أقوال عقائدية وروحية في ميلاد المسيح
الأب باسيليوس محفوض
الأب باسيليوس محفوض
عيد ميلاد المسيح كإنسان هو رأس الاعياد، بحسب ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. كل أعياد السيد الاخرى - الظهور، التجلي، الآلام، الصليب، القيامة والصعود - تتبع الميلاد. من دون الميلاد ما كانت القيامة لتكون، وبالطبع من دون القيامة لم يكن هدف التجسّد ليتحقق. كل هذه الاعياد واحدة. نحن نفصّلها لكي نحتفل بها، ولكي ننظر بوضوح أكبر الى محتواها. في كل قداس إلهي، نعيش كل أحداث التجسّد الإلهي. وهكذا، بحسب الآباء كل عيد هو الميلاد، وكل عيد هو الفصح وكل عيد هو العنصرة.
ما جرى في البشارة، بدأ يتكشّف عند ميلاد المسيح. عندما نسمّيه إعلاناً نعني أن هناك أكثر من شخص، كالعذراء ويوسف وغيرهما، قد كُشف لهم أن المسيح الذي كانت تنتظره كل الاجيال قد أتى الى العالم. على الاكيد، يبقى المسيح مخفياً عندما يظهر، وعندما يظهر يكون مخفياً. نحن نرى هذا في مجمل حياته، كما في اعلانه لقديسيه.
ميلاد المسيح هو حدث تاريخي، لأنه جرى في لحظة محددة من التاريخ، عندما كان أوغسطس قيصر امبراطوراً لروما وهيرودس حاكماً لليهودية. شدد الانجيليون على تاريخية الحدث، لأنهم يريدون أن يقولوا أن المسيح هو شخص تاريخي. هذا يعني أن المسيح اتخذ جسداً بشرياً حقيقياً، وأن التجسّد لم يكن مجرد مظهر خارجي أو خيال. وبالرغم من تاريخيته، يبقى هذا الحدث سراً. نحن نعرف أن الإله - الانسان، الإله الكامل والانسان الكامل، موجود، لكن ما يبقى سراً هو كيفية اتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في شخص الكلمة. الى هذا، ما جرى لشخص المسيح، أي اتحاد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية، جرى مرة واحدة فقط. لهذا قال القديس يوحنا الدمشقي أن المسيح هو "الامر الوحيد الجديد تحت الشمس". هذا يعني أنه منذ خلق العالم والانسان، لم يكن هناك أي جديد في العالم. كل شيء يتكرر. ولادة الانسان هي نتيجة كلمة الله وثمرتها "لنصنعنّ الانسان على صورتنا وشبهنا"، و"أثمروا وأكثُروا وامْلأوا الارض، وأخضعوها" (تكوين 1 :26-28). الجديد الوحيد هو المسيح الإله - الانسان.
إذاً، حقيقة أن الحدث تاريخي لا تلغي السر، كما أن السر لا يستبعد التاريخية. في عيد الميلاد نحتفل بميلاد المسيح، ولكن في الوقت عينه نختبر سرياً، في قلوبنا، كل الاحداث المرتبطة به، إذ عندما نكون أحياء في الكنيسة، نشترك في كل مراحل التجسّد الإلهي ونختبرها.
الفرق بين العهدين القديم والجديد هو أن كل الاعلانات الإلهية في العهد القديم هي اعلانات للكلمة من دون جسد، بينما في العهد الجديد هي اعلانات للكلمة المتجسّد. إن الذي أعلن ذاته لموسى والانبياء كان ابن الله وكلمته من دون جسد، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس. لم يكن للانبياء العهد القديم وأبراره مجرد شركة مع كلمة الله بل لقد عاينوا ايضاً تجسده. هذا هو معنى أنهم رأوه كإنسان. آدم، كما يذكر العهد القديم، سمع وطأ قدمي الله الذي كان سائراً في الفردوس. يعقوب تصارع مع الله. موسى رأى الله من الخلف. اشعياء رآه انساناً جالساً على العرش. دانيال رآه كشبه انسان وابن انسان آتٍ الى قديم الايام. كل هذه الاعلانات تشير الى أنهم رأوا تجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، رأوا الذي تجسّد لخلاص الجنس البشري.
حقيقة أن موسى رأى الله من الخلف تشير بوضوح الى أنه رأى ما سوف يحدث في المستقبل، أي تجسّد الكلمة. الانبياء لم يروا طبيعة الله بل مثال وصورة ما سوف يجري في المستقبل. فابن الله وكلمته كان آتياً ليصير انساناً بالحقيقة، لكي يتّحد مع طبيعتنا ولكي يُرى بالجسد على الارض (القديس يوحنا الدمشقي). بمعزل عن هذه الحالات، هناك ايضاً نصوص رؤيوية في العهد القديم تتنبأ بوضوح، ليس فقط عن تجسّد كلمة الله، بل ايضاً عن وقائع محددة، كمثل أنه لن يفسد عذرية والدة الإله، وأنه سوف يجلب السلام على الارض، وغيرها.
"مجد الله في العلى وعلى الارض السلام" (لوقا 14:2)، هذا نشيد الملائكة المميّز. السلام الذي امتدحه الملائكة ليس سلاماً اجتماعياً، بل هو تجسّد المسيح وحضوره. هكذا، كان الملائكة يسبّحون السلام الذي أتى مع ولادة المسيح وليس السلام الذي سوف يأتي في المستقبل. فالمسيح بتجسده أعطى للانسان السلام مع الله ومع أخيه ومع نفسه ايضاً، ذلك بالتحديد لأن الطبيعة الإلهية اتّحدت بالطبيعة البشرية في شخصه. بعد سقوطه، خسر الانسان السلام مع الله لأنه عبد الاصنام العادمة النفس والاحاسيس وليس الإله الحقيقي. الآن، بتجسّد المسيح أعطي امكان عبادة الإله الحقيقي. لقد بلغ السلام ايضاً مع الملائكة ومع إخوته البشر. وبالحقيقة، لقد بلغت قوى نفسه السلام لأن المسيح عمل ما فشل آدم في عمله.
كان على آدم أن يبلغ الشركة الكاملة مع الله بالنعمة الالهية وبجهاده، فكان ينبغي ان تعمل قوى نفسه طبيعياً وفوق الطبيعي. هذا حققه المسيح.
توحي عبارة "في الناس المسرة" بأن التجسد كان ارادة الله من قبل. بحسب الآباء، تكشف ارادة الله في ما يسبق وما يتبع. ما يسبق هو بارادته الحسنة، وما يتبع هو بسماحه. عندما يقال بأن التجسد كان ارادة الله قبلا، يفهم انه لم يكن نتيجة السقوط. بتعبير آخر، اتحاد الانسان بالله لم يكن لينجح لو لم يكن هناك شخص محدد فيه تتحد الطبيعة الالهية اقنوميا بالطبيعة البشرية. لهذا، التجسد هو ارادة الله السابقة، ما يعني انه كان مخططا لها بغض النظر عن سقطة آدم. ما نتج من السقوط كان آلام المسيح وصلبه. تجسد المسيح كان نهاية الخلق. كل الخليقة والانسان هم من اجل الاله – الانسان. هذا يقال من وجهة نظر ان الانسان لم يكن ليتأله ولا الخليقة لتتقدس لو لم يكن الاله – الانسان.
بالاضافة الى الرعاة، اعطي المجوس او حكماء المشرق ان يسجدوا للمسيح المولود جديدا. الامر المهم ليس متى صار هذا، بل انهم اكتشفوا المسيح. الامر الجوهري هو ان الله كشف لهم، ما لم يحدث للكتبة والفريسيين الذين كانوا يشكلون المؤسسة الدينية في ذلك الحين. لم يكن الحكماء منجمين بالشكل الذي نعرفه اليوم، بل علماء فلك يراقبون النجوم وحركاتها في السماء. في ذلك الحين، كان التنجيم يعتبر علما. اليوم انفصل علم الفلك عن التنجيم المرتبط بالماورائيات والشيطانيات والذي يرفضه الايمان الارثوذكسي. عرف المجوس المسيح وسجدوا له "بسبب معرفتهم الداخلية"، لقد رأوا طفلا بأعينهم الجسدية وبنظرهم الخارجي، انما بنفوسهم رأوا الله الذي صار انسانا. اذاً، كان المجوس في حالة روحية مؤاتية ليروا الله ويعبدوه. لم يكن الامر مسألة علم بل مسألة طهارة داخلية. ما يثبت هذا الكلام هو ان النجم الذي رأوه في الشرق والذي قادهم الى بيت لحم لم يكن نجما عاديا، بل بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم، ملاك الرب قادهم. هذه لم تكن حادثة عادية بل فوق العادية، كما يظهر من صفات هذا النجم. اولا، هذا النجم لم يكن يتحرك وحسب بل كان يقف ايضا. كان يتحرك عندما يتقدم المجوس ويتوقف عندما يتوقفون. ثانيا، هذا النجم كان يتحرك منخفضا اكثر من غيره من النجوم، وعندما بلغ المجوس الى حيث كان المسيح، نزل وتوقف فوق المنزل. ثالثا، لقد كان لامعا اكثر من النجوم الباقية (القديس نيقوديموس الأثوسي). الى هذا كان نجم المجوس يتحرك بطريقة غريبة، من الشرق الى الغرب، وعند النهاية تحرك من اورشليم الى بيت لحم، اي نحو الجنوب، وايضا، كما يذكر القديس يوحنا الذهبي الفم، كان يظهر حتى في النهار، بينما لم يكن اي نجم آخر يظهرفي نور الشمس.
اذاً، هذا النجم اللامع كان ملاك الرب، وكما يقول يوسف فريونيوس، لقد كان رئيس الملائكة جبرائيل الذي خدم وشهد السر العظيم، سر تجسد ابن الله وكلمته. اذاً، كان المجوس لاهوتيين بالمعنى الارثوذكسي للكلمة، لأنهم بلغوا الاستنارة واحرزوا معرفة الله.
الخليقة كانت ايضا حاضرة عند ولادة المسيح، وقد اخذت نعمة من ابن الله وكلمته الصائر انسانا. تشمل عبارة "الخليقة": الحيوانات، المغارة، المذود، الجبال، السماء وغيرها. تظهر ايقونة الميلاد كل الخليقة تتسلم نعمة من المسيح، يظهر المسيح في وسط الايقونة، وهو مصدر النعمة غير المخلوقة، ومنه تفيض قوة الله المقدسة والمؤلهة.
عند ميلاد المسيح، كل الخليقة تمجد الله خالقها. انها تشهد بأن المسيح كإله هو صانع الخليقة وان الخليقة هي عمل يديه. قلنا سابقا ان كل الخليقة اخذت نعمة من الله عند لحظة الميلاد. علينا ان نميز بوضوح أنه فيما قوة الله هي واحدة، الا ان لها صفات مختلفة بحسب تأثيراتها. وهكذا، نحن نتحدث عن قوة مقدسة ومؤلهة، او يمكننا ان نتحدث عن قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة وتضفي الحكمة وتقدس. في هذا الاطار علينا ان نقول ان من جهة الانطولوجيا تشارك الخليقة في قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة، ومن جهة الخلاص تشارك في قوته المقدسة. وحدهم المتقدسون والملائكة يشتركون في قوة الله المقدسة. اذاً، الاشخاص الموجودون عند ولادة المسيح، والملائكة ايضا، اشتركوا في قوة الله المؤلهة، بينما الخليقة غير العاقلة شاركت في قوة الله المقدسة. نذكر هذا لتلافي اي تشوش في الكلام على الاشتراك بنعمة الله.
في الحديث عن ابن الله وكلمته صائرا انسانا، من الاساسي ان نتفحص الاسماء التي تعطى له لأنها تعبر عن عدة حقائق لاهوتية. قبل التجسد، يسمي الاقنوم الثاني من الثالوث القدوس ابن الله وكلمته. تشير تسمية "ابن" الى انه ولد من الآب، وما ولد هو شخصه. تستعمل ايضا تسمية "كلمة الله" للاشارة ليس فقط الى عدم امكانية الخطيئة عند المولود بل ايضا الى وظيفتي الارتباط والاعلان عنده، بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي. انه يدعى "كلمة" لأنه مرتبط بالآب كلمة الانسان بناسوته، اي ان الكلمة تعلن ما في النوس من افكار وغيرها. اذاً، تسمية "الكلمة" تظهر لنا الآب ايضا، لأن من يفهم الكلمة ويراه يفهم ايضا الآب ويراه في الكلمة.
بعد التجسد، او بالاحرى عند لحظة الحبل بالكلمة في رحم العذراء، تم اتحاد الطبيعة الالهية بالطبيعة البشرية في اقنوم الكلمة الذي يسمى المسيح. ان تسمية المسيح هي اسم الاقنوم ولا تستعمل لطبيعة واحدة، بل هي اشارة الى الطبيعتين في الاله الذي تجسد. بما ان الطبيعة البشرية مُسحت من الله، سمي الكلمة المسيح. تشير تسمية المسيح الى الآب الذي مَسح والابن الذي مُسح والروح القدس الذي هو الزيت المقدس. في اي حال، بما ان الطبيعة البشرية مسحت من كل الثالوث القدوس، فكلمة الله شارك في المسح. فالكلمة مسح نفسه بألوهيته وفي الوقت ذاته، مسح كانسان (القديس يوحنا الدمشقي).
وهكذا، اسم المسيح يعني الله والانسان، اي المسيح الاله – الانسان، يمكن استعماله احيانا لانسانية المسيح واحيانا لألوهيته. لكن هذا يكون منتهى التكيف، اذ بعد اتحاد الطبيعتين في اقنوم واحد، دعي الكلمة المسيح. اذاً الذي كان ابن الله وكلمته قبل التجسد، فيما هو دائما ابن الله وكلمته، سمي المسيح بعد التجسد اشارة الى اتحاد الطبيعتين. ان كلمة "الوهة" تشير الى الطبيعة، بينما كلمات "الآب" و"الابن" و"الروح" تشير الى الاقانيم.
من الهرطقة الادعاء بأن الالوهة تجسدت او صارت انسانا. الايمان الارثوذكسي هو ان الالوهة اتحدت بالبشرية في احد اقانيمها، اي ان الآب لم يتجسد، بل الاقنوم الثاني وحده، ابن الله وكلمته، الذي كان الها حقيقيا، اتخذ جسما (القديس يوحنا الدمشقي).
للمسيح ميلادان. الاول قبل الدهور، من الآب وبلا علة ولا كلمة ولا زمن ولا طبيعة، والثاني من اجلنا من البتول "عند الحبل" ولكن "فوق نواميس الحبل"، اذ حبل به من الروح القدس وليس من اي زرع، ولد ابن الله وكلمته قبل الدهور من أب بتول من دون ام، وفي الزمن من ام بتول من دون أب بالجسد، كلا الميلادين كانا بلا هوى، اذ لا الآب عانى من اي شيء ولا العذراء خسرت عذريتها بالولادة.
كلا الميلادين لا يسبر غورهما العقل البشري. نحن نقبل الحقيقة المعلنة بأنه ولد من الآب من دون سيلان ومن العذراء من دون زرع، من دون ان نعمل هذه الوقائع عقليا. اذ، بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي، المجهود لفهم الاسرار التي تفوق العقل يمكن ان يؤدي هذا الى الجنون. حقيقة ان هذين الميلادين يقدمان التأكيد اللازم بأن الانسان يمكن ان يخلص فقط من خلال المسيح، لأن المسيح اصلح غلطة آدم وقاد الانسان الى الهدف الذي كان آدم ماضيا عليه لو لم يخطأ.
الأب باسيليوس محفوض
Comment