مقدّمة
لم تعرف الكنيسة في نشأتها عيداً منفرداً لميلاد يسوع، فعيّدت ابتداءً من القرن الثالث الميلادي للظهور الإلهي، أي لميلاد المسيح واعتلانه للبشارة يوم اعتماده من يوحنا المعمدان، وقد حافظت الكنيسة القبطية والكنيسة الإرمنية الأرثوذكسية على وحدة العيد لهذين الحدثين حتى يومنا.
أما بقية الكنائس، في الغرب أولاً ثم في الشرق، منذ القرن الخامس ظهر عيد خاص لميلاد يسوع وضع هذا العيد ليحل محل عيد وثني كانت له أهمية كبرى في بعض المناطق الأوربية.
سنحاول التأمل في هذه العظة بالعيدين معاً لنشاهد من خلال الطقوس وجه يسوع المتأنس الذي يمنحنا أن نكون مثله أبناء الله.
أنسنة المسيح دعوة للدهشة
إن ظهور المسيح بالجسد هو دعوة " للدهشة".
ولقد عبّرت الليتورجيا البيزنطية عن ذلك منذ الحبل بيسوع بتساؤل الملاك جبرائيل:
"كيف الذي هو غير مدرك في الأعالي يولد من بتول؟
كيف الذي السماء كرسي مجده، والأرض موطئٌ لقدميه، يوسع في مستودع امرأة؟
كيف الذي لا يستطيع ذو الستة الأجنحة والكثيرو الأعين أن يحدِّقوا به، أن يتجسَّد منها بكلمة واحدة؟".
وتتجاوز الدهشة الملائكة والبشر لتبلغ إلى الطبيعة أيضاً.
فتظهر الحيوانات أيضاً في مغارة بيت لحم، كما نشاهد في بعض أيقونات الميلاد، شديدة التعجب لسر أنسنة المسيح.
ويهتف المصلي إلى نهر الأردن فيقول:
"لِمَ توَلّتك الدهشة عندما رأيت الغير المنظور عرياناً؟".
والنهر بدوره يتشخصن فيُجيب: "كيف لا يُتاح لي أن أرتعد وأخاف!
والملائكة ترتعد عند رؤيته! والسماء تنزهل! والأرض تشملها العبرات!
والبحر يحتشم مع جميع المنظورات وغير المنظورات!".
أما الصلوات الأرمنية فتتفاجئ من تنازل الخالق وظهوره إنساناً "كأنه مخلوق" فتهتف له:
"السماوات لم تكن كافية لمجدك أيها الكائن الأزلي، فارتضيت أن تسكن أحشاء العذراء الطاهرة فصيرتها كنزاً سماوياً..
أنت الذي ترتجف منك السيرافيم، ولا تجرؤ على الاقتراب منك، تترك الآب لتولد في مغارة!".
والدهشة تتجاوز ذاتها لتصبح فعل تسبيح وشكر، فتهتف الصلوات المارونية وتقول:
"لنرفعنَّ التسبيح والمجد والإكرام إلى قديم الأيام، إلى ضياء الآب وصورته، الذي هو وأبوه واحد. ت
باركتَ أيها المسيح الكلمة فادي البرايا، يا من بإرادتك أخليت ذاتك واتخذت صورة العبد".
أنسنة المسيح كشفٌ لله الثالوث
تفهم الصلوات بمختلف طقوسها الشرقية اعتلان المسيح في تجسده واعتماده، أنه "ظهور إلهي" (Epiphanie)، فالله، الآب والابن والروح القدس، يظهر للإنسان بظهور المسيح.
لذلك نجد يوحنا المعمدان يهتف في إحدى صلوات الطقس البيزنطي نحو المسيح فيقول:
"كيف أقبلت نحو العبد أيها الرب الذي لا دنس فيه؟
فباسم مَنْ أعمدك؟ أباسم الآب؟ لكنك تحمله في ذاتك.
أم باسم الابن؟ لكنك أنت هو بالجسد.
أم باسم الروح القدس؟ لكنك عرفت أن تمنحه للمؤمنين بفمك".
الثالوث، وهو حقيقة الله، يُبادر نحو الإنسان ليدعوه إلى المشاركة في حياته على غرار "الإبن"، وقد بلغ به الحب، كما يقول الآباء، قمته في إخلاء الذات Kénose بظهوره إنساناً، إن في ميلاده أو في اعتماده من يوحنا.
ولابدَّ لنا من الإشارة هنا إلى التوازي التي تشاهده الصلوات، كذلك الأناجيل، في فهم معمودية يسوع، بينها وبين اعتماد المؤمنين باسم الثالوث، الآب والابن والروح القدس.
وكأن معمودية يسوع هي ظهور لله الذي يدخل تاريخ الإنسان كإنسان، ومعموديتنا التي ندخل فيها عهد الله، على غرار المسيح، كأبناء لله.
فالصلوات الأرمنية مثلاً، تفهم سرَّ التجسد بأنه
" تحوّل الظهور الإلهي Théophanie إلى ظهورٍ إنساني Anthropophanie".
فعيد الظهور، في وجهيه الميلاد والاعتماد، هو بمثابة " تأشيرة دخول " (Visa) لله في تاريخ البشر كإنسان مثلهم، ورتبة المعمودية المسيحية هي أيضاً بدورها "تأشيرة دخول" لنا في عائلة الثالوث.
تعبِّر أيقونات عيد اعتماد يسوع عن ذلك بظهور رموز الثالوث فيها: سحابة من السماء، أو يدٌ تظهر من السحابة ترمز إلى الآب، وشكل حمامة يرمز إلى الروح القدس.
أما أيقونة الميلاد فيظهر فيها خطٌّ شاقولي نازل من السماء متفرِّع إلى ثلاثة في نهاية إحداها يظهر النجم الذي يدلُّ على ميلاد المسيح. وكأن الله في كلِّ كيانه الثالوث حاضرٌ في هذين الحدثين.
أنسنة المسيح نور العالم
تكثر كلمة "نور" ومترادفاتها في صلوات هذين العيدين في مختلف الطقوس.
فالمسيح هو "شمس العدل"، قد "أشرق لنا من حشى أبيه " (الطقس الماروني).
إنه "المشرق الذي من العلى" الذي أظهر "نور المعرفة للعالم" (الطقس البيزنطي).
المسيح وهو "نور الحق" و"شعاع الآب".. "يشرق من البتول للثاوين في الظل والظلمة".. "ونوره الذي لا يدنى منه يرتسم وينير كل إنسان آتٍ إلى العالم".
ويفسِّر مار أفرام السرياني شمولية نور المسيح عندما يفسِّر رموز هدايا المجوس، فالذهب يقدَّم له لكونه ملك العالم، والبخور لأنه إله الكل، والمرّ بسبب تقدمته ذاته فداءً عن كل إنسان.
أما مار نرساي الكلداني فيتحدَّث في "نشيد النور" عن "الملوك الذين يأنسون نوره"، ويبشر ضياؤه "رجاءً للفقراء". فتستريح عنده "الخليقة المتعبة بالضلال وظلام الخطيئة"، ويدعو "السماويين والأرضيين" الذين ينتظرون الظهور الإلهي أن يتخذوا "المحبة زيتاً يسرج رجاء الحياة العتيدة"، وأن يربطوا "سفينة عقولهم"، حيث في "المحبة والإيمان" يبلغون "ميناء الفرح".
لعل من أجمل أناشيد الكنيسة على الإطلاق هو "تسبحة النور" لمار أفرام السرياني الذي ترتله الكنيسة في هذين العيدين، كما في أعياد أخرى، يظهر فيه المسيح كنور يحقق للبشر إعادة تأليههم به:
أشرق النور على الأبرار والفرح على مستقمي القلوب
يسوع المسيح ربنا أشرق لنا من حشا ابيه
فجاء وأنقذنا من الظلمة وبنوره الوهَّاج أنارنا
انبثق النهار على البشر وانهزم سلطان الليل
من نوره شرق علينا نور وأنار عيوننا المظلمة
ملكنا آتٍ بمجدٍ عظيم لنشعل مصابيحنا ونخرج إليه
لنفرحنَّ به كما فرح بنا فيفرحنا بنوره الوضَّاء
يُطلع نهاره فجأة ! فيخرج إليه القديسون
ويُشعل مصابيح كل الذين تعبوا وكافحوا واستعدوا
أيها الأخوة هبّوا واستعدوا فنحمد ملكنا ومخلصنا
فإنه آتٍ بمجده ... يفرحنا بنوره البهي في الملكوت
عمل خلاصاً ... ووهب لنا الحياة وصعد إلى أبيه العلي
أنسنة المسيح كمال خلاصنا
إن الصلوات الطقسيّة تشاهد المسيح "مكمِّلاً كرازة الأنبياء"، فهو يزيل العداوة بين الله والبشر، ويجدِّد صورة آدم، ويعيد لحواء الفرح، فيولد من العذراء "طفلاً جديداً عجيباً، إلهاً قويّاً، أبا الدهر الآتي، رئيس السلام".
إنه "عمانوئيل"، الله معنا، يمنح أمه أن تكون حواء الجديدة لتقدِّمه "كثمرة الحياة لخلاص البشر"، فتصبح مغارة بيت لحم فردوساً جديداً، وتظهر مياه الأردن خليقة جديدة، فيترنَّم داود وقد "ابتهج بالخلاص"، ويفرح موسى وقد "عبر إلى الحياة والحرية".
فالمسيح في كلِّ ما سبق من المعاني لا يظهر إلا مخلصاً يخصُّ حياتنا، لذلك تسخى الصلوات الطقسيّة بعبارات التعلق به:
" ارحمنا.. اجعلنا أبناء البر والقداسة.. خلِّص نفوسنا.. اشفِ أوجاعنا.."
وتمنحه صفات الارتباط بواقعنا:
"أنت الغني الذي افتقر ليغنينا.. يا من بولادته منحني إعادة إلهية للولادة..
يا من رُبط بأقمطة ليحلَّ قيودنا.. يا من لأجلي صار مثلي فخلَّصني.. إ
ن مسيحي قد حضر عارياً لكي يُلبسني حلَّة ملكوت السماوات.. إنك بالحياة جددتنا".
إن هذه الصلوات ما هي إلا نداءات تمنح ارتباط هذين العيدين، والأعياد كلّها عموماً، كذلك تاريخ الخلاص، بالسر الفصحي للمسيح، وهو خلاص البشر.
لذلك لا تخشى الايقونوغرافيا أيضاً أن تصوِّر المسيح في مغارة كأنه في قبر، ملفوفاً بأقمطة كأنها أكفان، فهو منذ ولادته "حمل الله الذي يحمل خطايا العالم".
تنظر إليه أمه ولا تستطيع، لأن "سيفاً سيجوز في صدرها" يوم صلبه.
ولا تخجل الايقونوغرافيا أيضاً أن تصوِّره عارياً، غاطساً لا في مياه الأردن فحسب، بل في الخليقة القديمة ككل، كأنه حين ينهض منها يقوم لخليقة جديدة ويُلبس القديم حلَّة البهاء.
لعل أجمل تعبير عن محبة الكنيسة للمسيح هو فعل التقدمة والشكر، أليست الافخارستيا، محور عبادتنا،
هي تقدمةٌ وشكر ؟!..
هناك صلاة معبّرة عن التقدمة والشكر في صلوات عيد الميلاد البيزنطية تقول:
"ماذا نقدِّم لك أيها المسيح، لأنك ظهرت على الأرض إنساناً لأجلنا؟!
فكل نوع من الخلائق التي أبدعتها يقدِّم لك شكراً.
فالملائكة التسبيح، والسماوات الكوكب، والمجوس الهدايا، والرعاة التعجب، والأرض المغارة، والقفر المذوَد، وأما نحن فنقدِّم لك أما بتولاً.
فيا أيها الإله الذي قبل الدهور ارحمنا ".
هكذا تكون مريم تقدمتنا للمسيح الذي تأنس لتكون هي أول أنموذجٍ لتأليهنا بعكس حواء التي كانت أنموذج حَجْبِ الألوهة عنا.
خاتمة
لا ينطلق التعييد في إيماننا المسيحي من حاجة نفسية إلى تكسير تدفق الزمن، بل إنه متمَحوِرٌ في المعطى الخلاصي لحدث تاريخي هو يسوع المسيح.
"فالمسيح مصدر أعيادنا وزينة أفراحنا"، كما تقول الصلوات المارونية.
والكنيسة باعتبارها " أمٌ ومعلمة"، " تبسط سرَّ المسيح كله على مدار السنة من التجسد والميلاد حتى الصعود إلى يوم العنصرة وانتظار الرجاء السعيد ومجيء الرب"
(وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني ، دستور في الليتورجيا ، رقم 102).