المسيح هو الأوّل والآخِر
لقد أتيتُ المعترضَ عبر المقال
“كتاب الله الوحيد” من الآخِر قبل الأوّل فماذا بَعْدُ وماذا قبْلُ؟
إنه السيّد المسيح له وحده المجد.
فليقرأ المعترض في آخِر سِفر الرّؤيا، أي في الصفحة الأخيرة من الكتاب المقدّس:
{أنا الألِفُ والياء، البداية والنهاية، الأولُ والآخِر}
- رؤيا 13:22.
فمَن ذلك الذي كان قبل الألِف ومن ذا الذي يكون بعد الياء غير الله الذي تجسّد بشخص السيّد المسيح ليُعلن عن ذاته ومجده؟
وماذا قبل البداية وماذا بعد النهاية سوى الله الأزليّ والأبديّ؟
وماذا كان قبل الأوّل؛ في وقت صرّح السيّد المسيح لليهود الذين آمنوا به، بوضوح لا لبس فيه: {الحقّ الحقّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيمُ أنا كائن}
يوحنّا 58:8
ما دلّ على الطبيعة الإلهية للسيد المسيح (اللاهوت) بالإضافة إلى طبيعته الإنسانيّة (الناسوت)
إذ ليس فوق الزمان أحدٌ إلّا الله.
ومن ذا الذي يأتي بجديد بعد الآخِر (المسيح) الذي به تمّ كتابُ الله وأكمِلَ، ما لا يفسِحُ في المجال لأيّ شخص ليدّعيَ بأنّ الله حمّله برسالة “جديدة” إلى البشر.
أمّا التمام والكمال فعليهما أمثلة، منها الوارد في الآيات التالية:
وصلبوا معه لِصّين، واحدًا عن يمينه وآخر عن يساره.
فتمّ الكتابُ القائل: وأحصِيَ مع أثمَة- مرقس 15: 27-28
حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك.
الذين أعطيتني حفِظتهم، ولم يهلِك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب- يوحنا 12:17
فقال بعضهم لبعض:
لا نشقّه، بل نقترع عليه لمن يكون.
ليتم الكتاب القائل: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة.
هذا فعله العسكر- يوحنا 24:19
بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلكي يتمّ الكتاب قال: أنا عطشان- يوحنّا 28:19
وتم الكتاب القائل: ((فآمَن إبراهيمُ بالله فحُسِبَ لهُ بِرَّا)) ودُعِي خليلَ الله- رسالة يعقوب 23:2
وقد يتساءل الباحث؛ إذا كان الكتاب ابتداءً بالعهد القديم قد تمّ بالعهد الجديد، أي بمجيء المسيح وتعليمه وعمله ثمّ صلبه وموته وقيامته، فيكفي أن يقوم أحد الشهود العيان-
مثالاً: يوحنّا- بتدوين العهد الجديد، فما حاجة كتاب الله إلى مدوّنات جميع أولئك الإنجيليّين وهم بالإضافة إلى يوحنّا: متّى ومرقس ولوقا وبولس ويعقوب وبطرس ويهوذا، ولا سيّما أنهم عاشوا جميعاً في زمن المسيح أو بعد قيامته بقليل؟
الجواب في ثلاثة محاور؛
الأوّل: يجب النظر إلى كتاب الله بطريقة مختلفة تماماً عن طريقة النظر إلى أيّ كتاب من كتب الإنسان، لغة وفكراً وأسلوباً، لأنّ الفرق بين اللامحدود والمحدود شاسع جدّاً.
يمكننا تصوير اللامحدوديّة هندسيّاً بالخط المستقيم الذي لا بداية له ولا نهاية ليُمثّل الله
- مثالاً لا تشبيهاً.
أمّا عمليّة تحديد الخط بوضع نقطتين عليه مثل س و ص يجعله مُحدّداً، فيسمّى الخطّ عندئذ بقطعة المستقيم س ص والمحدوديّة هنا تمثّل الإنسان، الإنسان الذي يمكن إحصاء أبرز أعماله خلال فترة حياته.
لكننا حين نتفكّر في أعمال الله نصل بسهولة إلى حقيقة موضوعية هي أنّ أعمال الله عبر التاريخ الإنساني لا يمكن إحصاؤها،
كذلك أعمال السيّد المسيح لا يمكن إحصاؤها في كتاب، لأنّ المسيح هو الإنسان الوحيد المولود غير مخلوق
، أي أنّ طبيعته إلهية-إنسانيّة في وقت واحد وإنسانيّته بلا خطيئة أي قدّوس.
لاحظوا اخوتي القراء قول الوحي الإلهي في الآية الأولى في الإنجيل بتدوين يوحنّا
{في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله- يوحنّا 1:1}
ومعلوم أنّ المسيح هو كلمة الله.
ولاحِظوا أيضاً قول الوحي في الآيتين الأخيرتين في الإنجيل ذاته:
{هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا.
ونعلم أن شهادته حق.
وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة. آمين}
وقد قصد يوحنا نفسه بقوله (هذا هو التلميذ) وقصد نفسه وشهداء آخرين بقوله
(ونعلم أن شهادته حق)
إذ كان جميع كتّاب الوحي حذِرين جدّاً من تمجيد أنفسهم ولو بكلمة واحدة، على حساب مجد السيّد المسيح، لأنهم يعلمون أنّ المجد للمسيح وحده؛
كذلك نقرأ في الوحي الإلهي على لسان الرسول بطرس:
{وليس بأحد غيره الخلاص.
لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أعطِيَ بين الناس به ينبغي أن نخلص}
- سِفر أعمال الرسل 12:4
حتى الأمّ العذراء، لم تُخبِر لوقا الإنجيلي عن نفسها إلّا ما كان تمجيداً لابنها؛ كان لوقا طبيباً ورسّاماً، هما مهنتان تستوجبان التدقيق؛
لقد ذهب لوقا إلى المطوّبة مريم العذراء، بعدما بشّره الرسول بولس، ليسمع من لسانها، تحرّى بنفسه عن المسيح ابنها فأخبرته، حتى تفرّد في سرد تفاصيل ميلاد الطفل يسوع:
{إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المُتَيَقَّنَةِ عندنا، كما سَلَّمَهَا إلينا الذين كانوا منذ البدء مُعَايِنِين، وخُدَّاماً للكلمة،
رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعْتُ كلّ شيء من الأوّل بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيّها العزيز ثاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الكلام الذي عُلِّمْتَ به} - لوقا1: 1-4.
المحور الثاني: يعلم الله بالشك الذي ينتاب الإنسان أيّا كان عِرقه وعِلمه وثقافته، فكان الله حريصاً على توفير الشهود في تعامله مع الإنسان.
لهذا السبب صنع يسوع معجزاته قدّام الناس لكي يؤمنوا أنه المسيح الذي تنبّأ بمجيئه الأنبياء من قبله، كما تجلّى لتلاميذه ورسله بعد قيامته من الموت، إذ ظهر أوّلاً لمريم المجدلية (مرقس 9:16) وللأحد عشر تلميذاً (متّى 16:28 ويوحنّا 19:20) كما ظهر لتلميذي عمْواس (لوقا 13:24) وغيرهما.
فلو افترضنا- مثالاً- أنّ الله أوحى إلى يوحنّا اللاهوتي وحده بأن يكتب ما رآى
(البشارة والرسائل الثلاث والرؤيا)
بصفته واحداً من شهود عيان كثيرين وبصفته الوحيد من الإثني عشر الذي شهد عملية صلب المسيح، إلى جانب الأمّ العذراء، وبصفته واحداً من الثلاثة
(أي يوحنّا وأخوه يعقوب وبطرس)
الذين أخذهم يسوع إلى جبل التجلّي المقدّس ليريَهم مجده (يوحنّا14:1
و رسالة بطرس الثانية 1: 16-18) وغير ذلك،
فإنّ من الناس عبر التاريخ من يحاول التشكيك بمميّزات يوحنّا، لذا أوحى الله بكتابة العهد الجديد (الإنجيل) إلى الذين اختارهم هو من التلاميذ الأحد عشر ومن الرسل من آباء الكنيسة الأوّلين.
أمّا المحور الثالث فهو التبشير بكتاب الله، بعدما تمّ الكتاب بمجيء المسيح وأكمِلَ، ليُبَشّر به في كل مكان وبجميع اللغات؛
لكي تتعلم أمم الأرض التعليم الصحيح الذي يؤدّي إلى خلاص الإنسان وتمتعه بالحياة الأبدية، وتنبذ تعاليم الأوهام والسحر والخرافات.
فكان- ولا يزال- دافِعُ المُبَشِّر والمُبَشّرة الأساسي المَحَبّة التي بالمسيح، والعطاء من تعب المحبّة بدون مقابل أو مَصلحة.
أمّا وسيلة جميع المُبَشِّرين والمُبَشِّرات فالإقناع لا الإكراه.
في وقت ذكر الكتاب، ممّن ذكر، شهداءَ للمسيح قُتِلوا مُطمئنّين إلى أنّ المسيح هو المخلِّص [الوحيد] الآتي إلى البشر؛
منهم يُوحَنّا بن زكريّا المعروف بالمَعْمَدَان وعدد كبير من تلاميذ المسيح ورسله أوّلهم الشمّاس استفانوس (سِفر أعمال الرسل 7: 58-60)
فليُمعنِ الباحث الجادّ بالنظر في الآية التالية الواردة في الإنجيل بتدوين يوحنّا 16:3 وليفقه:
{لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية}
ومعنى البنوّة هنا روحيّ ومعنوي:الكلمة المنبثق من الذات الإلهية.
لا يُعنى بها بنوّة جسديّة،
بل كقولك: إبن الرافدين وبنت النيل.
وليقرأ أيضاً الحادثة التالية:
{أما يُوحنّا فلمّا سَمِعَ في السّجن بأعمال المسيح، أرسل اٌثنين من تلاميذه،
وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟
فأجاب يسوع وقال لهما: إذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العُمْيُ يُبصرون، والعُرْجُ يمشون، والبُرصُ يطهرون، والصُّمُّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبَشَّرُون.
وطوبى لمن لا يعثر فيَّ} – متّى 11: 2-6
وهذا يعني من جهة أنّ المَعْمَدَان نفسه كان ينتظر الخلاص من المسيح.
ومن جهة أخرى، ليس تساؤل المَعْمَدَان
(أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟)
بمعنى أنه يجهل أنّ الذي أتى هو المسيح، ذلك بعدما علِم يوحنّا المَعْمَدَان بمجيء المسيح وهو في بطن أمّه أليصابات (لوقا 41:1)
وبعدما رآى المسيحَ بأمّ عينه وبعدما قبِل المسيحُ معموديّة الماء منه (مرقس 9:1)
لكن لكي يحُضّ أتباعه على تركه (الذين وجميع الشعب آنذاك اعتبروه كنبيّ- متّى 26:21) أي يتركوا يوحنا المعمدان ويتّبعوا المسيح.
فإنّ المسيح الآتي هو ابن العذراء الذي تنبّأ به إشَعْيَاء النبي
- حوالي ثمانية قرون قبل الميلاد-
وقد ورد في سِفر إشَعْيَاء ممّا ورد، الآية التالية:
{ولكن يعطيكم السّيّدُ نفسُهُ آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اٌسمَهُ عِمَّانُوئِيلَ}
- إشعياء 7: 14 عِلماً أنّ عِمَّانُوئِيلَ كلمة عبرانية تعني: الله معنا.
كما تنبّأ ميخا النبي (وهو معاصر لإشعياء) بولادة المسيح في بيت لحم اليهودية:
{أمّا أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل} ميخا 2:5
ذلك في وقت لا تزال شعوب الله تنتظِرُ المجيء الثاني المُنتَظَرَ للسيّد المسيح- المنتظر الحقيقي- المذكور في الكتاب المقدّس عنه وعن علامات نهاية الزمان، في آيات كثيرة، منها التي في الإنجيل بتدوين متّى: الأصحاح الرابع والعشرين، وفي رسالة تسالونيكي الأولى:
الأصحاح الخامس،
وفي سفر الرؤيا: الأصحاح الثاني والعشرين- وهو الأصحاح الأخير في الكتاب المقدّس.
Comment