سؤال المعنى سؤال مهم للغاية وهو مطروح في كل مكان: شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً مع بعض الاختلافات دون شك، إذ أن الشاب الشرقي يعتقد بأن الأمر يتعلق بمستوى حياة مادية أفضل وبالتالي يعيش على أمل الذهاب إلى الأفضل وفي أحسن الاحتمالات يتوجه «باتجاه الغرب» معتقداً أن هنالك الحل. ولكن ماذا نقول بخصوص الشاب الغربي الذي وصل إلى أفضل الأوضاع المادية ومع ذلك فهو يطرح السؤال عينه؟ فهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أن السؤال هو على مستوى آخر. معنى الحياة:كثيرون من الفلاسفة والعلماء يعتقدون بأن الحياة هي عبث، أي لا معنى لها بما أنها تنتهي بالموت، على حد قول الفيلسوف الفرنسي المعروف ألبير كامو. وبالتالي يبقى السؤال مطروحاً: هل للحياة من معنى إن كانت النهاية هي الموت ؟ ومن أين نستمد هذا المعنى ؟ وبالتالي لم العمل، لم النضال الخ.
إن كان هناك شيء من هذا الشعور لدى الشباب فقد يعود ذلك إلى عدّة أسباب: دراسية: نحن لا نختار الدراسة التي نريد، وبالتالي المهنة التي نريدها. فالكمبيوتر هو الذي يقرر عنّا على حد قول الشباب. كما أن هناك أسباب اقتصادية لها أهمية كبيرة أيضاً:كلنا نعلم بأن الشاب، بعد فترة طويلة من الدراسة يرى نفسه في نقطة الصفر: عليه الكد والعمل لتوفير ما يلزم للتهيئة للزواج والاستقرار كما يقولون. في الوقت الذي يقول لنا الكتاب المقدس بأن الله لم يخلق شيئاً دون هدف: «إنك تُحِبّ جَميعَ الكائنات ولا تَمقُتُ شَيئًا مِمَّا صَنَعتَ فإِنَّكَ لَو أَبغَضتَ شَيئًا لَما كوّنتَه. كيفَ يَبْقى شَيء لم تُرِدْه أم كَيفَ يُحفَظُ بما لم تَدْعُه ؟ » (حك 11، 24-25). والعلم يؤكد لنا أكثر فأكثر بأن ما من شيء في الكون إلاَّ وله،على الأقل، دوراً، إن لم نقل معنى. وبالتالي فكم بالأحرى الإنسان!
إذا كانت الحياة بلا معنى فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يعمل البشر؟ لماذا كل هذه الاكتشافات والجهود التي تُبذل من قبل البشرية للارتقاء بالبشر إن لم يكن هناك من معنى؟ قد يقول البعض من أجل تأمين ما يلزم للحياة. هذا الكلام غير مقنع، لأنه إن كان لا وجود للمعنى لاكتفى الإنسان بالحد الأدنى دون تلك الجهود الهائلة التي تبذل بهذا الاتجاه. وإن كانت البشر لا ينتحرون، فهذا يعني أن هناك من معنى. من الممكن أن يكون الكثيرون فاقدين لهذا المعنى ولكن هذا لا يعني بأنه غير موجود،إنما لم يكتشفوه بعد. كما أن العلوم الإنسانية تقول بأن لدى الإنسان ما يسمى بنزوات حفظ البقاء التي تجعل الإنسان يناضل من أجل الاستمرار في الحياة ولا يستسلم بهذه السهولة. بمعنى آخر، لدى الإنسان، في أعماقه ما يقول له بأن حياتك ليست كما تبدو لك وأنك خلقت من أجل الاستمرار والسعادة. هذا يعني أيضاً أن الإيمان بالحياة أقوى منه في الموت.
أين نجد المعنى؟
الإيمان: الإيمان المسيحي يؤكد لنا من خلال الكتاب المقدس بأن للإنسان قيمة مطلقة لدى الله. فالله تجسد حباً في الإنسان،
كما أنه يبحث دائماً عن الضال ليقوده إلى الحظيرة. فالله لم يخلقنا من أجل لا شيء، بل خلقنا من أجل الحياة والفرح والسعادة. ألم يقل المسيح بأنه أتى ليكون فرحه فينا وما من أحد يستطيع أن يسلبنا هذا الفرح؟ ألم يقل في مثل الراعي الصالح بأنه ينادي كل واحد باسمه: بمعنى آخر أن الله لا يهتم بالبشرية فقط بل بكل واحد منها، أي أن الفرد وحده له قيمة البشرية جمعاء: «إِنَّه لَقَولُ صِدْقٍ جَديرٌ بِالتَّصْديقِ على الإِطْلاق، وهو أَنَّ المسيحَ يَسوعَ جاءَ إِلى العالَم لِيُخَلِّصَ الخاطِئِين، وأَنا أَوَّلُهم» (1 طيم 1، 15). كما أن الكتاب المقدس يقول بأن الله فكّر بخلق الإنسان قبل الخلق نفسه: «فكانت كلمة الرب إليَّ قائلاً: قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك» (إر 1، 1).
قد نطرح السؤال ما الدليل على ذلك، أو ما البرهان على ذلك؟ الإيمان لا يتعامل بهذا الأسلوب، إنه يقول لنا حقائق إيمانيّة ويدعونا لاختبارها. والسؤال: هل وكيف نعمل لكي نجعل من هذه الحقائق الإيمانية موضوع اختبارنا الشخصي؟ هل نبذل الجهد اللازم لذلك؟ إن كان الجواب بالنفي، فكيف نسمح لأنفسنا بالقول بأن الحياة لا معنى لها، أو بأن ما يقوله الكتاب المقدس هو مثالي لا علاقة له بالواقع الذي أعيشه؟
الحب: كلنا نعلم دور وأهمية الحب في حياة الإنسان. «فالإنسان هو كائن شحاذ للحب». فإن كان الإنسان هكذا، فهذا يعني أن الحب هو مصدر مهم للمعنى في حياة الإنسان ولا ننسى بأن الحب الحقيقي هو الله نفسه الذي لا يمكنه أن يتخلى عن أحد أيّاً كان ومها كانت ظروفه وأفكاره وقناعاته، هذا هو معنى نص الخروف الضال.
العلوم الإنسانية تؤكد لنا بأن الإنسان هو من مجال الأكثر، إنه مشروع قيد التحقيق ولن يتحقق بشكل نهائي، إنه كائن لا يعرف الاكتفاء مطلقاً. هذه التأكيدات تقول لنا بأنه من غير الممكن أن تكون الحياة بلا معنى. يبقى السؤال أين أجد المعنى؟ قلنا أن الإيمان يقول لنا بأن المعنى هو في الله، وأن هدف الحياة هو السعادة. فكيف أحقق ذلك في حياتي؟
السعادة والمال: «لأن حبَّ المال أصل كل شر، وقد استسلم إليه بعض الناس فضلّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1 طيم 6، 10). كثر هم من يعتقدون بالشعار القائل: «بقدر ما تستهلك من سلع، تقترب من السعادة». هذا هو شعار المجتمع الاستهلاكي الذي شوه الرغبة الحقيقية للإنسان وحولها من الرغبة في الآخر إلى الرغبة من التملك. نضيف على ذلك ما يمكننا تسميته امتلاك المعلومات من خلال مختلف وسائل الاتصال وعلى رأسها التلفيزيون. أو لدى البعض يتم ذلك من خلال شره القراءة هروباً من الذات وبالتالي مواجهة سؤال المعنى.
أين هي السعادة المنشودة؟ هذا السؤال يطرح سؤالاً آخر: هل المعنى هو في التملك أم في الكيان؟ في الوجود؟ في الحقيقة كلما تمحور الوجود الإنسان حول التملك، كلما انخفض على مستوى الكيان، كلما فرغ وجوده من المعنى: «ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه، فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل ؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي. فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه ؟ فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله» (لو 12، 16-21). والرسالة الأولى إلى أهل طيموطاوس تقول لنا: «فإِنَّنا لم نَأتِ العالَمِ وَمَعَنا شَيء، ولا نَستَطيعُ أَن نَخرُجَ مِنه ومَعَنا شَيء. فإِذا كانَ عِندَنا قُوتٌ كُسوَة فعَلَينا أَن نَقنَعَ بِهِما» (1 طيم 6، 7-8). هل المعنى في التملك أم في الكيان؟
علينا إذن أن نميّز بين السعادة والرفاهية. فتلك الأخيرة يقدمها لنا المجتمع حتى التخمة، لكن لا يمكنها أن تقودنا إلى السعادة، التي هي من الداخل. على حد قول المسيح للمرأة السامرية: «أَجابَها يسوع: كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَةً أمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً بلِ الماءُ الَّذي أُعطِيهِ إِيَّاهُ يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة». فالرفاهية، السعادة التي تأتي من الخارج هي بمثابة ماء البئر، أمّا السعادة الحقيقية، التي تنبع من الداخل هي بمثابة الماء الذي يعطينا إياه المسيح والذي يتحول إلى عين ماء تتفجر حياة أبدية. وهذا ما يختبره من يمارس الرياضات الروحية والتأمل في حياته. فإذا كان المجتمع الاستهلاكي يؤمن للإنسان الكثير من الرفاهية، فهو عاجز على أن يعطيه السعادة.
الإنجيل يقدم لنا السعادة من خلال التطويبات التي تُفتتح وتُلخّص بتطويبة الفقراء: «طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السموات ». ماذا تعني هذه التطويبة؟ الكثير نلخصها بثلاث نقاط: أولاً: السعادة هي في العطاء وليست في الأخذ، وهذا ما عاشه الكثير من القديسين وعلى رأسهم فرنسيس الأسيزي، ثانياً: هذا يعني التميز بين الوسيلة والهدف. فالرفاهية، أو حتى السعادة التي يقدمها لي المجتمع تبقى، بالرغم من أهميتها، مقدمة للسعادة الحقيقية والتي لا تأتيني إلاَّ من الله. ثالثاً: التطويبات،إن عرفنا أن نقرأها، فهي لا تلغي النضال والجهاد، وحتى أحياناً الاضطهاد: «طوبى للمضطهدين على البر فإن لهم ملكوت السماوات».
هذا يعني أيضاً أن الكثرة قد تؤدي إلى العمى وعدم الإحساس بالآخر، بهذا المعنى يقول المسيح: لكم يعسر على الغني دخول ملكوت السموات. هذا هو إحدى معان الصوم، حيث نختبر بأن السعادة ليست في الملء، إنما بحضور الأخر في حياتنا. فالسعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ يقول لنا كتاب أعمال الرسل 20، 35.
فعندما يقول الله للإنسان: انموا واكثروا... فإنه يقول له: لقد أعطيتك المواد الأوليّة والعقل وعليك بالإتمام. دعوتنا تكمن في إتمام عملية الخلق وهذا ما يعطي معنى لحياتنا. لأنه بخلقنا للعالم نحقق ذاتنا على صورة الله كمثاله وهنا يكمن معنى حياتنا، لكن بشرط أن نتمم هذه العملية لا انطلاقاً من رغبتنا في التسلط والتحكم، بل انطلاقاً من حب الله لنا وبالتالي من أجل تقدم وخير البشرية جمعاء، وهذا ما نسميه بالخير العام. يكفي أن نفكر بما في الكون من نقص: مجاعة، حاجات متعددة، حروب، ظلم، غياب للنظافة، تطور الخ كلها تشعرنا بدورنا وبأهمية ودور إتمام عملية الخلق في إيجاد المعنى لحياتنا. بهذه الطريقة يعطي الله المعنى لحياتنا ووجودنا، فهو لا يعطينا إياه جاهزاً، بل من خلال كل ما أعطانا إياه لكي نتمم من خلاله عملية الخلق ونحقق عالماً مشدوداً دائما إلى ما هو أفضل وأكمل. (هنا يكمن الفرق بين روح الموظف بالمعنى السلبي للكلمة وروح المبادر).
أين هو دور الله؟ الله ليس بمتفرج، ونحن كذلك. لكن الله يعمل من خلالنا، يحب من خلال قلبنا، ويعمل من خلال أيدينا، ويفكر من خلال عقلنا. فالله والإنسان شركاء في العمل وليسا بمتفرجين. لو قلنا بأن الله وحده يعمل، نقع في الاتكالية، ولو قلنا بأن الإنسان يعمل وحده وقعنا في الديكتاتورية والغرور. فمن خلال الشراكة مع الله في إتمام عملية الخلق نعيش المعنى، وهذا المعنى هو من الله لأنه هو من أعطانا هذه الإمكانيات.
والمسيح يقول لنا بأننا لم نعد عبيداً بل أبناءً وأحراراً. بهذا المعنى نعيش الشراكة مع الله. والمسيح يقول في إنجيل يوحنا: من آمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، لا بل يعمل أعظم منها.
هنا نكتشف معنى وأهمية العمل في حياة الإنسان وإيجاد معناها. فالعمل يجعلك تشعر بالسعادة وبمعنى الحياة والوجود، فالسعادة هي إذن نتيجة وليست هدفاً. بينما غالباً ما نعيش العمل على أنه عقاب من الله وبالتالي لعنة. وهذا ما عبّر عنه الفصل 3 من سفر التكوين عندما بين لنا بأن الإنسان يستقبل واقعه الذي لا يقبل به على أنه عقاب من الله: بعرق جبينك تأكل خبزك.
الخلاصة: معنى وهدف الحياة هو في النهاية بداخل كل إنسان، وما من أحد يستطيع أن يعطيه إياه، حتى الله، بعيداً عنه، أي خارجاً عن الإنسان نفسه. فالإنسان يكتشف هدف ومعنى الحياة بقدر ما يتقدم فيه، فالله لا يعطيني خطة عامّة لحياتي، لكنه ينير الطريق الذي أمامي مباشرة، حتى أرى الخطوة القادمة، لكي أحققها، تماماً كنور السيارة التي تسير في الظلام. بمعنى آخر معنى الحياة يكمن في الالتزام بما علينا القيام به الآن، ثم يتطور خطوة خطوة.
فهذا النور هو الله. وبهذه الطريقة يمكننا القول بأن الله هو الذي يعطي المعنى. ولكن ليس خارجاً عن الواقع، بما فيه من ألم وموت وصعوبات الخ. هذا ما أراد قوله فرنسوا فاريون عندما قال: بأن المعنى لا يكمن في الأشياء، بل في أنه علينا نحن أن نضفي معنى على ما لا معنى له.
" من موقع الكلمة "
إن كان هناك شيء من هذا الشعور لدى الشباب فقد يعود ذلك إلى عدّة أسباب: دراسية: نحن لا نختار الدراسة التي نريد، وبالتالي المهنة التي نريدها. فالكمبيوتر هو الذي يقرر عنّا على حد قول الشباب. كما أن هناك أسباب اقتصادية لها أهمية كبيرة أيضاً:كلنا نعلم بأن الشاب، بعد فترة طويلة من الدراسة يرى نفسه في نقطة الصفر: عليه الكد والعمل لتوفير ما يلزم للتهيئة للزواج والاستقرار كما يقولون. في الوقت الذي يقول لنا الكتاب المقدس بأن الله لم يخلق شيئاً دون هدف: «إنك تُحِبّ جَميعَ الكائنات ولا تَمقُتُ شَيئًا مِمَّا صَنَعتَ فإِنَّكَ لَو أَبغَضتَ شَيئًا لَما كوّنتَه. كيفَ يَبْقى شَيء لم تُرِدْه أم كَيفَ يُحفَظُ بما لم تَدْعُه ؟ » (حك 11، 24-25). والعلم يؤكد لنا أكثر فأكثر بأن ما من شيء في الكون إلاَّ وله،على الأقل، دوراً، إن لم نقل معنى. وبالتالي فكم بالأحرى الإنسان!
إذا كانت الحياة بلا معنى فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يعمل البشر؟ لماذا كل هذه الاكتشافات والجهود التي تُبذل من قبل البشرية للارتقاء بالبشر إن لم يكن هناك من معنى؟ قد يقول البعض من أجل تأمين ما يلزم للحياة. هذا الكلام غير مقنع، لأنه إن كان لا وجود للمعنى لاكتفى الإنسان بالحد الأدنى دون تلك الجهود الهائلة التي تبذل بهذا الاتجاه. وإن كانت البشر لا ينتحرون، فهذا يعني أن هناك من معنى. من الممكن أن يكون الكثيرون فاقدين لهذا المعنى ولكن هذا لا يعني بأنه غير موجود،إنما لم يكتشفوه بعد. كما أن العلوم الإنسانية تقول بأن لدى الإنسان ما يسمى بنزوات حفظ البقاء التي تجعل الإنسان يناضل من أجل الاستمرار في الحياة ولا يستسلم بهذه السهولة. بمعنى آخر، لدى الإنسان، في أعماقه ما يقول له بأن حياتك ليست كما تبدو لك وأنك خلقت من أجل الاستمرار والسعادة. هذا يعني أيضاً أن الإيمان بالحياة أقوى منه في الموت.
أين نجد المعنى؟
الإيمان: الإيمان المسيحي يؤكد لنا من خلال الكتاب المقدس بأن للإنسان قيمة مطلقة لدى الله. فالله تجسد حباً في الإنسان،
كما أنه يبحث دائماً عن الضال ليقوده إلى الحظيرة. فالله لم يخلقنا من أجل لا شيء، بل خلقنا من أجل الحياة والفرح والسعادة. ألم يقل المسيح بأنه أتى ليكون فرحه فينا وما من أحد يستطيع أن يسلبنا هذا الفرح؟ ألم يقل في مثل الراعي الصالح بأنه ينادي كل واحد باسمه: بمعنى آخر أن الله لا يهتم بالبشرية فقط بل بكل واحد منها، أي أن الفرد وحده له قيمة البشرية جمعاء: «إِنَّه لَقَولُ صِدْقٍ جَديرٌ بِالتَّصْديقِ على الإِطْلاق، وهو أَنَّ المسيحَ يَسوعَ جاءَ إِلى العالَم لِيُخَلِّصَ الخاطِئِين، وأَنا أَوَّلُهم» (1 طيم 1، 15). كما أن الكتاب المقدس يقول بأن الله فكّر بخلق الإنسان قبل الخلق نفسه: «فكانت كلمة الرب إليَّ قائلاً: قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك» (إر 1، 1).
قد نطرح السؤال ما الدليل على ذلك، أو ما البرهان على ذلك؟ الإيمان لا يتعامل بهذا الأسلوب، إنه يقول لنا حقائق إيمانيّة ويدعونا لاختبارها. والسؤال: هل وكيف نعمل لكي نجعل من هذه الحقائق الإيمانية موضوع اختبارنا الشخصي؟ هل نبذل الجهد اللازم لذلك؟ إن كان الجواب بالنفي، فكيف نسمح لأنفسنا بالقول بأن الحياة لا معنى لها، أو بأن ما يقوله الكتاب المقدس هو مثالي لا علاقة له بالواقع الذي أعيشه؟
الحب: كلنا نعلم دور وأهمية الحب في حياة الإنسان. «فالإنسان هو كائن شحاذ للحب». فإن كان الإنسان هكذا، فهذا يعني أن الحب هو مصدر مهم للمعنى في حياة الإنسان ولا ننسى بأن الحب الحقيقي هو الله نفسه الذي لا يمكنه أن يتخلى عن أحد أيّاً كان ومها كانت ظروفه وأفكاره وقناعاته، هذا هو معنى نص الخروف الضال.
العلوم الإنسانية تؤكد لنا بأن الإنسان هو من مجال الأكثر، إنه مشروع قيد التحقيق ولن يتحقق بشكل نهائي، إنه كائن لا يعرف الاكتفاء مطلقاً. هذه التأكيدات تقول لنا بأنه من غير الممكن أن تكون الحياة بلا معنى. يبقى السؤال أين أجد المعنى؟ قلنا أن الإيمان يقول لنا بأن المعنى هو في الله، وأن هدف الحياة هو السعادة. فكيف أحقق ذلك في حياتي؟
السعادة والمال: «لأن حبَّ المال أصل كل شر، وقد استسلم إليه بعض الناس فضلّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1 طيم 6، 10). كثر هم من يعتقدون بالشعار القائل: «بقدر ما تستهلك من سلع، تقترب من السعادة». هذا هو شعار المجتمع الاستهلاكي الذي شوه الرغبة الحقيقية للإنسان وحولها من الرغبة في الآخر إلى الرغبة من التملك. نضيف على ذلك ما يمكننا تسميته امتلاك المعلومات من خلال مختلف وسائل الاتصال وعلى رأسها التلفيزيون. أو لدى البعض يتم ذلك من خلال شره القراءة هروباً من الذات وبالتالي مواجهة سؤال المعنى.
أين هي السعادة المنشودة؟ هذا السؤال يطرح سؤالاً آخر: هل المعنى هو في التملك أم في الكيان؟ في الوجود؟ في الحقيقة كلما تمحور الوجود الإنسان حول التملك، كلما انخفض على مستوى الكيان، كلما فرغ وجوده من المعنى: «ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه، فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل ؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي. فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه ؟ فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله» (لو 12، 16-21). والرسالة الأولى إلى أهل طيموطاوس تقول لنا: «فإِنَّنا لم نَأتِ العالَمِ وَمَعَنا شَيء، ولا نَستَطيعُ أَن نَخرُجَ مِنه ومَعَنا شَيء. فإِذا كانَ عِندَنا قُوتٌ كُسوَة فعَلَينا أَن نَقنَعَ بِهِما» (1 طيم 6، 7-8). هل المعنى في التملك أم في الكيان؟
علينا إذن أن نميّز بين السعادة والرفاهية. فتلك الأخيرة يقدمها لنا المجتمع حتى التخمة، لكن لا يمكنها أن تقودنا إلى السعادة، التي هي من الداخل. على حد قول المسيح للمرأة السامرية: «أَجابَها يسوع: كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَةً أمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً بلِ الماءُ الَّذي أُعطِيهِ إِيَّاهُ يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة». فالرفاهية، السعادة التي تأتي من الخارج هي بمثابة ماء البئر، أمّا السعادة الحقيقية، التي تنبع من الداخل هي بمثابة الماء الذي يعطينا إياه المسيح والذي يتحول إلى عين ماء تتفجر حياة أبدية. وهذا ما يختبره من يمارس الرياضات الروحية والتأمل في حياته. فإذا كان المجتمع الاستهلاكي يؤمن للإنسان الكثير من الرفاهية، فهو عاجز على أن يعطيه السعادة.
الإنجيل يقدم لنا السعادة من خلال التطويبات التي تُفتتح وتُلخّص بتطويبة الفقراء: «طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السموات ». ماذا تعني هذه التطويبة؟ الكثير نلخصها بثلاث نقاط: أولاً: السعادة هي في العطاء وليست في الأخذ، وهذا ما عاشه الكثير من القديسين وعلى رأسهم فرنسيس الأسيزي، ثانياً: هذا يعني التميز بين الوسيلة والهدف. فالرفاهية، أو حتى السعادة التي يقدمها لي المجتمع تبقى، بالرغم من أهميتها، مقدمة للسعادة الحقيقية والتي لا تأتيني إلاَّ من الله. ثالثاً: التطويبات،إن عرفنا أن نقرأها، فهي لا تلغي النضال والجهاد، وحتى أحياناً الاضطهاد: «طوبى للمضطهدين على البر فإن لهم ملكوت السماوات».
هذا يعني أيضاً أن الكثرة قد تؤدي إلى العمى وعدم الإحساس بالآخر، بهذا المعنى يقول المسيح: لكم يعسر على الغني دخول ملكوت السموات. هذا هو إحدى معان الصوم، حيث نختبر بأن السعادة ليست في الملء، إنما بحضور الأخر في حياتنا. فالسعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ يقول لنا كتاب أعمال الرسل 20، 35.
فعندما يقول الله للإنسان: انموا واكثروا... فإنه يقول له: لقد أعطيتك المواد الأوليّة والعقل وعليك بالإتمام. دعوتنا تكمن في إتمام عملية الخلق وهذا ما يعطي معنى لحياتنا. لأنه بخلقنا للعالم نحقق ذاتنا على صورة الله كمثاله وهنا يكمن معنى حياتنا، لكن بشرط أن نتمم هذه العملية لا انطلاقاً من رغبتنا في التسلط والتحكم، بل انطلاقاً من حب الله لنا وبالتالي من أجل تقدم وخير البشرية جمعاء، وهذا ما نسميه بالخير العام. يكفي أن نفكر بما في الكون من نقص: مجاعة، حاجات متعددة، حروب، ظلم، غياب للنظافة، تطور الخ كلها تشعرنا بدورنا وبأهمية ودور إتمام عملية الخلق في إيجاد المعنى لحياتنا. بهذه الطريقة يعطي الله المعنى لحياتنا ووجودنا، فهو لا يعطينا إياه جاهزاً، بل من خلال كل ما أعطانا إياه لكي نتمم من خلاله عملية الخلق ونحقق عالماً مشدوداً دائما إلى ما هو أفضل وأكمل. (هنا يكمن الفرق بين روح الموظف بالمعنى السلبي للكلمة وروح المبادر).
أين هو دور الله؟ الله ليس بمتفرج، ونحن كذلك. لكن الله يعمل من خلالنا، يحب من خلال قلبنا، ويعمل من خلال أيدينا، ويفكر من خلال عقلنا. فالله والإنسان شركاء في العمل وليسا بمتفرجين. لو قلنا بأن الله وحده يعمل، نقع في الاتكالية، ولو قلنا بأن الإنسان يعمل وحده وقعنا في الديكتاتورية والغرور. فمن خلال الشراكة مع الله في إتمام عملية الخلق نعيش المعنى، وهذا المعنى هو من الله لأنه هو من أعطانا هذه الإمكانيات.
والمسيح يقول لنا بأننا لم نعد عبيداً بل أبناءً وأحراراً. بهذا المعنى نعيش الشراكة مع الله. والمسيح يقول في إنجيل يوحنا: من آمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، لا بل يعمل أعظم منها.
هنا نكتشف معنى وأهمية العمل في حياة الإنسان وإيجاد معناها. فالعمل يجعلك تشعر بالسعادة وبمعنى الحياة والوجود، فالسعادة هي إذن نتيجة وليست هدفاً. بينما غالباً ما نعيش العمل على أنه عقاب من الله وبالتالي لعنة. وهذا ما عبّر عنه الفصل 3 من سفر التكوين عندما بين لنا بأن الإنسان يستقبل واقعه الذي لا يقبل به على أنه عقاب من الله: بعرق جبينك تأكل خبزك.
الخلاصة: معنى وهدف الحياة هو في النهاية بداخل كل إنسان، وما من أحد يستطيع أن يعطيه إياه، حتى الله، بعيداً عنه، أي خارجاً عن الإنسان نفسه. فالإنسان يكتشف هدف ومعنى الحياة بقدر ما يتقدم فيه، فالله لا يعطيني خطة عامّة لحياتي، لكنه ينير الطريق الذي أمامي مباشرة، حتى أرى الخطوة القادمة، لكي أحققها، تماماً كنور السيارة التي تسير في الظلام. بمعنى آخر معنى الحياة يكمن في الالتزام بما علينا القيام به الآن، ثم يتطور خطوة خطوة.
فهذا النور هو الله. وبهذه الطريقة يمكننا القول بأن الله هو الذي يعطي المعنى. ولكن ليس خارجاً عن الواقع، بما فيه من ألم وموت وصعوبات الخ. هذا ما أراد قوله فرنسوا فاريون عندما قال: بأن المعنى لا يكمن في الأشياء، بل في أنه علينا نحن أن نضفي معنى على ما لا معنى له.
" من موقع الكلمة "