت مشروع الفداء العظيم ونفذته. لماذا؟ «حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته.. حسب غني نعمته... حسب مسرته التي قصدها في نفسه» (أفسس 5:1-9) . وقد قال الرب يسوع «وأنا ان ارتفعت عن الأرض (أي بالصليب) أجذب إلي الجميع» (يوحنا 32:12) . ليت قلوبنا تتعمق في محبة الله وتجتذب إليه, وتحصر في محبته فنقول مع الرسول «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا » (يوحنا الأولى 19:4) .
لم يمت المسيح كشهيد
لم يكن ممكنا أن يموت المسيح كشهيد لأن «بالخطية الموت», والمسيح كان خاليا من الخطية «ليس فيه خطية», فلم يكن للموت سلطان عليه, كما قال بفمه الكريم «ليس أحد يأخذها (أي حياتي) مني بل أضعها أنا من ذاتي». ولذلك قصد اليهود مرارا أن يقتلوه, ولكن لم يجسر أحد أن يمسكه بل كان يمر في وسطهم ويمضي «لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد». وحتى في الليلة الأخيرة التي فيها قبضوا عليه, عندما قال لهم «أنا هو, رجعوا إلي الوراء وسقطوا علي الأرض» (يوحنا 6:18) . وعندما حوكم أمام بيلاطس لم يدافع عن نفسه ولم يجب علي أسئلته حتى تعجب الوالي جدا , وكذلك هيرودس.
ولكن لما قربت الساعة المعينة «ثبت وجهه لينطلق إلي أورشليم» ( لوقا 51:9) , ولم يثن عزمه توسلات تلاميذه ومنهم بطرس الذي قال له «حاشاك يا رب لا يكون لك هذا» (متى 22:16) . كما يقول بروح النبوة «إلي الوراء لم أرتد.. جعلت وجهي كالصوان» (إشعياء 5:50 - 7 ) . وعندما أتت الساعة سلم نفسه بإرادته وأيضاً «مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق» (أعمال 23:2) , و«لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عبرانيين 9:2) .
ويظهر الغرضان الساميان من تقديم المسيح نفسه للموت في آية واحدة حيث يقول الرسول بولس «كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة طيبة» (أفسس 2:5) .
وزيادة علي الشواهد العديدة التي قدمناها للدلالة علي موت المسيح الفدائي الكفاري نضيف الشواهد الآتية :
من العهد القديم: «ثقبوا يدي ورجلي.. يقسمون ثيابي بينهم وعلي لباسي يقترعون-لصق لساني بحنكي «من العطش» وإلي تراب الموت تضعني» (مزمور 15:22, 16, 18). «العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد.. وفي عطشي يسقونني خلا » (مزمور 20:69, 21). «وهو مجروح من أجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلي طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا.. جعل نفسه ذبيحة إثم.. بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها.. وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين» (أشعياء 53). وفي نبوة زكريا نجد الثلاثين من الفضة التي باع بها يهوذا سيده (ص 12:11) , ونجد طعن جنب المسيح بالحربة (ص 10:12) , ونجد أيضاً الجروح التي في يديه (ص 6:13) .
من العهد الجديد: «لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأت لي خد م بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس 45:01) . «جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يوحنا 51:6) . «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا» (كورنثوس الأولى 5 :7). «المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب» (كورنثوس الأولى 3:15) . «الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا» (أفسس 7:1) . «الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع» (1تيموثاوس 6:2) . «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا» (تيطس 2 : 14). «عالمين أنكم ا فتديتم... بدم كريم.. دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم» (بطرس الأولى 18:1-20) . «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده علي الخشبة» (بطرس الأولى 24:2) . «المسيح تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلي الله» (بطرس الأولى 18:3) . «الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه» (رؤيا 5:1) .
دليل قبول الكفارة
هل قبلت كفارة المسيح؟ نعم بكل يقين.
وأول دليل علي ذلك انشقاق حجاب الهيكل في لحظة موت المسيح. والحجاب هو الذي كان يغلق الطريق إلي محضر الله.
والدليل الثاني أن الله أقام المسيح من الأموات «الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا» (رومية 25:4) .
والدليل الثالث أنه دخل إلي السماء «كسابق لأجلنا» (عبرانيين 6: 20), أي أنه فتح لنا الطريق للدخول إلي هناك. ولم يدخل إلي السماء فقط بل «جلس في يمين العظمة في الأعالي» حيث قال له الله إذ شبع بكمال عمله علي الصليب «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك» (عبرانيين 3:1, 13).
بركات الإيمان بالفداء
لقد أكمل المسيح عمل الفداء وصار كل شيء معدا للاقتراب إلي الله والتمتع بكل بركاته. وليس علي الإنسان إلا الإيمان بكمال الفداء الذي أتمه المسيح لأجله شخصيا . وما أكثر, وما أعظم البركات التي ينالها المؤمن. الواقع أنها «كل بركة روحية في السماويات في المسيح» (أفسس 3:1) . ولا يسعنا الوقت لتعداد هذه البركات ولكننا نذكر منها ما يأتي : غفران الخطايا, التبرير (كأن المؤمن لم يفعل ذنبا علي الإطلاق), الولادة الثانية (أي الحصول علي طبيعة جديدة طاهرة), عطية الروح القدس ليسكن في المؤمن, وبه يميت أعمال الطبيعة الفاسدة, وينتج ثمار الطبيعة الجديدة. كما أنه بالروح القدس يقدم الصلاة والعبادة المرضية لله «الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا 32:4) .
وهكذا تأتي نفس المؤمن إلي الله ساجدة متعبدة لتتمتع بالشركة معه كالآب المحب, ولها اليقين بأنه عندما يأتي المسيح ثانية تكون معه في المجد في بيت الآب (يوحنا 3:14) .
هنا يأتي السؤال الهام: هل نستطيع, طالما أننا قد عرفنا الله, أن نصل إليه في حالتنا هذه, أو أن نقترب منه بمجهوداتنا وننال الحظوة لديه ببرنا؟ هل يمكن أن تكون لنا شركة معه الآن ونحن هنا علي الأرض ثم نساكنه في الأبدية التي لا نهاية لها؟
الجواب كلا; لأنه قدوس, كلي القداسة, ونحن بحسب الطبيعة خطاة نجسون كل النجاسة. هذا فضلا عن أنه تعالي قد أصدر علينا حكما بالموت الأبدي نتيجة لعصياننا عليه. ومن أين لنا أن نخلص من هذا الحكم من جهة, وأن نتوافق مع قداسته من الجهة الأخرى؟
إن ملائكته اللامعين القديسين الذين لم يخطئوا يغطون وجوههم أمامه, لا بالنسبة لمجده وجلاله فقط, بل بالنسبة لقداسته الفائقة, إذ وهم يغطون وجوههم ينادون قائلين «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» (إشعياء 2:6 - 3) , فكيف يمكن أن يقترب منه الإنسان الخاطئ «إلي ملائكته ينسب حماقة فكم بالحري سكان بيوت من طين الذين أساسهم في التراب» (أيوب 18:4, 19). وقال آخر «السلطان والهيبة عنده... فكيف يتبرر الإنسان عند الله.. هوذا نفس القمر لا يضئ والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود» (أيوب 2:25-6) .
وإذا كنا لا نستطيع أن نصل إلي الله فما الفائدة من معرفته؟ إنها لا تزيدنا إلا حسرة وألما . ولكن شكرا لله لأنه وجد حلا وحيدا لهذه المشكلة المستعصية. وقبل أن نوضح هذا الحل الإلهي لابد أن نشير إلي حقيقة حالنا كبشر كما يكشفها لنا الله في كتابه المقدس, لنري البعد الشاسع والهوة السحيقة بيننا وبين الله وكيفية السبيل الي عبورها.
حقيقة حالنا كبشر خطاة
لقد خلق الله الإنسان في حالة البرارة والطهارة كما هو مكتوب «الله صنع الإنسان مستقيما » (جامعة 29:7) . ولكن الإنسان عصي الله وتعدي الوصية الوحيدة التي أعطاها له, فوقع تحت طائلة القصاص الذي أصدره الله وأنذره به مقدما قائلا «يوم تأكلمنها (أي من شجرة معرفة الخير والشر) موتا تموت» (تكوين 17:2) . ولهذا الموت ثلاثي:موت روحي, وموت جسدي, وموت أبدي. الموت الروحي هو الانفصال عن الله, وهذا ما حدث بمجرد السقوط في الخطية, إذ شعر آدم وحواء بعدم توافقهما مع محضر الله, فاختبأ آدم وإمرأته«في وسط شجر الجنة» قبل أن يطردهما الله منها.
وهذا الموت الروحي سري في كيانهما مفسدا طبيعتهما, وتوارثه نسلهما. كما هو مكتوب «بإنسان واحد دخلت الخطية إلي العالم.. وبالخطية الموت. وهكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رو 12:5) . وقد شهد بذلك داود النبي إذ قال «هأنذا بالأثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي» (مزمور 5:51) . وشهد بذلك بعض العلماء فقال أرسطو «إن أكثر أعمال الإنسان محكومة بالعواطف والشهوات. لذلك فانه يقع في الخطأ مهما علم العقل بضرره. فالإنسان يفكر جيدا ويرشده فكره إلي الصواب, لكن تتغلب عليه شهوته فتغويه». وقال آخر «إن الأطفال يأتون إلي العالم وفي طبيعتهم العناد والشر والأنانية». وكلنا نعرف الحقيقة المتداولة «النفس أمارة بالسوء» مع أن الله لم يخلقها هكذا ولكنها فسدت بالسقوط وهذا أمر طبيعي فالحية لا تلد إلا حية, والخنزيرة لا يمكن أن تلد حملا , وكذلك لا يجتنون من الشوك عنبا ولا من الحسك تينا , ولا تقدر شجرة رديئة أن تصنع أثماراً جيدة. (متى 16:7- 18). فالناس خطاة لسببين :
أولا :لأنهم مولودون بطبيعة فاسدة.
ثانيا :لأنهم يخطئون بإرادتهم نتيجة لتلبية رغبات طبيعتهم الفاسدة. كما يقول الرسول «إذ أخطأ الجميع», وأيضاً «الجميع زاغوا وفسدوا معا «أي أنتنوا ولم يعد لهم نفع». ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد» ( رومية 12:3) .
هذا هو الموت الروحي. أما الموت الجسدي فحكم به الله علي الإنسان بقوله لآدم «حتى تعود إلي الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلي تراب تعود» (تكوين 19:3) . ولكن العودة إلي التراب ليست هي النهاية لأن نفس الإنسان خالدة تبقي إلي الأبد, لذلك يقول الرسول بولس «وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عبرانيين 27:9) . وبعد الدينونة (المحاكمة) أمام العرش العظيم الأبيض, يطرح جميع الأشرار في النار الأبدية ويقول الكتاب «هذا هو الموت الثاني» (رؤيا 14:02) , أي بعد الموت الجسدي الأول. وعذاب النار الأبدية حقيقة مؤكدة في الكتاب المقدس.
وخلاصة القول هي أن السقوط جلب علي البشر:
1- الموت الروحي أي الانفصال عن الله ويتبع هذا فساد الطبيعة البشرية التي صارت مستودعا لكل بذور الشر والعداوة والقتل والأنانية والشهوات بدرجة تجعل الناس أنفسهم ينفرون من هذه الشرور في الأخرين, فكم بالحري هي كريهة في نظر الله؟!
2- الموت الجسدي أي انفصال الروح عن الجسد الذي يعود إلي التراب الذي أخذ منه.
3- العذاب الأبدي الذي هو قضاء الله علي جميع الخطاة.
وبناء عليه فلا يمكن أن يقترب الإنسان إلي الله, أو تكون له معه علاقة حاضرا وأبديا إلا إذا تم إيفاء مطاليب عدل الله, وإنقاذ الإنسان من عواقب السقوط الوبيلة السابق الإشارة إليها, حتى يمكن أن تزول عنه صفة الذنب ويتبرر أمام الله. ولابد أيضاً من إعطاء الإنسان طبيعة جديدة بها يتوافق مع الله ويصلح لمساكنته. ومعالجة حالة الإنسان من كل الوجوه بالكيفية التي ذكرناها مستحيلة علي الإنسان تماما بالرغم من كل محاولاته المستمرة.
حالة الإنسان الساقط والعلاج الإلهي في (تكوين 3)
مما يسترعي النظر أن الفصل الذي يخبرنا عن سقوط الإنسان في أول صفحات الكتاب المقدس, تكوين 3, يرينا بوضوح :
1-نتائج السقوط الوبيلة التي أشرنا إليها.
2-فشل جهود الإنسان لمعالجة حالته وعودته للاقتراب إلي الله.
3-العلاج الإلهي الكامل الذي يكفل التبرير والقبول والخلاص من العقاب الأبدي, وكأن الله قد أودع كل بذور مقاصده الصالحة نحو الإنسان في الصفحات الأولى من كتابه المقدس.
ونبين باختصار كيف نجد هذه النقاط الهامة الثلاث في أصحاحي 3, 4 من سفر التكوين.
لم يستسلم الإنسان لله ليعالج حاله التعيس, بل حاول أن يعالج أمره بنفسه. عندما نقول الإنسان نقصد آدم وحواء معا «فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر» (تكوين 7:3) . وكل ما استطاعت هذه المآزر أن تفعله هو أن تغطي عري الواحد منهما عن الآخر, وليس عن الله لأن آدم وهو متزر بالمآزر يقول لله «لأني عريان». وأوراق التين تمثل كل الوسائل البشرية في كل العصور لمحاولة إصلاح طبيعة الإنسان وتهذيبها, وكل وسائل الصقل وتحسين الأخلاق والمظهر, فان هذه كلها إنما تخفي مخازي الإنسان الداخلية عن إخوانه, ولكنها لا يمكن أبدا أن تخفيها عن نظر الله أو أن تصلح طبيعة الإنسان بأية درجة من الإصلاح, كما هو مكتوب «المولود من الجسد جسد هو» (يوحنا 6:3) وأيضاً «اهتمام الجسد هو موت.. هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعا لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله» (رومية 6:8-8) . ونري صورة لذلك في إشعياء النبي إذ لم يستطع أن يكتشف حقيقة حاله إلا في نور مجد الرب فصرخ قائلا «ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين» (إشعياء 5:6) .
ثم نجد في تكوين 4 أن قايين أول ابن لآدم حاول أن يقترب إلي الله بأعماله, بمجهوده وتعب يديه, فرفضه الله ولم ينظر إليه. هذا هو الطريق الذي اختطه قايين لنفسه, متجاهلا فساد طبيعته وقضاء الله عليه بالموت كخاطئ. وهو نفس الطريق الذي يسير فيه كل من يظن أن أعماله الصالحة يمكن أن تؤهله للاقتراب من الله بينما يقول الكتاب صراحة «ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين» (يهوذا 11).
أما العلاج الإلهي فيتمثل أولا وقبل كل شيء في الوعد الإلهي بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية, ثم في أقمصة الجلد التي صنعها «الرب الإله لآدم وامرأته... وألبسهما» (تكوين 21:3) . أما نسل المرأة فهو المسيح; المخلص الوحيد الذي «جاء مولودا من امرأة», من عذراء لم تعرف رجلا إذ ح ب ل به فيها من الروح القدس (متى 20:1) . أما سحقه رأس الحية فكان بالموت علي الصليب المشار إليه بالقول «أنت تسحقين عقبه» (أي طبيعته الإنسانية), وفي ذلك مكتوب أيضاً أن المسيح اشترك في اللحم والدم «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس» (عبرانيين 14:2) .
وهنا نجد ثلاث حقائق في غاية الأهمية; هي خلاصة موضوع هذا الكتيب:
1-لاهوت المسيح, لأنه من ذا الذي يقوي علي سحق رأس الشيطان إلا الله.
2-ناسوت المسيح الذي به صار نسل المرأة. لكي يسحقه باعتباره الإنسان.
3-موت المسيح الكفاري الذي بواسطته انتصر علي الشيطان وسحقه.
أما أقمصة الجلد ففيها إشارة واضحة إلي الفداء والكفارة. وسنتكلم عن ذلك بالتفصل, لأنه السر في موت المسيح مصلوبا الذي هو موضوع هذا الفصل. ولكن قبل ذلك أشير إلي نقطتين في الأصحاح الثالث من سفر التكوين:النقطة الأولى أن آدم بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة آمن, ولذلك كساه الله بقميص الجلد بعد إيمانه. وهذا هو طريق الله للتبرير دائما : السمع, والإيمان, ولبس المسيح كثوب البر. ويتمثل هذا في القول «متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه» (رومية 24:3) . أما دليل الإيمان في آدم فهو أنه بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة دعا اسم امرأته حواء «أي حياة» لأنها أم كل حي, مع أنه سمع قبل ذلك مباشرة أنه سيموت ويعود إلي الأرض التي أخذ منها, ولكنه بالإيمان بوعد الله عن نسل المرأة ارتفع فوق دائرة الموت ودعا اسم امرأته «حياة» وبعد ذلك نقرأ مباشرة «صنع الرب الإله لآدم وإمرأته أقمصة من جلد وألبسهما» فجاء التبرير نتيجة للإيمان.
أما النقطة الثانية فنجدها في آخر هذا الأصحاح الثالث من التكوين وهي أن الله «أقام الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة» (تكوين 24:3) .
وفي هذا نجد الإشارة إلي أن الوصول إلي «شجرة الحياة», أو بالحري نوال الحياة إلي الأبد, يحول دونه «الكروبيم ولهيب السيف المتقلب». ولم يستطع أحد أن يفتح لنا هذا الطريق ويوصلنا إلي الحياة الأبدية إلا المسيح الذي تنبأ عنه زكريا قبل مجيء المسيح بالجسد بخمسمائة سنة قائلا «استيقظ يا سيف علي راعي وعلي رجل رفقتي (المسيح) اضرب الراعي» (زكريا 7:13) . أما الكروبيم فكانت مصورة علي حجاب الهيكل (خروج 31:26) . ولما مات المسيح علي الصليب نقرأ «فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلي اثنين من فوق إلي أسفل» (متى 50:27, 51), أي أن الكروبيم الحارسين لطريق شجرة الحياة قد أفسحوا الطريق للوصول إلي حضرة الله, والتمتع بالحياة الأبدية علي أساس الإيمان بموت المسيح الذي احتمل ضربة سيف العدل الإلهي عوضا عنا.
حتمية الفداء بموت المسيح
رأينا فيما سلف أنه لا يمكن للإنسان تمجيد الله ومحو الإهانة التي لحقته بسبب العصيان, كما لا يمكنه تخليص نفسه من عواقب سقوطه والحصول علي التبرير والقبول لديه تعالي. ومن ثم لزم موت المسيح لفدائه ولتحقيق هذه الأغراض.
وهنا يأتي السؤال:ألم تكن هناك وسيلة أخري؟ الجواب كلا. وهنا يأتي سؤال آخر: كيف يسوغ لنا أن نحصر قدرة الله غير المحدودة في وسيلة واحدة لا بديل لها؟ الجواب:أن الله يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أي أمر, ولكن ذلك في مجال كماله المطلق وتوافق جميع صفاته معا . فلا يقدر الله مثلا أن ينكر نفسه (تيموثاوس الثانية 13:2) . ولا يمكن أن ينكث عهده «لا أكذب من جهة أمانتي. لا أنقض عهدي. ولا أغير ما خرج من شفتي» (مزمور 34:98, عبرانيين 18:6).
وبما أن الله عادل وقدوس, فلا يتفق مع عدله وقداسته أن يتساهل مع الخطية أو يدعها تمر بدون توقيع القصاص الذي صدر منه تعالي «أجرة الخطية هي موت» (رومية 23:6) . صحيح أن الله غفور رحيم, ونحن نعتز برحمته ومحبته اللتين لا حد لهما. لكن الرحمة لا يمكن أن تتجه إلا متوافقة مع القداسة والعدل. فالذين يريحون ضمائرهم بترك أمر خطاياهم إلي رحمة الله هم واهمون إن لم يستندوا علي الأساس الصحيح للرحمة وهو الفداء بواسطة بديل كفء يتحمل كل متطلبات العدل, وحينئذ يتسع المجال أمام رحمة الله لتتجه للبشر الخطاة لقبولهم وتبريرهم عدلا حيث يكون الله «بارا (عادلا ) ويبرر من هو من الإيمان بيسوع» (رومية 26:3) . ولا يوجد بديل كفء إلا المسيح وحده كما سنري. والصليب هو الحل الوحيد الذي تمت فيه النبوة «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (مزمور 10:85) .
ومبدأ الفداء يملأ الكتاب المقدس من أوله إلي آخره, فقد رأيناه لأول مرة في تكوين 3 ثم في تكوين4 كما سبقت الإشارة. وكان تقديم الذبائح هو طريق العبادة المقبولة لدي الله كما نري في نوح حيث نقرأ أنه «أصعد محرقات علي المذبح فتنسم الرب رائحة الرضا» (تكوين 21:8) . وكان إبراهيم يقيم المذبح ملازما لخيمته. كما نقرأ عن أيوب الذي كان معاصرا لإبراهيم أنه كان يقدم ذبائح بعدد بنيه لفدائهم من القصاص علي ما قد يكون صدر منهم من خطايا ولو بالفكر. وقال الله «أنا أعطيتكم الدم علي المذبح للتكفير عن نفوسكم لأن الدم يكفر عن النفس» (لاويين 10:17) ولذلك قال الرسول بولس «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عبرانيين 22:9) .
وتقديم الذبائح يفيد الاعتراف بالخطايا وباستحقاق الموت. وقد رسم الله لشعبه قديما في سفر اللاويين أربعة أنواع رئيسية من الذبائح هي: المحرقة, وذبيحة الخطية, وذبيحة الاثم, وذبيحة السلامة. ومن الذبائح ما كانوا يضعون أياديهم علي رؤوسها ويقرون بخطاياهم رمزا لانتقال هذه الخطايا إلي الذبيحة قبل ذبحها. أما المحرقة فكانوا يضعون أيديهم علي رأسها رمزا لانتقال براءتها إلي مقدم الذبيحة.
ولم تكن تلك الذبائح إلا رمزا لتقديم المسيح نفسه ذبيحة لله بحسب رسم المشورات الأزلية. ولذلك لما رأي يوحنا المعمدان المسيح مقبلا إليه قال «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا 29:1) . أما الذبائح في ذاتها فلم تكن ترفع خطايا «لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا» «لذلك عند دخوله إلي العالم يقول (المسيح) ذبيحة وقربانا لم ترد ولكن هيأت لي جسدا .. هأنذا أجئ في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله.. ينزع الأول (أي الذبائح الحيوانية) لكي يثبت الثاني (أي ذبيحة المسيح) فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عبرانيين 4:10-10) . ولذلك قال داود «لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضي» (مزمور 6:51) . وقال ميخا «بم أتقدم للرب. هل أتقدم بمحرقات.. هل أعطي بكري عن معصيتي؟ ثمرة جسدي عن خطية نفسي» (ميخا 6:6, 7).
الشروط الواجب توافرها في الفادي
1-لابد أن يكون الفادي إنسانا , ولذلك دعي المسيح «ابن الإنسان» و«الإنسان الثاني» و«آدم الأخير» لكي يستطيع أن يموت عن البشر ليفيديهم.
2-يجب أن يكون هذا الإنسان بارا وكاملا لأن الخاطئ لا يمكن أن يفدي الخاطئ, لذلك مكتوب «الأخ لن يفدي الإنسان فداء ولا يعطي الله كفارة عنه. وكريمة هي فدية نفوسهم فغلقت إلي الدهر» (مزمور 7:49, 8). والمسيح له المجد مكتوب عنه أنه «لم يفعل خطية» و«لم يعرف خطية» و«ليس فيه خطية» وقد شهد ببره جميع أعدائه, حتى مسلمه يهوذا, وبيلاطس نفسه الذي حكم عليه.
3-أن تكون قيمته أعظم من قيمة كل البشر معا , لأنه لا يفدي إنسانا واحدا بل ملايين المؤمنين في كل الأجيال. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح الذي هو الله «الذي ظهر في الجسد» أي غير المحدود.
4-أن يكون ملكا لنفسه, أي غير مخلوق لأن كل مخلوق هو ملك خالقه, ولا يمكن أن يقدم لله ما لا يملكه. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح له المجد الذي هو الخالق. وقد قال «لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً » (يوحنا 18:01) .
5-أن يكون قادرا وراغبا في تحمل قصاص خطايا كل البشر الذين ينوب عنهم. كما أنه يكون قادرا أن يعطي لمن يفديهم حياة روحية وطبيعة أدبية تتوافق مع الله.
وبناء عليه لا يمكن إن يكون الفادي إلا المسيح وحده الذي هو الله وإنسان معا .
محبة الله الفائقة المعرفة
يقول قائل: ما الذي يلزم الله بسلوك هذا الطريق الشاق الفائق العقل لفداء بشر خطاة كان يمكن أن يبيدهم ويخلق أفضل منهم؟! إني فعلا أعذر مقدم هذا السؤال, لأنه من ذا الذي يستطيع أن يعرف محبة الله أو يصل إلي بعض أغوارها! والرسول بولس نفسه يقول إنها «فائقة المعرفة» (أفسس 19:3) ويقول يوحنا الرسول «المحبة هي من الله.. ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلي العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (الرسالة الأولى 7:4-10) . وقال أيضاً «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 16:3) . وقال الرسول بولس «الله بي ن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 8:5) , إني لا أري في سؤال السائل اعتراضا , بل تعجبا , وحق له أن يتعجب لأن الله عجيب في كل شيء, لاسيما في المحبة التي هي طبيعته.
هذه المحبة هي التي خططت مشروع الفداء العظيم ونفذته. لماذا؟ «حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته.. حسب غني نعمته... حسب مسرته التي قصدها في نفسه» (أفسس 5:1-9) . وقد قال الرب يسوع «وأنا ان ارتفعت عن الأرض (أي بالصليب) أجذب إلي الجميع» (يوحنا 32:12) . ليت قلوبنا تتعمق في محبة الله وتجتذب إليه, وتحصر في محبته فنقول مع الرسول «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا » (يوحنا الأولى 19:4) .
لم يمت المسيح كشهيد
لم يكن ممكنا أن يموت المسيح كشهيد لأن «بالخطية الموت», والمسيح كان خاليا من الخطية «ليس فيه خطية», فلم يكن للموت سلطان عليه, كما قال بفمه الكريم «ليس أحد يأخذها (أي حياتي) مني بل أضعها أنا من ذاتي». ولذلك قصد اليهود مرارا أن يقتلوه, ولكن لم يجسر أحد أن يمسكه بل كان يمر في وسطهم ويمضي «لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد». وحتى في الليلة الأخيرة التي فيها قبضوا عليه, عندما قال لهم «أنا هو, رجعوا إلي الوراء وسقطوا علي الأرض» (يوحنا 6:18) . وعندما حوكم أمام بيلاطس لم يدافع عن نفسه ولم يجب علي أسئلته حتى تعجب الوالي جدا , وكذلك هيرودس.
ولكن لما قربت الساعة المعينة «ثبت وجهه لينطلق إلي أورشليم» ( لوقا 51:9) , ولم يثن عزمه توسلات تلاميذه ومنهم بطرس الذي قال له «حاشاك يا رب لا يكون لك هذا» (متى 22:16) . كما يقول بروح النبوة «إلي الوراء لم أرتد.. جعلت وجهي كالصوان» (إشعياء 5:50 - 7 ) . وعندما أتت الساعة سلم نفسه بإرادته وأيضاً «مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق» (أعمال 23:2) , و«لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عبرانيين 9:2) .
ويظهر الغرضان الساميان من تقديم المسيح نفسه للموت في آية واحدة حيث يقول الرسول بولس «كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة طيبة» (أفسس 2:5) .
وزيادة علي الشواهد العديدة التي قدمناها للدلالة علي موت المسيح الفدائي الكفاري نضيف الشواهد الآتية :
من العهد القديم: «ثقبوا يدي ورجلي.. يقسمون ثيابي بينهم وعلي لباسي يقترعون-لصق لساني بحنكي «من العطش» وإلي تراب الموت تضعني» (مزمور 15:22, 16, 18). «العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد.. وفي عطشي يسقونني خلا » (مزمور 20:69, 21). «وهو مجروح من أجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلي طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا.. جعل نفسه ذبيحة إثم.. بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها.. وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين» (أشعياء 53). وفي نبوة زكريا نجد الثلاثين من الفضة التي باع بها يهوذا سيده (ص 12:11) , ونجد طعن جنب المسيح بالحربة (ص 10:12) , ونجد أيضاً الجروح التي في يديه (ص 6:13) .
من العهد الجديد: «لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأت لي خد م بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس 45:01) . «جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يوحنا 51:6) . «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا» (كورنثوس الأولى 5 :7). «المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب» (كورنثوس الأولى 3:15) . «الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا» (أفسس 7:1) . «الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع» (1تيموثاوس 6:2) . «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا» (تيطس 2 : 14). «عالمين أنكم ا فتديتم... بدم كريم.. دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم» (بطرس الأولى 18:1-20) . «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده علي الخشبة» (بطرس الأولى 24:2) . «المسيح تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلي الله» (بطرس الأولى 18:3) . «الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه» (رؤيا 5:1) .
دليل قبول الكفارة
هل قبلت كفارة المسيح؟ نعم بكل يقين.
وأول دليل علي ذلك انشقاق حجاب الهيكل في لحظة موت المسيح. والحجاب هو الذي كان يغلق الطريق إلي محضر الله.
والدليل الثاني أن الله أقام المسيح من الأموات «الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا» (رومية 25:4) .
والدليل الثالث أنه دخل إلي السماء «كسابق لأجلنا» (عبرانيين 6: 20), أي أنه فتح لنا الطريق للدخول إلي هناك. ولم يدخل إلي السماء فقط بل «جلس في يمين العظمة في الأعالي» حيث قال له الله إذ شبع بكمال عمله علي الصليب «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك» (عبرانيين 3:1, 13).
بركات الإيمان بالفداء
لقد أكمل المسيح عمل الفداء وصار كل شيء معدا للاقتراب إلي الله والتمتع بكل بركاته. وليس علي الإنسان إلا الإيمان بكمال الفداء الذي أتمه المسيح لأجله شخصيا . وما أكثر, وما أعظم البركات التي ينالها المؤمن. الواقع أنها «كل بركة روحية في السماويات في المسيح» (أفسس 3:1) . ولا يسعنا الوقت لتعداد هذه البركات ولكننا نذكر منها ما يأتي : غفران الخطايا, التبرير (كأن المؤمن لم يفعل ذنبا علي الإطلاق), الولادة الثانية (أي الحصول علي طبيعة جديدة طاهرة), عطية الروح القدس ليسكن في المؤمن, وبه يميت أعمال الطبيعة الفاسدة, وينتج ثمار الطبيعة الجديدة. كما أنه بالروح القدس يقدم الصلاة والعبادة المرضية لله «الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا 32:4) .
وهكذا تأتي نفس المؤمن إلي الله ساجدة متعبدة لتتمتع بالشركة معه كالآب المحب, ولها اليقين بأنه عندما يأتي المسيح ثانية تكون معه في المجد في بيت الآب (يوحنا 3:14) .
صحة وحي الكتاب المقدس بعهديه وعدم وصول أي تحريف إليه
استقينا كل الحقائق في الفصول السابقة من الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس, فلابد من إثبات صدوره بوحي من الله, وسلامته من أي زيف أو تحريف. والكتاب المقدس كما ذكرنا هو إعلان الله عن ذاته. كان لابد أن الله يعطي هذا الإعلان للبشر, وإلا كيف نستطيع أن نعرف الله ونعبده بدون إعلان منه. هذا الإعلان هو ما ي سمي «كلمة الله» التي أوحي بها إلي أنبيائه علي مدي 1600 سنة, أي التوراة والإنجيل. وإن كان الله قد أعطي إعلانا للبشر ونطق بأقواله المقدسة فكلامه يثبت إلي الأبد نظير ثباته هو تعالي. كان من المحتم أن الله يضمن سلامة الكتاب المقدس حتى لا يعبث به أحد من مخلوقاته, سواء كان إنسانا أو شيطانا , فلا يستطيع مخلوق أن يحر فه أي يغي ر شيئا , أو يزيد عليه شيئا , أو ينقص منه. هناك استحالة التحريف وإلا كان المخلوق أعظم من خالقه.
وإني أقتبس بضع كلمات من أقوال الله من الفصل 40 من كتاب النبي إشعياء عن عظمة قدرة الله وثبات كلمته :
«كل إنسان كعشب وكل جماله كزهر الحقل يبس العشب «العشب هو أضعف النباتات» ذبل الزهر وأما كلمة إلهنا فتثبت إلي الأبد.. هوذا الأمم كنقطة من دلو كغبار الميزان تحسب.. كل الأمم كلا شيء قدامه.. الجالس علي كرة الأرض وسكانها كالجندب. الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذي يجعل العظماء لا شيئا ويصير قضاة الأرض كالباطل.. فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس. ارفعوا إلي العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذي ي خرج بعدد جندها (أي الكواكب والنجوم), يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد».
إن الرب يقول لا يمكن أن يفقد أحد الكواكب أو النجوم التي جعلها في السماء, وذلك بسبب كثرة قوته; فهل يفقد شيء من كلامه المدون في الكتاب المقدس؟ يقول الرب يسوع «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» (متى 35:24)
والواقع أن تهمة تحريف الكتاب المقدس تهمة جزافية باطلة غير مقبولة شكلا أو موضوعا , لأنها غير مدعمة بأسانيد الاتهام الواجبة.
فتهمة التزييف يجب أن تقترن بتحديد الآيات المزيفة, وبيان الأصل قبل التزييف لمضاهاتها عليه, وبيان زمان التزييف, وكيفيته, والغرض منه, ومن الذين قاموا بالتزييف, وكيف اتفقوا عليه, وكيف لم يفطن له أحد طوال الأجيال.
من السهل أن تكيل الاتهامات لشخص دون أن تقدم الأدلة عليها. ولكن أغرب الكل أن تتهم شخصا لا تعرفه شخصيا , وتبني اتهامك علي ما سمعته من آخرين. هل تعرف الكتاب المقدس؟ هل قرأته؟ تأكد يا صديقي أنك إذا قرأت الكتاب المقدس فسوف يسقط اتهامك من تلقاء ذاته, لأن الكتاب وحدة متماسكة منسجمة, تتجاوب كل أسفاره مع بعضها تجاوبا كاملا , مع اختلاف كاتبيه من عدة نواح, وتباعد أزمنة كتابتة, ومناطق صدوره, وذلك لأن المصدر واحد وهو الله, والكاتب واحد وهو الروح القدس. «كل الكتاب هو موحى به من الله» (تيموثاوس الثانية16:3) . وأيضاً «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (بطرس الثانية1: 21).
كتاب الله
لقد كتب الكتاب المقدس علي مدي 1600 سنة, من موسى النبي إلي يوحنا الرسول, وكتبه أربعون كاتبا مختلفي البيئة والثقافة والمركز الاجتماعي. وهو كتاب عجيب في تكوينه, وترتيب أسفاره, فيبدأ بسفر التكوين, نشأة الخليقة, وينتهي ذلك السفر بمشهد الموت «مات يوسف فحنطوه ووضعوه في تابوت في مصر» (تكوين26:50) ; وذلك بسبب دخول «الخطية إلي العالم, وبالخطية الموت» والسفر الثاني, سفر الخروج الذي يأتي بالعلاج الإلهي للخطية, الفداء «أري الدم (دم خروف الفصح) وأعبر عنكم». والسفر الثالث, سفر اللاويين وهو سفر العبادة والتقرب إلي الله; الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا علي أساس الفداء. وهكذا... ونجد مثلا ترتيب مزامير 22, 23, 24 الأول مزمور الصليب, والثاني مزمور الرعاية, والثالث مزمور الملك; ترتيبا إلهيا عجيبا . وإذا نظرنا إلي أول صفحة في الكتاب المقدس التي تحدثنا عن الخليقة: من الذي يعرف كيفية تكوينها وترتيب أيامها إلا الله الذي أوحي بالكتاب المقدس؟ لأن آدم نفسه لم يكن يعرف ما سبقه. وإذا جئنا إلي الأناجيل الأربعة نجد أن لكل إنجيل اتجاها خاصا . فإنجيل متى هو إنجيل الملك, ولذلك يذكر نسب الرب حسب الجسد إلي داود, وإنجيل مرقس هو إنجيل الخدمة ولذلك لا يذكر نسب الرب بالمرة, وإنجيل لوقا هو إنجيل النعمة الذي يتحدث عن المسيح كابن الإنسان «نسل المرأة» ولذلك يذكر نسب المسيح إلي آدم. أما إنجيل يوحنا فلا يذكر ولادة المسيح بالمرة لأنه يحدثنا عنه بوصفه ابن الله الأزلي الذي كان عند الله, وكان هو الله, ثم جاء بالجسد في الوقت المعين «والكلمة صار جسدا » (يوحنا1: 14).
والكتاب المقدس كله يسير في طريق مستقيم نحو هدف واحد, وهو إعلان الله ذاته, ومقاصد محبته نحو البشر من الأزل إلي الأبد. وموضوع الكتاب كله «المسيح», «فإن شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤيا 10:19) .
ولا يحتاج الكتاب المقدس إلي دليل علي صحته خارجا عنه, بل يشهد هو لذاته, فتجد في كل سفر بعض الاقتباسات من الأسفار الأخرى مع أن كتبة الأسفار لم يتلاقوا ولم يتفقوا معا .
ونجد في العهد القديم نبوات عجيبة تمت بحذافيرها في العهد الجديد:مثل مكان ولادة المسيح في بيت لحم, والأسرة التي ولد منها «بيت داود», وولادته من عذراء (إشعياء 14:7) , وآلامه الكفارية علي الصليب, وثقب يديه ورجليه (انظر الفصل السابق), ودفنه في قبر رجل غني… الخ. قال أدولف سافير العالم اليهودي الذي أصبح مسيحياً إن العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد مثل العلاقة بين المسألة وحلها, أو أساس البيت وجدرانه مما يدل علي أن كتبته جميعا كانوا مسوقين بروح الله نفسه. نجد مثلا في (تكوين 18:14) شخصا يظهر فجأة بدون بيان سابق لأبويه أو نسبه أو بداية حياته, «ملكي صادق» ثم نجد ذكره بعد ذلك في مزمور 110. وترينا رسالة العبرانيين سبب إغفال تلك البيانات وهو انه «مشبه بابن الله» (عبرانيين 3:7) .
ولنأخذ مثالا آخر علي دقة كلمات الوحي المقدس: نقرأ في أشعياء 16 أن المسيح مسحه الله ليبشر المساكين ولينادي «بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا», بينما نقرأ في لوقا 4 أن المسيح قرأ هذا الأصحاح وقال للسامعين «اليوم قد تم هذا المكتوب» ولكنه أغفل عمداً يوم الانتقام لأن وقته لم يأت بعد.
ونجد في الكتاب المقدس نبوات عن تاريخ ممالك العالم إلي وقت النهاية, وتاريخ شعب اليهود إلي وقت النهاية وذلك في سفر دانيال, وتاريخ الكنيسة المسيحية في سفر الرؤيا, وغير ذلك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره. وقد تم بعض هذه النبوات بالضبط وبعضها في طريق الإتمام. ونشاهد ذلك بعيوننا في الوقت الحاضر. وقد شهد المسيح له المجد للعهد القديم مقتبسا عدة آيات منه, كما أوضح لتلاميذه الأمور المختصة بشخصه في أسفار موسى والمزامير والأنبياء.
وإنه كتاب واحد متماسك عجيب, هو كتاب الله الذي يخبرك عن مقاصد الأزل قبل خلق العالم, وعما سيحدث في المستقبل إلي الأبد-إلي السماء الجديدة والأرض الجديدة. اقرأه, لا تحكم عليه قبل أن تقرأه, اقرأه فسيمسك بضميرك ويكشف لك عما في داخلك ويأسر قلبك لأنه حي وفعال. لقد غير حياة ملايين من الناس من الشر والنجاسة إلي الطهر والقداسة, بعض الأشخاص قرأوه لينتقدوه فآمنوا به, وسجدوا لله وسلموه قلوبهم. كما ذهب بعض اليهود ليمسكوا المسيح, وسمعوا أقواله, فرجعوا إلي مرسليهم يقولون «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يوحنا 46:7) .
لم يحرف
لا يصح اتهام الكتاب المقدس بالتحريف للتخلص من صعوبة فهم حقائق الثالوث الأقدس, ولاهوت المسيح, وموته مصلوبا . لأن هذه الحقائق متداخلة في كل الكتاب تداخلا تاما , لا يمكن فصلها منه, كالخيوط التي يتكون منها نسيج الثوب إنها سدي الكتاب ولحمته.
فإذا نسبت التحريف إلي بعض الأجزاء وحذفتها من الكتاب فستجد ما حذفته في باقي أجزائه. وقد رأينا في الفصل السابق أن صفحة واحدة في أول الكتاب المقدس (تكوين3) تحتوي علي هذه الحقائق كلها والآن نقدم بعض الأدلة الواضحة علي عدم إمكانية تحريف الكتاب:
العهد القديم:
إنه لا يخبرنا عن انتصارات اليهود فقط, بل عن هزائمهم أيضاً . ولا يخبرنا عن امتيازاتهم فقط بل عن وصف الله لهم بالرداءة, وغضبه عليهم. كما أنه لا يذكر فضائل الأنبياء فقط بل يكشف أخطاءهم, ولا يستر ما ارتكبوه من خطايا كان بعضها شنيعا . وقد كان العهد القديم موجودا في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين وكانت هناك نسخ منه في الهيكل والمجامع, وكانوا يحافظون عليه بكل دقة وعناية, وكان الأتقياء منهم يواظبون علي قراءته كل يوم, وكانوا يعرفون عدد آياته وكلماته, بل وعدد حروفه أيضاً , وعدد المرات التي وردت فيها كل كلمة وكل حرف. هذا فضلا عما سبقت الإشارة إليه من ورود اقتباسات عديدة منه في العهد الجديد.
العهد الجديد:
تحريفه مستحيل للأسباب الآتية:
1- انتشر الإنجيل(العهد الجديد كله) في الشرق والغرب في القرن الأول الميلادي, وترجم إلي بعض اللغات, ولم يعترض عليه أحد من اليهود, وكان منهم من عاصر المسيح وسمعه. وكان الإنجيل ي تلي في اجتماعات العبادة. ويحفظ كثيرون أجزاء منه عن ظهر قلب منذ القرن الثاني بشهادة المؤرخين.
2- هذا وقد اختلف المعلمون المسيحيون في تفسير بعض آيات منه وانقسموا إلي عدة طوائف ولكن لم يطعن أحد منهم في النص المكتوب, بل بقي إنجيل واحد لكل الطوائف في كل العصور وفي كل بلاد العالم.
3- وجدت نسخ من الأناجيل وبعض الرسائل مكتوبة في سنة 125م, 180 م أي بعد كتابتها الأصلية بفترة وجيزة وهي محفوظة للآن. كما وجدت في بلادنا المصرية النسخة المسماة «الأخميمية» المكتوبة في القرن الثالث وهي محفوظة في لندن. كما وجدت من القرن الرابع نسخ «سانت كاترين» والنسخة «السينائية» وهي محفوظة بالمتحف البريطاني, والنسخة «الفاتيكانية». ومن القرن الخامس النسخة «الاسكندرانية» والنسخة «الافرائيمية» المحفوظة في باريس. كما أنه توجد كتب دينية منذ القرن الأول بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس منها «رسالة كليمندس» سنة 80م وهي محفوظة بمتحف لندن. ومن القرن الثاني كتابات «بوليكاربوس» تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده. وتفسير للإنجيل في ستة مجلدات بقلم «بابياس» وكثير غيرهم. وقد بحث بعض العلماء الآيات الواردة في هذه الكتب فاتضح لهم أنها موجودة في الكتاب المقدس تماما . حتى قال بعض العلماء أنه لو فقدت نسخة الكتاب المقدس الحالية لأمكن جمع معظم آياتها من الكتب السابق ذكرها.
4- هل يكون الغرض من التحريف إزالة العقد الظاهرية من الكتاب أم إضافتها إليه, إن الآيات التي تعلن الثالوث الأقدس, ولاهوت المسيح, وناسوته, وموته علي الصليب لا تزال موجودة في الكتاب بعهديه القديم والجديد بدون أية محاولة لتفسيرها أو إزالة ما فيها من صعوبة تثير اعتراض غير المؤمنين.
5- تمسك المسيحيون منذ البداءة بهذه الحقائق مع أنها تفوق الإدراك البشري, وقدموا حياتهم للاضطهاد, والعذاب, والموت من أجلها. فهل يعقل أن يكونوا قد فعلوا ذلك في سبيل أقوال قد زوروها.
6- توجد بعض اختلافات لفظية في الأناجيل, فلو كان قد حدث فيه تحريف أما كانت أزيلت تلك الاختلافات؟
7- حاول الشيطان إبادة العهد القديم وحرقه قبل المسيح, كما حاول إخفاء العهد الجديد وإبادته في العصور المظلمة, ولكن الله حرص علي صون كتابه ليبقي لنا نقيا كاملا لننهل منه ماء الحياة كما قال بطرس قديما للمسيح «يا رب إلي من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك» (يوحنا 6: 68).
أما ما تجده في الكتاب من صعوبات لا تستطيع فهمها فصل للرب طالبا منه أن يكشفها لك, ويريحك من جهتها, فهو «سامع الصلاة».
وإني أطلب من الله بكل قلبي أن يستخدم هذا الكتيب لإراحة أفكار الكثيرين, واقتيادهم إلي معرفة الله, والتجاوب مع محبته الفائقة.
وإني أقتبس بضع كلمات من أقوال الله من الفصل 40 من كتاب النبي إشعياء عن عظمة قدرة الله وثبات كلمته :
«كل إنسان كعشب وكل جماله كزهر الحقل يبس العشب «العشب هو أضعف النباتات» ذبل الزهر وأما كلمة إلهنا فتثبت إلي الأبد.. هوذا الأمم كنقطة من دلو كغبار الميزان تحسب.. كل الأمم كلا شيء قدامه.. الجالس علي كرة الأرض وسكانها كالجندب. الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذي يجعل العظماء لا شيئا ويصير قضاة الأرض كالباطل.. فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس. ارفعوا إلي العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذي ي خرج بعدد جندها (أي الكواكب والنجوم), يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد».
إن الرب يقول لا يمكن أن يفقد أحد الكواكب أو النجوم التي جعلها في السماء, وذلك بسبب كثرة قوته; فهل يفقد شيء من كلامه المدون في الكتاب المقدس؟ يقول الرب يسوع «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» (متى 35:24)
والواقع أن تهمة تحريف الكتاب المقدس تهمة جزافية باطلة غير مقبولة شكلا أو موضوعا , لأنها غير مدعمة بأسانيد الاتهام الواجبة.
فتهمة التزييف يجب أن تقترن بتحديد الآيات المزيفة, وبيان الأصل قبل التزييف لمضاهاتها عليه, وبيان زمان التزييف, وكيفيته, والغرض منه, ومن الذين قاموا بالتزييف, وكيف اتفقوا عليه, وكيف لم يفطن له أحد طوال الأجيال.
من السهل أن تكيل الاتهامات لشخص دون أن تقدم الأدلة عليها. ولكن أغرب الكل أن تتهم شخصا لا تعرفه شخصيا , وتبني اتهامك علي ما سمعته من آخرين. هل تعرف الكتاب المقدس؟ هل قرأته؟ تأكد يا صديقي أنك إذا قرأت الكتاب المقدس فسوف يسقط اتهامك من تلقاء ذاته, لأن الكتاب وحدة متماسكة منسجمة, تتجاوب كل أسفاره مع بعضها تجاوبا كاملا , مع اختلاف كاتبيه من عدة نواح, وتباعد أزمنة كتابتة, ومناطق صدوره, وذلك لأن المصدر واحد وهو الله, والكاتب واحد وهو الروح القدس. «كل الكتاب هو موحى به من الله» (تيموثاوس الثانية16:3) . وأيضاً «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (بطرس الثانية1: 21).
كتاب الله
لقد كتب الكتاب المقدس علي مدي 1600 سنة, من موسى النبي إلي يوحنا الرسول, وكتبه أربعون كاتبا مختلفي البيئة والثقافة والمركز الاجتماعي. وهو كتاب عجيب في تكوينه, وترتيب أسفاره, فيبدأ بسفر التكوين, نشأة الخليقة, وينتهي ذلك السفر بمشهد الموت «مات يوسف فحنطوه ووضعوه في تابوت في مصر» (تكوين26:50) ; وذلك بسبب دخول «الخطية إلي العالم, وبالخطية الموت» والسفر الثاني, سفر الخروج الذي يأتي بالعلاج الإلهي للخطية, الفداء «أري الدم (دم خروف الفصح) وأعبر عنكم». والسفر الثالث, سفر اللاويين وهو سفر العبادة والتقرب إلي الله; الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا علي أساس الفداء. وهكذا... ونجد مثلا ترتيب مزامير 22, 23, 24 الأول مزمور الصليب, والثاني مزمور الرعاية, والثالث مزمور الملك; ترتيبا إلهيا عجيبا . وإذا نظرنا إلي أول صفحة في الكتاب المقدس التي تحدثنا عن الخليقة: من الذي يعرف كيفية تكوينها وترتيب أيامها إلا الله الذي أوحي بالكتاب المقدس؟ لأن آدم نفسه لم يكن يعرف ما سبقه. وإذا جئنا إلي الأناجيل الأربعة نجد أن لكل إنجيل اتجاها خاصا . فإنجيل متى هو إنجيل الملك, ولذلك يذكر نسب الرب حسب الجسد إلي داود, وإنجيل مرقس هو إنجيل الخدمة ولذلك لا يذكر نسب الرب بالمرة, وإنجيل لوقا هو إنجيل النعمة الذي يتحدث عن المسيح كابن الإنسان «نسل المرأة» ولذلك يذكر نسب المسيح إلي آدم. أما إنجيل يوحنا فلا يذكر ولادة المسيح بالمرة لأنه يحدثنا عنه بوصفه ابن الله الأزلي الذي كان عند الله, وكان هو الله, ثم جاء بالجسد في الوقت المعين «والكلمة صار جسدا » (يوحنا1: 14).
والكتاب المقدس كله يسير في طريق مستقيم نحو هدف واحد, وهو إعلان الله ذاته, ومقاصد محبته نحو البشر من الأزل إلي الأبد. وموضوع الكتاب كله «المسيح», «فإن شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤيا 10:19) .
ولا يحتاج الكتاب المقدس إلي دليل علي صحته خارجا عنه, بل يشهد هو لذاته, فتجد في كل سفر بعض الاقتباسات من الأسفار الأخرى مع أن كتبة الأسفار لم يتلاقوا ولم يتفقوا معا .
ونجد في العهد القديم نبوات عجيبة تمت بحذافيرها في العهد الجديد:مثل مكان ولادة المسيح في بيت لحم, والأسرة التي ولد منها «بيت داود», وولادته من عذراء (إشعياء 14:7) , وآلامه الكفارية علي الصليب, وثقب يديه ورجليه (انظر الفصل السابق), ودفنه في قبر رجل غني… الخ. قال أدولف سافير العالم اليهودي الذي أصبح مسيحياً إن العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد مثل العلاقة بين المسألة وحلها, أو أساس البيت وجدرانه مما يدل علي أن كتبته جميعا كانوا مسوقين بروح الله نفسه. نجد مثلا في (تكوين 18:14) شخصا يظهر فجأة بدون بيان سابق لأبويه أو نسبه أو بداية حياته, «ملكي صادق» ثم نجد ذكره بعد ذلك في مزمور 110. وترينا رسالة العبرانيين سبب إغفال تلك البيانات وهو انه «مشبه بابن الله» (عبرانيين 3:7) .
ولنأخذ مثالا آخر علي دقة كلمات الوحي المقدس: نقرأ في أشعياء 16 أن المسيح مسحه الله ليبشر المساكين ولينادي «بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا», بينما نقرأ في لوقا 4 أن المسيح قرأ هذا الأصحاح وقال للسامعين «اليوم قد تم هذا المكتوب» ولكنه أغفل عمداً يوم الانتقام لأن وقته لم يأت بعد.
ونجد في الكتاب المقدس نبوات عن تاريخ ممالك العالم إلي وقت النهاية, وتاريخ شعب اليهود إلي وقت النهاية وذلك في سفر دانيال, وتاريخ الكنيسة المسيحية في سفر الرؤيا, وغير ذلك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره. وقد تم بعض هذه النبوات بالضبط وبعضها في طريق الإتمام. ونشاهد ذلك بعيوننا في الوقت الحاضر. وقد شهد المسيح له المجد للعهد القديم مقتبسا عدة آيات منه, كما أوضح لتلاميذه الأمور المختصة بشخصه في أسفار موسى والمزامير والأنبياء.
وإنه كتاب واحد متماسك عجيب, هو كتاب الله الذي يخبرك عن مقاصد الأزل قبل خلق العالم, وعما سيحدث في المستقبل إلي الأبد-إلي السماء الجديدة والأرض الجديدة. اقرأه, لا تحكم عليه قبل أن تقرأه, اقرأه فسيمسك بضميرك ويكشف لك عما في داخلك ويأسر قلبك لأنه حي وفعال. لقد غير حياة ملايين من الناس من الشر والنجاسة إلي الطهر والقداسة, بعض الأشخاص قرأوه لينتقدوه فآمنوا به, وسجدوا لله وسلموه قلوبهم. كما ذهب بعض اليهود ليمسكوا المسيح, وسمعوا أقواله, فرجعوا إلي مرسليهم يقولون «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يوحنا 46:7) .
لم يحرف
لا يصح اتهام الكتاب المقدس بالتحريف للتخلص من صعوبة فهم حقائق الثالوث الأقدس, ولاهوت المسيح, وموته مصلوبا . لأن هذه الحقائق متداخلة في كل الكتاب تداخلا تاما , لا يمكن فصلها منه, كالخيوط التي يتكون منها نسيج الثوب إنها سدي الكتاب ولحمته.
فإذا نسبت التحريف إلي بعض الأجزاء وحذفتها من الكتاب فستجد ما حذفته في باقي أجزائه. وقد رأينا في الفصل السابق أن صفحة واحدة في أول الكتاب المقدس (تكوين3) تحتوي علي هذه الحقائق كلها والآن نقدم بعض الأدلة الواضحة علي عدم إمكانية تحريف الكتاب:
العهد القديم:
إنه لا يخبرنا عن انتصارات اليهود فقط, بل عن هزائمهم أيضاً . ولا يخبرنا عن امتيازاتهم فقط بل عن وصف الله لهم بالرداءة, وغضبه عليهم. كما أنه لا يذكر فضائل الأنبياء فقط بل يكشف أخطاءهم, ولا يستر ما ارتكبوه من خطايا كان بعضها شنيعا . وقد كان العهد القديم موجودا في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين وكانت هناك نسخ منه في الهيكل والمجامع, وكانوا يحافظون عليه بكل دقة وعناية, وكان الأتقياء منهم يواظبون علي قراءته كل يوم, وكانوا يعرفون عدد آياته وكلماته, بل وعدد حروفه أيضاً , وعدد المرات التي وردت فيها كل كلمة وكل حرف. هذا فضلا عما سبقت الإشارة إليه من ورود اقتباسات عديدة منه في العهد الجديد.
العهد الجديد:
تحريفه مستحيل للأسباب الآتية:
1- انتشر الإنجيل(العهد الجديد كله) في الشرق والغرب في القرن الأول الميلادي, وترجم إلي بعض اللغات, ولم يعترض عليه أحد من اليهود, وكان منهم من عاصر المسيح وسمعه. وكان الإنجيل ي تلي في اجتماعات العبادة. ويحفظ كثيرون أجزاء منه عن ظهر قلب منذ القرن الثاني بشهادة المؤرخين.
2- هذا وقد اختلف المعلمون المسيحيون في تفسير بعض آيات منه وانقسموا إلي عدة طوائف ولكن لم يطعن أحد منهم في النص المكتوب, بل بقي إنجيل واحد لكل الطوائف في كل العصور وفي كل بلاد العالم.
3- وجدت نسخ من الأناجيل وبعض الرسائل مكتوبة في سنة 125م, 180 م أي بعد كتابتها الأصلية بفترة وجيزة وهي محفوظة للآن. كما وجدت في بلادنا المصرية النسخة المسماة «الأخميمية» المكتوبة في القرن الثالث وهي محفوظة في لندن. كما وجدت من القرن الرابع نسخ «سانت كاترين» والنسخة «السينائية» وهي محفوظة بالمتحف البريطاني, والنسخة «الفاتيكانية». ومن القرن الخامس النسخة «الاسكندرانية» والنسخة «الافرائيمية» المحفوظة في باريس. كما أنه توجد كتب دينية منذ القرن الأول بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس منها «رسالة كليمندس» سنة 80م وهي محفوظة بمتحف لندن. ومن القرن الثاني كتابات «بوليكاربوس» تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده. وتفسير للإنجيل في ستة مجلدات بقلم «بابياس» وكثير غيرهم. وقد بحث بعض العلماء الآيات الواردة في هذه الكتب فاتضح لهم أنها موجودة في الكتاب المقدس تماما . حتى قال بعض العلماء أنه لو فقدت نسخة الكتاب المقدس الحالية لأمكن جمع معظم آياتها من الكتب السابق ذكرها.
4- هل يكون الغرض من التحريف إزالة العقد الظاهرية من الكتاب أم إضافتها إليه, إن الآيات التي تعلن الثالوث الأقدس, ولاهوت المسيح, وناسوته, وموته علي الصليب لا تزال موجودة في الكتاب بعهديه القديم والجديد بدون أية محاولة لتفسيرها أو إزالة ما فيها من صعوبة تثير اعتراض غير المؤمنين.
5- تمسك المسيحيون منذ البداءة بهذه الحقائق مع أنها تفوق الإدراك البشري, وقدموا حياتهم للاضطهاد, والعذاب, والموت من أجلها. فهل يعقل أن يكونوا قد فعلوا ذلك في سبيل أقوال قد زوروها.
6- توجد بعض اختلافات لفظية في الأناجيل, فلو كان قد حدث فيه تحريف أما كانت أزيلت تلك الاختلافات؟
7- حاول الشيطان إبادة العهد القديم وحرقه قبل المسيح, كما حاول إخفاء العهد الجديد وإبادته في العصور المظلمة, ولكن الله حرص علي صون كتابه ليبقي لنا نقيا كاملا لننهل منه ماء الحياة كما قال بطرس قديما للمسيح «يا رب إلي من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك» (يوحنا 6: 68).
أما ما تجده في الكتاب من صعوبات لا تستطيع فهمها فصل للرب طالبا منه أن يكشفها لك, ويريحك من جهتها, فهو «سامع الصلاة».
وإني أطلب من الله بكل قلبي أن يستخدم هذا الكتيب لإراحة أفكار الكثيرين, واقتيادهم إلي معرفة الله, والتجاوب مع محبته الفائقة.
إني إذ أضع هذا الكتيب في أيدي القراء الأعزاء أرفع معه صلوات حارة لله لكي يستخدمه لبركة كل نفس وراحة قلب كل متسائل.
أما من يريد أن يعارض أو يجادل فليس لنا شأن معه, ولكننا نتركه بين يدي الله العظيم الذي يستطيع وحده أن يصل إلي الضمائر والقلوب.
أما من يريد أن يعارض أو يجادل فليس لنا شأن معه, ولكننا نتركه بين يدي الله العظيم الذي يستطيع وحده أن يصل إلي الضمائر والقلوب.
Comment