صوم نينوى
كتاب جديد عن صمود اهالي نينوى وتحديهم الموت والدمار
للأكاديمي والباحث العراقي الدكتور بهنام نيسان السناطي
"تولوز" - خاص تحت عنوان (صوم نينوى) صدر هذا الأسبوع عن دار الكاتب كتاب جديد باللغة الفرنسية يتناول ملحمة زيارة النبي يونان او يونس الى نينوى الموصل والتي الفها الكاتب الشهير مار افرام السرياني من القرن الرابع الميلادي
وإضافة إلى الترجمة الفرنسية الكاملة لقصة النبي يونس للموصل وتهديده للسكان ينادي بالويل والثبور ومن مشهد يوم عظيم يضم الكتاب الذي طبع بالألوان 168 صفحة وبطبعة فنية انيقة وستة عشر فصلا يتطرق فيها الكاتب الأكاديمي العراقي بهنام نيسان السناطي إلى اللغة السريانية الآرامية التي تمتد جذورها في بلاد ما بين النهرين وإلى تاريخها وآدابها إضافة إلى الخط الآرامي السرياني وهو أصل الخط العربي الكوفي.
ولأول مرة ترافق النصوص الفرنسية خطوط سريانية بأساليبها المختلفة المعروفة بالاسترنجيلي أو الكلداني الشرقي.
ويركز الكتاب أيضا على شخصية أفرام السرياني مشيرا إلى أن أفرام لم يكن ناسكا معزولا وكاتبا قضى جل حياته في برج خليته العاجي إنما كان إنسانا يعشق الحياة وأنه كان بشكل خاص إنسانا مقاوما وصنديدا أحب وطنه، عاش ويلات الحرب ولم يخش في قول الحق لومة لائم وتحدى وقارع الغزاة وترك مدينته نصيبين التي حاصرها الفرس سالكا طريق المنفى إلى مدينة الرها، وبالنسبة لأفرام لا مستحيل لقلب شجاع.
ويخصص الدكتور بهنام السناطي فصلا كاملا عن ملائكة أسوار نينوى الحارسة التي سماها الأشوريون الكاريبو أي مصدر البركة واليمن وهي ما زالت تحرس بوابات الموصل بابتسامتها الأبوية وشموخ كبريائها الأزلي، ومن المعروف أن كتبة التلمود انتحلوا اللفظة الآشورية كاريبو فسموا ملائكتهم الكاروبيم والملائكة المجنحة هي تلك الكائنات الأسطورية التي تقتبس أجمل وأروع ما في الخليقة للتعبير عن الطموحات البشرية وهي مرآة وصدى تعكس تطلعاتها المتحدية الموت والفناء والتي طالما سعى إلى تحقيقها الإنسان وكانت وقودا وأوارا ألهبت أتون أحلامه الأزلية منذ أن وقف على رجليه في العراق يتحدى الموت والظلم والعتاة والغزاة يقول ها أنذا! ألا وهي الذكاء والعزيمة والخصوبة والحرية فلهذه الكائنات المجنحة وجه ورأس إنسان وقوة وخصب الثيران وأجنحة كواسر النسور التي تحلق في السماء وعزيمة وعنفوان الأسد الهصور وهي الملائكة التي كانت تحرس بوابات مدن بابل وآشور وقد اقتبسها التقليد المسيحي في القرون الميلادية الأولى لتصبح رمزا للإنجيليين الأربعة فمار متى مثل الإنسان وكرازة لوقا زئير الأسود ومرقس ثيران الذبائح ويوحنا الحبيب شُبه بالنسور إذ كان يحلق كالنسور في أصقاع سماء الفقه والناسوت واللاهوت.
ويرافق النص المترجم العشرات من التعليقات والهوامش إضافة إلى سرد الألفاظ ذات الأصول الآشورية الأكادية والعربية التي وردت في النص السرياني.
وفي الفصل التاسع يشير الكتاب إلى شخصية النبي يونان وذكر النبي يونس ذي النون في القرآن الكريم في كل من سورة النساء الآية 163 والإنعام 86 ويونس 98 والأنبياء 87 و88 والصف 139 و140 و141 و142 و143 و145 و146 و184 وسورة القلم 48 و49 و50.
وتتضارب الآراء حول شخصية يونان التاريخية ويجمع العديد من نقاد التاريخ بأن قصة النبي يونان في التوراة ما هي بالواقع إلا مثلا تم ضربه لأناس يعقلون ذلك أنه من غير المنطقي أن يسعى أحدهم ينتمي إلى قبائل قطاع طرق ذليلة أدبها الآشوريون مرات عدة إلى نينوى عاصمة العالم آنذاك حاملا رسالة تهديد ووعيد. وثانيا أن النصوص التاريخية لم تثبت وجود هذه الشخصية إطلاقا كما أن الحوليات الآشورية التي وصلتنا والرقم الطينية التي أتحفتنا بعض الأحيان بتفاصيل الحياة اليومية وأخبار الملوك، هي الأخرى لم تتطرق بتاتا إلى حدث جلل بطله شخص من قبائل العبران هز أركان الإمبراطورية الآشورية. وثالثا فأن الكتاب الذي ينسب إليه في التوراة لا يضم أية نبوءة، وإنما يسرد قصة أحدهم تمرد على طاعة ربه ثم ألقي في البحر الأجاج فابتلعه ثم قذفه النون أي السمك العظيم على اليابسة. ورابعا فأن أسلوب النص الذي ينسب إلى يونان فيه من النقد الجارح والقدح اللاذع، لبطل الحكاية، مما يثير شكوكا جدية حول كون يونان الذي يجلد نفسه ويحقرها لهذه الدرجة، هو المؤلف الحقيقي لهذه القصة. إضافة إلى ذلك ففي قصة يونان الكل يتمتع بإنسانية عميقة وطيبة أخلاق عالية وحتى البحارة الوثنيين وسكان آشور وملك نينوى والأنعام التى فرض عليها الصيام.. الكل ودعاء ومسالمون إلا.. المدعو يونان وهو نبي. أما فيما يتعلق ومرقد النبي يونس في الموصل الحدباء فأن الحفريات الأثرية تؤكد أن الموقع هذا كان أول وهلة هيكلا للآلهة الآشورية ثم تحول بعدئذ إلى معبد تقام فيه طقوس مجوسية لعبادة النار، وفي القرن الثامن الميلادي تم تحويله إلى دير وكنيسة باسم الراهب يونان. ويذكر المؤرخون العرب كالمقدسي (توفي في 990) وابن جبير (توفي في 1217) وابن بطوطة (توفي عام 1377) المرقد الشهير باسم تل التوبة نسبة إلى زيارة النبي يونان أو يونس للمدينة.
ويكرس الدكتور السناطي فصلا كاملا آخرا عن مدينة نينوى، مدينة العلوم والآداب والفنون في زمانها، نينوى لبؤة العرين كما يصفها ناحوم الألقوشي آخر أنبياء اليهود الذي سباه الآشوريون والذي شهد خراب نينوى، وتراه يتشفى فى الإصحاح 2 العدد 12 و13 بسقوط نينوى المجد:
لم تعد نينوى
ما الذي جرى لعرين الأسود
اين مرتع الأشبال
حيث تربض اللبؤة
فلا خوف ولا وجل
والليث قطع فريسته مزق أوصالها
إربا يأتي بها للبؤات العرين
يملأ مآويه طرائد
وفرائس
ويشير الكاتب أيضا إلى مراسيم طقوس صوم نينوى التي تقام في كاتدرائية الشهيدة مسكنته في الموصل، إضافة إلى التقاليد الموصلية، والتي تختم صيام نينوى الذي يستمر ثلاثة أيام بتقديم حلاوة الخضر إلياس التي يتقاسمها الموصليون مع جميع ألوان الطيف العراقي الجميل. ويشمل الكتاب أيضا عينات مدونة موسيقية عن كيفية ترتيل ألحان الباعوثا على البحر السباعي والتي ينشدها الشمامسة والقساوسة في هذه المناسبة.
وبالرغم من مرور ما يقارب التسعة قرون منذ نهاية نينوى كعاصمة للإمبراطورية العراقية الآشورية في 612 قبل الميلاد وأفرام السرياني الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، فأن الكاتب الموسوعة أفرام كان على إطلاع واسع بسايكولوجية أهل العراق وأهالي نينوى بالذات! لنسمع ما يقوله أفرام عن ملك آشور مخاطبا شعبه لمجابهة المأساة ولمواجهة الخراب اللذين قد يحلا على البلاد، فيونان جاء متوعدا ومهددا:
مقتطفات من ملحمة صمود أهالي نينوى
كتاب الصلوات الكلدانية
الصفحة 446 السطر 9 – 22
إذ أسدى ملك نينوى مشورته الصائبة
لقواته العزوم: أحبائي أني لناصح لكم
فلا خذلان ولا تراجع
القتال، القتال بعزيمة الأبطال
ولن نُهزَم أذلاء
فمن سعى وقاوم نال تاج العز شجاعا صنديدا
ومن قضى في القتال فأنه سيموت مقداما
فإما العيش عيش السعداء أو الموت ميتة الشهداء
فالشهيد سينال الحسنتين معا، شهادة في المنية، وسمعة طيبة عبقة أبدية
ومن تخاذل وجبن فأنه يرث السيئتين معا
فسيكون اسمه لعنة عليه أبد الآبدين
ويعيش ذليلا مذموما
فيا أحبائي تعالوا نشحذ الهمم
لتضرب العزيمة إطنابها على قلوبكم! رابطوا
فلاتهنوا! لا تخاذلوا! لا تزعزعوا
فحتى الجبابرة ترتعد من سطوة وبطش آشور
نينوى يا لبؤة العرين
شديد بأسك
تُذل أمامك رقابُ كل عات وجبار
لقد زئرت آشور.. فارتعد الكون رعدا
وأينما حلت جحافلكَ آشور، عادت مكللة بغار الظفر وكان النصر على ميعاد
إلى السلاح! وأيا كانت النتيجة فستخلدنا الأجيال بتسمية الأبطال
تعالوا نحد سلاحا جديدا لتلك المعركة الجديدة التي كتبت علينا
أعدوا سلاحا سريا لتلك المعركة السرية
انتصروا على الذات أولاً
إنه شرط عظيم للانتصار
وأخيرا فأن هذه النصوص القيمة تستلهم سيرة الآباء والأجداد، وتراها كلها مرآة تعكس طبيعة الإنسان العراقي المقاوم الذي ما نام على ضيم وظلم، وقارع الطغيان والاحتلال على مر العصور.
Comment