هذا هو اليوم الذي صنعه الرب
نقرأ في سِفْر أعمال الرُسُل أنّ فيلِبُّس المبشِّر التقى خازن ملكة الحَبَش، وكان راجعاً من أُورَشَليم بعدما زارها حاجّاً بحسب سنّة اليهود، وقد جَلَسَ في مركبته يقرأ سِفْر النبيّ أشعيا حيث كُتب:
"كخَروفٍ سِيقَ إلى الذَبح
وكحَمَلٍ صامتٍ بين يَدَي مَن يَجُزُّه
هكذا لا يفتح فاه.
في ذُلِّه أُلغي الحُكم عليه.
تُرى مَن يصفُ ذُرِّيَّته؟
لأنّ حياته أُزيلت عن الأرض”.
فقال له فيلِبُّس: "وهل تفهم ما تقرأ؟”.
قال الخازن: "كيف لي ذلك، إن لم يُرشدْني أحد؟”. ثمّ سأل فيلِبُّس أن يصعد ويجلس معه.
فقال خازن الملكة لفيلِبُّس:
"أسألك: مَن يعني النبيّ بهذا الكلام: أَنَفْسه أم شخصاً آخَر؟"،
"فشرع فيلِبُّس من هذه الفِقرة يبشّره بيسوع"
(راجع أعمال 8/26-39).
قبل مئات السنين أنبأ أشعيا بمصير المسيح المنتظَر الذي سيتألّم ويموت من أجل البَشَر.
(راجع أشعيا 52/13-53/12 ومزمور 22).
وهذا ما تحقّق فعلاً يوم سيق السيّد إلى الموت، كحَمَل وهو لا يفتح فاه، كما أشار إليه، في بدء رسالته، يوحنّا المعمدان،
يوم قال: "هوذا حَمَلُ الله الذي يرفعُ خطيئة العالَم"
(يو 1/29).
أليس هذا ما نشاهده في "آلام السيّد المسيح"، بكلّ ما في الأحداث من قساوة وظُلم وأعمال همجيَّة، تُجاه مَن شفى المرضى وأشبع الجياع وأقام الموتى ودعا إلى السلام والمحبّة والغفران.. فبادلوه كلّ ذلك بُغضاً وعدواناً؟
1- دمعة الآب السماويّ
تُشير الآيات الكتابيَّة والكلمات النبويَّة المتعلّقة بآلام السيّد المسيح إلى أنّه كان عالِماً ما ينتظره، وأنّه ذهب إلى الموت بكامل رضاه وحُبّاً لنا، كما قال لتلاميذه:
"ليس لأحد حُبّ أعظمُ من أن يبذِل نَفْسه في سبيل أحبّائه" (يو 15/13).
وقد مهّد الطريق لتلاميذه كيلا يفاجأوا بمصيره.
فأنبأهم ثلاث مرّات بما ينتظره: "ها نحن صاعدون إلى أُورَشَليم، فابن الإنسان يُسلَم إلى عُظماء الكهنة والكَتَبة، فيحكمون عليه بالموت ويُسلِمونه إلى الوثنيّين، ليسخروا منه ويجلِدوه ويصلِبوه، وفي اليومِ الثالث يقوم"
(متّى 20/18-19).
وكان السيّد المسيح تعرّض لثلاث محاولات اغتيال، أولاها في الناصرة لمّا مضَوا به إلى قمّة تلّة بُغية إلقائه في هوّة،
والثانية في الهيكل، والثالثة في الشتاء، لمناسبة عيد التكريس، لمّا استنكر اليهود أقواله وهمّوا برجمه.
وإذا أَفلت ثلاثاً من أيديهم، فما ذاك إلاّ لأنّ "ساعته" لم تأتِ بعد، أي ساعة الفداء والمجد.
ولمّا أتت الساعة في بستان الزيتون بدأت المعاناة، وبدأ صراعه بين الروح والجسد، وبين الخير والشرّ المتمثّل في إبليس، الذي أراد أن يثنيه عن عزمه الخلاصيّ، وبين الحقّ والباطل، وبين الأمانة والخيانة، وبين الطاعة والرفض…
ولكنّه تغلّب على أنواع الغرور كلّها، والتقت إرادته إرادة الآب الذي أرسله لخلاص البَشَر، في محبّة لا تعرف الحدود "يا أبتِ، إن شئتَ فاصرفْ عنّي هذه الكأس..
ولكن لا مشيئتي، بل مشيئتُك"
(لو 22/42).
وكانت مشيئة الله الآب أن يجود بابنه يسوع، لا رغبةً بالعذاب أو تلذّذاً بالدماء، وإنّما حُبّاً للعالَم وفداءً عن كلّ واحد منّا
(راجع يو 3/16 وروم 8/32).
ما أروعَها تعبيراً، في ذروة "آلام السيّد المسيح"، صورة دمعة الله الآب التي تنثال من السماء حزناً على الابن المصلوب، ولكن فرحاً أيضاً، لأنّها غسلت، مع دمه المسفوك، خطايا البَشَريَّة!
وقد سبقها مشهد جنب السيّد المسيح الذي "خرج منه دم وماء"، وكأنّه مطرٌ منهمرٌ يطهّر ويعمّد مَن يقترب منه، بدءاً من الجنديّ الذي طعنه بحربته.
ولا يزال جنب المسيح مفتوحاً ليطهّرنا من خطايانا. ولا تزال دمعة الآب تنسكب علينا محبّةً ورحمةً وحناناً.
فعلّنا نستقبل نِعم الله الغزيرة في هذا العيد، ولا نبقى في مصفّ الجلاّدين والأشرار والخاطئين، فنصلب المسيح مجدّداً، بل نكون في مصفّ الصدّيقين والأتقياء والمؤمنين قائلين: "حقّاً كان هذا ابنَ الله”.
2-نظرة الغفران
مَن يتأمّل في مشاهد آلام السيّد المسيح وعذاباته الجسديَّة والنَفْسيَّة يُدرك مدى قدرة تحمّله وصبره، ومدى عظَمة صفحه ومسامحته.
كيف لا وهو الذي جاء ليؤدّي رسالة خلاصيَّة، متجرّداً من ذاته الإلهيَّة (راجع فيلبّي 2/6-11)؟!
فلم يدعُ للمجابهة والحقد والثأر والعنف.. وكان يستطيع ذلك
(راجع متّى 26/53)!
بل منذ اللحظات الأُولى من اعتقاله في بستان الزيتون مَنَع تلاميذه من اللجوء إلى العنف.
وقال لبطرس الذي استلّ سيفَه وضَرَب خادم عظيم الكهنة فقطع أُذُنَه اليُمنى:
"اِغمدْ سيفَك، فكلّ مَن يأخذ بالسيف بالسيف يهلِك”.
ثمّ لمس أُذُنَه فأبرأه، في ذهولٍ ووجوم، أصابا الحرس والعسكر.
وتبدأ سلسلة نظرات يسوع إلى كلّ مَن يلتقيهم على درب الآلام.
نظرات كلّها رأفة وعفو ووداعة.
ينظر في حنوٍّ إلى يهوذا فيكتشف شرّ جريمته.
ينظر في عطف إلى بطرس فيندم ويتوب باكياً.
ينظر في براءة إلى بيلاطُس فيدرك أنّه تِلقاء مَلِك من نوع آخَر.
ينظر في رحمة إلى الحشود الصاخبة المنادية بموته وكانت، قبل أيّام، تهتف بحياته.
ينظر... وتخترق نظراته عيون مَن حَولَه من كهنة وجنود وجلاّدين، لتستقرّ في أعماق وجدانهم.
ولا يكتفي بالنظر، بل يقول علناً: "اِغفِرْ لهم، يا أبتِ، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون" (لو 23/34).
وهكذا، طبّق عمليّاً، وهو في عمق الاضطهاد والألم، ما كان علّمه شفاهاً في رسالته العلنيَّة:
"أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم"
(متّى 5/44)،
"مَن لَطَمَكَ على خدِّك الأيمن فاعرِض له الآخَر"
(متّى 5/39).
اليوم، كما في الأمس، يدعونا السيّد المسيح، قولاً وفعلاً، ألاّ نردّ الشرّ بالشرّ، والعنف بالعنف، والقتل بالقتل...
بل أن يسامح بعضنا بعضاً.
وهذا ما أكّده بولس الرسول: "لا تبادلوا أحداً شرّاً بشرّ... لا تَدَعِ الشرّ يغلِبك، بل اغلِبِ الشرّ بالخير"
(روم 12/17-21).
ولا نظنّنَّ أنّ وصيَّة مسامحة الأعداء تبدأ بالغرباء والأباعد.. بل هي تبدأ بأهل بيتنا أنفسهم!
(متّى 10/36).
فكَم وكَم من مشكلات وضغائن عائليَّة بين الأهل والأولاد والإخوة والأحفاد…
فلنبدأْ بالصفح داخل بيوتنا وبين أفراد عائلاتنا. وكأنّ كلمتَي "الصفح" و"الفصح" متشابهتان ومتلازمتان!
ولتُحرِّكْ نظرات المسيح وكلماته شيئاً في أعماقنا، في هذه الأيّام المبارَكة، حينئذٍ، نكون في عيد، ويكون العيد فينا.
3- توبوا وآمنوا وافرحوا
إذا تنبّأ المسيح بآلامه وموته، فإنّه تنبّأ أيضاً بقيامته في اليوم الثالث "اُنقُضوا هذا الهيكل أُقمه في ثلاثة أيّام!...
فكان يعني هيكل جسده" (يو 2/19-22).
وهذا ما تحقّق.
فلم يُترَك في مَثوى الأموات، ولا نال من جسده الفساد، بل أقامه الله ورفعه إليه، كما بشّر بذلك بطرس الرسول:
"إنّ يسوع الناصريّ، ذاك الرجلَ الذي أيّده الله لديكم بما أجرى عن يده بينَكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما أنتم تعلمون، ذاك الرجلَ الذي أُسلِم بقضاء الله وعِلمه السابق فقتلتموه إذ علّقتموه على خَشَبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت..."
(أعمال 2/22-36).
لمّا بشّر فيلِبُّس خازن الملكة بموت يسوع وقيامته سأله الخازن:
"ماذا عليّ أن أعمل؟"،
فأجابه فيلِبُّس: "عليك أن تؤمن وحسب”.
فقال الخازن: "هذا ماء فما يمنع أن أعتمد؟”.
ثمّ أمر بأن تقف المركبة ونزلا كلاهما في الماء، وتعمّد الخازن عن يد فيلِبُّس.
وهذا أيضاً ما جرى مع بطرس وسائر الرُسُل لمّا بشّروا سكّان أُورَشَليم بقيامة يسوع،
فكان السؤال: "وماذا نعمل؟”.
فقال بطرس: "توبوا، وليعتمدْ كلٌّ منكم باسم يسوع المسيح، لغفران خطاياكم، فتنالوا عطيَّة الروح القُدُس"
(أعمال 2/37-38).
واليوم، نحن أيضاً، نتساءل في هذا العيد المبارَك، وقد جدّدنا البشارة بقيامة المسيح: "ماذا علينا أن نعمل؟”.
يأتينا الجواب في ثلاث كلمات فصحيَّة: توبوا وآمنوا وافرحوا.
توبوا بالرجوع إلى الله، وآمنوا بقدرة الروح القُدُس المُحيي، وافرحوا بقيامة المسيح المنتصر على الموت والخطيئة،
لأنّه "هذا هو اليومُ الذي صَنَعَه الربّ، فلنبتهجْ ونفرحْ فيه"
(مز 118/24).
دعاء
تقبّلْ منّا، أيّها المسيح الحيّ، صلاتنا نرفعها إليك في ذكرى قيامتك المجيدة:
"إنّك ما زلت، كلّ يوم بيننا وستبقى معنا إلى الأبد.
إنّك تحيا بين ظَهرانينا، على مقربة منّا، على أرضٍ هي أرضك وأرضنا، على هذه الأرض التي استقبلتك طفلاً بين الأطفال، وخاضعاً للحُكم، وسط الأشرار.
إنّك تحيا مع الأحياء، على أرض الأحياء الذين أحببتهم، وما زلت تحبّهم.
إنّك تحيا حياةً غير بَشَريَّة على أرض البَشَر، ربّما غير مرئيّ ممّن يبحثون عنك، وربّما في مظهر فقيرٍ يبتاع خبزه، ولا يُلقي أحدٌ عليه نظرة.
ولكن، ها قد حان الوقت لتتجلّى لنا مجدَّداً...
إنّنا في حاجة إليك، إليك وحدك، لا لأيٍّ سواك.
أنت وحدك، لأنّك تُحبّنا، تستطيع أن تشعر نحونا، نحن المتألّمين، بالرأفة التي يأنسها كلٌّ منّا تُجاه ذاته.
أنت وحدك، تستطيع أن تشعر بشدّة حاجتنا إليك، حاجة جمّة، في هذا العالَم، في هذه الساعة من العالَم...
الجميع يحتاجون إليك، حتّى الذين يجهلونك، والذين يجهلون هم أكثر حاجةً ممّن يعرفون.
يظنّ الجائع أنّه ينشد خبزاً، وهو جائع إليك.
ويخيّل إلى الظمآن أنّه يبتغي ماءً، وهو عطشٌ إليك.
ويتوهّم العليل أنّه يرغب في الصحّة، في حين أنّ علّته هي غيابه عنك.
كلّ مَن ينشد الجَمال، في هذا العالَم، ينشدك أنت، وهو لا يدري، فأنت الجَمال الكُلّيّ الكامل.
وكلّ مَن يستقري بفكره، الحقّ، يقتفي خُطاك،
فأنت الحقيقة الوحيدة الجديرة بأن تُعرَف.
ومَن يمدّ ذراعيه نحو السلام، يمدّهما نحوك،
فأنت السلام الوحيد الذي تستكين فيه القلوب...”.
"هذا هو اليومُ الذي صنعه الربّ، فلنبتهجْ ونفرحْ فيه".
Comment