صلاةٌ في بُستانِ الزيتونِ
شَعَرَتْ نفسِي بالضيقِ فهَامَت وحيدةً بالبراري.
خَرَجْتُ أبحَثُ عنْها, خَشِيتُ أن تضيعَ فما زالَت غضّة.
عَبَرت حقلاً للسنابل مازالت خضراءَ نَدِية ولَكِنّها كانت مَحْنِيَةَ الرؤوسِ, تبدو قطرات الندى تسيرُ على أعناقها ببطءٍ ثمَ تختفي بسرعةٍ عندما يداعِبُها نسيمٌ عابسٌ.
هدوءٌ جميلٌ خيَّمَ على الحقلِ. تَمَنَيتُ أن أمْكُثَ فيهِ ولَكِنَ نفسي أرغَمَتني على اللِحاقِ بِهَا.
وَعلى منعطَفاتِ الطَريقِ زنابِقٌ بريَّةٌ خَطَفَ النسيمُ شَذاها فَشَحَبَتْ.
كانَتْ تَركُضُ وكَأَنّها على مَوعِدٍ. لَحِقْتُ بِهَا حتى بُسْتَانَ الزيتُونِ.
رُحْتُ أخْتَلِسُ النَظَر...
امتدَّتْ أغصانُ الشجَرِ بحُرِيَةٍ نحوَ السماءِ وَعانَقَتْها...
لَمْ أكَن أسمَعُ سِوى حفيفِ الأوراقِ التي كانت تَطْرُبُ عندَما يُداعِبُها النسيمُ, فَتُرَنِمَ معَه لِيَعُم الصَمْتُ أرجاءَ المعمورَةِ, فَتَصغي الأرضُ والسماءُ وَ تَكُفُ طيورُ الدوري عنِ العَبَثِ فتَأوي إلى أعشاشِها.
حتى تكادُ تَسمع خفقَ قُلوبِها الصغيرةِ مجتمعةً لِتُشَكِلَ معَ حفيفَ الأوراقِ ترنيمةً عَذْبَةً.
فَقَدْ هَدَأت نَفسِيَ ورَجَعَتْ إليَّ أكثْرَ نقاءٍ, وراحَتْ تُحَدِثَني...
قَبْلَ أنْ يُعِيرَ وِشاحَهُ للشَمسِ وَ حَديثَهُ للنَسِيمِ, وصفاءَ عينَيهِ للسَماءِ,
كانَ سيّدي وحبيبي يَأتي إلى هُنا.
وَ كانت شجراتُ الزيتونِ وَحدَها تُصغي إليهِ كَمَا يُصغِي الطِفْلُ الصَغيرُ بِشَغَفٍ لِمَن يُحبُّ.
كانَ يَعبُرُ حَقْلَ السَنابلِ الذهبية فَتَحني رؤوسَها بخشوعٍ, وكأنّها تنحنيَ أمامَ مَلِكٍ...
لَكِنَ أعناقَهَا لَمْ تَكُن تَنْكَسِر. وَ أمّا الزنابُقُ المنثُورَةُ على مُنعَطفاتِ الطريقِ, فكانت تَغمرُهُ بعِطْرِها وتزدادُ جمالاً ورَوعَةً إذا ما داعَبَها, ولَكِنها كانت تَستَحي مِنْ جَمَالِهِ فَتَميلُ بخِفَةٍ خَجَلاً.
كانَ هادِئَاً, كانَ سَيِّدِي هادِئَاً. وَهدُوئُهُ يَفِيضُ قُوّةً.
لَمْ تَخشَى طيورُ الدورِي يَومَاً, الإقْتِرابَ مِنْهُ. كَانَتْ راحَتَيهِ تُقَدِمُ لَهُمُ الدِّفْءَ والحَنَانَ.
وَكُنتُ أنا أخْتَلِسُ النظَرَ إلِيْهِ مِنْ بَعِيْدٍ...
لَمْ أكُن أسْتَطِيعُ الإقتِرابَ مِنْهُ, كانَ ثَوْبي مُمَزَقَاً ومُهتَرِئَاً. كَانَ يُدْرِكُ أني أنْظُرُ إلَيْهِ خِلْسَةً. وَ مَرَّةً التَقَت عَيْناهْ عَينَيَّ, فَغَضَضْتُ الطَّرَفَ بِسُرْعَةٍ رُغْمَ أنَّهُ كانَ يُرْمِقُني بِنَظَراتِ الحُبِّ والحَنان.
رُحْتُ كُلَّ يوْمٍ أزورُ البُسْتَانَ لِألْتَقِي بِهِ مِنْ بَعِيْدٍ...
وَكنتُ أسْمَعْ شُجَيراتي تُرَنِمُ مَعَهُ تَرانِيْمَ حُلوَةً, راحَتْ نَفسيَ تُرَدِدُها ثمَ صارت تبكي وتَنَوح.
تابعت نفسي تحِدثني قائلة:
مَرَّةً كُنْتُ جاثٍيةٍ عِندَ قَدَمَيهِ وكان هو يُمَسِدُ على شَعري ويَحكي لي حكاياتٍ كُنْتُ أتوقُ لِسَمَاعِها مُنْذُ زَمَنٍ. نَظرَ إليّ بِعَينَتينِ رقرقتا بغشاوة من الدمع,
وقالَ لي: "أنا راحِلٌ."
تَوَسَلْتُ إليْه..؟ بَلَلْتُ قَدَمَيهِ بالدموعِ..
قالَ مُؤَكِدَاً: " أنا راحِلٌ, لَكِنني سأعُودُ."
غَابَ طَيْفُهُ في الحَقْلِ, ناشراً شَذاهُ وَ صَوْتُهُ الهادئ لَمْ يُفَارِقَني.حَاوَلْتُ أن أتبَعَهُ. كانَ الظلامُ شَديداً وصارَتِ البُرودَةُ قاتلَة والهواءُ تَغيَّرَت رائِحَتُه فصارَ ثقيلاً.
كانَ سيِّدي وَ حَبيبي يَئِنُّ, رَكَضْتُ بِسُرْعَةٍ نحْوَهُ...ضَمّمْتُهُ أحاوِلَ أن أرُدَّ عَنهُ ضَرَباتَ السّوطِ التي كانَت لَسَعاتُها تَشْتَدُ أكثَرَ فَأكثَر,
وَ أمّا ضَرَباتِ المِطْرَقَة فَصَارَت أشَدَّ شَرَاسَةً وانغَرَسَتِ المَسَامِيرُ كالأنيَابِ في جَسَدِ سَيِّدي فَسَالَ دَمُنَا.
فَتَحتُ عَيْنَيَ, رَأيْتُ سَيِّدي وَ حَبيبي يُضَمِدُ جِرَاحِي بِلَمَساتِ يَدَيْهِ. كانَ وَجْهُهُ يَلْمَع ُ كالذَهَبِ المُحْتَرقِ,
وكانَ يَهْمِسُ لِيَ: "سَأعود .. سَأعود."
صُرْتُ كُلَّ يَوْمٍ أئْتِ لأسْمَعَ شَجَرَ الزيتون, يُصليَ صباحَ مسَاء للسَيِّدِ الذي أهدَاها الصَلاةَ.
كنتُ أسمَعُ همَسَاتَهُ وَ أحُسُّ بوُجُدِهِ كُلَما هَبَّ النَسِيمُ وَ كُلَما طَرُبَت أوراقُ الزيتونِ, مَا زلْتُ أنتظِرَهُ وَ ها أنا أرتَدي أجْمَلَ أثوابي التي أهداني إياها.
صاحبة هذا التأمل هي الأخت
رولا كنهوش
http://vb.orthodoxonline.org/threads...#axzz1I3JIfd2B
شَعَرَتْ نفسِي بالضيقِ فهَامَت وحيدةً بالبراري.
خَرَجْتُ أبحَثُ عنْها, خَشِيتُ أن تضيعَ فما زالَت غضّة.
عَبَرت حقلاً للسنابل مازالت خضراءَ نَدِية ولَكِنّها كانت مَحْنِيَةَ الرؤوسِ, تبدو قطرات الندى تسيرُ على أعناقها ببطءٍ ثمَ تختفي بسرعةٍ عندما يداعِبُها نسيمٌ عابسٌ.
هدوءٌ جميلٌ خيَّمَ على الحقلِ. تَمَنَيتُ أن أمْكُثَ فيهِ ولَكِنَ نفسي أرغَمَتني على اللِحاقِ بِهَا.
وَعلى منعطَفاتِ الطَريقِ زنابِقٌ بريَّةٌ خَطَفَ النسيمُ شَذاها فَشَحَبَتْ.
كانَتْ تَركُضُ وكَأَنّها على مَوعِدٍ. لَحِقْتُ بِهَا حتى بُسْتَانَ الزيتُونِ.
رُحْتُ أخْتَلِسُ النَظَر...
امتدَّتْ أغصانُ الشجَرِ بحُرِيَةٍ نحوَ السماءِ وَعانَقَتْها...
لَمْ أكَن أسمَعُ سِوى حفيفِ الأوراقِ التي كانت تَطْرُبُ عندَما يُداعِبُها النسيمُ, فَتُرَنِمَ معَه لِيَعُم الصَمْتُ أرجاءَ المعمورَةِ, فَتَصغي الأرضُ والسماءُ وَ تَكُفُ طيورُ الدوري عنِ العَبَثِ فتَأوي إلى أعشاشِها.
حتى تكادُ تَسمع خفقَ قُلوبِها الصغيرةِ مجتمعةً لِتُشَكِلَ معَ حفيفَ الأوراقِ ترنيمةً عَذْبَةً.
فَقَدْ هَدَأت نَفسِيَ ورَجَعَتْ إليَّ أكثْرَ نقاءٍ, وراحَتْ تُحَدِثَني...
قَبْلَ أنْ يُعِيرَ وِشاحَهُ للشَمسِ وَ حَديثَهُ للنَسِيمِ, وصفاءَ عينَيهِ للسَماءِ,
كانَ سيّدي وحبيبي يَأتي إلى هُنا.
وَ كانت شجراتُ الزيتونِ وَحدَها تُصغي إليهِ كَمَا يُصغِي الطِفْلُ الصَغيرُ بِشَغَفٍ لِمَن يُحبُّ.
كانَ يَعبُرُ حَقْلَ السَنابلِ الذهبية فَتَحني رؤوسَها بخشوعٍ, وكأنّها تنحنيَ أمامَ مَلِكٍ...
لَكِنَ أعناقَهَا لَمْ تَكُن تَنْكَسِر. وَ أمّا الزنابُقُ المنثُورَةُ على مُنعَطفاتِ الطريقِ, فكانت تَغمرُهُ بعِطْرِها وتزدادُ جمالاً ورَوعَةً إذا ما داعَبَها, ولَكِنها كانت تَستَحي مِنْ جَمَالِهِ فَتَميلُ بخِفَةٍ خَجَلاً.
كانَ هادِئَاً, كانَ سَيِّدِي هادِئَاً. وَهدُوئُهُ يَفِيضُ قُوّةً.
لَمْ تَخشَى طيورُ الدورِي يَومَاً, الإقْتِرابَ مِنْهُ. كَانَتْ راحَتَيهِ تُقَدِمُ لَهُمُ الدِّفْءَ والحَنَانَ.
وَكُنتُ أنا أخْتَلِسُ النظَرَ إلِيْهِ مِنْ بَعِيْدٍ...
لَمْ أكُن أسْتَطِيعُ الإقتِرابَ مِنْهُ, كانَ ثَوْبي مُمَزَقَاً ومُهتَرِئَاً. كَانَ يُدْرِكُ أني أنْظُرُ إلَيْهِ خِلْسَةً. وَ مَرَّةً التَقَت عَيْناهْ عَينَيَّ, فَغَضَضْتُ الطَّرَفَ بِسُرْعَةٍ رُغْمَ أنَّهُ كانَ يُرْمِقُني بِنَظَراتِ الحُبِّ والحَنان.
رُحْتُ كُلَّ يوْمٍ أزورُ البُسْتَانَ لِألْتَقِي بِهِ مِنْ بَعِيْدٍ...
وَكنتُ أسْمَعْ شُجَيراتي تُرَنِمُ مَعَهُ تَرانِيْمَ حُلوَةً, راحَتْ نَفسيَ تُرَدِدُها ثمَ صارت تبكي وتَنَوح.
تابعت نفسي تحِدثني قائلة:
مَرَّةً كُنْتُ جاثٍيةٍ عِندَ قَدَمَيهِ وكان هو يُمَسِدُ على شَعري ويَحكي لي حكاياتٍ كُنْتُ أتوقُ لِسَمَاعِها مُنْذُ زَمَنٍ. نَظرَ إليّ بِعَينَتينِ رقرقتا بغشاوة من الدمع,
وقالَ لي: "أنا راحِلٌ."
تَوَسَلْتُ إليْه..؟ بَلَلْتُ قَدَمَيهِ بالدموعِ..
قالَ مُؤَكِدَاً: " أنا راحِلٌ, لَكِنني سأعُودُ."
غَابَ طَيْفُهُ في الحَقْلِ, ناشراً شَذاهُ وَ صَوْتُهُ الهادئ لَمْ يُفَارِقَني.حَاوَلْتُ أن أتبَعَهُ. كانَ الظلامُ شَديداً وصارَتِ البُرودَةُ قاتلَة والهواءُ تَغيَّرَت رائِحَتُه فصارَ ثقيلاً.
كانَ سيِّدي وَ حَبيبي يَئِنُّ, رَكَضْتُ بِسُرْعَةٍ نحْوَهُ...ضَمّمْتُهُ أحاوِلَ أن أرُدَّ عَنهُ ضَرَباتَ السّوطِ التي كانَت لَسَعاتُها تَشْتَدُ أكثَرَ فَأكثَر,
وَ أمّا ضَرَباتِ المِطْرَقَة فَصَارَت أشَدَّ شَرَاسَةً وانغَرَسَتِ المَسَامِيرُ كالأنيَابِ في جَسَدِ سَيِّدي فَسَالَ دَمُنَا.
فَتَحتُ عَيْنَيَ, رَأيْتُ سَيِّدي وَ حَبيبي يُضَمِدُ جِرَاحِي بِلَمَساتِ يَدَيْهِ. كانَ وَجْهُهُ يَلْمَع ُ كالذَهَبِ المُحْتَرقِ,
وكانَ يَهْمِسُ لِيَ: "سَأعود .. سَأعود."
صُرْتُ كُلَّ يَوْمٍ أئْتِ لأسْمَعَ شَجَرَ الزيتون, يُصليَ صباحَ مسَاء للسَيِّدِ الذي أهدَاها الصَلاةَ.
كنتُ أسمَعُ همَسَاتَهُ وَ أحُسُّ بوُجُدِهِ كُلَما هَبَّ النَسِيمُ وَ كُلَما طَرُبَت أوراقُ الزيتونِ, مَا زلْتُ أنتظِرَهُ وَ ها أنا أرتَدي أجْمَلَ أثوابي التي أهداني إياها.
صاحبة هذا التأمل هي الأخت
رولا كنهوش
http://vb.orthodoxonline.org/threads...#axzz1I3JIfd2B
Comment