نقرأ في صلاة النوم الكبرى ستّة مزامير قبل ترتيل "معنا هو الله". والثلاثة الأخيرة منها مختارة من مزامير الاتّكال على الله. فالمزمور (24) يبدأ بـ"يا ربّ إليك رفعتُ نفسي، إلهي عليك توكلتُ فلا أخزى إلى الأبد". والمزمور (30) يُفتتح بالآية "عليك يا ربّ توكلتُ فلا أخزى إلى الأبد، بعدلك نجِّني وأنقذْني". وأخيراً المزمور (90) يبتدئ بـ"الساكن في عون العليّ، في ستر إله السماء يسكن". تتردّد في هذه المزامير أجمل صرخات الاتّكال على الله والثقة به.
لعلّ أهمّ صفة من صفات الله، في ضمير الإنسان عموماً، هي سيادته. أي أنّه في موضع السيّد الذي نستطيع نحن العبيد أن نتّكل عليه."الاتّكال على البشر باطل" تقول المزامير. يحتاج الإنسان للإنسان ويعتمد عليه. لكن المتَّكَل الحقيقيّ والملجأ الأمين والأقدر هو الله! يتصارع الإنسان في سبيل وجوده وتحسينه مع مخاطر الحياة وظروفها ومسؤوليّاتها، ولطالما يشعر مرّات عديدة أنّه عاجز عن تحقيق أحلامه، ولربّما أيضاً حتّى أهمّ حاجاته! لذلك فهو يحتاج إلى معتمَد يستطيع الاستناد إليه في ضيقه وعجزه، فهو بحاجة لِمَن يثق به وقادر على التعويض له عن عجزه البشريّ.
تمتلئ صلواتنا، والمزامير منها خاصّة، بآيات الاتّكال على الله. فالله هو الملجأ والصخرة والخلاص والستر، ومَن يتّكل عليه لا يخزى إلى الأبد. "على الربّ توكّلتُ فكيف تقولون لنفسي اهربي إلى الجبال؟" لكن هناك شرطان أساسيّان للاتّكال على الله، فهناك اتّكال على الله خاطئ. لقد استخدم الشيطان إحدى آيات هذا المزمور (90، 11) ليجرّب المسيح ويوقعه في اتّكال خاطئ، حين طلب منه أن يرمي ذاته من جدار الهيكل ويتّكل على الله الذي يقول في المزامير: "لأنّه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كلّ طرقك، على الأيدي يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك"! لكن يسوع رفض هكذا اتّكال على الله، واعتبره بالعكس تجريباً لله وليس اتّكالاً عليه.
يسوع يتّكل على الله، ويصلّي تلك الصلاة الحارّة على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"، والتي غالباً ما نسيء فهمها، فنظنّ أنّ يسوع "يعاتب الآب" على هجرانه للابن في مثل هذه اللحظة التي كان عليه أن يكون أقرب فيها! الحقيقة أنّ هذا المزمور المسيانيّ هو من أجمل مزامير الاتّكال على الله! حيث أنّه يشدّد كتتمّة للآية السابقة "عليك اتّكل آباؤنا فنجّيتهم، إليك صرخوا فنجوا، عليك اتّكلوا فلم يخزوا... عليك ألقيتُ من الرحم من بطن أمّي أنت إلهي". ليس كلّ اتّكال على الله إذن صحيحاً! وبرهان ذلك المثالان السابقان المتناقضان بين يسوع والشيطان.
الشرط الأوّل للاتّكال على الله هو أن نؤمن برحمة الله وقوّته. إنّ أغلب المسيحيّين والناس عموماً لا يشكّون في قدرة الله، لأنّها أهمّ صفة من صفات الله "القوّة". لكن ليس لدى الجميع شعور أكيد برحمة الله وعنايته. فلا يشكّ أحد أنّ الله خالق. ولكن لا يشعر الجميع بعناية الله في العالم فعلاً. لذلك نراهم يميلون يوم الضّيق إلى الاعتماد والاتّكال على الذّات أو على المقتنيات أو على الناس... ولا يشكّل الله في مثل هذه اللحظات حلاً أبداً. مَن منّا يؤمن أنّه عندما يواجه أمراً غير ممكن لديه يمكن لله فعلاً أن يساعد فيه؟ إذا كنّا نتّكل على الله بالأمور المستطاعة فهذا ليس ثقة حقيقيّة بالله. الثقة الحقيقيّة تظهر تماماً عندما نطلب من الله ما هو غير مستطاع لدينا. يبدأ عمل الله عندما تنتهي مقدراتنا. وهنا يَمتحِن الاتّكالُ على الله إيمانَنا الفعليّ به. لكن كي نضع اتّكالنا على الله، عندما نعجز أمام بعض الأمور، علينا أن نكون واثقين أنّ طلبنا هو موافق لمشيئته. هذا ما تمّمه يسوع عندما طلب من الآب "إن أمكن فلتعرضْ عنّي هذه الكأس"، ثم أضاف "ولكن لا تكنْ مشيئتي بل مشيئتك". نتّكل على الله يعني، أنّه عندما نعجز تجاه حاجة ما نطلبها من الله ولكن بالإيمان، نعرف أنّه إذا كانت للخير وبحسب إرادته- فهو قادر أن يتمّمها لنا، وإذا كانت ليست لخيرنا، فالأفضل ألاّ يحقّقها لنا. إنّ إيماننا أنّ الله قادر على تتميم أيّ شيء، ولكنّه بالوقت ذاته رحوم، فهو لا يحقّق لنا إلاّ ما هو لخيرنا- بحسب إرادته. لأنّ محبّته لا يمكنها أن تكون إلاّ عناية ، وعنايةً حقيقيّة.
والشرط الثاني للاتّكال على الله هو أن نعمل نحن الآن ويحقّق هو الغد. غالباً ما نتّكل على الله بطريقة خاطئة. فحين نعجز مثلاً أمام صعوبة في الحياة "نتركها لله"، أي "نرميها في ملعبه"، ونقف نحن عادمي الحراك، وكأنّ على الله أن يعمل عنّا! الاتّكال على الله يعني تماماً أن نعمل نحن حتّى حين نعجز ونقدّم ضعفنا، وهو كلّ ما نستطيع. وإذا كان ذلك غير كافٍ أمام تلك الصعوبة فإنّنا نؤمن أنّه عندما نقدّم جهدنا اليوم وغير الكافي فإنّ الله يؤمّن لنا الغد. الاتّكال على الله لا يعني ترك الأمور لله (وحده). الاتّكال على الله يعني الثّقة به وبعنايته وعدم القلق واليأس. إذ عندما نواجه صعوبة تفوق طاقاتنا، نقدّم طاقاتنا دون قنوط مؤمنين أنّ الله سوف يتمّم إرادته بمساعدتنا وتحقيق كلّ خير عندما نتّكل عليه ونستدعيه لنجدتنا. "أؤمن يا سيّد، فأعِنْ ضعف إيماني"!
أتّكلُ على الله يعني أنّني أقدّم أنا الآن ويقدّم الله الغد! "هم اتّكلوا على الفرس والمركبات، أمّا نحن فباسم الهنا ندعو". نتّكل على الله فلا نخشى صعوبات ولا أزمات، نعمل إرادته غير هيّابين ومؤمنين أنّ "صلاحه عظيم ومدّخر للذين يتّقونه".
"تشجّعوا ولتقوَ قلوبكم يا جميع المتوكّلين على الربّ"، آمين.
المرجع: المطران بولس يازجي (من كتاب مصاعد القلب)
لعلّ أهمّ صفة من صفات الله، في ضمير الإنسان عموماً، هي سيادته. أي أنّه في موضع السيّد الذي نستطيع نحن العبيد أن نتّكل عليه."الاتّكال على البشر باطل" تقول المزامير. يحتاج الإنسان للإنسان ويعتمد عليه. لكن المتَّكَل الحقيقيّ والملجأ الأمين والأقدر هو الله! يتصارع الإنسان في سبيل وجوده وتحسينه مع مخاطر الحياة وظروفها ومسؤوليّاتها، ولطالما يشعر مرّات عديدة أنّه عاجز عن تحقيق أحلامه، ولربّما أيضاً حتّى أهمّ حاجاته! لذلك فهو يحتاج إلى معتمَد يستطيع الاستناد إليه في ضيقه وعجزه، فهو بحاجة لِمَن يثق به وقادر على التعويض له عن عجزه البشريّ.
تمتلئ صلواتنا، والمزامير منها خاصّة، بآيات الاتّكال على الله. فالله هو الملجأ والصخرة والخلاص والستر، ومَن يتّكل عليه لا يخزى إلى الأبد. "على الربّ توكّلتُ فكيف تقولون لنفسي اهربي إلى الجبال؟" لكن هناك شرطان أساسيّان للاتّكال على الله، فهناك اتّكال على الله خاطئ. لقد استخدم الشيطان إحدى آيات هذا المزمور (90، 11) ليجرّب المسيح ويوقعه في اتّكال خاطئ، حين طلب منه أن يرمي ذاته من جدار الهيكل ويتّكل على الله الذي يقول في المزامير: "لأنّه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كلّ طرقك، على الأيدي يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك"! لكن يسوع رفض هكذا اتّكال على الله، واعتبره بالعكس تجريباً لله وليس اتّكالاً عليه.
يسوع يتّكل على الله، ويصلّي تلك الصلاة الحارّة على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"، والتي غالباً ما نسيء فهمها، فنظنّ أنّ يسوع "يعاتب الآب" على هجرانه للابن في مثل هذه اللحظة التي كان عليه أن يكون أقرب فيها! الحقيقة أنّ هذا المزمور المسيانيّ هو من أجمل مزامير الاتّكال على الله! حيث أنّه يشدّد كتتمّة للآية السابقة "عليك اتّكل آباؤنا فنجّيتهم، إليك صرخوا فنجوا، عليك اتّكلوا فلم يخزوا... عليك ألقيتُ من الرحم من بطن أمّي أنت إلهي". ليس كلّ اتّكال على الله إذن صحيحاً! وبرهان ذلك المثالان السابقان المتناقضان بين يسوع والشيطان.
الشرط الأوّل للاتّكال على الله هو أن نؤمن برحمة الله وقوّته. إنّ أغلب المسيحيّين والناس عموماً لا يشكّون في قدرة الله، لأنّها أهمّ صفة من صفات الله "القوّة". لكن ليس لدى الجميع شعور أكيد برحمة الله وعنايته. فلا يشكّ أحد أنّ الله خالق. ولكن لا يشعر الجميع بعناية الله في العالم فعلاً. لذلك نراهم يميلون يوم الضّيق إلى الاعتماد والاتّكال على الذّات أو على المقتنيات أو على الناس... ولا يشكّل الله في مثل هذه اللحظات حلاً أبداً. مَن منّا يؤمن أنّه عندما يواجه أمراً غير ممكن لديه يمكن لله فعلاً أن يساعد فيه؟ إذا كنّا نتّكل على الله بالأمور المستطاعة فهذا ليس ثقة حقيقيّة بالله. الثقة الحقيقيّة تظهر تماماً عندما نطلب من الله ما هو غير مستطاع لدينا. يبدأ عمل الله عندما تنتهي مقدراتنا. وهنا يَمتحِن الاتّكالُ على الله إيمانَنا الفعليّ به. لكن كي نضع اتّكالنا على الله، عندما نعجز أمام بعض الأمور، علينا أن نكون واثقين أنّ طلبنا هو موافق لمشيئته. هذا ما تمّمه يسوع عندما طلب من الآب "إن أمكن فلتعرضْ عنّي هذه الكأس"، ثم أضاف "ولكن لا تكنْ مشيئتي بل مشيئتك". نتّكل على الله يعني، أنّه عندما نعجز تجاه حاجة ما نطلبها من الله ولكن بالإيمان، نعرف أنّه إذا كانت للخير وبحسب إرادته- فهو قادر أن يتمّمها لنا، وإذا كانت ليست لخيرنا، فالأفضل ألاّ يحقّقها لنا. إنّ إيماننا أنّ الله قادر على تتميم أيّ شيء، ولكنّه بالوقت ذاته رحوم، فهو لا يحقّق لنا إلاّ ما هو لخيرنا- بحسب إرادته. لأنّ محبّته لا يمكنها أن تكون إلاّ عناية ، وعنايةً حقيقيّة.
والشرط الثاني للاتّكال على الله هو أن نعمل نحن الآن ويحقّق هو الغد. غالباً ما نتّكل على الله بطريقة خاطئة. فحين نعجز مثلاً أمام صعوبة في الحياة "نتركها لله"، أي "نرميها في ملعبه"، ونقف نحن عادمي الحراك، وكأنّ على الله أن يعمل عنّا! الاتّكال على الله يعني تماماً أن نعمل نحن حتّى حين نعجز ونقدّم ضعفنا، وهو كلّ ما نستطيع. وإذا كان ذلك غير كافٍ أمام تلك الصعوبة فإنّنا نؤمن أنّه عندما نقدّم جهدنا اليوم وغير الكافي فإنّ الله يؤمّن لنا الغد. الاتّكال على الله لا يعني ترك الأمور لله (وحده). الاتّكال على الله يعني الثّقة به وبعنايته وعدم القلق واليأس. إذ عندما نواجه صعوبة تفوق طاقاتنا، نقدّم طاقاتنا دون قنوط مؤمنين أنّ الله سوف يتمّم إرادته بمساعدتنا وتحقيق كلّ خير عندما نتّكل عليه ونستدعيه لنجدتنا. "أؤمن يا سيّد، فأعِنْ ضعف إيماني"!
أتّكلُ على الله يعني أنّني أقدّم أنا الآن ويقدّم الله الغد! "هم اتّكلوا على الفرس والمركبات، أمّا نحن فباسم الهنا ندعو". نتّكل على الله فلا نخشى صعوبات ولا أزمات، نعمل إرادته غير هيّابين ومؤمنين أنّ "صلاحه عظيم ومدّخر للذين يتّقونه".
"تشجّعوا ولتقوَ قلوبكم يا جميع المتوكّلين على الربّ"، آمين.
المرجع: المطران بولس يازجي (من كتاب مصاعد القلب)