في خميس الصعود نعيّد لصعود ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح إلى السمّاء، وذلك بعد أربعين يوماً من قيامَتِه وظهوره للتّلاميذ (أعمال 1: 3- 11) ومن هنا نتسأل عن معنى عيد الصعود وما هو موقفنا تجاه العيد واين نحي ذكرى الصعود وما تاريخ المزار ومعالمه الاثرية وابعاده الروحية.
أولاً: معنى عيد الصعود
في ختام الأربعين يوماً التي حدثت خلالها ظُهورات يسوع مع تلاميذه، تركهم وصعد الى السماء(اعمال الرسل 1:3-11). السماء هي مسكن الالوهية (الله) واما الارض، موطئ قدميه( اشعيا 66/1) فهي مسكن البشر(مزمور 115/16). ان الله "ينزل" من السماء (تكوين 11/5) ثم يصعد اليها (تكوين 17/22). بالصعود والنزول يربط يسوع بين السماء والارض.
صعود يسوع يعني عودته الى السماء تمجيدا لاسمه. فالرب تمجّد فوق السموات بصفته إنسانا وصعد بصفته إلها، ويبرز ذلك في النقاط التالية:
اولا : صعد يسوع لكي يجلس على العرش كملك (رؤيا 1/5) تعبيرا عن مجده السماوي (اعمال 2:34).
ثانيا: صعد يسوع ليكشف نصره بالصليب (كولسي 2/15) ويتقلّد السيادة في السماء وعلى الارض(افسس 4: 10).انه صاحب السلطان وغالب الخطيئة وقاهر الموت وانجز عمل الخلاص.
ثالثا: صعد المسيح لكي يجلس عن يمين الله (عبرانيين (1/ 1-4-13) ويشفع فينا في حضرة الله(عبرانيين 9/ 24) فاصبح الوسيط الوحيد بين الله والناس.
رابعا: صعد يسوع ليضع حدا لظهوره على الارض ويدخل في حالة جديدة حيث تكون العلاقات معه لها طابع روحي ( يوحنا 20/ 17) لقد قطع يسوع حضوره الظاهر في العالم، على ان يعيده بالتالي في مجيئه الثاني في آخر الازمنة يوم الدينونة. (اعمال 1ك11) وهذا ما جاء في تعليم بولس "ان يسوع يبقى محتجبا عن البشر الى حين ظهوره الاخير" (كولوسي 3/1).
خامسا: صعد يسوع الى السماء ليُعد لمختاريه مكانا ثم يأتي ويأخذهم اليه ليكونوا معه على الدوام (يوحنا 14/2) والرسل شهود على ذلك(اعمال الرسل 1).
ما هو موقفنا؟ علينا أن نؤمن بان السيد المسيح هو إله وإنسان في أقنوم واحد. لأنه بألوهيته صعد، ولكن بجسده تمجّد. اليوم صعد ربنا الى السماء. ليصعد قلبنا معه. فعلينا ونحن ننتظر عودته الثانية ان نظلَّ متحدين بالإيمان والرجاء بسيدنا الممجد. فنسعى بالأيمان "للأمور التي في العلا" لان حياتنا منذ الآن محتجبة مع المسيح في الله (كولس 3/1)، ونحيا بالرجاء ايضا منذ الآن بطريقة جديدة نحرّك العالم نحو المجد حيث يملك المسيح فيه. وفي هذا الصدد قال القديس اغسطينوس "مع كونه هناك (السماء)، هو معنا هنا (الارض) ، ونحن مع كوننا هنا، نحن معه ايضا هناك".
ثانيا: مزار الصعود
التسمية: مزار صعود الرب يسوع الى السماء هو من اهم المزارات التي بُنيت على جبل الزيتون.
وأطلق لوقا في إنجيله على هذا المزار عبارة " قرب بيت عنيا " ( 24 ، 50 ) واما في اعمال الرسل فحُدّد مكان الصعود "على جبل الزيتون". (1 ، 3). وفي القرن الرابع بنيت كنيسة في هذا الموقع عرفت ب "أمبومُن" وهي لفظة مشتقة من اللغة اليونانية وتعني "في المذبح" أو "على المرتفع": أي على قمة جبل الزيتون كما تشير اليها اللفظة العبرية (במה). وتتفق هذه التسمية التي وردت في مذكرات ايجارية مع ما وصفت به المزار أنه "مكان" (Locus)، وهي لفظة لاتينية تعني مكان كما تتفق ايضا مع لفظة (Monticulus) أي التل الصغير كما جاء في مواصفات الحاج من بوردو عام 333. ومن ايام الصليبيين حتى اليوم عًرف المكان بمزار الصعود. واما سكان الطور فيسمونه ايضا مزار الصعود.
الموقع: حدد لوقا موقع الصعود في جبل الزيتون على مسيرة سبت من القدس- ما يقارب 2000 خطوة – اعمال الرسل (1، 3). ويتحدد هذا الموقع حالياً غربي قرية الطور (كلمة ارامية تعني الجبل) على ارتفاع 808 م من سطح البحر، وتحده كنيسة أبانا من ناحية ومستشفى المقاصد من ناحية اخرى.
عبر التاريخ: يروي لوقا أن السيد المسيح –بعد اربعين يوماً من قيامته– "خرج برسله الى القرب من بيت عنيا ورفع يديه فباركهم. وبينما هو يباركهم، انفصل عنهم ورفع الى السماء" (24، 50 -52).
وقبل عهد قسطنطين أخذ المسيحيون يحيون ذكرى الصعود في مغارة التعليم ( ايليونة ) حيث بنت هيلانه، والدة قسطنطين، فيما بعد، كنيسة لإحياء هذه الذكرى.
وفي عام 378 شيّدت بومينا سيدة تقية من عائلة امبراطور روما - كنيسة بيزنطية على شكل بناء مستدير بدون اسقف عرفت باسم "امبومن".
وفي عام 403 اشار الى هذا المزار بولان دي نول في رسالته. يروي انه سجد في المكان الذي وقفت عليه قدما يسوع الطاهرتان.
وفي عام 450 يبدو انه حُرق الصليب الذي كان يعلو مزار الصعود. فاهتمت الإمبراطورة افدوكيا، بوضع صليب آخر في المزار يبلغ وزنه 2000 كغم.
وفي عام 570 وصف حاج من بلاشنسا أن جبل الزيتون كان مكتظاً بالأديرة. فلا عجب أن نشاهد اليوم بقايا فسيفسائية من تلك الاديرة في كثير من البيوت العربية في المنطقة الواقعة على جبل الزيتون. إلا انه في عام 614 دمّر كسرى ملك الفرس، كل هذه الاديرة وقتل 1207 من المسيحيين ومن بينهم 400 راهبة من دير جبل الزيتون.
وفي عام 616 قام الاباتي مودستس رئيس الجماعة المسيحية في القدس بترميم كنيسة "امبومن" وإبان الفتح العربي عام 638 حافظ العرب المسلمون على المزار واكتفوا بنزع الصليب الذي كان يعلوه. ونصب الخليفة عمر بن الخطاب خيمته بالقرب من المزار فأقام المسلمون هناك جامعاً يحمل اسمه لا تزال اثارة ظاهرة حتى اليوم.
وفي عام 670 وصف الرحالة اركلف، أسقف غالية ( فرنسا ) كنيسة امبومن التي رممها مودستس مبيناً معالمها بالرسم الايضاحي التالي : وهي عبارة عن بناء مستدير الشكل بلا سقف ليدل الجميع على طريق السماء، تتوسطه الصخرة المباركة حيث ارتفع المخلص تاركاً اثر قديمه الطاهرتين محاطة بسياج معدني وفيه هيكل تعلوه مظلَّه تقيه من المطر. وتحيط هذا البناء ساحة فسيحة ، فيها ثلاثة صفوف من الاعمدة على شكل دوائر ذات مركز واحد تؤلف رواقين من الداخل، يبلغ قطر الدائرة الصغيرة 25 م. وتعلو الاعمدة حنايا وقبب حول هذه الفسحة. وارضيتها مرصوفة بفصوص الرخام والفسيفساء. وللمزار ثلاثة ابواب من جهة الجنوب وثمانية من الجهة الغربية تشرف على القدس معلق على كل منها مصباح يشع منها نور ساطع يبهر الحجاج.
وبين اعوام 721-727 رأى السائح فيليبالد عمودين امام البناء الداخلي في كنيسة الصعود ذكرى للرجلين اللذين قالا "ايها الرجال الجليليون..." وكانت تسود رواية شعبية تعتقد أن " كل من مرّ بين هذين العامودين تغفر خطاياه ".
وفي عام 870 كانت كنيسة "امبومن" لا تزال قائمة، الا أن معالمها اختفت قبل وصول الصليبييين. اذ امر بهدمها السلطان الفاطمي الحاكم بامر الله (منصور بن العزيز) سنة 1009.
وفوق انقاض كنيسة امبومن، بنى الصليبيون لدى احتلالهم القدس – كنيسة لها شكل مثمن وارضية رخامية، يصلها المرء عن طريق 24 درجة على ما روى الاباتي دانيال عام 1106 ويتوسط الكنيسة بناء مستدير بدون عقد يحوي مذبحاً تحته حجر يشير الى موقع صعود الرب. كما بنى الصليبيون بالقرب من هذه الكنيسة ديراً مجاورا للكنيسة لرهبان القديس اوغسطينس وقلاعاً لحماية المزار كما يشير الى ذلك السائح ثيودوريك.
وفي عام 1187 هدم صلاح الدين الايوبي الكنيسة ولم يبق سوى اساساتها والمزار الصغير المثمن الشكل في وسط الساحة. وحوّل ممتلكات الكنيسة الى وقف اسلامي عام 1198.
وفي عام 1200 حوّل المسلمون مزار الصعود الصليبي القائم في وسط الساحة الى جامع بإضافة قبة ومحراب اليه واغلاق المداخل بين الاقواس. وتتولى حالياً عائلة ابو غنام من الطور الاشراف على المزار والمحافظة عليه. الا أن الطوائف المسيحية المختلفة نالت منذ عام 1461 صلاحية الاحتفال بعيد الصعود في المزار. ويؤدي فيه المسيحيون والمسلمون الاكرام للسيد المسيح على حد سواء، ويؤيد القرآن الكريم رواية الصعود بقوله "اذ قال الله، اني متوفيك ورافعك اليّ" ( سورة آل عمران 54 ).
المعالم الأثرية:
جرت تنقيبات عديدة حول كنيسة الصعود. فأسفرت التنقيبات عن نتائج تؤيد ما جاء به السياح عبر العصور وأهمها:
- الاكتشاف أن موقع الصعود لم يكن مسكونا زمن السيد المسيح.
- العثور على الجزء السفلي من الكنيسة البيزنطية المستديرة البناء مع بعض دعائمها بجانب سور كنيسة الصعود. ويبلغ جدار الكنيسة 1،50م. كما عثر على قنوات وبئر وقطع فسيفسائية وقبور.
- العثور على جزء من الكنيسة الصليبية المثمنة الشكل وجزء من الجدار الخارجي للقلعة الصليبية التي كانت تستخدم كحماية للمزار. كما عثر على معلف للخيول وفرن صليبي.
- العثور على كنيسة اسطفانس التي بنتها ميلانيا الشابة وهي عبارة عن قاعة كبيرة تبلغ مساحتها 300م لها عقدان يسندهما اعمدة ضخمة.
اما في داخل مزار الصعود لا يزال ظاهرا للعيان المعالم الأثرية التالية:
- بعض اساسات السور الخارجي ، ويبلغ سمكه في الجهة الشمالية 4 أمتار وبقايا اساسات ثلاثة اعمدة للكنيسة الصليبية داخل ساحة الكنيسة التي يبلغ قطرها 31م . وفي الساحة بئران واربعة هياكل يصلي عليها كل من الروم الأرثوذكس والسريان والأقباط والارمن. في حين يصلي اللاتين في داخل المزار نفسه لانهم شيدوا القبة عام 1934 لدى خرابها على اثر زلزال .
- مزار صليبي صغير في وسط الساحة مزين باقواس ثمانية تستند على 14 عمود يعلو كل منه تيجان مزين عليها اشكال نباتية أو حيوانية . ويعلو المزار قبة اقامها المسلمون عام 1200 ولم ينصب على القبة صليب أو هلال بل عمود رخامي ليشير أن المزار هو مكان صلاة لجميع المؤمنين. وفي داخل المزار الصخرة الشريفة التي قبّلها القديس ايرونيموس واغناطيوس دي ليولا لوجود اثر قدمي المسيح الطاهرتين . فهنالك بارك المخلص تلاميذه للمرة الاخيرة وأمرهم أن يذهبوا ليعلموا الامم ويعمدوهم ووعدهم أن يكون معهم الى انقضاء الدهر (لوقا 24/ 50-53).
يذهب الآباء الفرنسيسكان والطوائف الاخرى: الروم الأرثوذكس والارمن والأقباط والسريان كل سنة في عشية عيد الصعود الى هذا المقام الشريف فيقضون الليل هناك تحت الخيام، ثم يجتمع الشعب في صباح العيد لحضور المراسيم الدينية وتلاوة التسابيح وصلاة المزامير.
ثالثاً: البعد الروحي في مزار الصعود على جبل الزيتون
كيف يمكن ان اجد يسوع في هذا الموقع ؟ بالإيمان بكلماته عن مجيئه الثاني. هنا على قمة جبل الزيتون، من الموقع الذي صعد منه يسوع الى السماء، تنبَّأ عن مجيئه الثاني بقوة ومجد(متى 25:24 ). وحسب أقواله ان هذا سيتم في عصر تظهر فيه علامات آخر الأزمنة - مثال على ذلك، حين يلقى أتباعه المؤمنين الكراهية والاضطهاد من جميع الامم، ويصبح للعصيان منتشر في كل مكان وعلى جميع المستويات. ولقد تحقق في يومنا هذا، ان الانسانية تعيش بعيدة تقريبا عن وصايا الله، من خطيئة اللواط والعنف والاجرام. في هذا القرن تزايد اضطهاد المسيحين اكثر من أي عصر مضى، هذا الاضطهاد أصبح له صفة دولية. قال يسوع: " إِذا رَأَيتُم هذِهِ الأُمورَ كُلَّها، فَاعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ قريبٌ على الأَبواب "(متى 33:24).
اذن، أستطيع ان أجد يسوع هنا، حالما اشكر يسوع على مجيئه الثاني - وقريباً. العداء والخطيئة والخوف والرعب والمعاناة على الارض. ليس كل هذا آخر المطاف. سيعود يسوع بالمجد والبهاء ويضفي سيطرة على ممالك هذا العالم. هنا، أستطيع أن أواجه يسوع بفرح عميق وأمل. هنا الراحة سوف تجري في قلبي اذا ارتبطت بهذا الامل السَّار، في وجه الظلام الحالي. نعم، اذا احببتُ يسوع وأمنتُ به في كل تجربة، ستكون عندي قدرة الاسراع اليه ومحبته كواحد يحبه. صعوبات هذه الايام، ستجعلني مستعداً لهذه النهاية. "يسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء" (اعمال 11:1).
يجدر بنا أخيراً أن نورد ما تأمله يوما القديس اوغسطينس "هنا عاش المسيح ... هنا اثر قدميه الطاهرتين، فلنؤدي له الاكرام حيث اراد أن يقف في المكان الاخير. ومنه صعد الى السماء وارسل تلاميذ ه الى العالم " ولنتذكر ما وعدنا به: "وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20).
الأب لويس حزبون
Comment