حين يختبر الإنسان الألم، يواجه أزمةً حادّةً في إيمانه. فالشرّ بجميع أنواعه، خصوصاً في ذروته ألا وهي الموت، يتناقض مع تأكيدنا بأنّ الله محبّة من جهة، وبأنّه يعرف كلّ شيءٍ، ويسيطر على كلّ شيءٍ من جهةٍ أخرى. فالمسيح يقول: "لن تُفقَدَ شعرةٌ من رؤوسكم" (لو 21/18). فحين يمرض إنسانٌ أو يموت، توجَّه أصابع الاتّهام والتشكيك إلى العناية الإلهيّة الّتي تسهر علينا وتعمل لخيرنا. وهذا الاتّهام واقع يقرّ به الكتاب المقدّس ويتخطّاه. فالإله الّذي يدير كلّ شيء، ويتحكّم بالأحداث الحسنة والسيئة، ومنه يأتي المرض أو الصحّة، هو إله غير موجود. ومع ذلك، تظلّ صورة الإله المتدخّل حيّة في إيمان كثير من المسيحيّين. وانطلاقاً منها، تتعدّد محاولات الشرح لتبرئة هذا الإله المحب القدير، الّذي، على الرغم من محبّته، يعذّب أو يترك الإنسان يتعذّب.
هل الألم عقاب؟
آمن العبرانيّون لفترةٍ طويلةٍ من الزمن بأنّ الشرّ والألم عقاب من الله يعاقب به الإنسان لسلوكه السيّء. وعلى العكس، البارّ يزهر والحكيم يغتني. ويُعتَبَرُ سفر أيّوب احتجاجاً مطوّلاً على هذا الإيمان الّذي يبرهن الواقع بطلانه. ومع ذلك، ثابر الناس عليه حتّى أيّام يسوع. فحين رأى الرسل المولود أعمى سألوا: "مَن أخطأ، أهذا أم أبواه، حتّى ولِدَ أعمى؟" (يو 9/2). إنّه سؤال حرج. وقد سعى لاهوت قديم إلى الإجابة عنه بالاعتماد على مفهوم خاص للخطيئة الأصليّة. فلا ينسب هذا المفهوم الألم إلى خطيئة الأهل، بل إلى خطيئة الجدّين الأوّلين آدم وحوّاء. في هذا اللاهوت، يبدو الله بريئاً لأنّنا ننسب الخطأ إلى الإنسان. والشرّ بمختلف أنواعه هو عقوبة من الله بسبب هذا الخطأ. لكنّ هذه النظرة لا تتوافق مع اليقين بأنّ الله محبّة، وأنّه يعبّر عن محبّته من خلال المسامحة. فهل يمكننا الكلام على المسامحة إذا كان الله يدفِّع الخاطئ الثمن؟ وهل علينا أن نسامح إذا كان الله نفسه يحاسبنا على خطيئةٍ ارتكبها جدّنا منذ مليارات السنين؟ وإذا قلنا إنّ آلام المسيح سدّدت ديون البشر تجاه الله، فهذا لا يزيل التناقض. ففكرة ضرورة الألم لإرضاء العدالة الإلهيّة مطبوعة في سلوكيّاتنا الجزائيّة، لكنّها لا تتوافق مع ما يكشفه لنا المسيح عن الله. على كلّ حال، كان يجدر بآلام المسيح بدلاً عنّا أن تعفينا من التألّم. ولكنّنا نتألّم. ونعلم أنّ الألم يصيب البريء أيضاً. فهل يا ترى عقاب الله يخطئ ولا يميّز البريء عن المذنب؟
إنّ جميع هذه الإشكاليّات نابعة من صورة الإله المتدخِّل. فإذا لم نتخلَّ عن هذه الصورة، وإذا جعلناه مسؤولاً عن آلامنا، حتّى وإن كانت عقاباً، نسقط في فخاخٍ يصعب علينا الفلات منها، ونصنع باسم العدالة الإلهيّة إلهاً ظالماً. فالكلام على الآلام العقابيّة، أو الإرضاء التكفيريّ الّذي دفعه المسيح بآلامه، يتعارض مع الوحي الإلهيّ الّذي يكشفه لنا إله يسامح بمجّانيّة. إنّه كلام ينفي مجّانيّة المحبّة ومجّانيّة النعمة، وينفي حتّة المحبّة نفسها.
الألم التربويّ
ونحن نتكلّم على الألم بهذه الطريقة، لا يخفى علينا أنّ الألم هو الوسيلة الوحيدة للنموّ. لنتخيّل مدرسةً تعلّم طلاّبها طوال السنة ولا تمتحنهم. كلّما انقضت السنة، ينتقل الطلاّب إلى الصفّ الأعلى. هل ستترسّخ المعلومات في أذهانهم كما تترسّخ في أذهان الطلاّب الّذين يجتازون الامتحانات؟ هل يتقن الإنسان النحتَ أو الرسمَ أو العزفَ أو أيّ فنٍّ من الفنون أو حرفةٍ من الحرَف، إن لم يكن معلّمه حازماً متطلّباً، وحتّى قاسياً معه؟ أليست الحاجة أمّ الاختراع؟ ألا نقصد بكلمة "حاجة" المعاناة والعوز والشعور بالأزمة والوضع الحرج؟ فالألم يحمل في ثنياته بعداً إيجابيّاً، ويتيح للإنسان فرصةً للنموّ.
على هذا الأساس، هناك مَن يخفّف مفهوم العقاب الّذي تكلّمنا عليه أعلاه، ويعتبر الألم تهذيباً والديّاً غايته تصحيح سيرتنا وتنميتنا. ويُدعَمُ هذا الموقف بما ورد في سفر الرؤيا: "مَن أحببتُه أوبّخه وأؤدّبه" (رؤ 3/19). بمعنى آخر، إذا كان سلوككَ سيّء، يبليكَ الله بسرطانٍ أو يرزقكَ بولدٍ معوق كي تتأدّب. أيّ عقلٍ يقبل هذا! صحيح أنّ الكتاب المقدّس يتكلّم في بعض الأحيان بهذه الطريقة، لكنّ كلام الكتاب المقدّس في هذا الشأن لا يُفهَمُ إلاّ من جوهره، ألا وهو آلام المسيح وموته وقيامته. فبانتظار الخاتمة، يعرض الكتاب المقدّس أفكارنا الواهمة عن الله، بل يعرض أفكاراً واهمة أكثر ممّا لدينا. والألم التربويّ هو واحدٌ منها إذا تصوّرنا أنّ الله يسبّبه. الأفضل هو الاعتقاد بوجود عدالةٍ تلقائيّة. إذا وضعتَ إصبعكَ في النار، يأتيكَ العقاب تلقائيّاً، ولا حاجة لقرارٍ من الله. فكلّ سلوكٍ سيّء يفسح مجالاً للاإنسانيّة قد تولّد ألماً. ولا حاجة لحكمٍ إلهيّ من أجل هذا. فالوصايا العشر والشريعة هي طرائق لاستعمال الحياة. إنّها قوائم من السلوكيّات الرديئة الواجب تفاديها إذا لن نرِد أن نولّدَ شرّاً.
ويندرج في هذا السياق مفهوم المغامرة والاحتمالات. فالّذي يسافر يغامر بحياته إذ يجعلها تحت رحمة ميكانيك المحرّكات ومزاجيّة السائق ومهارته وانتباهه ... وحادث المرور الّذي يتم، لا تخرج أسبابه عن هذه العناصر. وكذلك الأمر في عالم الصحّة والإنجاب والمهنة ... الحياة مغامرة. يمكننا بذل جهدٍ للإقلال من الخطر فيها، لكنّنا لن نستطيع أبداً إلغاء هذا الخطر تماماً. على كلّ حال، سواء كان الشرّ نابعاً عن فعلٍ عقابه تلقائيّ أو خوض مغامرةٍ باحتمالاتها، فإنّ هذا الشرّ قد يكون تربويّاً، فيجعلنا نراجع ذواتنا، ونعي أخطاءنا، وننمو في إيماننا، ونسمو في حياتنا. لكنّه قد يتمادى ويصبح مدمّراً. فحادث السيّارة الّذي يُعاقَبُ فيه سائقٌ سكران قد يقتله، ولن يستطيع بعد ذلك أن يقوّم سيرته. فسواء كان الألم تربويّاً أو لا، لا يمكننا أن نجعل الله مسبّباً لشرٍّ كهذا.
هل الألم امتحان أم محنة؟
في الكتاب المقدّس نصوص تبيّن أنّ الشرّ امتحان. وقد تبنّى الكتّاب هذه الفكرة للدفاع عن صورة اإله المحب. فالقدّيس بطرس يقول: "لا بدّ لكم من الاغتمام حيناً بما يصيبُكم من مختلف المِحَن، فيُمتحَنُ بها إيمانكم كما يُمتحَن الذهب بالنار" (1بط 1/6-7). إلاّ أنّ القدّيس يعقوب يؤكّد أنّ الله "لا يجرّب أحداَ، بل الشهوة تجرِّب الإنسان فتستهويه وتُغويه" (يع 1/13). ولعلّ أشهر الأسفار الكتابيّة الّتي تعالج هذه المسألة هو سفر أيّوب. فمع أنّ الكاتب الملهم تدارك الأمر، ولم يجعل الله يعذّب الإنسان بل الشيطان، لا يمكننا أن ننكر أنّ الله سمح بهذا الشرّ. ففي تاريخ الفكر البشريّ، يُعَدُّ سفر أيّوب أوّل مرحلةٍ من مراحل تبرئة الله من الألم.
الامتحان بالتعريف هو اختبار لمعرفة ما يكمن في داخل الشخص. الحياة تمتحننا والألم يمتحننا وموت عزيزٍ يمتحننا. يقول القدّيس يعقوب إنّ الشهوة تجرّب الإنسان فتستهويه وتغويه. وهذه الشهوة تولّد الألم والموت (يع 1/13-14، 4/1-2). فلا علاقة لله بهذا. ومع ذلك، لا نستطيع أن نقول إنّ الله غير معنيّ بالشرّ والألم. فالأمر يعنيه لأنّ ابنه خضع لمحنة الاكتئاب والألم. ففي جبل الزيتون، بعد العشاء الأخير، خضعت محبّة الله للامتحان: هل سيظلّ الله يحبّ عالماً يصلب ابنه؟ كان يجب أن تتمّ الأمور على هذا النحو لنستوعب أنّ محبّة الله غير محدودة ولا مشروطة. ولولا علاقة الله بالألم، بآلامنا وموتنا من خلال آلامه وموته، لوجدنا أنفسنا وحيدين في مواجهة الألم.
الأب سامي حلاق
فالألم في نظر الله شر. وعلينا أن نحاربه كما حاربه يسوع. إنّه ليس عقاباً ولا مالاً ندفعه لننال من الله شيئاً ولا وسيلةً تربويّة. إنّه سمة من سمات حياتنا الأرضيّة. واقعٌ لا نستطيع الفلات منه، بل نستطيع متسلّحين بنعمة الله أن نتصدّى له ونتخطّاه إن عجِزنا عن القضاء عليه. فكيف يكون هذا؟
تقديم الألم للرب
منذ زمنٍ طويل، سادت في الكنيسة روحانيّة تدعو المؤمن إلى أن يقدّم آلامه للرب. إنّه لا يقدّمها على أنّها هديّة، إذ لا يليق أن يهديَ الإنسان ما يكرهه ويمقته. إنّه يقدّم آلامه للربّ من خلال تقدمة ذاته له. ذاتٌ متألّمة تريد أن يجتاحها الله بروحه كي تتمكّن من عيش آلامها في جوٍّ من المحبّة، وتكون هذه الآلام عاملاً على النموّ في الإيمان والرجاء. بهذه الطريقة، يصبح للآلام معنىً وقيمة. وهذا ما فعله المسيح. فقد اجتاز بروح المحبّة محنة الآلام الّتي فرضها البشر عليه. "حيث كثُرَت الخطيئة فاضت النعمة" (روم 5/20). وما كان جديراً بأن يسحق يسوع جعله يعظُم، لأنّ قامة الإنسان تُقاس بمقدار محبّته.
نستطيع إذاً أن نستعمل الألم كما الفرح كي نتشبّه بالله، ونصبح على صورته. فالمسيح ينضمّ إلى آلامنا ويتألّم معنا. إنّه شريك البشريّة المتألّمة منذ أن عُلِّقَ على الخشبة. إنّه لا ينضمّ إلى المتألّم ليشرح له علّة ألمه، لأنّ السؤال: "لماذا ... لماذا أنا؟" يظلّ لغزاً. إنّه هنا ليكسر العزلة: أنا لا أتألّم وحدي، فإلهي يتألّم معي وبسببي، ومعاً سنقاوم الألم، معاً سنعطي ما أعانيه معنىً، معاً سنجتاز المحنة ونتخطّاها، معاً سنسمو على ما يؤلمني. وهو سيساعدني في كلّ هذا، يكفيني أن أثق به وأمدَّ له يدي لينتشلني من هوّة الظلمة واليأس.
إذا مهمّتنا الأولى هي القضاء على الألم. وحين يظهر على أنّه قدرٌ محتوم، علينا أن نحوّل معناه بالمحبّة. فالمحبّة الّتي قادتنا إلى مكافحته، تقودنا حينها إلى قبوله. فللمحبّة الكلمة الأخيرة. وهكذا، لا يكون للألم مستقبل لأنّ المستقبل أصبح محجوزاً لفرح المحبّة.
دور الكنيسة في مواجهة الألم
حين يعاني شخص ألماً شديداً أو مزمناً، يتحوّل ألمه إلى صرخة: "لماذا؟" بمّ تجيب الكنيسة على هذه الصرخة؟ وهل يحقّ لها الإجابة عنها؟
الكنيسة بالتعريف هي جماعة المؤمنين بيسوع المسيح. وتتألّف هذه الجماعة من مرضى ومعوقين ومصلّين ومعالجين ورعاة ولاهوتيّين ... وصرخة المتألّم ليست خارجة عن الجسد الّذي يؤلّفه هؤلاء الأعضاء، بل هي صرختهم. فالكنيسة تضمّ أعضاء يتألّمون. وكما يقول القدّيس بولس، حين يتألّم عضو، تتألّم معه سائر الأعضاء (1قور 12/26). لذلك من حقّها، بل من واجبها، أن يكون لها دور في البحث عن معنى الألم.
نجد في الإنجيل حشوداً من المتألّمين يهرعون إلى يسوع لينالوا الشفاء. وفي بعض الأحيان يحملهم أقاربهم إليه أو يتوسّطون لديه من أجلهم، بعضهم وهو يصرخ، وبعضهم الآخر يتوسّل. واليوم، نجد حشوداً مماثلة تقصد أماكن مقدّسة طالبةً الشفاء. إنّهم الكنيسة. وأوّل كلمة يقولونها هي صرخة استغاثة كلّها رجاء أن يسمع المسيح الصرخة ويحضر ليعين المستغيث.
ويردّد المصلّون هذه الاستغاثة ويطيلونها حين يأخذون على عاتقهم آلام البشر، ويتوسّلون إلى الله في شأنها ليعينهم. فيصلّون لأجل المقهورين والقلقين والمرضى واليائسين ... وحين يفعلون هذا، يتأمّلون يسوع الّذي دنا من الإنسان، وعانى الألم مثله. ويتأمّلون المصلوب ويندهشون كما اندهش أشعيا النبيّ حين رأى الابن يتخلّى عن كامل سلطانه، ويأخذ صورة العبد المتألّم، ويصبح مثل العبد. حينذاك، يصمتون دهشين، وبصمتهم يشاركون في آلام المتألّمين.
المتكلّمون بأفعالهم
منذ الأجيال الأولى للمسيحيّة، فضّل المسيحيّون العمل على الكلام. وقد أرادوا أن تتوافق أفعالهم مع ما يتأمّلونه في صلواتهم. فاقتربوا من المتألّمين وساعدوهم في محَنهم، وكانوا يرونَ فيهم حضوراً ليسوع المسيح. وقد أخبر يسوع عن هذا الحضور حين قال: كلّ ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي تفعلونه (متّى 25/40). فالمسيحيّ يرى في المتألّم حضوراً حقيقيّاً للمسيح. لذلك جعلت الكنيسة منذ سنواتها الأولى ضيافة المتألّم وإغاثته ومعالجته من أولويّات عملها في العالم. وخير برهانٍ على ذلك هو أعداد المشافي والرهبنات الّتي تهتمّ بالمتألّمين. فالمسيحيّة تميّزت بأفعالها الجذريّة في مجال الرحمة. وكان على الرعاة أن يسهروا على ديمومة هذه الأفعال في عيش الإيمان المسيحيّ من جهة، وعلى ضبط الروحانيّات التألّميّة الّتي تهمل حدث القيامة من جهةٍ أخرى.
الكنيسة لا تهتمّ بإنشاء خطابٍ في الألم، بل بجعل المتألّم يرجو أن يجد بجانبه حضوراً أخويّاً محبّاً مصغياً ومصليّاً، يتضرّع إلى الله ويسأله الرحمة لهذا المتألّم. حضور يجعل المسيح حاضراً في وسط محنة الألم. حضور يعزّي ويؤاسي بنعمةٍ سماويّة قادرة على هداية القلوب، ورسم البسمة في عمق الألم.
هل الألم عقاب؟
آمن العبرانيّون لفترةٍ طويلةٍ من الزمن بأنّ الشرّ والألم عقاب من الله يعاقب به الإنسان لسلوكه السيّء. وعلى العكس، البارّ يزهر والحكيم يغتني. ويُعتَبَرُ سفر أيّوب احتجاجاً مطوّلاً على هذا الإيمان الّذي يبرهن الواقع بطلانه. ومع ذلك، ثابر الناس عليه حتّى أيّام يسوع. فحين رأى الرسل المولود أعمى سألوا: "مَن أخطأ، أهذا أم أبواه، حتّى ولِدَ أعمى؟" (يو 9/2). إنّه سؤال حرج. وقد سعى لاهوت قديم إلى الإجابة عنه بالاعتماد على مفهوم خاص للخطيئة الأصليّة. فلا ينسب هذا المفهوم الألم إلى خطيئة الأهل، بل إلى خطيئة الجدّين الأوّلين آدم وحوّاء. في هذا اللاهوت، يبدو الله بريئاً لأنّنا ننسب الخطأ إلى الإنسان. والشرّ بمختلف أنواعه هو عقوبة من الله بسبب هذا الخطأ. لكنّ هذه النظرة لا تتوافق مع اليقين بأنّ الله محبّة، وأنّه يعبّر عن محبّته من خلال المسامحة. فهل يمكننا الكلام على المسامحة إذا كان الله يدفِّع الخاطئ الثمن؟ وهل علينا أن نسامح إذا كان الله نفسه يحاسبنا على خطيئةٍ ارتكبها جدّنا منذ مليارات السنين؟ وإذا قلنا إنّ آلام المسيح سدّدت ديون البشر تجاه الله، فهذا لا يزيل التناقض. ففكرة ضرورة الألم لإرضاء العدالة الإلهيّة مطبوعة في سلوكيّاتنا الجزائيّة، لكنّها لا تتوافق مع ما يكشفه لنا المسيح عن الله. على كلّ حال، كان يجدر بآلام المسيح بدلاً عنّا أن تعفينا من التألّم. ولكنّنا نتألّم. ونعلم أنّ الألم يصيب البريء أيضاً. فهل يا ترى عقاب الله يخطئ ولا يميّز البريء عن المذنب؟
إنّ جميع هذه الإشكاليّات نابعة من صورة الإله المتدخِّل. فإذا لم نتخلَّ عن هذه الصورة، وإذا جعلناه مسؤولاً عن آلامنا، حتّى وإن كانت عقاباً، نسقط في فخاخٍ يصعب علينا الفلات منها، ونصنع باسم العدالة الإلهيّة إلهاً ظالماً. فالكلام على الآلام العقابيّة، أو الإرضاء التكفيريّ الّذي دفعه المسيح بآلامه، يتعارض مع الوحي الإلهيّ الّذي يكشفه لنا إله يسامح بمجّانيّة. إنّه كلام ينفي مجّانيّة المحبّة ومجّانيّة النعمة، وينفي حتّة المحبّة نفسها.
الألم التربويّ
ونحن نتكلّم على الألم بهذه الطريقة، لا يخفى علينا أنّ الألم هو الوسيلة الوحيدة للنموّ. لنتخيّل مدرسةً تعلّم طلاّبها طوال السنة ولا تمتحنهم. كلّما انقضت السنة، ينتقل الطلاّب إلى الصفّ الأعلى. هل ستترسّخ المعلومات في أذهانهم كما تترسّخ في أذهان الطلاّب الّذين يجتازون الامتحانات؟ هل يتقن الإنسان النحتَ أو الرسمَ أو العزفَ أو أيّ فنٍّ من الفنون أو حرفةٍ من الحرَف، إن لم يكن معلّمه حازماً متطلّباً، وحتّى قاسياً معه؟ أليست الحاجة أمّ الاختراع؟ ألا نقصد بكلمة "حاجة" المعاناة والعوز والشعور بالأزمة والوضع الحرج؟ فالألم يحمل في ثنياته بعداً إيجابيّاً، ويتيح للإنسان فرصةً للنموّ.
على هذا الأساس، هناك مَن يخفّف مفهوم العقاب الّذي تكلّمنا عليه أعلاه، ويعتبر الألم تهذيباً والديّاً غايته تصحيح سيرتنا وتنميتنا. ويُدعَمُ هذا الموقف بما ورد في سفر الرؤيا: "مَن أحببتُه أوبّخه وأؤدّبه" (رؤ 3/19). بمعنى آخر، إذا كان سلوككَ سيّء، يبليكَ الله بسرطانٍ أو يرزقكَ بولدٍ معوق كي تتأدّب. أيّ عقلٍ يقبل هذا! صحيح أنّ الكتاب المقدّس يتكلّم في بعض الأحيان بهذه الطريقة، لكنّ كلام الكتاب المقدّس في هذا الشأن لا يُفهَمُ إلاّ من جوهره، ألا وهو آلام المسيح وموته وقيامته. فبانتظار الخاتمة، يعرض الكتاب المقدّس أفكارنا الواهمة عن الله، بل يعرض أفكاراً واهمة أكثر ممّا لدينا. والألم التربويّ هو واحدٌ منها إذا تصوّرنا أنّ الله يسبّبه. الأفضل هو الاعتقاد بوجود عدالةٍ تلقائيّة. إذا وضعتَ إصبعكَ في النار، يأتيكَ العقاب تلقائيّاً، ولا حاجة لقرارٍ من الله. فكلّ سلوكٍ سيّء يفسح مجالاً للاإنسانيّة قد تولّد ألماً. ولا حاجة لحكمٍ إلهيّ من أجل هذا. فالوصايا العشر والشريعة هي طرائق لاستعمال الحياة. إنّها قوائم من السلوكيّات الرديئة الواجب تفاديها إذا لن نرِد أن نولّدَ شرّاً.
ويندرج في هذا السياق مفهوم المغامرة والاحتمالات. فالّذي يسافر يغامر بحياته إذ يجعلها تحت رحمة ميكانيك المحرّكات ومزاجيّة السائق ومهارته وانتباهه ... وحادث المرور الّذي يتم، لا تخرج أسبابه عن هذه العناصر. وكذلك الأمر في عالم الصحّة والإنجاب والمهنة ... الحياة مغامرة. يمكننا بذل جهدٍ للإقلال من الخطر فيها، لكنّنا لن نستطيع أبداً إلغاء هذا الخطر تماماً. على كلّ حال، سواء كان الشرّ نابعاً عن فعلٍ عقابه تلقائيّ أو خوض مغامرةٍ باحتمالاتها، فإنّ هذا الشرّ قد يكون تربويّاً، فيجعلنا نراجع ذواتنا، ونعي أخطاءنا، وننمو في إيماننا، ونسمو في حياتنا. لكنّه قد يتمادى ويصبح مدمّراً. فحادث السيّارة الّذي يُعاقَبُ فيه سائقٌ سكران قد يقتله، ولن يستطيع بعد ذلك أن يقوّم سيرته. فسواء كان الألم تربويّاً أو لا، لا يمكننا أن نجعل الله مسبّباً لشرٍّ كهذا.
هل الألم امتحان أم محنة؟
في الكتاب المقدّس نصوص تبيّن أنّ الشرّ امتحان. وقد تبنّى الكتّاب هذه الفكرة للدفاع عن صورة اإله المحب. فالقدّيس بطرس يقول: "لا بدّ لكم من الاغتمام حيناً بما يصيبُكم من مختلف المِحَن، فيُمتحَنُ بها إيمانكم كما يُمتحَن الذهب بالنار" (1بط 1/6-7). إلاّ أنّ القدّيس يعقوب يؤكّد أنّ الله "لا يجرّب أحداَ، بل الشهوة تجرِّب الإنسان فتستهويه وتُغويه" (يع 1/13). ولعلّ أشهر الأسفار الكتابيّة الّتي تعالج هذه المسألة هو سفر أيّوب. فمع أنّ الكاتب الملهم تدارك الأمر، ولم يجعل الله يعذّب الإنسان بل الشيطان، لا يمكننا أن ننكر أنّ الله سمح بهذا الشرّ. ففي تاريخ الفكر البشريّ، يُعَدُّ سفر أيّوب أوّل مرحلةٍ من مراحل تبرئة الله من الألم.
الامتحان بالتعريف هو اختبار لمعرفة ما يكمن في داخل الشخص. الحياة تمتحننا والألم يمتحننا وموت عزيزٍ يمتحننا. يقول القدّيس يعقوب إنّ الشهوة تجرّب الإنسان فتستهويه وتغويه. وهذه الشهوة تولّد الألم والموت (يع 1/13-14، 4/1-2). فلا علاقة لله بهذا. ومع ذلك، لا نستطيع أن نقول إنّ الله غير معنيّ بالشرّ والألم. فالأمر يعنيه لأنّ ابنه خضع لمحنة الاكتئاب والألم. ففي جبل الزيتون، بعد العشاء الأخير، خضعت محبّة الله للامتحان: هل سيظلّ الله يحبّ عالماً يصلب ابنه؟ كان يجب أن تتمّ الأمور على هذا النحو لنستوعب أنّ محبّة الله غير محدودة ولا مشروطة. ولولا علاقة الله بالألم، بآلامنا وموتنا من خلال آلامه وموته، لوجدنا أنفسنا وحيدين في مواجهة الألم.
الأب سامي حلاق
فالألم في نظر الله شر. وعلينا أن نحاربه كما حاربه يسوع. إنّه ليس عقاباً ولا مالاً ندفعه لننال من الله شيئاً ولا وسيلةً تربويّة. إنّه سمة من سمات حياتنا الأرضيّة. واقعٌ لا نستطيع الفلات منه، بل نستطيع متسلّحين بنعمة الله أن نتصدّى له ونتخطّاه إن عجِزنا عن القضاء عليه. فكيف يكون هذا؟
تقديم الألم للرب
منذ زمنٍ طويل، سادت في الكنيسة روحانيّة تدعو المؤمن إلى أن يقدّم آلامه للرب. إنّه لا يقدّمها على أنّها هديّة، إذ لا يليق أن يهديَ الإنسان ما يكرهه ويمقته. إنّه يقدّم آلامه للربّ من خلال تقدمة ذاته له. ذاتٌ متألّمة تريد أن يجتاحها الله بروحه كي تتمكّن من عيش آلامها في جوٍّ من المحبّة، وتكون هذه الآلام عاملاً على النموّ في الإيمان والرجاء. بهذه الطريقة، يصبح للآلام معنىً وقيمة. وهذا ما فعله المسيح. فقد اجتاز بروح المحبّة محنة الآلام الّتي فرضها البشر عليه. "حيث كثُرَت الخطيئة فاضت النعمة" (روم 5/20). وما كان جديراً بأن يسحق يسوع جعله يعظُم، لأنّ قامة الإنسان تُقاس بمقدار محبّته.
نستطيع إذاً أن نستعمل الألم كما الفرح كي نتشبّه بالله، ونصبح على صورته. فالمسيح ينضمّ إلى آلامنا ويتألّم معنا. إنّه شريك البشريّة المتألّمة منذ أن عُلِّقَ على الخشبة. إنّه لا ينضمّ إلى المتألّم ليشرح له علّة ألمه، لأنّ السؤال: "لماذا ... لماذا أنا؟" يظلّ لغزاً. إنّه هنا ليكسر العزلة: أنا لا أتألّم وحدي، فإلهي يتألّم معي وبسببي، ومعاً سنقاوم الألم، معاً سنعطي ما أعانيه معنىً، معاً سنجتاز المحنة ونتخطّاها، معاً سنسمو على ما يؤلمني. وهو سيساعدني في كلّ هذا، يكفيني أن أثق به وأمدَّ له يدي لينتشلني من هوّة الظلمة واليأس.
إذا مهمّتنا الأولى هي القضاء على الألم. وحين يظهر على أنّه قدرٌ محتوم، علينا أن نحوّل معناه بالمحبّة. فالمحبّة الّتي قادتنا إلى مكافحته، تقودنا حينها إلى قبوله. فللمحبّة الكلمة الأخيرة. وهكذا، لا يكون للألم مستقبل لأنّ المستقبل أصبح محجوزاً لفرح المحبّة.
دور الكنيسة في مواجهة الألم
حين يعاني شخص ألماً شديداً أو مزمناً، يتحوّل ألمه إلى صرخة: "لماذا؟" بمّ تجيب الكنيسة على هذه الصرخة؟ وهل يحقّ لها الإجابة عنها؟
الكنيسة بالتعريف هي جماعة المؤمنين بيسوع المسيح. وتتألّف هذه الجماعة من مرضى ومعوقين ومصلّين ومعالجين ورعاة ولاهوتيّين ... وصرخة المتألّم ليست خارجة عن الجسد الّذي يؤلّفه هؤلاء الأعضاء، بل هي صرختهم. فالكنيسة تضمّ أعضاء يتألّمون. وكما يقول القدّيس بولس، حين يتألّم عضو، تتألّم معه سائر الأعضاء (1قور 12/26). لذلك من حقّها، بل من واجبها، أن يكون لها دور في البحث عن معنى الألم.
نجد في الإنجيل حشوداً من المتألّمين يهرعون إلى يسوع لينالوا الشفاء. وفي بعض الأحيان يحملهم أقاربهم إليه أو يتوسّطون لديه من أجلهم، بعضهم وهو يصرخ، وبعضهم الآخر يتوسّل. واليوم، نجد حشوداً مماثلة تقصد أماكن مقدّسة طالبةً الشفاء. إنّهم الكنيسة. وأوّل كلمة يقولونها هي صرخة استغاثة كلّها رجاء أن يسمع المسيح الصرخة ويحضر ليعين المستغيث.
ويردّد المصلّون هذه الاستغاثة ويطيلونها حين يأخذون على عاتقهم آلام البشر، ويتوسّلون إلى الله في شأنها ليعينهم. فيصلّون لأجل المقهورين والقلقين والمرضى واليائسين ... وحين يفعلون هذا، يتأمّلون يسوع الّذي دنا من الإنسان، وعانى الألم مثله. ويتأمّلون المصلوب ويندهشون كما اندهش أشعيا النبيّ حين رأى الابن يتخلّى عن كامل سلطانه، ويأخذ صورة العبد المتألّم، ويصبح مثل العبد. حينذاك، يصمتون دهشين، وبصمتهم يشاركون في آلام المتألّمين.
المتكلّمون بأفعالهم
منذ الأجيال الأولى للمسيحيّة، فضّل المسيحيّون العمل على الكلام. وقد أرادوا أن تتوافق أفعالهم مع ما يتأمّلونه في صلواتهم. فاقتربوا من المتألّمين وساعدوهم في محَنهم، وكانوا يرونَ فيهم حضوراً ليسوع المسيح. وقد أخبر يسوع عن هذا الحضور حين قال: كلّ ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي تفعلونه (متّى 25/40). فالمسيحيّ يرى في المتألّم حضوراً حقيقيّاً للمسيح. لذلك جعلت الكنيسة منذ سنواتها الأولى ضيافة المتألّم وإغاثته ومعالجته من أولويّات عملها في العالم. وخير برهانٍ على ذلك هو أعداد المشافي والرهبنات الّتي تهتمّ بالمتألّمين. فالمسيحيّة تميّزت بأفعالها الجذريّة في مجال الرحمة. وكان على الرعاة أن يسهروا على ديمومة هذه الأفعال في عيش الإيمان المسيحيّ من جهة، وعلى ضبط الروحانيّات التألّميّة الّتي تهمل حدث القيامة من جهةٍ أخرى.
الكنيسة لا تهتمّ بإنشاء خطابٍ في الألم، بل بجعل المتألّم يرجو أن يجد بجانبه حضوراً أخويّاً محبّاً مصغياً ومصليّاً، يتضرّع إلى الله ويسأله الرحمة لهذا المتألّم. حضور يجعل المسيح حاضراً في وسط محنة الألم. حضور يعزّي ويؤاسي بنعمةٍ سماويّة قادرة على هداية القلوب، ورسم البسمة في عمق الألم.
Comment