السيد المسيح يطلب إيماننا في أوقات المحن والتجارب
من المواقف التي تدعو إلى التأمل في حياة الرب يسوع المسيح.. ذلك المشهد العجيب، الرب يسوع وحده على قمة الجبل يصلى أغلب الليل، وتلاميذه جميعًا في البحر راكبين السفينة وهى معذبة من الأمواج.
كان السيد المسيح قد أشبع الجموع من الخمس أرغفة والسمكتين، وكان تلاميذه سعداء بهذه المعجزة، ورفعوا ما فضل من الكسر اثنتى عشر قفة مملوءة.
"وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع. وبعدما صرف الجموع، صعد إلى الجبل منفردًا ليصلى. ولما صار المساء كان هناك وحده.. وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيًا على البحر" (مت14: 22-25).
ويقول معلمنا القديس مرقس عن نفس هذه الواقعة إن الرب يسوع وهو على الجبل يصلى "رآهم معذبين في الجذف لأن الريح كانت ضدهم" (مر6: 48).
هذه السفينة تمثِّل الكنيسة، لأنها كانت تحمل جميع التلاميذ في ذلك الوقت (الاثنى عشر تلميذًا "الذين دعاهم أيضًا رسلًا").
وهنا نرى الرب يتركهم بعض الوقت معذبين من الأمواج قرابة الليل كله في وسط البحر، ولم يذهب إليهم إلا في الهزيع الرابع من الليل. تركهم يواجهون المصاعب في وسط العاصفة.. ولكن كانت عين الرب عليهم ، وكان في تأخير السيد المسيح بركات جزيلة لهم وللكنيسة في كل زمان ومكان. كان يسندهم ويحملهم بصلواته. وما أمجد وما أغنى هذه الصلوات التي ذخرها الرب لكنيسته.
لماذا يصلي
لم تكن صلاة السيد المسيح هى لمجرد واقعة السفينة في تلك الليلة؛ بل كانت من أجل الكنيسة بكل ما سيواجهها من مصاعب، وعواصف عبر العصور، خاصة في عصور الاضطهاد والاستشهاد حين تصبح الأمواج ثقيلة والريح مضادة بقوة..
كيف صمد الشهداء في عصور الاستشهاد المريرة؟ وكيف تحمَّلوا العذابات التي تفوق عقل البشر؟ وخرجت الكنيسة منها قوية منتصرة مكللة بالبهاء، تمامًا مثل عريسها الذي تمجّد بعد أن تألم.
إن السيد المسيح لم ينس في ليلة آلامه أن يطلب من أجل بطرس قبل أن يواجه المحنة والتجربة في بيت رئيس الكهنة وقال له: "سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكنى طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو22: 31، 32).
ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالصعوبات التي ستواجهها الكنيسة وما يلزم للتلاميذ أن يتدربوا عليه في مواجهة هذه الصعوبات. كان هناك أمر آخر يشغل السيد المسيح في صلاته. وهو إعلان الإيمان ببنوته لله في قلوب التلاميذ.
يقول القديس مرقس إن السيد المسيح بعد أن وصل إلى التلاميذ ماشيًا على الماء: "فصعد إليهم إلى السفينة، فسكنت الريح، فبهتوا وتعجبوا في أنفسهم جدًا إلى الغاية. لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة" (مر6: 51، 52).
كان من العجيب أن معجزة إشباع الجموع لم تكن كافية لكي يفهم التلاميذ حقيقة السيد المسيح. لهذا صلى السيد المسيح لكي يعلن الآب في قلوبهم ذلك الحق الذي لا يستطيع العالم أن يعرفه أو يفهمه، إذ "ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له" (لو10: 22). إن معرفة الابن هى حياة أبدية.. وهى أعظم إعلان يمنحه الله للإنسان.. لكل من يؤمن .
بعد أن دخل السيد المسيح إلى السفينة، اعترف التلاميذ بألوهيته حسبما دوّن القديس متى في إنجيله: "الذين في السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين بالحقيقة أنت ابن الله" (مت14: 33).
ألم يكن هذا الاعتراف الواضح من التلاميذ جديرًا بأن يقضى الليل كله على الجبل مصليًا من أجلهم؟!
ولم تكن هذه الصلاة هى من أجل إيمان التلاميذ فقط، بل من أجل أن يفتح الآب قلوب وأذهان الملايين الذين سوف يؤمنون به على مر العصور والأجيال.
هل يستحيل على الرب شيء؟!
ترك السيد المسيح التلاميذ طوال الليل، يواجهون العاصفة وأمواج البحر الهائج، وجاء إليهم ماشيًا على البحر.. وفي مشيه على الماء كان يريد أن يعطيهم درسًا ذا أهمية كبيرة، وهو أنه لا يوجد شيء مستحيل عند الرب.
ربما مكثوا الليل كله يقولون فيما بينهم: (ليته كان معنا في السفينة، لو كان معنا ما لحق بنا هذا الشئ الذي صار الآن). الم تقل ايضا مرتا واختها مريم " يارب اذا كنت هاهنا لم يمت اخي ، فاجابها الرب " اذا امنت سترين مجد الله "
لكن السيد المسيح أراد أن يعلِّمهم أنه يستطيع أن يتخطى كل الفواصل والعوائق، يستطيع أن يمشى على الماء، وليس ذلك فقط، بل يستطيع أن يمنح تلاميذه هذه الإمكانية أيضًا أن يسيروا مثله على الماء. فحينما طلب منه بطرس ذلك، أجابه إلى طلبه تحقيقًا لقوله الإلهى: "من يؤمن بى فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا" (يو14: 12).
السيد المسيح يعمل الأعمال الفائقة للطبيعة بقدرته الإلهية الخاصة، أما تلاميذه فيعملونها بنعمة منه. مهما كثرت أعمال التلاميذ والقديسين، فكلها بعطية من صاحب القدرة ومانح السلطان والمواهب.
يا رب نجني
كتب القديس متى الإنجيلي عن وقائع لقاء السيد المسيح مع تلاميذه في وسط البحر فقال: "فلما أبصره التلاميذ ماشيًا على البحر اضطربوا قائلين إنه خيال. ومن الخوف صرخوا. فللوقت كلمهم يسوع قائلًا: تشجّعوا، أنا هو، لا تخافوا. فأجابه بطرس وقال: يا سيد إن كنت أنت هو فمرنى أن آتى إليك على الماء. فقال: تعال. فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتى إلى يسوع. ولكن لما رأى الريح شديدة خاف. وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلًا: "يا رب نجنى". ففي الحال مد يسوع يده وأمسك به وقال له: يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟ ولما دخلا السفينة سكنت الريح والذين في السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين: بالحقيقة أنت ابن الله" (مت14: 26-33).
فى وسط الريح الشديدة ابتدأ بطرس يغرق، فصرخ قائلًا: "يا رب نجنى".
لم يكن هناك مجالًا للحديث.. أو للحوار.. أو للتفكير.. بل كان الصراخ هو الحل الوحيد. هناك مواقف لا يناسبها إلا الصراخ إلى الله في الصلاة.
كقول المرتل "من الأعماق صرخت إليك يا رب" (مز129: 1).
أو قوله "بصوتى إلى الرب صرخت، بصوتى إلى الرب تضرعت، أسكب أمامه توسلى" (مز141: 1، 2).
لقد صرخ بطرس، وفي الحال مد الرب يده وانتشله.
فهل نصرخ نحن إلى الرب حينما ندخل في مأزق أو تجربة؟ أم صلاتنا تكون سطحية وليست من أعماق القلب؟!
هناك فرق بين إنسان يطلب من الله أن يكون معه، مجرد طِلبة. وآخر في استغاثة حارة يصرخ إليه ليتدخل سريعًا وبكل قوة.
الله يريد الذين يصرخون إليه في وقت التجربة.. صراخ من القلب.. صراخ بدموع.. لذلك قال الرب: "ادعنى في يوم الضيق أنقذك فتمجدنى" (مز50: 15).
كثيرًا ما تكون صلواتنا ضعيفة، ربما حتى لا تصل إلى سقف حجرة الصلاة. تكون صلاة كمن يؤدى واجب عليه وليس أكثر..!!
الله يريد من يصرخ إليه.. ومن يتعلق به ويقول: "لا أطلقك إن لم تباركنى" (تك32: 26).
أليس هو الرب الذي قال: "لأنه علىّ اتكّل فأنجيه، أستره لأنه عرف اسمى. يدعونى فاستجيب له، معه أنا في الشدة. فأنقذه وأمجده وطول الأيام أشبعه، وأريه خلاصى" (مز90: 14-16)؟!
إن الرب أحيانًا يتركنا في ضيقة معينة، في مأزق، أو في شدة. لكي يعلِّمنا كيف نصرخ إليه في الصلاة. وعندما نصرخ إليه يستجيب. فنشعر بقيمة الصلاة وأهميتها وفاعليتها. كما نشعر بأهمية أن تكون لنا علاقة به.. نشعر بأهمية طلبنا إليه، وأيضًا بأهمية حضوره ووجوده في وسطنا.
نحن ربما لا نشعر بأهمية الماء إلا إذا وُجدنا في صحراء جرداء ليس فيها ماء.
وربما لا نشعر بأهمية الهواء الذي نتنفسه إلا إذا وُجدنا في موضع يخلو من الأكسجين، ،،،، الإنسان أحيانًا لا يعرف قيمة الشئ إلا إذا لم يجده.
فالتلاميذ عرفوا قيمة وجود السيد المسيح في وسطهم عندما تأخر في المجيء إليهم، لدرجة أنهم عندما أبصروه ماشيًا على الماء ظنوه خيالًا. مثلما يقول الإنسان أحيانًا (أنا في حلم واللا في علم؟!).
إن الرب مستعد أن يفعل أكثر كثيرًا مما نطلب أو نفتكر.. ولكن يلزمنا أن نشعر حقيقةً بحاجتنا إليه.. أن نصرخ من أعماق قلوبنا ونناديه.. أن نظل نكافح الأمواج منتظرين مجيئه حتى ولو في الهزيع الرابع من الليل.. ماشيًا على البحر.. متخطيًا كل الحواجز الطبيعية.. منتهرًا البحر والرياح.. مانحًا سلامه العجيب لكل من ينتظر عمله وحضوره وعطية محبته التي تفوق كل وصف وتصديق.
الاب بيوس فرح ادمون
Comment