سألتني السيدة س. أن أتحدث إلى زوجها بكلمة الله، بعد أن أطلعتني على وجهات نظره في ما يختص بالتعامل مع الله. ثم أنذرتني بأنه متشبث بآرائه السلبية، بمقدار أنها تشك كثيراً في أن يستطيع أي حديث أن يخرجه من الحالة السيئة التي صار إليها.
كان متجره، يحتل واجهة البيت الذي يسكنان فيه. وحين جئت، ذهبت السيدة س. ورجت زوجها أن يأتي لمقابلتي.
- لا لزوم لذلك، قال الزوج، لأنه سبق لي أن تحادثت مع مبشرين عديدين، حتى أصبحت ملماً بكل ما عندهم من كلام. وأنا لا أريد إضاعة وقتي، في سماع ترهاتهم. وفوق الكل، فهذه الزيارة تزعجني.
- ولكن لم يسبق لك أن عاملت أياً من رجال الله، الذين كلموك بهذه الصورة الفظيعة، التي تتعارض مع الكياسة! لا سيما وأنا قد دعوت السيد فني لكي يكلمك، وسيلحق بي خزي شديد، إن رفضت مقابلته.
كان السيد س. يحب امرأته ويحترمها، لأنها كانت لؤلؤة ثمينة. وكان يود دائماً، أن يصنع كل ما يسرّها. وهكذا نزل عند رغبتها، فقدمته إلى رجل الله، ثم انسحبت.
- يا سيد س. قلت له بلطف، أنا لم أجيء للدخول معك في مناقشات غبية. ولكن إن شئت أن تتحدث إلي، فأرجو أن أستطيع مساعدتك في حل بعض المشاكل التي تواجهها. إذ قد سبق لي، أن واجهتها شخصياً. قلت هذه العبارات بكل لطف وبلهجة ودية، فلمعت أساريره، ولم يلبث أن جلس جلسة المستريح وقال:
- يا سيد فني، لست أرى لزوماً لإطالة الحديث بيننا حول هذا الموضوع. فقد اعتدنا على الحجج، التي تستعمل في مثل هذه الأبحاث، بحيث يمكنني أن أقول لك في بضع دقائق، كل الاعتراضات التي تجعلني أحجم عن قبول العقائد الدينية، والتي لا استطيع أن أحلها مطلقاً. وأظن أنني اعرف مسبقاً الأجوبة، التي ستعطيها لي. واعلم أن هذه الأجوبة، لا يمكنها بأي حال أن تقنعني. ولكن إذا شئت، فأنا مستعد لأن أدلي إليك باعتراضاتي.
فرجوته أن يفعل، فقال.
- كلانا نؤمن بوجود الله، ونتفق أيضاً على الإيمان بصلاحه، وحكمته، وقدرته اللامحدودة. وكذلك نؤمن بأنه لمّا خلقنا زودنا بروح التمييز، بين ما هو صحيح، وما هو غلط. بين ما هو حق، وما هو باطل.
- هذا صحيح تماماً، قلت له.
- إذن أيا كان من يعارض هذا الشعور الذي لنا، من جهة الحق، لا يمكن أن يكون من الله، فهل تتفق معي؟
- بكل تأكيد!
- نؤمن أيضاً بأن كل ما ليس عاقلاً، وحكيماً، وصالحاً، ليس من الله.
- أجل، إن هذا صحيح!
- والآن، أضاف السيد س. إن الكتاب المقدس يعّلم، بأن الله خلقنا في طبيعة خاطئة. أو بكلمة أخرى أننا أتينا إلى هذا العالم ونحن خطاة، وليس لنا اقتدار على صنع أي صلاح. وهذا وفق الناموس الذي وضعه الله، رغم طبيعتنا الخاطئة العاجزة تماماً عن صنع الخير. ومع ذلك وضع علينا الطاعة لناموسه المقدس، وأمرنا بأن نكون صالحين، مع علمه بأن هذا ليس ممكنا. ويأمرنا بذلك مع إنذار بالعذاب الأبدي، إن كنا لا نفعل.
- هل عندك كتاب مقدس؟ قلت له معترضاً. هل تسمح بأن تدلني على النصوص الكتابية التي تعّلم هكذا؟
- لا لزوم لذلك، أجاب السيد س. ألا توافق على أن الكتاب المقدس يعّلم هكذا؟
- كلا، قلت- أنا لا أوافق ولا أؤمن إطلاقا بتعليم كهذا.
- ولكن الكتاب المقدس ينسب إلى الله تعليماً مفاده، أن خطية آدم لحقت ذريته، وأننا بالطبيعة ورثنا فساد آدم. وبالتالي أصبحنا تحت حكم الدينونة الأبدي. ولكن بالنسبة لي، لا أهتم كثيراً، لأعرف من الذي قال هذا، أو في أي سفر يوجد. لأنني عالم تماماً بأن هذا التعليم ليس من الله، لأنه يناقض مفهومي الذي لا يقاوم من جهة البار والمذنب.
-حسناً جداً، قلت له- وأنا أيضاً أفكر هكذا، ولكن قل لي من هو الذي يعّلم هذه العقائد.
حينئذ راح يستشهد بالتعليم الكنسي (الكاتشيسم)، فقلت له في الحال:
- إن التعليم الكنسي هو الكتاب المقدس.
- كيف إذن؟ قال محتداً: ألست قساً مشيخياً؟ لقد ظننت أن للتعليم الكنسي في نظرك سلطان واعتبار الكتاب المقدس.
- كلا يا صديقي، قلت له، فنحن نتكلم عن الكتاب المقدس، وأنا أسألك هل في مقدورك أن تقنعني بأن هذه العقائد التي شرحتها واردة في الكتاب المقدس؟
- اوه! قال السيد س. هل تنكر أنها واردة في الكتاب المقدس؟ أنا لم أر قساً مشيخياً يتخذ هذا الموقف الذي اتخذته أنت!
ثم استطرد قائلاً:
- أنا أعلم أن الكتاب المقدس، يأمر الناس بأن يتوبوا ويؤمنوا ويطيعوا. وفي ذات الوقت، يعّلم بأن هذا غير ممكن.
فسألته من جديد.
- هل لك أن تدلني على النص الذي يعّلم هكذا؟
ومن جديد استشهد بتعليم الكنيسة، فاعترضت على طريقته، وعندئذ قال:
- إن الكتاب المقدس يقول بأن المسيح لم يمت إلا لأجل المختارين. ومع ذلك فهو يأمر جميع الناس، مختارين وغير مختارين، بأن يؤمنوا، فجميعهم يهلكون. ثم أضاف: إن هذا التعليم يعارض مفهومي للعدالة.
فقلت بحزم:
- يا سيد س. إنك تعاني سوء فهم. فما تقوله ليس من تعليم الكتاب المقدس، بل هو من تقاليد الناس.
- إذن قل لي بماذا تؤمن؟ هتف مناظري فيما صبره على وشك الانتهاء.
فقلت له:
- أنا مستعد أن أشرح لك الأمر. وان كنت تصغي إلي، أقول لك بماذا أؤمن.. ثم بسطت له وجهة نظري، في ما يختص بالناموس والإنجيل. فأدرك للتو كل شيء، بدون صعوبة. وفي خلال ساعة من الزمن انهارت حججه، لأن ما بسطته له، كان جديداً على سمعه، وغريباً بالنسبة لمفاهيمه. ومع ذلك، أبدى اهتماماً كلياً بما قلته له.
حين تكلمت عن غفران الخطايا بدم يسوع المسيح، بينت له، أن الله يعطي الغفران لجميع الناس. ثم شددت على طبيعة، وهدف، وأبعاد، وفاعلية الفداء، وعلى حرية الإنسان في قبول الخلاص.
بقي السيد س. في ما تبقى من الوقت صامتاً، مصغياً إلى كلماتي بكل كيانه. والكلمة أحدثت أثرها في نفسه، شيئاً فشيئاً. وأخيراً غطى وجه بيديه، ودلى رأسه على ركبتيه في نوع من السجود. كان انفعاله شديداً بمقدار أنه راح يرتجف كمن مسته هبة من البرداء. ولم يطل الوقت، حتى رأيت دموعه تنهمر. فانتصبت ثم غادرت المكان، دون أن أتلفظ بكلمة. كان قلبه قد تحطم، فتوقعت أنه سيؤمن حالاً. وهذا ما حصل فعلاً، فقبل أن يخرج من الغرفة، سلّم حياته ليسوع الفادي.
بعد ذلك بفترة من الزمن، قرع جرس الكنيسة، معلناً وقت الاجتماع للصلاة. فذهبت كما لي عادة، وهناك شاهدت السيد والسيدة س. وقد لاحظت على أسارير السيد س. ما يدل على أنه كان فريسة لانفعالات عظيمة، وجميع الحضور دهشوا حين رأوه قادماً. كان من عادته أن يحضر الاجتماعات التعبدية يوم الأحد. ولكن مجيئه إلى اجتماع الصلاة في وسط الأسبوع، كان شيئاً جديداً بالنسبة له. ومع أنني أبديت كثيرا من الملاحظات، فقد تقبل جميع ملاحظاتي بروح ايجابية.
بعد مرور مدة من الزمن، أخبرتني امرأته بأنه فيما هو عائد من اجتماع الصلاة، قال: إن عدم أمانتي تلاشى إلى غير رجعة ولكم كيف؟ لست ادري، ولا استطيع تذكر ما حصل لي، عندما استيقظت أحاسيسي من سبات نوم الموت.
كنت أرى أنه لمن أشد الحماقات، أن يكون الإنسان غير أمين، وأظن بأنني واجد بعض القيم في الحجج، التي كنت أستخدمها ولكن لم أفهم ما حدث لي خلال مقابلتي مع السيد فني! يخيل لي أنني كنت في حواري معه، كمن دعي لفحص أحد المعابد الرائعة، الذي شيد بأبرع الطرق الهندسية. ولكن ما أن شاهدت زاوية منه لم تنل رضاي، حتى تحولت عنه باستخفاف أخرق، محولاً نظري عن كل ما فيه من روائع نادرة. هكذا تصرفت بالفعل، مع أحكام الله.
في الواقع أن السيد س. كان معارضاً جداً لكل عقيدة تقول بالعذاب الأبدي، ولكن حين عرف الحق والحق حرره، قال لامرأته أنه مستحق أن يقع عليه حكم الدينونة، لأجل الطريقة التي تعامل بها مع الله.
ولكنه لما استفقده الله بالنعمة المخلصة، اعتنق مبدأ المسيح بكل حرارة. وكرّس مواهبه، كل مواهبه لأجل امتداد ملكوت الله، وانتشار الإنتعاش الروحي. وبعد التحاقه بالكنيسة، لم يمض وقت طويل، حتى سمي شماساً. والى حين موته كان مسيحياً نافعاً.
.........................
أيها القارئ الكريم،
كلنا عرضة للخطأ في تفكيرنا وتحليلنا للأمور، بواسطة المنطق، كما كان السيد س. يفعل، قبل أن تعمل النعمة في حياته على أثر مقابلته مع رجل الله فني. ومن شر خطايانا، التعامل مع الله بحججنا؛ بدلاً من التسليم بأن عقولنا محدودة، لا يمكن أن تقف أمام الله، الذي قال: «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلا طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هٰكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ»(أشعياء 55: 8-9).
في الحقيقة أننا حين نحاجج الله بالمنطق البشري، نرتأي فوق ما ينبغي أن نرتأي. وبذلك نعرض أنفسنا للدينونة ثم القصاص. ولكن لكم يجب أن نشكر الله لأجل إعلان الإنجيل القائل: «أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لا يُدَانُ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (الإنجيل بحسب يوحنا 3: 17-18).
هذا ما أدركه الرسول الملهم بولس، وكتبه لأجل تعليمنا، إذ قال: «إذاً لا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رومية 8: 1).
إنه لامتياز لا يعبر عنه، وتعزية جزيلة لكل الذين هم في المسيح. إنه لا شيء من الدينونة الآن عليهم. لم يقل الرسول أن لا شيء من الاتهام عليهم، فالاتهام قائم، ولكنه قد أُوقف وأُبطل.
ولم يقل أن لا شيء فيهم يستحق الدينونة، فهذا موجود وهم يعترفون به، ويحزنون من أجله، ولكن سوف لا يكون سبباً في هلاكهم. لأن الله غفر إثمهم وستر خطاياهم.
ولم يقل الرسول المغبوط لا ضيقات عليهم، أو لا انزعاج يمضهم من جراء الضيقات، فهذه كلها قد تكون موجودة. لكنه قال: لا شيء من الدينونة عليهم. فقد يؤدبون من الرب، ولكن لا يدانون مع العالم. (كورنثوس الأولى 11: 32).
هذا ناشئ من كونهم في المسيح، أي بفضل النعمة، التي تجاوبت مع إيمانهم به، وعملت على اتحادهم به. إنهم في المسيح، وكأنهم في مدينة الملجأ، ولذلك فهم محفظون من ولي الدم (عدد 35: 19). لأن المسيح شفيعهم ومحاميهم، الذي يدافع عنهم ويبررهم. إذاً لا شيء من الدينونة عليهم، لأنهم قد قبلوا الفداء الذي أتمه المسيح بموته الكفاري، ليوفي مطالب عدل الله.
من كتاب الرسالة الأخيرة
قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد
كان متجره، يحتل واجهة البيت الذي يسكنان فيه. وحين جئت، ذهبت السيدة س. ورجت زوجها أن يأتي لمقابلتي.
- لا لزوم لذلك، قال الزوج، لأنه سبق لي أن تحادثت مع مبشرين عديدين، حتى أصبحت ملماً بكل ما عندهم من كلام. وأنا لا أريد إضاعة وقتي، في سماع ترهاتهم. وفوق الكل، فهذه الزيارة تزعجني.
- ولكن لم يسبق لك أن عاملت أياً من رجال الله، الذين كلموك بهذه الصورة الفظيعة، التي تتعارض مع الكياسة! لا سيما وأنا قد دعوت السيد فني لكي يكلمك، وسيلحق بي خزي شديد، إن رفضت مقابلته.
كان السيد س. يحب امرأته ويحترمها، لأنها كانت لؤلؤة ثمينة. وكان يود دائماً، أن يصنع كل ما يسرّها. وهكذا نزل عند رغبتها، فقدمته إلى رجل الله، ثم انسحبت.
- يا سيد س. قلت له بلطف، أنا لم أجيء للدخول معك في مناقشات غبية. ولكن إن شئت أن تتحدث إلي، فأرجو أن أستطيع مساعدتك في حل بعض المشاكل التي تواجهها. إذ قد سبق لي، أن واجهتها شخصياً. قلت هذه العبارات بكل لطف وبلهجة ودية، فلمعت أساريره، ولم يلبث أن جلس جلسة المستريح وقال:
- يا سيد فني، لست أرى لزوماً لإطالة الحديث بيننا حول هذا الموضوع. فقد اعتدنا على الحجج، التي تستعمل في مثل هذه الأبحاث، بحيث يمكنني أن أقول لك في بضع دقائق، كل الاعتراضات التي تجعلني أحجم عن قبول العقائد الدينية، والتي لا استطيع أن أحلها مطلقاً. وأظن أنني اعرف مسبقاً الأجوبة، التي ستعطيها لي. واعلم أن هذه الأجوبة، لا يمكنها بأي حال أن تقنعني. ولكن إذا شئت، فأنا مستعد لأن أدلي إليك باعتراضاتي.
فرجوته أن يفعل، فقال.
- كلانا نؤمن بوجود الله، ونتفق أيضاً على الإيمان بصلاحه، وحكمته، وقدرته اللامحدودة. وكذلك نؤمن بأنه لمّا خلقنا زودنا بروح التمييز، بين ما هو صحيح، وما هو غلط. بين ما هو حق، وما هو باطل.
- هذا صحيح تماماً، قلت له.
- إذن أيا كان من يعارض هذا الشعور الذي لنا، من جهة الحق، لا يمكن أن يكون من الله، فهل تتفق معي؟
- بكل تأكيد!
- نؤمن أيضاً بأن كل ما ليس عاقلاً، وحكيماً، وصالحاً، ليس من الله.
- أجل، إن هذا صحيح!
- والآن، أضاف السيد س. إن الكتاب المقدس يعّلم، بأن الله خلقنا في طبيعة خاطئة. أو بكلمة أخرى أننا أتينا إلى هذا العالم ونحن خطاة، وليس لنا اقتدار على صنع أي صلاح. وهذا وفق الناموس الذي وضعه الله، رغم طبيعتنا الخاطئة العاجزة تماماً عن صنع الخير. ومع ذلك وضع علينا الطاعة لناموسه المقدس، وأمرنا بأن نكون صالحين، مع علمه بأن هذا ليس ممكنا. ويأمرنا بذلك مع إنذار بالعذاب الأبدي، إن كنا لا نفعل.
- هل عندك كتاب مقدس؟ قلت له معترضاً. هل تسمح بأن تدلني على النصوص الكتابية التي تعّلم هكذا؟
- لا لزوم لذلك، أجاب السيد س. ألا توافق على أن الكتاب المقدس يعّلم هكذا؟
- كلا، قلت- أنا لا أوافق ولا أؤمن إطلاقا بتعليم كهذا.
- ولكن الكتاب المقدس ينسب إلى الله تعليماً مفاده، أن خطية آدم لحقت ذريته، وأننا بالطبيعة ورثنا فساد آدم. وبالتالي أصبحنا تحت حكم الدينونة الأبدي. ولكن بالنسبة لي، لا أهتم كثيراً، لأعرف من الذي قال هذا، أو في أي سفر يوجد. لأنني عالم تماماً بأن هذا التعليم ليس من الله، لأنه يناقض مفهومي الذي لا يقاوم من جهة البار والمذنب.
-حسناً جداً، قلت له- وأنا أيضاً أفكر هكذا، ولكن قل لي من هو الذي يعّلم هذه العقائد.
حينئذ راح يستشهد بالتعليم الكنسي (الكاتشيسم)، فقلت له في الحال:
- إن التعليم الكنسي هو الكتاب المقدس.
- كيف إذن؟ قال محتداً: ألست قساً مشيخياً؟ لقد ظننت أن للتعليم الكنسي في نظرك سلطان واعتبار الكتاب المقدس.
- كلا يا صديقي، قلت له، فنحن نتكلم عن الكتاب المقدس، وأنا أسألك هل في مقدورك أن تقنعني بأن هذه العقائد التي شرحتها واردة في الكتاب المقدس؟
- اوه! قال السيد س. هل تنكر أنها واردة في الكتاب المقدس؟ أنا لم أر قساً مشيخياً يتخذ هذا الموقف الذي اتخذته أنت!
ثم استطرد قائلاً:
- أنا أعلم أن الكتاب المقدس، يأمر الناس بأن يتوبوا ويؤمنوا ويطيعوا. وفي ذات الوقت، يعّلم بأن هذا غير ممكن.
فسألته من جديد.
- هل لك أن تدلني على النص الذي يعّلم هكذا؟
ومن جديد استشهد بتعليم الكنيسة، فاعترضت على طريقته، وعندئذ قال:
- إن الكتاب المقدس يقول بأن المسيح لم يمت إلا لأجل المختارين. ومع ذلك فهو يأمر جميع الناس، مختارين وغير مختارين، بأن يؤمنوا، فجميعهم يهلكون. ثم أضاف: إن هذا التعليم يعارض مفهومي للعدالة.
فقلت بحزم:
- يا سيد س. إنك تعاني سوء فهم. فما تقوله ليس من تعليم الكتاب المقدس، بل هو من تقاليد الناس.
- إذن قل لي بماذا تؤمن؟ هتف مناظري فيما صبره على وشك الانتهاء.
فقلت له:
- أنا مستعد أن أشرح لك الأمر. وان كنت تصغي إلي، أقول لك بماذا أؤمن.. ثم بسطت له وجهة نظري، في ما يختص بالناموس والإنجيل. فأدرك للتو كل شيء، بدون صعوبة. وفي خلال ساعة من الزمن انهارت حججه، لأن ما بسطته له، كان جديداً على سمعه، وغريباً بالنسبة لمفاهيمه. ومع ذلك، أبدى اهتماماً كلياً بما قلته له.
حين تكلمت عن غفران الخطايا بدم يسوع المسيح، بينت له، أن الله يعطي الغفران لجميع الناس. ثم شددت على طبيعة، وهدف، وأبعاد، وفاعلية الفداء، وعلى حرية الإنسان في قبول الخلاص.
بقي السيد س. في ما تبقى من الوقت صامتاً، مصغياً إلى كلماتي بكل كيانه. والكلمة أحدثت أثرها في نفسه، شيئاً فشيئاً. وأخيراً غطى وجه بيديه، ودلى رأسه على ركبتيه في نوع من السجود. كان انفعاله شديداً بمقدار أنه راح يرتجف كمن مسته هبة من البرداء. ولم يطل الوقت، حتى رأيت دموعه تنهمر. فانتصبت ثم غادرت المكان، دون أن أتلفظ بكلمة. كان قلبه قد تحطم، فتوقعت أنه سيؤمن حالاً. وهذا ما حصل فعلاً، فقبل أن يخرج من الغرفة، سلّم حياته ليسوع الفادي.
بعد ذلك بفترة من الزمن، قرع جرس الكنيسة، معلناً وقت الاجتماع للصلاة. فذهبت كما لي عادة، وهناك شاهدت السيد والسيدة س. وقد لاحظت على أسارير السيد س. ما يدل على أنه كان فريسة لانفعالات عظيمة، وجميع الحضور دهشوا حين رأوه قادماً. كان من عادته أن يحضر الاجتماعات التعبدية يوم الأحد. ولكن مجيئه إلى اجتماع الصلاة في وسط الأسبوع، كان شيئاً جديداً بالنسبة له. ومع أنني أبديت كثيرا من الملاحظات، فقد تقبل جميع ملاحظاتي بروح ايجابية.
بعد مرور مدة من الزمن، أخبرتني امرأته بأنه فيما هو عائد من اجتماع الصلاة، قال: إن عدم أمانتي تلاشى إلى غير رجعة ولكم كيف؟ لست ادري، ولا استطيع تذكر ما حصل لي، عندما استيقظت أحاسيسي من سبات نوم الموت.
كنت أرى أنه لمن أشد الحماقات، أن يكون الإنسان غير أمين، وأظن بأنني واجد بعض القيم في الحجج، التي كنت أستخدمها ولكن لم أفهم ما حدث لي خلال مقابلتي مع السيد فني! يخيل لي أنني كنت في حواري معه، كمن دعي لفحص أحد المعابد الرائعة، الذي شيد بأبرع الطرق الهندسية. ولكن ما أن شاهدت زاوية منه لم تنل رضاي، حتى تحولت عنه باستخفاف أخرق، محولاً نظري عن كل ما فيه من روائع نادرة. هكذا تصرفت بالفعل، مع أحكام الله.
في الواقع أن السيد س. كان معارضاً جداً لكل عقيدة تقول بالعذاب الأبدي، ولكن حين عرف الحق والحق حرره، قال لامرأته أنه مستحق أن يقع عليه حكم الدينونة، لأجل الطريقة التي تعامل بها مع الله.
ولكنه لما استفقده الله بالنعمة المخلصة، اعتنق مبدأ المسيح بكل حرارة. وكرّس مواهبه، كل مواهبه لأجل امتداد ملكوت الله، وانتشار الإنتعاش الروحي. وبعد التحاقه بالكنيسة، لم يمض وقت طويل، حتى سمي شماساً. والى حين موته كان مسيحياً نافعاً.
.........................
أيها القارئ الكريم،
كلنا عرضة للخطأ في تفكيرنا وتحليلنا للأمور، بواسطة المنطق، كما كان السيد س. يفعل، قبل أن تعمل النعمة في حياته على أثر مقابلته مع رجل الله فني. ومن شر خطايانا، التعامل مع الله بحججنا؛ بدلاً من التسليم بأن عقولنا محدودة، لا يمكن أن تقف أمام الله، الذي قال: «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلا طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هٰكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ»(أشعياء 55: 8-9).
في الحقيقة أننا حين نحاجج الله بالمنطق البشري، نرتأي فوق ما ينبغي أن نرتأي. وبذلك نعرض أنفسنا للدينونة ثم القصاص. ولكن لكم يجب أن نشكر الله لأجل إعلان الإنجيل القائل: «أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لا يُدَانُ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (الإنجيل بحسب يوحنا 3: 17-18).
هذا ما أدركه الرسول الملهم بولس، وكتبه لأجل تعليمنا، إذ قال: «إذاً لا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رومية 8: 1).
إنه لامتياز لا يعبر عنه، وتعزية جزيلة لكل الذين هم في المسيح. إنه لا شيء من الدينونة الآن عليهم. لم يقل الرسول أن لا شيء من الاتهام عليهم، فالاتهام قائم، ولكنه قد أُوقف وأُبطل.
ولم يقل أن لا شيء فيهم يستحق الدينونة، فهذا موجود وهم يعترفون به، ويحزنون من أجله، ولكن سوف لا يكون سبباً في هلاكهم. لأن الله غفر إثمهم وستر خطاياهم.
ولم يقل الرسول المغبوط لا ضيقات عليهم، أو لا انزعاج يمضهم من جراء الضيقات، فهذه كلها قد تكون موجودة. لكنه قال: لا شيء من الدينونة عليهم. فقد يؤدبون من الرب، ولكن لا يدانون مع العالم. (كورنثوس الأولى 11: 32).
هذا ناشئ من كونهم في المسيح، أي بفضل النعمة، التي تجاوبت مع إيمانهم به، وعملت على اتحادهم به. إنهم في المسيح، وكأنهم في مدينة الملجأ، ولذلك فهم محفظون من ولي الدم (عدد 35: 19). لأن المسيح شفيعهم ومحاميهم، الذي يدافع عنهم ويبررهم. إذاً لا شيء من الدينونة عليهم، لأنهم قد قبلوا الفداء الذي أتمه المسيح بموته الكفاري، ليوفي مطالب عدل الله.
من كتاب الرسالة الأخيرة
قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد
Comment