نؤمن بإله واحد، بدء واحد لا بدءَ له، غير مخلوق ولا مولود، لا يزول ولا يموت، أبدي، لا يحصر ولا يحد، لا يُحاط به، لا تُحصر قوته، بسيط وغير مركب، لا جسم له، لا يسيل ولا ينفعل ولا يتحول ولا يتغيّر، لا يُرى، ينبوع الصلاح والصدق، لأنه “كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ” (مز 135: 6). صانع كل المخلوقات ما يُرى وما لا يُرى. قابض الكل وحافظه، يعتني بالكلّ، يضبط الكلّ ويرئسه ويملك عليه مُلكاً لا ينتهي خالداً. ليس له مقاومٌ، يملأ الكلّ. لا يُحيط به شيء وهو يُحيط بكل شيء ويستولى عليه ويهيئه. وينفذ عبر كل الجواهر ولا يمسُّها. وهو أسمى من الكلّ. مترفع عن كل جوهر لِجلال جوهره وكائنٌ فوق الكائنات. فائقُ اللاهوت وفائقُ الصلاح وفيّاض. محدِّد السلطات والرتب بأسرها ومستقرٌّ فوق السلطات والرتب كلها. فائق الجوهر والحياة والنطق والتفكير. هو النور بالذات والحياة بالذات والجوهر بالذات، لأن وجوده ليس من غيره ولا من كلّ الموجودات، لأنه هو ينبوع الوجود لها كلّها، وينبوع الحياة للأحياء والنطق للمتمتّعين بالنطق وعلَّة جميع الخيرات للجميع. هو عالمٌ بكلّ الأشياء قبل كيانها، وهو جوهر واحد ولاهوت واحد وقوة واحدة ومشيئة واحدة وفعل واحد ورئاسة واحدة وسلطة واحدة, تؤمن به كل خليقة ناطقة وتعبده. فالأقانيم متحدون دون اختلاط، ومتميزون دون انقسام -وهذا غريب- هم آب وابن وروح قدوس، بهم اعتمدنا. فإن الربّ قد أوصى تلاميذه أن يُعمّدوا على النحو التالي قائلاً: “عَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ” (مت 28: 19).
نؤمن بآب واحد، مبدإِ الجميع وعلّتهم. لم يلده أحد وهو أيضاً غير معلول ولا مولود. صانع الكلّ وأب بالطبيعة للوحيد الجنس وحده، ابنه ربّنا يسوع المسيح إلهنا ومخلّصنا. وهو مصدر الروح القدس. ونؤمن بابن الله الواحد والوحيد الجنس ربنا يسوع المسيح المولود من الآب قبل كل الدهور. نور من نور. إله حق من إله حق، مولودٍ غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلُّ شيء. فبقولنا أنه قبل الدهور، نبيِّن أن ولادته لم تكن في الزمن ولم تبتدئ، لأن ابن الله لم ينتقل من العدم إلى الوجود. فهو بهاء المجد وميزة أقنوم الآب والحكمة الحيّة والقوة والكلمة الأقنومي وصورة الله ـ الذي لا يُرى الجوهرية ـ الكاملة والحية، بل كان دائماً مع الآب وفي الآب مولوداً منه ولادة أزلية لا بدءَ لها. فإنه ما كان قط زمنٌ لم يكن الابن فيه، فليس هو آباً. بل حيثما الآب فهناك الابن مولود منه، لأنه بدون الابن لا يُسمى آباً. وإذا لم يكن له الابن، فليس هو آباً. وإذا صار له الابن بعد ذلك، فبعد ذلك فقط يصير آباً ويتحول من كونه لم يكن آباً إلى أنه صار آباً. وهذا أفظع من كل كفر! وعليه لا يمكن القول بأن الله خالٍ من الخصب الطبيعي. والخصب هو أن يلد المِثل من ذاته -أي من جوهره الخاص- مثلاً له في الطبيعة.
إنه إذاً لكفرٌ القول في ولادة الابن أن قد تخلّلها زمن وأن وجود الابن كان بعد الآب. وإن ما نقوله إن ولادة الابن كانت من الآب أي من طبيعته. وإذا لم نسلّم بأن -منذ البدء- كان الابن مع الآب مولوداً منه، فإننا نُدخل تحويلاً في أقنوم الآب. ذلك أنه لم يكن آباً ثم صار آباً. أمّا الخليقة، ولو أنها صارت في ما بعد، فهي ليست من جوهر الله، وقد صارت من العدم إلى الوجود بإرادته تعالى وقوّته، ولم يلتحق تحويلٌ في طبيعة الله. إن الولادة صدور المولود من جوهر الوالد مساوياً له في الجوهر. أمّا الخلق والصنع. فيصيران من خارج، فلا يكون المخلوق والمصنوع من جوهر الخالق والصّانع، ولا مساويان لهما البتة. لذلك، لمّا كان الله منزّهاً وحده عن الانفعال والتحويل والتغيير، وكان هو هو دائماً، كان كذلك أيضاً في الولادة وفي الخلق بلا انفعال. فلأنّه بطبيعته لا ينفعل ولا يسيل -لأنه بسيط وغير مركب- لم يكن ليعاني الانفعال والسيلان لا في الولادة ولا في الخلق، ولم يكن بحاجة لمساعدة أحد. لكنّ الولادة لا بدءَ لها وأزلية -لأنها فعل الطبيعة ولأنها صادرة من جوهر الله-، ذلك كي لا يخضع الوالد لتحويل، وكي لا يكون إله أوّل وإله آخر مما يُحدث إضافة.
أمّا الخلق، بالنسبة إلى الله الذي هو فعل إرادته، فليس مساوياً لله في الأزلية. فالمنتقل من العدم إلى الوجود لا يكون مساوياً في أزلية الوجود لمن لا بدءَ له وهو كائن دائماً. وعلى هذا النحو إذاً لا يتساوى فعل الإنسان وفعل الله. لأن الإنسان لا يُخرج شيئاً من العدم إلى الوجود، لكنّ كل ما يصنعه إنما يصنعه انطلاقاً من مادة سابقة الوضع، وليس ذلك بمجرد أن يُريد، بل هو يسبق فيفكّر أيضاً ويصمِّم المشروع في عقله ثم يعمل بيديه أيضاً ويواصل الكدّ والتعب. وكثيراً ما يعجز عن البلوغ إلى مرامه كما يريد. أما الله فيكفي أن يُريد فقط ويخرج كل شيء من العدم إلى الوجود. وعلى هذا النحو لا يلد الله مثلما يلد الإنسان. فبما أنَّ الله منزَّه عن الزمن ولا بدء له ولا انفعال ولا سيلان وبدون علاقة. وولادته التي لا تُدرك ليس لها بدايةٌ ولا نهاية. وهي بلا بدء لأنها لا تتحوَّل، وبلا سيلان لأنها لا تنفعل ولا جسمية. وهي بلا علاقة لأنها أيضاً لا جسمية ولأن الله واحد أحد وليس بحاجة إلى آخر. وهي بلا نهاية ولا انقطاع، لأنها منزَّهة عن البدء والزمن والنهاية، وإنها هي هي دائماً. فالذي هو بلا ابتداء يكون بلا انتهاء. أمّا الذي هو بلا انتهاء بالنعمة، كالملائكة، فليس هو حتماً بلا ابتداء.
وعليه يلد الله الكائن دوماً كلمته -وهي كاملة- بلا بداية ولا نهاية، ذلك كيلا يلد الله في زمن، وهو الذي طبيعته وكيانه يجلأّن كثيراً فوق الزمن. أمّا الإنسان فهو، من الواضح، على اختلاف ذلك: إنه يتمّ ولادته بالوضع والفساد والسيلان وكثرة النسل وبوشاح الجسد والتواجد في طبيعته للذكر والأنثى، لأن الذكر بحاجة إلى مساعدة الأنثى. ولكن ليرحمنا من هو فوق الجميع الذي يسمو فوق كل عقل وإدراك.
إذاً تُعلِّمنا الكنيسة الجامعة الرسولية أن مع وجود الآب كان الابن الوحيد الجنس موجوداً منه بلا زمن ولا سيلان ولا انفعال ممّا يفوق الإدراك، الأمر الذي يعلمه إله الجميع وحده. فكما أنه مع وجود النار يكون النور الصادر منها، ولا تكون النار أولاً وبعد ذلك النور، بل يكونان معاً. وكما أن النور الصادر من النار مولود منها دائماً ولا يفارقها البتة، كذلك يولد الابن أيضاً من الآب دون أن يفارقه البتة، بل يكون فيه دائماً. لكنّ النور المولود من النار بلا افتراق والباقي فيها دائماً، ليس له أقنوم خاص به من قِبَل النار، لأنه صفةٌ للنار طبيعية. أما ابن الله الوحيد الجنس المولود من الآب بلا انفصال ولا افتراق، والثابت فيه دائماً، له أقنومه الخاص من قِبَل الله.
وعليه يُسمى الابن كلمة وبهاء، لولادته من الآب بلا علاقة ولا انفعال ولا زمن ولا سيلان ولا افتراق. وهو أيضاً صورةُ الأقنوم الأبوي، لأنه كامل وذو أقنوم ومساوٍ للآب في كل شيء، عدا اللاولادة. وهو الوحيد الجنس، لأنه وُلد وحده من الآب وحده ولادةً وحيدة؛ فليس من ولادة أُخرى تُساوي ولادة الابن من الله، وليس من ابن الله سواه. أمّا الروح القدس، فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. وطريقة الوجود الأخرى هذه لا تُدرك ولا تُعرف، شأنها شأن ولادة الابن. لذلك كل ما للآب هو أيضاً للروح عد اللاولادة التي لا تشير إلى جوهر ورتبة مختلفتين، بل إلى طريقة الوجود. فإن آدم مثلاً هو غير مولود لأنه جبلة الله، وشيث مولود لأنه ابن آدم، وحواء منبثقة من ضلع آدم وهي غير مولودة. ولا يختلف واحدهم بالطبيعة عن الآخر-لأنهم بشر- بل يختلفون في طريقة وجودهم.
….. يَتساوى الأقانيم الثلاثة الإلهيون في اللاهوت الأقدس. وهم متساوون وغير مخلوقين ….. الآب وحده غير مولود. ووجوده ليس من أقنوم آخر غيره. والابن وحده مولود، لأنه وُلد من جوهر الآب المنزَّه عن البدء والزمن. والروح القدس وحده منبثق من جوهر الآب-غير مولود بل منبثق (يو 15: 26). فهكذا يعلّمنا الكتاب الإلهي. أمّا الكيفية في الولادة والانبثاق فتظلّ غير مدركة. واعلم هذا أيضاً أنّ اسم الأبوّة والبنوّة والانبثاق لم ينتقل من عندنا إلى اللاهوت السعيد بل بالعكس، فهو قد انتقل إلينا من هناك، على ما يقول الرسول الإلهي: “بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ.” (أف 3: 14- 15).
وإذا قلنا بأنَ الآب مبدأُ الابن وأعظم منه (يو 14 : 28)، فلسنا نعني أنه يفوق الابن زمن وطبيعة، لأنه “بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ” (عب 1: 2)، ولا أنه يفوقه بشيء آخر سوى العلّة، أي أن الابن ولِد من الآب، لا الآب من الابن، وأن الآب علة الابن بحسب الطبيعة، كما نحن نقول بأن النار ليست صادرة من النور، بل بالأحرى النور من النار. إذاً عندما نسمع أن الآب مبدأ الابن وأنه أعظم منه (يو 14 : 28)، نفكر بالعلة. وعلى نحو ما نقول بأن ليس جوهر النار سوى جوهر النور، بل على نحو ذلك -كما يبدو واضحاً-أن ليس جوهر الآب سوى جوهر الابن، بل هما واحد وهما الشيء نفسه. وكما نقول إن النار تظهر بالنور الصادر منها، ولسنا نحسب أن النور -الذي هو من النار- آلة خادمة لها، بل أنه قوتها الطبيعية، كذلك إنه مهما يعمل الآب يعمله بابنه -ليس كما بعضوٍ للخدمة-، بل بقوته الطبيعية الأقنومية. وكما نقول أن النار تضيء ونقول أيضاً إن النور يضيء، كذلك نقول مهما يعمله الآب فهذا يعمله الابن (يو 5: 19). لكن الفرق أن النور لا أقنوم له خاصاً متميزاً عن النار، وأن الابن أقنومٌ كاملٌ غير منفصل عن الأقنوم الأبوي، كما أثبتنا ذلك فيما تقدم. فإنه -في الخليقة- لا يمكن إيجاد صورة توضح في ذاتها حالة الثالوث إيضاحاً كاملاً دون اختلاف. فكيف المخلوق والمركب والسائل والمتحول والمحدود وذو الشكل والفاسد، كيف هذا يبيّن بصفاء الجوهر الإلهي السامي الجوهر، الغريب عن هذه الصفات كلّها؟! إنه من الواضح أن كل خليقة غارقة في الكثير من هذه الصفات وهي جميعها بموجب طبيعتها الخاضعة للفساد.
وبالمثل، نؤمن أيضاً بالروح القدس الواحد، الرب المحيي، المنبثق من الآب والمستريح في الابن والمسجود له والممجد مع الآب والابن، على أنه مساوٍ لهما في الجوهر والأزلية، الروح الذي هو من الله، المستقيم صاحب الأمر وينبوع الحكمة والحياة والتقديس، – لأنه إلهٌ مع الآب والابن فعلاً واسماً – غير المخلوق، الممتلئ، المبدع، صاحب الاقتدار، كامل الفعالية والقوة، لا حد لقوته، ذو السلطة المطلقة على الخليقة كلها. يؤلَّه ولا يتألّه، يَملأ وليس ما يملأُهُ، يُستَمَد منه ولا يَستَمِدْ، يُقدِس ولا يتَقدَس، يُلجأ إليه لتقبّلهِ استغاثات الجميع. مساوٍ للآب والابن في كل شيء. منبثق من الآب وموهوب بالابن فتناله الخليقة كلّها خالقٌ بذاته، يكوّن الكل ويقدسه ويعتني به، قائم بأقنومه الخاص، غير مفترق ولا منفصل عن الآب والابن. له كل ما للآب والابن عدا اللاولادة والولادة، فإن الآب غير معلول وغير مولود – لأنه ليس من أحد، بل له وجوده من ذاته، ولا شيء مما هو له كان من غيره، بل بالأحرى هو لكليهما بالطبيعة المبدأُ وعلة وكيفية الوجود -. أما الابن فهو من الآب بالولادة. والروح القدس هو أيضاً من الآب، لكن باللاولادة بل بالانبثاق. ونحن نعلم أن هناك فرقاً بين الولادة والانبثاق لكننا نجهل كيفيته. وإننا نعلم أيضاً بأن ولادة الابن وانبثاق الروح القدس كانا معاً.
إذاً كل ما كان للابن والروح، كان لهما من الآب، حتى الوجود نفسه. ولو لم يكن الآب، لما كان الابن ولا كان الروح. ولو لم يكن للآب شيئاً، لما كان أيضاً شيءٌ للابن ولا للروح. وبسبب الآب كان للابن والروح القدس كل ما لهما -أي بسبب أن للآب هذا كلّه- ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. فبهذه الاختصاصات الأقنومية وحدها تتميز أحد الأقانيم الثلاثة القدوسة عن الآخرين. ويتميزون باللانقسام بالجوهر، بل ذلك بميزة الأقنوم الخاص.
ونقول إن لكل من الثلاثة أقنومه الكامل، لئلا نوهم بأنه طبيعة واحدة مركبة من ثلاث غير كاملين، ونقول أيضاً إن في الأقانيم الثلاثة الكاملين جوهراً بسيطاً واحداً فائق الكمال وقبل الكمال. لأن كل مجموعة من غير كاملين تكون حتماً مركبة، ولا يمكن إيجاد مركب من ثلاثة أقانيم. ولذلك فإننا لا نتكلم عن نوعهم إنه من أقانيم بل إنه في أقانيم. وقد سميناها ناقصة تلك الأشياء التي لا تحتفظ بنوع الصنع المصنوع منها. فالحجر والخشب والحديد، كل منها كامل بذاته في طبيعته الخاصة. أما بالنظر إلى البيت المصنوع منها، فكل منها ناقص، لأن كلٌّ منها ليس في ذاته بيتاً.
وعليه إننا نقول بأن الأقانيم كاملون لئلا نفكر بتركيب في الطبيعة الإلهية. فالتركيب بدء التقسيم. ونقول أيضاًَ إن كلاًّ من الأقانيم الثلاثة هو في الآخر، لئلا نصير في كثرة وجمهرة من الآلهة. لذلك نقر بعدم تركيب الأقانيم الثلاثة وبعدم اختلاطهم، ولذلك أيضاً نعترف بتساوي الأقانيم في الجوهر وبأن كل واحد منهم هو في الآخر وبأنها هي هي مشيئتهم وفعلهم وقوتهم وسلطتهم وحركتهم -إذا صحَّ التعبير، وبأنهم إله واحد غير منقسم. فإن الله واحد حقاً، وهو الله وكلمته وروحه.
وعلى أن النظر بالفعل غير النظر بالنطق والفكر. وعليه يتضح لنا تمييز الأفراد بالفعل في جميع المخلوقات، لأن بطرس يبدو منفصلاً بالفعل عن بولس. أما ما هو فيهما مشترك ومتجانس وواحد، فلسنا نشاهده إلا بالنطق والتفكير. فنفكر في عقلنا أن بطرس وبولس من طبيعة هي هي نفسها وأن لهما طبيعة مشتركة. كائن ناطق ومائت، وكل منهما تُحيي جسده نفس ناطقة وعقلة. أما الطبيعة المشتركة فتُشاهد بالمنطق، لأن الأفراد ليسوا بعضهم ببعض، وكل فرد -فيما يختص به- نَفور من غيره، أي يبتعد بذاته في الكثير مما يميزه من غيره. فهم أيضاً ينفصلون في المكان ويختلفون في الزمان وينقسمون في الرأي والقوة والشكل أي الهيئة والبنية والطبع والحجم والسيرة وسائر الميزات الخاصة، -وأكثر الكل- في أنهم ليسوا بعضهم في بعض، بل إن كيانهم منفصل انفصالاً تاماً. ومن ثم يقال رجلان وثلاثة رجال ورجال كثيرون.
هذا هو الذي نراه في الخليقة كلها. أما الثالوث الأقدس الفائق الجوهر الذي يعم جلاله الكل وغير المدرك فهو بعكس ذلك. فإن ما يرى هنالك بالفعل إنما هو الشركة الواحدة بسبب التساوي في الأزلية ووحدة الجوهر والفعل والمشيئة اتفاق الرأي والسلطة والقوة ووحدة هوية الصلاح. وإني لست أقول بتشابه، بل بوحدة هوية، ووحدة انطلاق الحركة. فالجوهر واحد والصلاح واحد والقوة واحدة والمشيئة واحدة والفعل واحد والسلطة واحدة، بل هي واحدة وهي هي نفسها، لا ثلاثة أمثال بعضهم في بعض، بل حركة واحدة وهي هي في الأقانيم الثلاثة. فلكل منهم، بالنسبة لغيره، ليس أقل مما له بالنسبة لنفسه، أي أن الآب والابن والروح القدس واحد في كل شيء، ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. وهذا التمييز يكون بفعل التفكير، فنعرف الله واحداً، ونعرف في وحدة خواصه الأبوة والبنوة والانبثاق. ونفهم الفرق على حسب العلة والمعلول وكمال كل أقنوم، أي طريقة وجوده. فلسنا نستطيع القول بانفصال مكاني -كما هو عندنا- في اللاهوت غير المحدود، لأن الأقانيم هم بعضهم في بعض، لا على طريقة الاختلاط، بل التواجد، على نحو قول الرب القائل: “أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ” (يو14: 11).
ولسنا نقول بالاختلاف في الإرادة والرأي والفعل والقوة وأي شيء أخر، الأمر الذي يحدث الانقسام الفعلي الذي فينا في كل شيء. لذلك لا نقول بآلهة ثلاث، آب وابن وروح قدس، بل بالأحرى بإله واحد، الثالوث القدوس، مرجع الابن والروح فيه إلى علة واحدة بدون تركيب ولا اختلاط -وذلك ضد هرطقة سابيلوس-، فإنهم متحدون، كما قلنا، لا للاختلاط بل للتواجد بعضهم في بعضٍ ونفوذ أحدهم في الآخرين بدون امتزاج ولا تشويش، ولا انفصال ولا انقسام -ذلك ضد هرطقة آريوس-. وإذا وجب الاختصار نقول: إنّ اللاهوت لا يمكن أن يُقسم إلى أقسام، وهو على نحو ما يصير في ثلاثة شموس متواجدة بعضهم في بعضٍ وهي لا تنفصل، فيكون مزيج النور واحداً والإضاءة واحدة. إذاً عندما ننظر إلى اللاهوت، على أنه العلّة الأولى، والرئاسة الواحدة، والواحد، وحركة اللاهوت ومشيئته الواحدة -إذا صحّ القول-، وقوّة الجوهر وفعله وسيادته ذاتها، فالذي يتصوّر في ذهننا هو الواحد. أمّا عندما ننظر إلى مَنْ فيهم اللاهوت و-بعبارة أدقَّ- إلى مَن هم اللاهوت، لا سيمَا إلى الصادرَيْنِ من العلّة الأولى بلا زمن والمساويَين لها في المجد وعدم الانفصال -وأعني الابن والروح- فالمسجود لهم ثلاثة : الآب آبٌ واحد هو لا مبدأ له -أي لا علّة له- لأنه ليس من أحد. والابن ابنٌ واحد هو ليس بلا مبدإٍ -أي بلا علّة- وهو من الآب. وإذا اعتبرتَ البدءَ انطلاقاً من الزمن، فالابن لا بدءَ له، لأنه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمن. والروح القدس روح واحد صادر من الآب وذلك ليس بالولادة بل بالانبثاق، لأن الآب لم ينفكّ أن يكون غير مولود -فإنه قد ولد الابن- والابن لم ينفكَّ أن يكون مولوداً -لأنه وُلد من غير مولود-، فكيف إذاً؟ والروح القدس لا يستحيل إلى الآب وإلى الابن، فإذا صار الآب ابناً، فلا يكون آباً بالحقيقية -لأن الآب واحد حقاً-. وإذا صار الابن آباً، فلا يكون ابناً بالحقيقة، لأنَّ الابن واحد حقاً. والروح القدس واحد.
وأعلم أننا لا نقول بأنّ الآب من أحد، بل نقول أنه أبو ابنه، ولا نقول إن الابن علّة وآب، بل نقول إنه من الآب وإنه ابن الآب. ونقول أيضاً إن الروح القدس من الآب ونسميه روح الآب. ولا نقول إنّ الروح القدس من الابن، ونسمّيه روح الابن. يقول الرسول الإلهي: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ” (رو 8: 9). ونعترف أن الابن يُظهره ويمنحه لنا، فقد قال: “نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ:اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ” (يو 20: 22). فكما أنّ الشعاع والإشراق من الشمس -وهي ينبوع الشعاع والإشراق- كذلك يمنح لنا إشراقه بواسطة الشعاع، فينيرنا به ويكون متعتنا. ولسنا نقول بأن الابن ابن الروح ولا إنه من الروح.
القديس يوحنا الدمشقي
نؤمن بآب واحد، مبدإِ الجميع وعلّتهم. لم يلده أحد وهو أيضاً غير معلول ولا مولود. صانع الكلّ وأب بالطبيعة للوحيد الجنس وحده، ابنه ربّنا يسوع المسيح إلهنا ومخلّصنا. وهو مصدر الروح القدس. ونؤمن بابن الله الواحد والوحيد الجنس ربنا يسوع المسيح المولود من الآب قبل كل الدهور. نور من نور. إله حق من إله حق، مولودٍ غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلُّ شيء. فبقولنا أنه قبل الدهور، نبيِّن أن ولادته لم تكن في الزمن ولم تبتدئ، لأن ابن الله لم ينتقل من العدم إلى الوجود. فهو بهاء المجد وميزة أقنوم الآب والحكمة الحيّة والقوة والكلمة الأقنومي وصورة الله ـ الذي لا يُرى الجوهرية ـ الكاملة والحية، بل كان دائماً مع الآب وفي الآب مولوداً منه ولادة أزلية لا بدءَ لها. فإنه ما كان قط زمنٌ لم يكن الابن فيه، فليس هو آباً. بل حيثما الآب فهناك الابن مولود منه، لأنه بدون الابن لا يُسمى آباً. وإذا لم يكن له الابن، فليس هو آباً. وإذا صار له الابن بعد ذلك، فبعد ذلك فقط يصير آباً ويتحول من كونه لم يكن آباً إلى أنه صار آباً. وهذا أفظع من كل كفر! وعليه لا يمكن القول بأن الله خالٍ من الخصب الطبيعي. والخصب هو أن يلد المِثل من ذاته -أي من جوهره الخاص- مثلاً له في الطبيعة.
إنه إذاً لكفرٌ القول في ولادة الابن أن قد تخلّلها زمن وأن وجود الابن كان بعد الآب. وإن ما نقوله إن ولادة الابن كانت من الآب أي من طبيعته. وإذا لم نسلّم بأن -منذ البدء- كان الابن مع الآب مولوداً منه، فإننا نُدخل تحويلاً في أقنوم الآب. ذلك أنه لم يكن آباً ثم صار آباً. أمّا الخليقة، ولو أنها صارت في ما بعد، فهي ليست من جوهر الله، وقد صارت من العدم إلى الوجود بإرادته تعالى وقوّته، ولم يلتحق تحويلٌ في طبيعة الله. إن الولادة صدور المولود من جوهر الوالد مساوياً له في الجوهر. أمّا الخلق والصنع. فيصيران من خارج، فلا يكون المخلوق والمصنوع من جوهر الخالق والصّانع، ولا مساويان لهما البتة. لذلك، لمّا كان الله منزّهاً وحده عن الانفعال والتحويل والتغيير، وكان هو هو دائماً، كان كذلك أيضاً في الولادة وفي الخلق بلا انفعال. فلأنّه بطبيعته لا ينفعل ولا يسيل -لأنه بسيط وغير مركب- لم يكن ليعاني الانفعال والسيلان لا في الولادة ولا في الخلق، ولم يكن بحاجة لمساعدة أحد. لكنّ الولادة لا بدءَ لها وأزلية -لأنها فعل الطبيعة ولأنها صادرة من جوهر الله-، ذلك كي لا يخضع الوالد لتحويل، وكي لا يكون إله أوّل وإله آخر مما يُحدث إضافة.
أمّا الخلق، بالنسبة إلى الله الذي هو فعل إرادته، فليس مساوياً لله في الأزلية. فالمنتقل من العدم إلى الوجود لا يكون مساوياً في أزلية الوجود لمن لا بدءَ له وهو كائن دائماً. وعلى هذا النحو إذاً لا يتساوى فعل الإنسان وفعل الله. لأن الإنسان لا يُخرج شيئاً من العدم إلى الوجود، لكنّ كل ما يصنعه إنما يصنعه انطلاقاً من مادة سابقة الوضع، وليس ذلك بمجرد أن يُريد، بل هو يسبق فيفكّر أيضاً ويصمِّم المشروع في عقله ثم يعمل بيديه أيضاً ويواصل الكدّ والتعب. وكثيراً ما يعجز عن البلوغ إلى مرامه كما يريد. أما الله فيكفي أن يُريد فقط ويخرج كل شيء من العدم إلى الوجود. وعلى هذا النحو لا يلد الله مثلما يلد الإنسان. فبما أنَّ الله منزَّه عن الزمن ولا بدء له ولا انفعال ولا سيلان وبدون علاقة. وولادته التي لا تُدرك ليس لها بدايةٌ ولا نهاية. وهي بلا بدء لأنها لا تتحوَّل، وبلا سيلان لأنها لا تنفعل ولا جسمية. وهي بلا علاقة لأنها أيضاً لا جسمية ولأن الله واحد أحد وليس بحاجة إلى آخر. وهي بلا نهاية ولا انقطاع، لأنها منزَّهة عن البدء والزمن والنهاية، وإنها هي هي دائماً. فالذي هو بلا ابتداء يكون بلا انتهاء. أمّا الذي هو بلا انتهاء بالنعمة، كالملائكة، فليس هو حتماً بلا ابتداء.
وعليه يلد الله الكائن دوماً كلمته -وهي كاملة- بلا بداية ولا نهاية، ذلك كيلا يلد الله في زمن، وهو الذي طبيعته وكيانه يجلأّن كثيراً فوق الزمن. أمّا الإنسان فهو، من الواضح، على اختلاف ذلك: إنه يتمّ ولادته بالوضع والفساد والسيلان وكثرة النسل وبوشاح الجسد والتواجد في طبيعته للذكر والأنثى، لأن الذكر بحاجة إلى مساعدة الأنثى. ولكن ليرحمنا من هو فوق الجميع الذي يسمو فوق كل عقل وإدراك.
إذاً تُعلِّمنا الكنيسة الجامعة الرسولية أن مع وجود الآب كان الابن الوحيد الجنس موجوداً منه بلا زمن ولا سيلان ولا انفعال ممّا يفوق الإدراك، الأمر الذي يعلمه إله الجميع وحده. فكما أنه مع وجود النار يكون النور الصادر منها، ولا تكون النار أولاً وبعد ذلك النور، بل يكونان معاً. وكما أن النور الصادر من النار مولود منها دائماً ولا يفارقها البتة، كذلك يولد الابن أيضاً من الآب دون أن يفارقه البتة، بل يكون فيه دائماً. لكنّ النور المولود من النار بلا افتراق والباقي فيها دائماً، ليس له أقنوم خاص به من قِبَل النار، لأنه صفةٌ للنار طبيعية. أما ابن الله الوحيد الجنس المولود من الآب بلا انفصال ولا افتراق، والثابت فيه دائماً، له أقنومه الخاص من قِبَل الله.
وعليه يُسمى الابن كلمة وبهاء، لولادته من الآب بلا علاقة ولا انفعال ولا زمن ولا سيلان ولا افتراق. وهو أيضاً صورةُ الأقنوم الأبوي، لأنه كامل وذو أقنوم ومساوٍ للآب في كل شيء، عدا اللاولادة. وهو الوحيد الجنس، لأنه وُلد وحده من الآب وحده ولادةً وحيدة؛ فليس من ولادة أُخرى تُساوي ولادة الابن من الله، وليس من ابن الله سواه. أمّا الروح القدس، فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. وطريقة الوجود الأخرى هذه لا تُدرك ولا تُعرف، شأنها شأن ولادة الابن. لذلك كل ما للآب هو أيضاً للروح عد اللاولادة التي لا تشير إلى جوهر ورتبة مختلفتين، بل إلى طريقة الوجود. فإن آدم مثلاً هو غير مولود لأنه جبلة الله، وشيث مولود لأنه ابن آدم، وحواء منبثقة من ضلع آدم وهي غير مولودة. ولا يختلف واحدهم بالطبيعة عن الآخر-لأنهم بشر- بل يختلفون في طريقة وجودهم.
….. يَتساوى الأقانيم الثلاثة الإلهيون في اللاهوت الأقدس. وهم متساوون وغير مخلوقين ….. الآب وحده غير مولود. ووجوده ليس من أقنوم آخر غيره. والابن وحده مولود، لأنه وُلد من جوهر الآب المنزَّه عن البدء والزمن. والروح القدس وحده منبثق من جوهر الآب-غير مولود بل منبثق (يو 15: 26). فهكذا يعلّمنا الكتاب الإلهي. أمّا الكيفية في الولادة والانبثاق فتظلّ غير مدركة. واعلم هذا أيضاً أنّ اسم الأبوّة والبنوّة والانبثاق لم ينتقل من عندنا إلى اللاهوت السعيد بل بالعكس، فهو قد انتقل إلينا من هناك، على ما يقول الرسول الإلهي: “بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ.” (أف 3: 14- 15).
وإذا قلنا بأنَ الآب مبدأُ الابن وأعظم منه (يو 14 : 28)، فلسنا نعني أنه يفوق الابن زمن وطبيعة، لأنه “بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ” (عب 1: 2)، ولا أنه يفوقه بشيء آخر سوى العلّة، أي أن الابن ولِد من الآب، لا الآب من الابن، وأن الآب علة الابن بحسب الطبيعة، كما نحن نقول بأن النار ليست صادرة من النور، بل بالأحرى النور من النار. إذاً عندما نسمع أن الآب مبدأ الابن وأنه أعظم منه (يو 14 : 28)، نفكر بالعلة. وعلى نحو ما نقول بأن ليس جوهر النار سوى جوهر النور، بل على نحو ذلك -كما يبدو واضحاً-أن ليس جوهر الآب سوى جوهر الابن، بل هما واحد وهما الشيء نفسه. وكما نقول إن النار تظهر بالنور الصادر منها، ولسنا نحسب أن النور -الذي هو من النار- آلة خادمة لها، بل أنه قوتها الطبيعية، كذلك إنه مهما يعمل الآب يعمله بابنه -ليس كما بعضوٍ للخدمة-، بل بقوته الطبيعية الأقنومية. وكما نقول أن النار تضيء ونقول أيضاً إن النور يضيء، كذلك نقول مهما يعمله الآب فهذا يعمله الابن (يو 5: 19). لكن الفرق أن النور لا أقنوم له خاصاً متميزاً عن النار، وأن الابن أقنومٌ كاملٌ غير منفصل عن الأقنوم الأبوي، كما أثبتنا ذلك فيما تقدم. فإنه -في الخليقة- لا يمكن إيجاد صورة توضح في ذاتها حالة الثالوث إيضاحاً كاملاً دون اختلاف. فكيف المخلوق والمركب والسائل والمتحول والمحدود وذو الشكل والفاسد، كيف هذا يبيّن بصفاء الجوهر الإلهي السامي الجوهر، الغريب عن هذه الصفات كلّها؟! إنه من الواضح أن كل خليقة غارقة في الكثير من هذه الصفات وهي جميعها بموجب طبيعتها الخاضعة للفساد.
وبالمثل، نؤمن أيضاً بالروح القدس الواحد، الرب المحيي، المنبثق من الآب والمستريح في الابن والمسجود له والممجد مع الآب والابن، على أنه مساوٍ لهما في الجوهر والأزلية، الروح الذي هو من الله، المستقيم صاحب الأمر وينبوع الحكمة والحياة والتقديس، – لأنه إلهٌ مع الآب والابن فعلاً واسماً – غير المخلوق، الممتلئ، المبدع، صاحب الاقتدار، كامل الفعالية والقوة، لا حد لقوته، ذو السلطة المطلقة على الخليقة كلها. يؤلَّه ولا يتألّه، يَملأ وليس ما يملأُهُ، يُستَمَد منه ولا يَستَمِدْ، يُقدِس ولا يتَقدَس، يُلجأ إليه لتقبّلهِ استغاثات الجميع. مساوٍ للآب والابن في كل شيء. منبثق من الآب وموهوب بالابن فتناله الخليقة كلّها خالقٌ بذاته، يكوّن الكل ويقدسه ويعتني به، قائم بأقنومه الخاص، غير مفترق ولا منفصل عن الآب والابن. له كل ما للآب والابن عدا اللاولادة والولادة، فإن الآب غير معلول وغير مولود – لأنه ليس من أحد، بل له وجوده من ذاته، ولا شيء مما هو له كان من غيره، بل بالأحرى هو لكليهما بالطبيعة المبدأُ وعلة وكيفية الوجود -. أما الابن فهو من الآب بالولادة. والروح القدس هو أيضاً من الآب، لكن باللاولادة بل بالانبثاق. ونحن نعلم أن هناك فرقاً بين الولادة والانبثاق لكننا نجهل كيفيته. وإننا نعلم أيضاً بأن ولادة الابن وانبثاق الروح القدس كانا معاً.
إذاً كل ما كان للابن والروح، كان لهما من الآب، حتى الوجود نفسه. ولو لم يكن الآب، لما كان الابن ولا كان الروح. ولو لم يكن للآب شيئاً، لما كان أيضاً شيءٌ للابن ولا للروح. وبسبب الآب كان للابن والروح القدس كل ما لهما -أي بسبب أن للآب هذا كلّه- ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. فبهذه الاختصاصات الأقنومية وحدها تتميز أحد الأقانيم الثلاثة القدوسة عن الآخرين. ويتميزون باللانقسام بالجوهر، بل ذلك بميزة الأقنوم الخاص.
ونقول إن لكل من الثلاثة أقنومه الكامل، لئلا نوهم بأنه طبيعة واحدة مركبة من ثلاث غير كاملين، ونقول أيضاً إن في الأقانيم الثلاثة الكاملين جوهراً بسيطاً واحداً فائق الكمال وقبل الكمال. لأن كل مجموعة من غير كاملين تكون حتماً مركبة، ولا يمكن إيجاد مركب من ثلاثة أقانيم. ولذلك فإننا لا نتكلم عن نوعهم إنه من أقانيم بل إنه في أقانيم. وقد سميناها ناقصة تلك الأشياء التي لا تحتفظ بنوع الصنع المصنوع منها. فالحجر والخشب والحديد، كل منها كامل بذاته في طبيعته الخاصة. أما بالنظر إلى البيت المصنوع منها، فكل منها ناقص، لأن كلٌّ منها ليس في ذاته بيتاً.
وعليه إننا نقول بأن الأقانيم كاملون لئلا نفكر بتركيب في الطبيعة الإلهية. فالتركيب بدء التقسيم. ونقول أيضاًَ إن كلاًّ من الأقانيم الثلاثة هو في الآخر، لئلا نصير في كثرة وجمهرة من الآلهة. لذلك نقر بعدم تركيب الأقانيم الثلاثة وبعدم اختلاطهم، ولذلك أيضاً نعترف بتساوي الأقانيم في الجوهر وبأن كل واحد منهم هو في الآخر وبأنها هي هي مشيئتهم وفعلهم وقوتهم وسلطتهم وحركتهم -إذا صحَّ التعبير، وبأنهم إله واحد غير منقسم. فإن الله واحد حقاً، وهو الله وكلمته وروحه.
وعلى أن النظر بالفعل غير النظر بالنطق والفكر. وعليه يتضح لنا تمييز الأفراد بالفعل في جميع المخلوقات، لأن بطرس يبدو منفصلاً بالفعل عن بولس. أما ما هو فيهما مشترك ومتجانس وواحد، فلسنا نشاهده إلا بالنطق والتفكير. فنفكر في عقلنا أن بطرس وبولس من طبيعة هي هي نفسها وأن لهما طبيعة مشتركة. كائن ناطق ومائت، وكل منهما تُحيي جسده نفس ناطقة وعقلة. أما الطبيعة المشتركة فتُشاهد بالمنطق، لأن الأفراد ليسوا بعضهم ببعض، وكل فرد -فيما يختص به- نَفور من غيره، أي يبتعد بذاته في الكثير مما يميزه من غيره. فهم أيضاً ينفصلون في المكان ويختلفون في الزمان وينقسمون في الرأي والقوة والشكل أي الهيئة والبنية والطبع والحجم والسيرة وسائر الميزات الخاصة، -وأكثر الكل- في أنهم ليسوا بعضهم في بعض، بل إن كيانهم منفصل انفصالاً تاماً. ومن ثم يقال رجلان وثلاثة رجال ورجال كثيرون.
هذا هو الذي نراه في الخليقة كلها. أما الثالوث الأقدس الفائق الجوهر الذي يعم جلاله الكل وغير المدرك فهو بعكس ذلك. فإن ما يرى هنالك بالفعل إنما هو الشركة الواحدة بسبب التساوي في الأزلية ووحدة الجوهر والفعل والمشيئة اتفاق الرأي والسلطة والقوة ووحدة هوية الصلاح. وإني لست أقول بتشابه، بل بوحدة هوية، ووحدة انطلاق الحركة. فالجوهر واحد والصلاح واحد والقوة واحدة والمشيئة واحدة والفعل واحد والسلطة واحدة، بل هي واحدة وهي هي نفسها، لا ثلاثة أمثال بعضهم في بعض، بل حركة واحدة وهي هي في الأقانيم الثلاثة. فلكل منهم، بالنسبة لغيره، ليس أقل مما له بالنسبة لنفسه، أي أن الآب والابن والروح القدس واحد في كل شيء، ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. وهذا التمييز يكون بفعل التفكير، فنعرف الله واحداً، ونعرف في وحدة خواصه الأبوة والبنوة والانبثاق. ونفهم الفرق على حسب العلة والمعلول وكمال كل أقنوم، أي طريقة وجوده. فلسنا نستطيع القول بانفصال مكاني -كما هو عندنا- في اللاهوت غير المحدود، لأن الأقانيم هم بعضهم في بعض، لا على طريقة الاختلاط، بل التواجد، على نحو قول الرب القائل: “أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ” (يو14: 11).
ولسنا نقول بالاختلاف في الإرادة والرأي والفعل والقوة وأي شيء أخر، الأمر الذي يحدث الانقسام الفعلي الذي فينا في كل شيء. لذلك لا نقول بآلهة ثلاث، آب وابن وروح قدس، بل بالأحرى بإله واحد، الثالوث القدوس، مرجع الابن والروح فيه إلى علة واحدة بدون تركيب ولا اختلاط -وذلك ضد هرطقة سابيلوس-، فإنهم متحدون، كما قلنا، لا للاختلاط بل للتواجد بعضهم في بعضٍ ونفوذ أحدهم في الآخرين بدون امتزاج ولا تشويش، ولا انفصال ولا انقسام -ذلك ضد هرطقة آريوس-. وإذا وجب الاختصار نقول: إنّ اللاهوت لا يمكن أن يُقسم إلى أقسام، وهو على نحو ما يصير في ثلاثة شموس متواجدة بعضهم في بعضٍ وهي لا تنفصل، فيكون مزيج النور واحداً والإضاءة واحدة. إذاً عندما ننظر إلى اللاهوت، على أنه العلّة الأولى، والرئاسة الواحدة، والواحد، وحركة اللاهوت ومشيئته الواحدة -إذا صحّ القول-، وقوّة الجوهر وفعله وسيادته ذاتها، فالذي يتصوّر في ذهننا هو الواحد. أمّا عندما ننظر إلى مَنْ فيهم اللاهوت و-بعبارة أدقَّ- إلى مَن هم اللاهوت، لا سيمَا إلى الصادرَيْنِ من العلّة الأولى بلا زمن والمساويَين لها في المجد وعدم الانفصال -وأعني الابن والروح- فالمسجود لهم ثلاثة : الآب آبٌ واحد هو لا مبدأ له -أي لا علّة له- لأنه ليس من أحد. والابن ابنٌ واحد هو ليس بلا مبدإٍ -أي بلا علّة- وهو من الآب. وإذا اعتبرتَ البدءَ انطلاقاً من الزمن، فالابن لا بدءَ له، لأنه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمن. والروح القدس روح واحد صادر من الآب وذلك ليس بالولادة بل بالانبثاق، لأن الآب لم ينفكّ أن يكون غير مولود -فإنه قد ولد الابن- والابن لم ينفكَّ أن يكون مولوداً -لأنه وُلد من غير مولود-، فكيف إذاً؟ والروح القدس لا يستحيل إلى الآب وإلى الابن، فإذا صار الآب ابناً، فلا يكون آباً بالحقيقية -لأن الآب واحد حقاً-. وإذا صار الابن آباً، فلا يكون ابناً بالحقيقة، لأنَّ الابن واحد حقاً. والروح القدس واحد.
وأعلم أننا لا نقول بأنّ الآب من أحد، بل نقول أنه أبو ابنه، ولا نقول إن الابن علّة وآب، بل نقول إنه من الآب وإنه ابن الآب. ونقول أيضاً إن الروح القدس من الآب ونسميه روح الآب. ولا نقول إنّ الروح القدس من الابن، ونسمّيه روح الابن. يقول الرسول الإلهي: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ” (رو 8: 9). ونعترف أن الابن يُظهره ويمنحه لنا، فقد قال: “نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ:اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ” (يو 20: 22). فكما أنّ الشعاع والإشراق من الشمس -وهي ينبوع الشعاع والإشراق- كذلك يمنح لنا إشراقه بواسطة الشعاع، فينيرنا به ويكون متعتنا. ولسنا نقول بأن الابن ابن الروح ولا إنه من الروح.
القديس يوحنا الدمشقي
Comment