قصّة الحضارة
ومناخ ضدّ المسيح!
(1)
لنفهم، أوّلاً، أنّ ضدّ المسيح يأتي بهيئة المسيح. يبدو، في تصرّفه، كأنّه المسيح! الّذين يقبلونه يقبلونه، بعامّة، باعتباره المسيح المنتظَر. خارجيًّا، مستحيلٌ تمييزه! لذا أكثرهم يتحمّس له. تجدهم مقتنعين به تمامًا. يوافق ما يتصوّرون. يتماشى، تمامًا، والطّريقة الّتي بها يفكِّرون. يحقِّق ما فيه يرغبون. يأتي بهم إلى ما يشتهون. ضدّ المسيح لا يأتي كغريب عن وجدان النّاس ومشاعر النّاس. بالعكس، يأتي كقريب من وجدانهم ومشاعرهم. قبل أن يُظهر ذاته، يكون المناخ القائم مهيّأ لاستقباله. يكون النّاس قد تشبَّعوا من روحه، من فكره، من تطلّعاته... في العمق، متى كشف نفسه، يخدعهم ولا يخدعهم، في آن. أوّلاً، لا يخدعهم لأنّه يتكلّم لغتهم، لغة اعتادوا سماعها، ويتبنّى مقاصدهم، ما يتشوّفون إليه، ويحقِّق رغباتهم، ما يشتهونه. ويخدعهم لأنّ شيمته قول الحقّ، برياء وخبث فائقَين، في معرض الباطل! وهو يُقنِع النّاس لا لأنّه يقول الحقّ، أو لأنّ الحقّ قصدُه، بل لأنّه يقوله بروح الباطل. يصطادهم بالباطل لا بالحقّ! يقول الحقّ في الشّكل، لكنّه يُقنعهم لأنّ روح الباطل الّتي تعتور قوله هي إيّاها السّائدة، بالتّنشئة، في وجدان سامعيه. مثلاً، إذا قال لك مهندس قدير مختبَر: هذا البناء جيّد وهو ليس كذلك، وساق لك براهين قويّة إثباتًا لادّعائه، وسعى، بكلّ ما أوتي، لإقناعك بصدق ما يقول مدفوعًا بروح الخبث والرّياء والاحتيال. إذا فعل ذلك، فإنّك تؤخذ، بالأكثر، ببراهينه، لأنّه يتكلّم كعارف، له من البراهين ما يفوق طاقتك على دحضها، وللمنطق والعِلم مكانة مرموقة لديك. ما يجعلك، بالأحرى، تؤخذ بإثباتاته، لا فقط ما يقوله، لأنّك تعرف بحسِّك أنّ الأكثرين يكذبون، بل لأنّك أنت، أيضًا، تتعامل وسواك بروح الكذب، وفق قاعدة: "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذّئاب...". هذا يجعل الأمور تختلط عليك بالأكثر. الصّدق يتداخل بالكذب وكلاهما بالذّكاء بقوّة وبيسر لديك. فلا تعود تحسب، بالأحرى، ما إذا كان صادقًا أو كاذبًا. في العمق، توقن أنّه يكذب، بطريقة ذكيّة أخّاذة، أو ربّما بطريقة تفوتك، أو لعلّها طريقة تعرفها ولكنْ بقدر. ولكنْ، لا تعود مباليًا بالأمر في هذا المستوى. يصير همّك أن تتذاكى أنت عليه. أن تأخذه بالحنكة. أن تحتال عليه، بمعنى، بما أوتيت من فطنة، أو قوّة إقناع، أو تحايل، تبدو فيه، بالطّريقة عينها الّتي هو يتّبعها، كأنّك تتكلَّم بالصّدق، فيما تكون مدفوعًا مثله بروح الكذب، ابتغاء ما فيه مصلحتُك، ما يجعلك كَفِي منازلةٍ، منازلةٍ بين كاذِبَين يسخِّران قواهما ومعارفهما ليحتال الواحد منهما على الآخر بتفوّق أكبر من تفوّق مَن بإزائه! قبل أن يَظهر ضدّ المسيح باللّون الأسود يظهر باللّون الأبيض! وبعد ذلك متى تمكّن منك في مستوى الوجدان، ودخل في قناعتك، وسكن في حشاك، إذ ذاك يَظهر على حقيقته العميقة السّوداء، فلا يعود بإمكانك أن تفلت من براثنه لأنّ عقلك يكون قد خرب ونفسك قد تشوَّهت. لا يعود بإمكانك أن تفكِّر باستقامة وأن تسلك باستقامة، لأنّك تكون قد اعتدت التّفكير الملتوي والسّلوك المنحرف! قد تحسّ، ربّما، إذ ذاك، أنّ في الأمر خللاً، لكنّك بعدما اعتدت طويلاً الخللَ في الفكر والحسّ والسّلوك، لا تعود مباليًا، في أكثر الأحيان، أو لا يعود بإمكانك أن تعود عنه حتّى لو رغبت في ذلك! تؤخَذ بِمَكرِك، بمعنى! إذًا، ضدّ المسيح يأتيك من ذات الرّوح الغريب الّذي يسكن فيك قبل أن يأتيك كائنًا يقف بإزائك ويستهويك! كيف يتمثّل مناخ ضدّ المسيح اليوم؟ قبل أن أجول في الكيفيّة الّتي يتمثّل فيها مناخ ضدّ المسيح، اليوم، أودّ أن أُبدي أنّ روح ضدّ المسيح قد تغلغلت في النّفوس، بنتيجة نمط الحياة الّذي بات سائدًا، اليوم، إلى حدّ لا أظنّ أنّه سبق للبشريّة أن عرفته، من حيث الانحراف والحدّة، من قبل. عناصر الحياة المعاصرة باتت مشبعة بهذه الرّوح إلى حدّ تكاد فيه أكثر البشريّة مدمنة مسْرًى وجدانيًّا حوّل المضمون الإنسانيّ لحياة النّاس إلى مضمون عقلانيّ آليّ فردانيّ إنعزاليّ. لا فقط رباط العائلة ينفكّ. الرّباط بين النّاس، بعامّة، يستحيل سطحيًّا، شكليًّا. يتراوح، بالأكثر، بين التّهذيب والوقاحة، بين المصلحة واللاّمبالاة، بين القبول على مضض والإنكار الكامل! الحبّ نادرًا ما عاد له وجود ومحلّ من الإعراب! جرى استبداله، بقناعة تكاد تكون عارمة، بكلام أجوف، وسلوك استهلاكيّ، وتعاط جسدانيّ نفسانيّ خالٍ من المضمون الكيانيّ الأصيل، وأحاسيس مِتعويّة عابرة، ومواقف آنيّة متقلِّبة! ما تغنّيه، اليوم، تهجوه، بيسر، غدًا! ما تنشرح له عواطفك، اليوم، تكرهه حتّى القرف، غدًا! الآخر لم يعد يهمّك ولست تجد سببًا للتّنازل بإزائه أو للتّضحية من أجله! همّك نفسك ، إحساسك، رَغبتك! تتعاطى الآخر كما تتعاطى أيَّ مادّة استهلاكيّة! ومتى أيقنت أنّه لا ينفعك تنبذه! همّك في أناك! الآخر أضحى طارئًا عليك! تنأى بنفسك! لا تقيم له وزنًا في ذاته، بل لذاتك فيه، أوّلاً وأخيرًا! على هذا النّحو، وإلى هذا الحدّ، انضرب الوجدان العامّ للنّاس! كيف بدأت القصّة وكيف تطوّرت وإلامَ آلت؟ هذه قصّة الحضارة من أوّلها إلى آخرها! في البدء كان (بالمذكّر) المحبّة. والمحبّةُ خَلقَ الإنسان للمحبّة. المحبّة تستلزم الحرّيّة. لا فَرْض فيها. "أعطني قلبك يا بنيّ". الإنسان، في عذراويّته الأولى، استجاب. أطاع الكلمة. لذا استوطن الفردوس. ولكنْ، قاربته الحيّة. طبيعة الحرّيّة أفسحت في المجال. الحيّة الشّيطان كانت، قبل خَلْق الإنسان، مخلوقة. لم تكن، في الأساس، شيطانًا بل ملاك. لكنّها صارت شيطانًا بإرادتها. كيف؟ بتحوّلها من محبّة الله وعبادته إلى محبّة ذاتها وعبادتها. كانت الحيّة أذكى وأقدر من سواها من المخلوقات لأنّها كانت، كملاك، أقرب إلى الله من غيرها. أَخذت الحيّةُ الإنسانَ بالحيلة. علّمته ما اختبرَتْ. أحِبَّ ذاتك من دون الله تَصِرْ مثلَ الله! أُخذ بغواية ما قالته! وقع! دخل في قلبه فكر غريب، روح غريب! للحال خرج من الفردوس، وتفشَّى في داخله مناخ لم يسبق له أن عرفه! هكذا وجد الإنسان نفسه في المناخ الّذي تطوّر، في تاريخ البشريّة، إلى أن آلَ به، في الأيّام الأخيرة، هذه الأيّام، إلى ما يكاد يكون الذّروة، عنيتُ مناخَ ضدّ المسيح، الّذي هو أكمل صورة عن الإنسان الممتلئ من روح الحيّة الشّيطان! المناخ الدّاخليّ المستجدّ، هذا، في الإنسان، جعل قواه الدّاخليّة وأمياله الطّبيعيّة تنحرف بتواتر عن مسارها الّذي خلقها الرّبّ الإله عليه، أصلاً، لتمسي في خدمة الميل المستجدّ العميق للقلب صوب حبّ الذّات وعبادة الذّات! هذا حوّل القوى الدّاخليّة في الإنسان إلى أهواء تُشوِّه حقيقته الأصليّة كإنسان خلقه المحبّةُ للمحبّة! مذ ذاك، قال الرّبّ كلمته في توصيف الإنسان، في حاله المستجدّة، إن "تصوّر قلب الإنسان شرِّير منذ حداثته" (تكوين 8: 21)! هكذا صارت أهواء قلب الإنسان عملاءَ الحيّة الشّيطان كلَّ أيّام حياته؛ ولكنْ دون أن ينطفئ فيه ذِكْرُ الله بالكامل! بقي لله شهودُه، ولو بدوا ضِعافًا، في كلّ نفس وفي كلّ أمّة! ولأنّ الله محبّة لم يتخلّ عن خلقه. تابَعه. منذ ما بعد سقوط الإنسان بدأ، للحال، بمعالجته كمريض. فكان الموت، الّذي هو ثمرة خطيئة الإنسان، سيفًا مسلَّطًا فوق رأسه، بصورة دائمة، لتبقى له فرصةُ مخافة الله. وجعل الله "رأس الحكمة"، في ترتيبه الجديد للبشريّة، "مخافة الله"! كما كان الشّعور بالضّعف سببًا متواترًا لمعرفة حقيقة الذّات والعودة، أبدًا، للاستقواء بالله! كذلك كان التّعب في تحصيل الرّغيف معينًا على ربط الإنسان، باستدامةٍ، بالله. "أعين الكلّ إيّاك تترجّى وأنت تعطيهم طعامهم في حينه..." (مزمور). وأخيرًا كان الألم مذكِّرًا ومؤدِّبًا للإنسان حتّى يرعوي ويتوب إلى ربّه! كلّ هذه، الموت والضّعف والتّعب والألم، استبانت، في الظّاهر، لعنات، لكنّها كانت، عند الله، للبشريّة، علاجات! لسان حال الرّبّ الإله كان، أبدًا، أنّه لا يُسَرّ بموت الخاطئ إلى أن يرجع فيحيا! بحلاوات الفردوس شاء الرّبّ الإله، في البدء، أن يُحيي الإنسان؛ فلمّا خاب الإنسان عن قصد الله، بإرادته الذّاتيّة، لم يتركه، لكنّه، ليحييه، صار لزامًا عليه أن يستردّه إلى حلاواته بمرارات الموت والضّعف والتّعب والألم! هذه الأربعة مترابطة. أهمّيّتها أنّها، إلى كونها تعطيه ألاّ ينسى أنّه تراب ورماد، تجعله في خوف كيانيّ دائم، لا ما يخلِّص الإنسان منه إلاّ العودة إلى الله، إلاّ المحبّة وحدها. لذا قال يوحنّا الحبيب في رسالته الأولى: "لا خوف في المحبّة، بل المحبّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج..." (4: 18)! الخوف، في التّاريخ، كان الرّادع الأكبر لعدم اليأس وعدم الانغماس الكلّيّ الكامل في الخطيئة! لذا كانت قصّة الحضارة، في عمقها، قصّة سعي الإنسان للخروج، أبدًا، من الخوف! الميل، بتواتر، كان لأن يأخذ الإنسان مصيره بيده. لكنّه، كلّما كان يسترسل في ذلك، كان خوفه الكيانيّ يزداد ليتمثّل في قلق وحزن عميقَين، يدأب، بما أوتي، على محاولة الهرب منهما، أو الإقبال على تخدير حسّه بشأنهما، عبثًا! قصّة الحضارة قصّة طغى عليها، بِنُوطة أسًى راسخ، مسعى الخروج من عتمة الحسّ بالموت إلى أحلاميّات تَعِدُ بالحياة كذبًا! كيف نما انحراف البشريّة، في هذا المسار، نحو الضّلال الأكبر، ونسج خيوط مناخ ضدّ المسيح على نحو متواتر؟ هذا نعالجه، بإذن الله، في مقالة لاحقة.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
ومناخ ضدّ المسيح!
(1)
لنفهم، أوّلاً، أنّ ضدّ المسيح يأتي بهيئة المسيح. يبدو، في تصرّفه، كأنّه المسيح! الّذين يقبلونه يقبلونه، بعامّة، باعتباره المسيح المنتظَر. خارجيًّا، مستحيلٌ تمييزه! لذا أكثرهم يتحمّس له. تجدهم مقتنعين به تمامًا. يوافق ما يتصوّرون. يتماشى، تمامًا، والطّريقة الّتي بها يفكِّرون. يحقِّق ما فيه يرغبون. يأتي بهم إلى ما يشتهون. ضدّ المسيح لا يأتي كغريب عن وجدان النّاس ومشاعر النّاس. بالعكس، يأتي كقريب من وجدانهم ومشاعرهم. قبل أن يُظهر ذاته، يكون المناخ القائم مهيّأ لاستقباله. يكون النّاس قد تشبَّعوا من روحه، من فكره، من تطلّعاته... في العمق، متى كشف نفسه، يخدعهم ولا يخدعهم، في آن. أوّلاً، لا يخدعهم لأنّه يتكلّم لغتهم، لغة اعتادوا سماعها، ويتبنّى مقاصدهم، ما يتشوّفون إليه، ويحقِّق رغباتهم، ما يشتهونه. ويخدعهم لأنّ شيمته قول الحقّ، برياء وخبث فائقَين، في معرض الباطل! وهو يُقنِع النّاس لا لأنّه يقول الحقّ، أو لأنّ الحقّ قصدُه، بل لأنّه يقوله بروح الباطل. يصطادهم بالباطل لا بالحقّ! يقول الحقّ في الشّكل، لكنّه يُقنعهم لأنّ روح الباطل الّتي تعتور قوله هي إيّاها السّائدة، بالتّنشئة، في وجدان سامعيه. مثلاً، إذا قال لك مهندس قدير مختبَر: هذا البناء جيّد وهو ليس كذلك، وساق لك براهين قويّة إثباتًا لادّعائه، وسعى، بكلّ ما أوتي، لإقناعك بصدق ما يقول مدفوعًا بروح الخبث والرّياء والاحتيال. إذا فعل ذلك، فإنّك تؤخذ، بالأكثر، ببراهينه، لأنّه يتكلّم كعارف، له من البراهين ما يفوق طاقتك على دحضها، وللمنطق والعِلم مكانة مرموقة لديك. ما يجعلك، بالأحرى، تؤخذ بإثباتاته، لا فقط ما يقوله، لأنّك تعرف بحسِّك أنّ الأكثرين يكذبون، بل لأنّك أنت، أيضًا، تتعامل وسواك بروح الكذب، وفق قاعدة: "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذّئاب...". هذا يجعل الأمور تختلط عليك بالأكثر. الصّدق يتداخل بالكذب وكلاهما بالذّكاء بقوّة وبيسر لديك. فلا تعود تحسب، بالأحرى، ما إذا كان صادقًا أو كاذبًا. في العمق، توقن أنّه يكذب، بطريقة ذكيّة أخّاذة، أو ربّما بطريقة تفوتك، أو لعلّها طريقة تعرفها ولكنْ بقدر. ولكنْ، لا تعود مباليًا بالأمر في هذا المستوى. يصير همّك أن تتذاكى أنت عليه. أن تأخذه بالحنكة. أن تحتال عليه، بمعنى، بما أوتيت من فطنة، أو قوّة إقناع، أو تحايل، تبدو فيه، بالطّريقة عينها الّتي هو يتّبعها، كأنّك تتكلَّم بالصّدق، فيما تكون مدفوعًا مثله بروح الكذب، ابتغاء ما فيه مصلحتُك، ما يجعلك كَفِي منازلةٍ، منازلةٍ بين كاذِبَين يسخِّران قواهما ومعارفهما ليحتال الواحد منهما على الآخر بتفوّق أكبر من تفوّق مَن بإزائه! قبل أن يَظهر ضدّ المسيح باللّون الأسود يظهر باللّون الأبيض! وبعد ذلك متى تمكّن منك في مستوى الوجدان، ودخل في قناعتك، وسكن في حشاك، إذ ذاك يَظهر على حقيقته العميقة السّوداء، فلا يعود بإمكانك أن تفلت من براثنه لأنّ عقلك يكون قد خرب ونفسك قد تشوَّهت. لا يعود بإمكانك أن تفكِّر باستقامة وأن تسلك باستقامة، لأنّك تكون قد اعتدت التّفكير الملتوي والسّلوك المنحرف! قد تحسّ، ربّما، إذ ذاك، أنّ في الأمر خللاً، لكنّك بعدما اعتدت طويلاً الخللَ في الفكر والحسّ والسّلوك، لا تعود مباليًا، في أكثر الأحيان، أو لا يعود بإمكانك أن تعود عنه حتّى لو رغبت في ذلك! تؤخَذ بِمَكرِك، بمعنى! إذًا، ضدّ المسيح يأتيك من ذات الرّوح الغريب الّذي يسكن فيك قبل أن يأتيك كائنًا يقف بإزائك ويستهويك! كيف يتمثّل مناخ ضدّ المسيح اليوم؟ قبل أن أجول في الكيفيّة الّتي يتمثّل فيها مناخ ضدّ المسيح، اليوم، أودّ أن أُبدي أنّ روح ضدّ المسيح قد تغلغلت في النّفوس، بنتيجة نمط الحياة الّذي بات سائدًا، اليوم، إلى حدّ لا أظنّ أنّه سبق للبشريّة أن عرفته، من حيث الانحراف والحدّة، من قبل. عناصر الحياة المعاصرة باتت مشبعة بهذه الرّوح إلى حدّ تكاد فيه أكثر البشريّة مدمنة مسْرًى وجدانيًّا حوّل المضمون الإنسانيّ لحياة النّاس إلى مضمون عقلانيّ آليّ فردانيّ إنعزاليّ. لا فقط رباط العائلة ينفكّ. الرّباط بين النّاس، بعامّة، يستحيل سطحيًّا، شكليًّا. يتراوح، بالأكثر، بين التّهذيب والوقاحة، بين المصلحة واللاّمبالاة، بين القبول على مضض والإنكار الكامل! الحبّ نادرًا ما عاد له وجود ومحلّ من الإعراب! جرى استبداله، بقناعة تكاد تكون عارمة، بكلام أجوف، وسلوك استهلاكيّ، وتعاط جسدانيّ نفسانيّ خالٍ من المضمون الكيانيّ الأصيل، وأحاسيس مِتعويّة عابرة، ومواقف آنيّة متقلِّبة! ما تغنّيه، اليوم، تهجوه، بيسر، غدًا! ما تنشرح له عواطفك، اليوم، تكرهه حتّى القرف، غدًا! الآخر لم يعد يهمّك ولست تجد سببًا للتّنازل بإزائه أو للتّضحية من أجله! همّك نفسك ، إحساسك، رَغبتك! تتعاطى الآخر كما تتعاطى أيَّ مادّة استهلاكيّة! ومتى أيقنت أنّه لا ينفعك تنبذه! همّك في أناك! الآخر أضحى طارئًا عليك! تنأى بنفسك! لا تقيم له وزنًا في ذاته، بل لذاتك فيه، أوّلاً وأخيرًا! على هذا النّحو، وإلى هذا الحدّ، انضرب الوجدان العامّ للنّاس! كيف بدأت القصّة وكيف تطوّرت وإلامَ آلت؟ هذه قصّة الحضارة من أوّلها إلى آخرها! في البدء كان (بالمذكّر) المحبّة. والمحبّةُ خَلقَ الإنسان للمحبّة. المحبّة تستلزم الحرّيّة. لا فَرْض فيها. "أعطني قلبك يا بنيّ". الإنسان، في عذراويّته الأولى، استجاب. أطاع الكلمة. لذا استوطن الفردوس. ولكنْ، قاربته الحيّة. طبيعة الحرّيّة أفسحت في المجال. الحيّة الشّيطان كانت، قبل خَلْق الإنسان، مخلوقة. لم تكن، في الأساس، شيطانًا بل ملاك. لكنّها صارت شيطانًا بإرادتها. كيف؟ بتحوّلها من محبّة الله وعبادته إلى محبّة ذاتها وعبادتها. كانت الحيّة أذكى وأقدر من سواها من المخلوقات لأنّها كانت، كملاك، أقرب إلى الله من غيرها. أَخذت الحيّةُ الإنسانَ بالحيلة. علّمته ما اختبرَتْ. أحِبَّ ذاتك من دون الله تَصِرْ مثلَ الله! أُخذ بغواية ما قالته! وقع! دخل في قلبه فكر غريب، روح غريب! للحال خرج من الفردوس، وتفشَّى في داخله مناخ لم يسبق له أن عرفه! هكذا وجد الإنسان نفسه في المناخ الّذي تطوّر، في تاريخ البشريّة، إلى أن آلَ به، في الأيّام الأخيرة، هذه الأيّام، إلى ما يكاد يكون الذّروة، عنيتُ مناخَ ضدّ المسيح، الّذي هو أكمل صورة عن الإنسان الممتلئ من روح الحيّة الشّيطان! المناخ الدّاخليّ المستجدّ، هذا، في الإنسان، جعل قواه الدّاخليّة وأمياله الطّبيعيّة تنحرف بتواتر عن مسارها الّذي خلقها الرّبّ الإله عليه، أصلاً، لتمسي في خدمة الميل المستجدّ العميق للقلب صوب حبّ الذّات وعبادة الذّات! هذا حوّل القوى الدّاخليّة في الإنسان إلى أهواء تُشوِّه حقيقته الأصليّة كإنسان خلقه المحبّةُ للمحبّة! مذ ذاك، قال الرّبّ كلمته في توصيف الإنسان، في حاله المستجدّة، إن "تصوّر قلب الإنسان شرِّير منذ حداثته" (تكوين 8: 21)! هكذا صارت أهواء قلب الإنسان عملاءَ الحيّة الشّيطان كلَّ أيّام حياته؛ ولكنْ دون أن ينطفئ فيه ذِكْرُ الله بالكامل! بقي لله شهودُه، ولو بدوا ضِعافًا، في كلّ نفس وفي كلّ أمّة! ولأنّ الله محبّة لم يتخلّ عن خلقه. تابَعه. منذ ما بعد سقوط الإنسان بدأ، للحال، بمعالجته كمريض. فكان الموت، الّذي هو ثمرة خطيئة الإنسان، سيفًا مسلَّطًا فوق رأسه، بصورة دائمة، لتبقى له فرصةُ مخافة الله. وجعل الله "رأس الحكمة"، في ترتيبه الجديد للبشريّة، "مخافة الله"! كما كان الشّعور بالضّعف سببًا متواترًا لمعرفة حقيقة الذّات والعودة، أبدًا، للاستقواء بالله! كذلك كان التّعب في تحصيل الرّغيف معينًا على ربط الإنسان، باستدامةٍ، بالله. "أعين الكلّ إيّاك تترجّى وأنت تعطيهم طعامهم في حينه..." (مزمور). وأخيرًا كان الألم مذكِّرًا ومؤدِّبًا للإنسان حتّى يرعوي ويتوب إلى ربّه! كلّ هذه، الموت والضّعف والتّعب والألم، استبانت، في الظّاهر، لعنات، لكنّها كانت، عند الله، للبشريّة، علاجات! لسان حال الرّبّ الإله كان، أبدًا، أنّه لا يُسَرّ بموت الخاطئ إلى أن يرجع فيحيا! بحلاوات الفردوس شاء الرّبّ الإله، في البدء، أن يُحيي الإنسان؛ فلمّا خاب الإنسان عن قصد الله، بإرادته الذّاتيّة، لم يتركه، لكنّه، ليحييه، صار لزامًا عليه أن يستردّه إلى حلاواته بمرارات الموت والضّعف والتّعب والألم! هذه الأربعة مترابطة. أهمّيّتها أنّها، إلى كونها تعطيه ألاّ ينسى أنّه تراب ورماد، تجعله في خوف كيانيّ دائم، لا ما يخلِّص الإنسان منه إلاّ العودة إلى الله، إلاّ المحبّة وحدها. لذا قال يوحنّا الحبيب في رسالته الأولى: "لا خوف في المحبّة، بل المحبّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج..." (4: 18)! الخوف، في التّاريخ، كان الرّادع الأكبر لعدم اليأس وعدم الانغماس الكلّيّ الكامل في الخطيئة! لذا كانت قصّة الحضارة، في عمقها، قصّة سعي الإنسان للخروج، أبدًا، من الخوف! الميل، بتواتر، كان لأن يأخذ الإنسان مصيره بيده. لكنّه، كلّما كان يسترسل في ذلك، كان خوفه الكيانيّ يزداد ليتمثّل في قلق وحزن عميقَين، يدأب، بما أوتي، على محاولة الهرب منهما، أو الإقبال على تخدير حسّه بشأنهما، عبثًا! قصّة الحضارة قصّة طغى عليها، بِنُوطة أسًى راسخ، مسعى الخروج من عتمة الحسّ بالموت إلى أحلاميّات تَعِدُ بالحياة كذبًا! كيف نما انحراف البشريّة، في هذا المسار، نحو الضّلال الأكبر، ونسج خيوط مناخ ضدّ المسيح على نحو متواتر؟ هذا نعالجه، بإذن الله، في مقالة لاحقة.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما