»اَلْمَحَبَّةُ لا تَحْتَدُّ«
(1 كورنثوس 13: 5) الاحتداد عاطفة طبيعية وضعها الله فينا لنمارسها في مكانها ووقتها المناسبَيْن. ولكن بعض الناس يستخدم هذه العاطفة الطبيعية في غير محلها، وهذا ما لا تفعله المحبة، التي لا تحتّد.
عندما زار الرسول بولس أثينا، عاصمة الحضارة في وقته »احْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُوءَةً أَصْنَاماً« (أعمال 17: 16). وهذا هو الاحتداد المقدس. فكيف يملأ هؤلاء الفلاسفة المفكرون، قادة المعرفة في العالم في زمنهم، مدينتهم بالأصنام؟! بل إن بعضهم عندما رأوا معجزةً تجري، وتحيَّروا في مَن هو الإله الذي أجراها، أقاموا تمثالاً »لِإِلهٍ مَجْهُولٍ«! (أعمال 17: 23). لقد كانوا حكماء في أمور دنياهم، جهلاء في أمور آخِرتهم. لذلك احتدَّ بولس عليهم، بقلبه ولسانه!
أما الاحتداد الذي لا تمارسه المحبة فهو الاحتداد الخاطئ، الذي نصلي أن يستأصله الله منّا. فإننا عندما ننال الحياة الجديدة في المسيح ونقبل خلاصه بالتوبة عن الماضي، يغفر لنا ماضينا، ويظل يخلِّصنا بعد ذلك بقيَّة حياتنا مِن شوائب الخطية المحيطة بنا بسهولة، ويطهّرنا من كل ثقل الطبيعة القديمة الفاسدة التي لا تزال آثارها فينا، وينقذنا من سلطان الخطية علينا. فنتجدّد بروح ذهننا ونتخلّص يوماً بعد يومٍ من خطايانا، وهكذا يقدسنا وينقي قلوبنا.
الاحتداد الخاطئ
ويكون الاحتداد خاطئاً في حالتين:
أ - احتداد بسببٍ لا يستحق الاحتداد:
قال المسيح في موعظته على الجبل: »كُلُّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ« (متى 5: 22). فهناك من يغضب بحق، ويطيع الوصية: »اِغْضَبُوا وَلَا تُخْطِئُوا. لَا تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ وَلَا تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً« (أفسس 4: 26 و27). وهناك من يغضب ويحتدّ على أخيه باطلاً فيستوجب الحكم عليه من محكمة السماء، وربما من محاكم الأرض أيضاً. قد نحتد لمجرد أن شخصاً يختلف معنا في وُجهة نظرنا. وأحياناً لأن إنساناً يعاكس مصالحنا الشخصية البسيطة التي قد تكون تافهة، فنفقد أعصابنا، وتخرج من أفواهنا الكلمات التي لا تليق.
وقد نحتدّ على أقرب الناس إلينا وأحبّهم إلى قلوبنا، لأننا لم نسمع دفاعهم عن أنفسهم، أو لأننا لم نعطهم فرصةً للدفاع عن وجهة نظرهم. وقد نحتدّ عليهم لأننا نطلب منهم أن يكونوا مجرد أتباعٍ لنا ولأفكارنا بدون مناقشة. ومن أشد الأمور إيلاماً للنفس الخناقات الزوجية، والعراك بين أبٍ أو أمٍ مع أولادهما، مع أن الأبناء أحبّ الناس إلى قلوب آبائهم. لكنها المحبة العاطفية الغريزية فقط. وهي في هذه الحالة تحتاج إلى تهذيبٍ وإصلاحٍ سماويين لتكون على مثال محبة المسيح.
ب - احتداد ممزوج بالرغبة في الانتقام:
يقول بولس لأعضاء كنيسة رومية: »لَا تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: »لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ« (رومية 12: 19). نعطي الغضب مكاناً بأن نُفسح له الطريق لينصرف دون أن يصبح عاصفةً تكتسح الأخضر واليابس! فإذا غضبنا على الخطأ لا ننتقم، فالخطأ في الاحتداد هو الميل للانتقام من الشخص الذي أخطأ.
ويوصي الرسول بولس أهل أفسس: »لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللّهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ« (أفسس 4: 31 و32). فالمحبة الحقيقية لا تغضب لسببٍ لا يستحق. فإذا غضبت لسببٍ يستحق فهي لا تلجأ أبداً للانتقام.
أضرار الاحتداد الخاطئ
أ - الاحتداد الخاطئ يُفقد الإنسان سلامه واتّزانه:
عندما ينفجر الإنسان مثل بركانٍ غاضب، يضيِّع اتزانه وسلامه، ولا يعود قادراً على التحكم في كلامه، ولا على جسده، فتنطلق كلماته كالقذائف تجرح الآخرين وتدمّر سلامه النفسي. وعندما يفيق إلى نفسه بعد ثورة الغضب يلوم نفسه. ولكنه لا يستطيع أن يستعيد كلمات الغضب التي أفلتت منه وانتشرت في كل مكان. لقد صارت كالريش الذي حمله الريح إلى حيث لا يريد، وإلى حيث لا يعلم!
قال سليمان الحكيم: »لَا تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى الْغَضَبِ، لِأَنَّ الْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ الْجُهَّالِ« (جامعة 7: 9). فالغضوب يفقد اتّزانه، فيستقر غضبه في حضنه ويؤذي نفسه أكثر مما يؤذي غيره. وإن أشد ما يُخجل الإنسان منّا أن يحتد ويفقد أعصابه على إنسانٍ محبٍّ، فإذا بهذا المحبِّ يغفر له! وكم من مؤمنٍ يحب الرب ويعمل لرفعة مجده، يفقد أعصابه على مؤمن آخر وينطق بما لا يليق، لمجرد اختلافٍ في وجهات النظر أو لتناقضٍ مع المصلحة الشخصية، فيجد أن »الغضب يستقر في حضن الجهال«.
ب - الاحتداد الخاطئ يضيِّع البركة الروحية:
يقول المسيح في موعظته على الجبل: »فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ« (متى 5: 23 و24). وفي هذا الأمر السماوي يعطي المسيح مكانةً للمصالحة والاعتذار عن الإساءة تسمو على تقديم القربان. فالرب يقبل قربان القلب المحب والنفس النقية، ويرفض صلاة وقربان النفس التي تحتد!
عندما يفقد والدٌ أعصابه على ولده، تضيع قوة حُجّته فيعجز عن إقناع ابنه، لأن المحتدّ لا يفكّر بعقلانية، فقد ضيَّع الغضبُ منطقَه السليم. فالمنطق القوي لا يحتاج لغضب صاحبه واحتداده ليسند وجهة نظره. بل إنه عندما يحتد يضيّع قدوته الحسنة، ويشوّه صورة المسيح فيه.
يقدم سفر الأمثال مجموعة أمثالٍ عظيمة تنهَى عن الاحتداد الخاطئ. يقول إمام الحكماء سليمان: »لَا تَسْتَصْحِبْ غَضُوباً، وَمَعَ رَجُلٍ سَاخِطٍ لَا تَجِئْ، لِئَلَّا تَأْلَفَ طُرُقَهُ وَتَأْخُذَ شَرَكاً إِلَى نَفْسِكَ« (أمثال 22: 24 و25). فالغضوب يثير الناس، ويضيِّع كرامة نفسه، وكرامة الآخرين.
ج - الاحتداد الخاطئ يضيّع كرامة الإنسان الاجتماعية:
تسقط صورة المحتدّ المخطئ في نظر المجتمع. يقول الحكيم سليمان: »اَلرَّجُلُ الْغَضُوبُ يُهَيِّجُ الْخِصَامَ، وَالرَّجُلُ السَّخُوطُ كَثِيرُ الْمَعَاصِي« (أمثال 29:22). يبدأ الإنسان بالغضب ويفقد أعصابه ويخطئ، وعندها يجد نفسه يرتكب خطأً بعد خطأ فتتشوَّه صورته في مجتمعه.
كيف ننتصر على الاحتداد الخاطئ؟
منح الروح القدس المؤمنين مواهب روحية ونعمة تساعدهم على التقدم في الإيمان. فكيف يفقدون ثمر الروح القدس الذي هو طول أناة وتعفُّف وضبط نفس؟!
كلنا نحارب معركتنا الروحية ونسعى لعلَّنا ندرك الذي لأجله أدركنا المسيح. لا يأس مع المسيح، ومع قوة الروح القدس التي تساعدنا كلنا لنحافظ على أعصابنا ونضبط أنفسنا ونحيا حياة المحبة التي »لا تحتدّ«.
نحتاج كثيراً إلى التأكُّد أننا خليقة جديدة في المسيح لأن »الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ« (غلاطية 5: 24). فهذه المبادئ الأخلاقية ليست مجرّد أخلاقيات، لكنها أسلوب حياة جديدة في المسيح. فالذين تغيَّرت حياتهم ينطبق عليهم القول: »إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الْأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً« (2كورنثوس 5: 17). فالبداية هي الطبيعة الجديدة التي تحيا لله تحت سيطرة روحه القدوس، فنعطي من أنفسنا أكثر للروح القدس الذي هو شخص الله، ونسلِّم أنفسنا له أكثر. وعندما يمتلكنا يملك أعصابنا أيضاً، ويحفظنا من أن نحتدّ.
وهناك أربع نصائح يمكن أن نتبعها للانتصار على الاحتداد:
أ - لنتعلَّم التواضع، فلنا عيوبنا:
جميعنا نخطئ، وكلنا كغنم ضللنا (إشعياء 53: 6) ونحتاج لنعمة الله لتصحّح مسارنا، ونحتاج لإرشاده ليوسِّع إدراكنا. نحتاج أن نضع أنفسنا في مكان الآخرين لنعرف أننا لسنا أفضل من غيرنا.
عندما تحتدّ على شخصٍ تذكَّر أن عندك من العيوب مثل ما عنده، وقد قَبِلك اللهُ وقَبِلك غيرُك من المؤمنين. فافعل الشيء نفسه مع الإنسان الذي تحتد عليه.
ب - لا نضخِّم أخطاء الآخرين، ولا ما أصابنا من ضررها:
يمكن أن نغضب نتيجة خطأ الآخرين، ولكن يجب أن نقيِّم حجم الخطأ، وحجم الغضب. هل حجم خطأ الآخرين ضدنا يستحق حجم احتدادنا؟ لا يجب أن نضع أخطاء الآخرين تحت عدسات مكبرة تضخِّم سلبياتهم.
من الدروس العظيمة التي يلقّنها لنا الرسول بولس درس الغفران. لقد قدم استئنافاً للمحكمة العليا في روما أمام الإمبراطور نيرون، كتب عنه لتلميذه تيموثاوس يقول: »فِي احْتِجَاجِي (استئنافي) الْأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لَا يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ. وَلكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي الْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ الْأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ الْأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي الرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ السَّمَاوِيِّ. الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ« (2 تيموثاوس 4: 16-18). كنا نتوقَّع أن يعاتب الرسول بولس المؤمنين الذين قادهم لمعرفة المسيح، والذين احتمل في سبيلهم آلاماً كثيرة، وقد تركوه في موقفٍ صعب كان يحتاج فيه إلى إسنادهم النفسي والعاطفي والأدبي والمالي. ولكنهم تركوه وحيداً. ولكن ما أجمل قوله: »لا يُحسب عليهم«. وأشاد بوقوف الرب بجانبه يقوّيه لتتم به الكرازة وتصل الرسالة للجميع. وليس ذلك فقط بل شهد أن الله سينقذه في المستقبل. لم يكن حساب الرسول بولس مثل حساب كثيرين اليوم! لم يحسب شيئاً على المقصّرين في حقه، وحسب كل شيء لمجد الله!
ج - نلتمس العذر للمخطئ:
عندما يسيء أحدٌ إلينا، يمكننا أن نحلّل دوافعه بأسلوب إيجابي، فنلتمس له العُذر بقدر ما نستطيع. وأمامنا النموذج الصالح، الذي نرجو أن نصل إلى قياس ملء قامته، وهو يصلي لأجل المسيئين إليه، رغم أنه أحسن إليهم أعظم الإحسان: »يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ« (لوقا 23: 34). وهذا ما يعلنه الرسول بولس: »لِأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ« (1كورنثوس2: 8). دعونا بنعمة الرب نتوقَّف عن الغضب الشديد والاحتداد المستعجل. لنبطئ غضبنا بنعمةٍ من الرب، لنتمكن من تحليل الدوافع التي جعلت غيرنا يخطئ في حقّنا. »إِذاً يَا إِخْوَتِي الْأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي الِاسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي الْغَضَبِ، لِأَنَّ غَضَبَ الْإِنْسَانِ لَا يَصْنَعُ بِرَّ اللّهِ« (يعقوب 1: 19 و20).
د - نقدِّر النتائج السيئة للاحتداد:
عندما يفيق الإنسان إلى نفسه بعد ثورة الغضب، يندم على كثيرٍ مِن الكلام الذي صدر منه، ويتذكر المثل الصيني: »الفم المطبَق لا يدخله الذباب« كما يتذكر النصيحة القديمة: »إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب«. ويتذكر قولة الشاعر:
»ولئِنْ ندمتُ على سكوتيَ مرةً فلقد ندمتُ على الكلامِ مراراً«
لا يوجد شيء مستحيل مع الوصية. فحيث تكون الوصية، تكون هناك نعمة كافية لتنفيذها لأن الرب هو مصدر الوصية ومصدر النعمة أيضاً، والرب يعرف ما نحتاج إليه من قبل أن نطلبه.
صلاة
امتحِن نفسي يا الله، واختبِر كلامي وعلاقاتي مع الآخرين، وسيطِر بروحك القدوس على سلوكي. أشكرك لأنك سامحتني على كل ما أسأتُ به لملكوتك ولإخوتي ولنفسي. »إليك وحدك أخطأت«.
Comment