قيامة المسيح في الفكر اللاهوتي
مقدّمة
إن تلاميذ يسوع قد دشّنوا حياتهم الرسولية بالشهادة للمسيح القائم من الموت. ولقد كوّنت هذه الشهادة العهد الجديد الذي لا نزال إلى اليوم نعيش مجده.
فقيامة يسوع، وما نتج عنها من استقبال منفتح للروح القدس، قد منحتنا قراءة جديدة لحياته ولتعاليمه ولأفعاله، وخصوصاً لموته.
لا بل بنورها نستطيع، شيئاً فشيئاً، فهم سرّ الحياة ومشكلة الموت.
"إن الإيمان بقيامة يسوع ليس أمراً يضاف إلى الإيمان بالله وبيسوع المسيح ، إنه موجز الإيمان وجوهره".[1]
----------------------------
لم يبدأ تبشير الرسل بتعاليم يسوع أو بمعجزاته .
بل كان محور الكرازة الرسولية هو موت وقيامة يسوع .
هناك في كتاب أعمال الرسل خمس عظات تدلُّ على ذلك
( إقرأ واحدة منها على الأقل ) .
وتتفق هذه العظات بالمضمون لتقدِّم أربع حقائق مبيَّنة في الجدول التالي:
موت يسوع |
قيامته |
" نحن شهود لذلك |
" توبوا ..." |
2/22-23 |
24... |
32... |
38 |
3/13-14 |
15 |
15 |
19... |
4/10 |
10 |
20 |
12 |
10/39 |
40 |
41 |
43 |
13/27-29 |
30 |
31 |
38... |
سنحاول التأمل في معنى الحياة والموت على ضوء الصليب والقيامة.
موت الإنسان هو صليب الله
لا تُعَرِّفُ قصة خلق الإنسان وخطيئته عن هدف الله في الإنسان وحسب، بل أيضاً، عن شدّة حبه به.
فنقرأ في الصفحات الأولى للكتاب المقدّس،
أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، وسيّده على الخليقة بأسرها، ومنحه النعمة على المشاركة في حياته الممجدة المستمرة، حيث لا ألمٌ ولا شرٌّ ولا موت (تك1/26 ).
هذه الحقيقة ليست قصة من نوع الحدث التاريخي بقدر ما هي حقيقة كل إنسان .
فآدم وحواء هما كلّ إنسان.
وتكمن المشكلة في انحراف الإنسان عن هدف الله بفعل تدخلٍ غريب (تك3/ .. )، ولأنه كائن على صورة الله الحر يقبل موت الله وذلك بإلغاءه من حياته.
هذا هو معنى الخطيئة:
أن نلغي الله من حياتنا، أن نميته .
والمشكلة أن موت الله هو موت للإنسان أيضاً لأنه على صورته، فلو أُميت الأصل ماتت الصورة.
ولكنّ، هل يتسمّر الله عند موت ؟ .. حاشى !..
وإلاّ ما عاد الله إلهاً .. الله حيّ مهما أُميت .
لذلك يُنشد الإنسانُ صورته دائماً الحياة والخلود رغم ضعفه .
ويُسرّ الله أن يرافقه في تاريخ خلاصه لكي يمنحه، رغم موته، الحياة.
هذا ما كشفه كاملاً ونهائياً في شخص آدم الجديد، يسوع المسيح الذي يحمل في ذاته الله والإنسان في آنٍ معاً، وما موته وقيامته سوى تعريف ملتزمٌ عن هذه الحقيقة .
يقول الكردينال رََتْزِنْغِر في الصليب :
"في نظر العديد من المسيحيين ، ولاسيما الذين لم يطَّلعوا على الإيمان إلاَّ من بعيد، يبدو الصليب وَجهاً من وجوه قضية الحق المهضوم والمُعاد.
فيكون الصليب تلك الطريقة التي تمَّت بها مصالحة الله المُهان إهانةً لا حدَّ لها ، بتكفير لا حدَّ له ...
وهناك نصوص عبادة توحي ، على ما يبدو،
بأنَّ الإيمان المسيحي بالصليب يتصوَّر إلهاً استوجب عدلُه الذي لا يرحم ذبيحة بشرية.
ذبيحة ابنه نفسه. هذه الصورة خاطئة بقدر ما هي منتشرة.
فالكتاب المقدَّس لا يفهم الصليب وكأنَّه وجه من وجوه قضيَّة الحق المهضوم." .
يقول الآباء: إن التجسد، أي ظهور الله كإنسان، هو حقيقة أرادها الله حتى ولو لم تكن الخطيئة، وذلك لشدَّة حبه بالبشر وشعوره بانتمائهم إليه.
(عن كتاب: L’orthodoxie لـ بول افدوكيموف - ص 149)
ويقول اللاهوتي فرانسوا فاريون المعاصر:
"إنَّ صليب يسوع بدا في البدء للرسل فشلاً سخيفاً .
كانوا قد تبعوا يسوع لاعتقادهم بأنهم وجدوا فيه ذلك الملك الذي لن ينتصر عليه أحد، وهاهم أصبحوا ، خلافاً لما كان متوقَّعاً، رفاق رجل حُكم عليه بالموت وأُعدم.
قد تقولون لي:
لكنَّ القيامة فتحت عيونهم ، وبعد الترائيات استعادوا رباطة جأشهم القديمة ، وهم الآن على يقين من أنَّ يسوع هو الملك الذي آمنوا به .
هذا صحيح ، ولكن يُخشى ألاَّ نرىأنَّ إدراك معنى فائدة الصليب استغرق عند الرسل وقتاً طويلاً. ما الفائدة في الصليب ؟قال القائم من الموت لتلميذي عمَّاوس :
"أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟" (لو24/26).
لماذا "كان يجب"؟
لم يفهموه إلاَّ شيئاً فشيئاً.
إنَّ النهج الذي اتَّبعه يسوع في تعليمه وفي أعماله كان لابدَّ أن يقوده إلى الموت.
فالظلم لا يحتمل قوة العدل، والباطل لا يصبر على تحدي الحق .
لذلك نستطيع أن نفهم الصليب، وبالتالي الفداء. فهما قمة تضامن الله مع الإنسان في واقع الضعف والموت."
الصليب هو واقع حياتي
هناك أفكار خاطئة عن الصليب، فهو ليس فعل تعويضٍ درامي قام يسوع بتنفيذه لكي يُهدِّأَ غضب الله الثائر على خطيئة الإنسان[2]،
بل هو حركة تضامن إلهي مع واقع الإنسان، المليء بالتناقضات والظلم والقهر وعبودية الشر والموت.
لم يحقّق يسوع هذه الحركة بمنطق القوّة والتسلّط والعنف، بل على العكس، فقد حمل هذا الواقع تماماً لكونه إنسان.
وندّد به لأنه الله.
وصحّحه بموته وقيامته لأنه الاثنين معاً.
لم يستطع التلاميذ في البداية فهم حقيقة صلب يسوع، ربما نحن أيضاً لا نفهمها، خصوصاً إذا كنّا لم نكتشف بعد أن
الحياة بحدّ ذاتها تحمل صليباً.
اعتقد أن الصليب هو واقع في حياة كل إنسان، وإن تحاشى البعض تسمية صعوبات واخفاقات وآلام وظلم الحياة وشرّها وموتها صليباً.
ويطرح السؤال نفسه :
لماذا..؟ لماذا يوجد الشر..؟ الظلم؟.. الألم ؟.. لماذا يموت الإنسان؟ ... ويُميت الله..!؟
مهما فسّرنا، وحاولنا فهم واقع الصليب، وكشفنا عن مساهمة الله في هذا الواقع، يبقى الصليب صليباً .
التعزية في ذلك، كل التعزية،
هو أن الله يحمل في شخص يسوع المسيح هذا الواقع .
ولكن المشكلة تكمن فيما لو انتهت قصة يسوع عند الصليب حيث يخبو الرجاء في قوّة الله .
لذلك يؤكد بولس الرسول على محورية الإيمان المسيحي
في قيامة يسوع ، وكأنها تأكيد على انتصار الله في الحق والعدل والمحبة .
ويبقى الإيمان في هذه الحقيقة سرّاً . والسرّ ليس هو الحقيقة التي لا نستطيع فهمها، بل هي ما نستغرق الزمن بأسره ، وربما الأبدية أيضاً، في استيعابها.
قيامة يسوع .. دعوة اختبار..
يمكننا تحديد علامات قيامة يسوع
بــ"القبر الفارغ "، "والترائيات" ، وخصوصاً بـ"شهادة الرسل" .
ويؤكد اللاهوتيون أن قيامة المسيح لا تستند إلى براهين علمية خارجية، وإلا قوّضت معنى الإيمان، بقدر ما تتأكد بواسطة "الاختبار الشخصي"[3].
ولقد منح القائم من الموت رسله نوعين من هذا الاختبار:
فترأى لهم مجتمعين
(أنظر: مت28/16-20، مر16/15-18، لو24/36-53 ، يو20/19-23)،
وأرى نفسه لبعضهم بشكل خاص
(أيضاً: لو24/13-35 ، يو20/11-18).
وما نستطيع قوله، في كلا الحالين ، عن "اختبار الرسل لقيامة المسيح هو أنهم لاقوا المسيح من بعد موته في لقاء شخصي
واختبروا اختباراً جديداً أن المسيح حيّ وأنه حاضرٌ بينهم".[4]
"وقيامة المسيح لا تعني فقط أن الله قد أقامه من بين الأموات، بل أيضاً أن الله يعطيه جماعة يكون فيها حاضراً :
أخصاؤه الذين يجتمعون من جديد ويصبحون كنيسته..
إن التلاميذ لا يعرفون ما حدث ليسوع نفسه ، أي أنه قام، إلاّ من خلال حضوره من جديد في ما بينهم وبواسطة هذا الحضور"[5].
إن قيامته هي اعتلان لقدرة الله ، وتصديق لكلامه ورسالته، لذلك فهم التلاميذ، ونحن من بعدهم، معنى الخلاص على ضوئها .
يقول اللاهوتي المعاصر ري مرميه:
إنَّ قيامة المسيح حدث حقيقي .
لكنها ليست حدثاً تاريخياً عادياً . إنها حدث "سرّ"،
يتألف من بُعدين لا ينفصلان، بُعد يتخطى التاريخ وبُعد تاريخي :
أما الذي يتخطى التاريخ ، فهو الفعل الذي لا يدرك والذي به يمجد اللهُ يسوعَ الناصري الذي دُفن في قبر.
"سرُّ الفصح" يصل يسوع إلى مجد الآب ساعة موته على الصليب .
لكنَّ حدث القيامة السري الذي يتمتع ببعد تاريخي ملازم له:
الأثر الملموس الذي حفره ، منذ الفصح ، في تاريخ البشرية ، أي القبر الفارغ والظهورات وتبشير الرسل.
هكذا فالمعرفة الوحيدة التي تلائم هذا الحدث هي معرفة إيمانية لكنها ترتكز إلى أدلة تاريخية.
يسوع هو قيامتنا .. ورجاؤنا
إن قيامة المسيح هي حدث منفتح على واقع الإنسان (كلّ إنسان وكلّ الإنسان)،
فهي لا تمنح قراءة جديدة للماضي والحاضر وحسب ، بل للمستقبل أيضاً،
فموضوع رجاءنا هو استمرار الحياة بالله حيث الحق والعدالة وفيض الحب.
إن من يتبع الله يدخل حضور القيامة.
فحقيقة الإيمان المسيحي تتلخّص بقول يسوع:
"من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، ويتبعني".
لم يقل يسوع في هذه الدعوة: "فليحمل صليبي"،
بل قال: "صليبه"، والصليب هو واقع على كلّ إنسان كما رأينا،
ولكنه قال أيضاً: "ويتبعني"،
أي يتبعني إلى القيامة، هذا هو تماماً معنى اتِّباعه.
"عندما يشهد جميع المسيحيين بحياتهم للقيامة ينقلب العالم بأسره نحو الفرح والمشاركة والسلام والرجاء والإيمان "[6].
فإن كنا نشترك مع كل البشر في واقع الصليب، علينا في اتّباع يسوع أن نُشركهم في رجاء القيامة.
إذ لا يمكن فصل حقيقة الصليب عن سرِّ القيامة وإلاّ أصبحت الأمانة لله بؤساً والحياة معه جحيماً والموت نهاية، وما عاد "الله محبة".
يقول كارل بارت اللاهوتي المعاصر:
إذا كنّا نؤمن بأن للتاريخ معنى..ونؤمن أيضاً بالتطور ..
وإصلاح المجتمع وتجديده ..
ونؤمن بالأُخُوَّة ..
وإذا كانت لنا الشجاعة ..
فنحتمل القيود والعقبات ..
ذلك لأننا نؤمن بالتدبير الإلهي
الذي يحطم أقوى القيود ..أعني به : الموت !..
" أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم.. المسيح قد لبستم.."
" إننا نعلم أن إنساننا القديم قد صلب معه ليزول هذا البشر الخاطئ ، فلا نظل عبيداً للخطيئة.
فإذا كنا قد متنا مع المسيح، فإننا نؤمن بأننا سنحيا معه. فكذلك احسبوا أنتم إنكم أموات عن الخطيئة أحياء لله في يسوع المسيح". (رو 6/3-11)
قام المسيح وأقامنا ! ..
أجل لقد قام المسيح وأقام معه العالم ! لقد قام بعد أن سحق قيود الموت ، وأقامنا بعد أن كسر قيود ذنوبنا .
خطئ آدم فمات، ولم يخطأ يسوع فمات أيضاً : أمرٌ غريب ،
عجيب !!..لماذا مات المسيح وهو لم يخطأ ؟
..ليستطيع مَن خطئ فمات، أن ينجو من قيود الموت، بمَنْ مات دون أن يخطأ وقام..
(يوحنا الذهبي الفم).
المسألة مسألة اختيار : البقاء في آدم .. أو الاتشاح بالمسيح..
يؤكد بولس الرسول أن الإيمان بقيامة يسوع هو محور الإيمان به :
"إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطلٌ وإيمانكم باطل " (1كور 15/14).
وقيامة يسوع هي تأكيدٌ للإيمان بقيامتنا ودعوة رجاءٍ لنا للعيش بإنسانٍ جديدٍ متشحٍ بالمسيح:
"وإذا كان رجاؤنا في المسيح مقصوراً على هذه الحياة ، فنحن أشقى الناس أجمعين ...
إنَّ المسيح قام من بين الأموات وهو بكر الأموات .
فقد أتى الموت على يد إنسانٍ وعلى يد إنسانٍ تكون قيامة الأموات ،
وكما يموت جميع الناس في آدم فكذلك سيحيون في المسيح...
كان آدم الإنسان الأول نفساً حيَّة ، وكان آدم الآخر روحاً محيياً . ولكن لم يظهر الروحاني أولاً ، بل البشري ، وظهر الروحاني بعده.
الإنسان الأول من التراب فهو ترابي ، والإنسان الآخر من السماء .
فعلى مثال الترابي يكون الأرضيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون .
وكما لبسنا صورة الترابي ، فكذلك نلبس صورة السماوي..
" (18-23 و45-49).
خاتمة
الموت مسألة صعبة ، في كلا مظهريه : المباشر واليومي .
وحين يرتبط الإنسان بحبّ الله ، تتعاظم لديه مشكلة الفشل ويخبو بالضعف ، وينهار أمام الموت!..
ولعل خبــــرة تلميذي عماوس مرجعاً لكل مسيحي إن لم يحمله في كل قدّاس لأصبحت مسيحيته قناعاً يُزيّف حياته .
لم تكن قيامة يسوع موضوعاً عقائدياً يبنى عليه الإيمان المسيحي أولاً وآخراً لولا خبرة الرجاء التي حملها القائم من الموت للمؤمنين به، ولولا تفعيل هذا الاختبار بنداءات الروح القدس اليومية.
العنصرة هي قراءة إلهية لحدث يسوع المسيح ، وخصوصاً لموته وقيامته.
إنها حدث معمّم عبر الزمان والمكان وإلا فقد قيمته في الإيمان. وفُقد الإيمان!...
أيها المسيح آدم الجديد، إنك وأنت ملك السماء والأرض، صلبت باختيارك لمحبتك للبشر.
فالجحيم لما لاقتك أسفل اغتاظت، ونفوس الصديقين لما استقبلتك ابتهجت، وآدم لما رآك في الأسافل قام ناهضاً.
فيا لَلعجب !
كيف حياة الجميع ذاق موتاً؟
إنما ذلك لأنه أراد أن ينير العالم الصارخ إليه:
يا من قام من بين الأموات، يا رب المجد لك.
Comment