اليوم ولد لكم مخلص، هو المسيح الرب، ها هوذا الاّن يوم الخلاص
يعلمنا القديس بولس أنه من أجل أن يوطد الله السلام والشركة معه، والتوافق الاخوي بين البشر وهم الخطأة، قرر ان يدخل دخولا جديدا ونهائيا في تاريخ البشرية، فأرسل ابنه في الجسد البشري، لكي ينجي به البشر من سلطان الظلمات، ويصالح به العالم، ويجعلنا ايضا ورثة يجدد به كل شيء، كما انه يعلمنا أنه حين كنا قاصرين كنا في حكم اركان العالم عبيدا، فلما تم ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا لامراة، مولودا في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني، وهذا كله بفضل الروح، روح الاب والابن الذي لا تجديد بدونه، والدليل على كونكم ابناء الله ارسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: يا أبت فلست بعد عبدا بل ابن، واذا كنت ابنا فانت وارث بفضل الله.
فالمسيح يسوع أرسله الله الى العالم وسيطا حقيقيا بينه وبين البشر، وبما انه الله، فيه يحل جميع كمال الألوهية حلولا جسديا، وهو في طبيعته أدم الجديد، وهكذا جاء ابن الله عن طريق التجسد الحقيقي حتى يشركنا نحن البشر في الطبيعة الالهية، وهذا ما يميز المسيحية في العمق من حيث محبة الله وايمانه بالانسان، ويصل القديس بولس الى ذروة التعليم عن التجسد حين يقول: ان المسيح في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد وصار على مثال البشر، ظهر في هيئة انسان فوضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب.
أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت مريم أمه مخطوبه ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس، فيوسف رجلها اذ كان بارا, ولم يشأ أن يشهر بها، فاراد تخليتها سرا، ولكن فيما هو يفكر في هذه الامور، اذ ملاك الرب ظهر له في الحلم قائلا: يا يوسف ابن داؤد لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك، لان الذي حبل بها هو من الروح القدس، فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لانه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعون اسمه عمانوئيل، فلما استيقظ يوسف من الحلم، فعل كما امره ملاك الرب، واخذ امرأته، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع.
هناك في بيت لحم ولدت العذراء ابنها البكر، وقمطته واضجعته في المذود، اذ لم يكن لهما موضع في المضافة، لتتحقق كلمات الملوك والكهنة والانبياء، وضعت العذراء ابن العلي عمانوئيل لتتحقق نبؤة اشعياء القائل ولد من يحصي الشعوب. ولد ابن الله وابن مريم لانه ولد من الاب قبل كل الدهور، وولد من العذراء بالجسد وصار كواحد منا ما عدا الخطيئة، ولد بكر الاب وبكر مريم وصار ابا لكثيرين بالنعمة، ونحن نؤمن بذلك، ومن هنا يقول القديس يوحنا: كل روح يعترف بيسوع المسيح انه قد جاء بالجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح انه قد جاء من الجسد فليس من الله.
ولد يسوع ابن الانسان قبل اكثر من الفي عام، وكانت علامة المجوس طفلا مقمطا مضجعا في مذود، وعاش حياته على ارضنا، كما اعلن وهو بعمر اثني عشرة سنة انه لا شي له، وانه ينبغي ان يكون لأبيه، فرح مع الفرحين وشارك في عرس قانا الجليل، وجلس على الماّدب مع مدعويه، وحزن مع الحزانى، فبكي على لعازر وعلى مصير اورشليم لخرابها، وغضب لتدنيس الهيكل، وخاف من الموت، وصلى حتى تزول عنه هذه الكأس، وأحب خاصته حتى انه بذل نفسه من اجلها.
في هذا اليوم يتجسد الرب باسم عجيب، ويتراءى طفل نبت مثل فرع في ارض عطشى، وما كان خفيا صار جليا، وبميلاده يسطع نجم لامع، ويتجلى نور ملوكي، ويخرج راع من افراته مدينة الملوك كما تنبأ ميخا، وعصاه تقود النفوس، ويطلع كوكب خارج من يعقوب، ويقوم رئيس في اسرائيل، وتتفسر يذلك نبؤة بلعام وحكم سليمان والمزمور الذي انشده داؤد.
اليوم الكلمة صار جسدا، وسكن بيننا، وحل فينا بيسوع المولود من امة الرب بقوة الروح القدس، مريم العذراء التي قبلت برضاها التام بشرى الخلاص، بعد ان تبينت بوضوح سر هذا التدبير الالهي للخلاص، وجاء ابنها الى الارض، لنرى مجده مجدا من لدن الاب لابن وحيد ملؤه النعمة والحق، جاء ليرفعنا الى السماء، ومن اجلنا افتقر العالم وهو الغني، لكي نستغني نحن بفقره. اليوم الكلمة الذي هو الله صار بشرا وسكن بيننا وراينا مجده مجدا من لدن الاب لابن وحيد ملؤه النعمة والحق، ارسله الاب انسانا والها شبيها بنا ما عدا الخطيئة مفتقدا شعبه كي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية.
نعم في بيت لحم ولد يسوع، وقد اعلنت الملائكة سر ميلاده للرعاة والمجوس، ولد المخلص وابن الانسان، ولد المسيح ابن داؤد ابن ابراهبم، ولد ابن ادم ابن الله، ولد الانسان الجديد ادم الثاني ليعيد البشرية كلها الى البنوة الالهية، ولد تحقيقا لايمان الله بالانسان ولنحظى بالتبني بعد ان كنا قاصرين، ولد الوسيط الحقيقي بين الله والبشر، ولد وكل ملء اللاهوت حال فيه جسديا، وروح الرب عليه ممسوحا ومرسلا ليبشر المساكين وليشفي منسحقي القلوب، مناديا للماسورين بالتخلية وللعميان بالبصر، ولد ابن البشر ليطلب ما قد هلك ويخلصه.
ان ميلاد المسيح حدث سماوي بامتياز، حقق حلم الانسان كما جاء على لسان اشعيا النبي مخاطبا الله: انك لاله محتجب يا اله اسرائيل المخلص، ليتك تشق السموات وتنزل، انه اختيار الله لمريم التي نالت حظوة وبركة عنده، انه عيد التنوع العجيب بولادة الطفل يسوع، انه اشتراك الملائكة ممثلين عن اهل السماء، ثم الرعاة ممثلي الفقراء، وكذلك المجوس ممثلي الاغنياء والعلماء والاشراف والامم الوثنية، ثم سمعان الشيخ ممثل الاسرائيلين الاتقياء، وحنه ممثلة الانبياء، والنجم ممثل الطبيعة غير العاملة.
اليوم تغير معنى الخلق، وتبدلت مقاييس العالم، وتغيرت مسيرة التاريخ، وتبينت غاية الحياة، وتوضحت نهاية كل شي، منذ ان بشرنا الملاك كما بشر الرعاة بميلاد المخلص، الملك الاّتي الى مملكته، الانسان الجديد، ليطرح اللعنة عنا ويفتدينا، ولنحظى بالتبني، وليعيد البشرية كلها الى البنوة الالهية ويجددها بفيض روحه القدوس، منتزعا منها سلطان الظلمة والشيطان، وليصالحنا مع الله.
ان ميلاد يسوع من مريم العذراء يعتبر من جهة اللاهوت تجسدا، بمعنى ان المسيح المولود بالرغم من كونه انسانا ذا جسد طبيعي ونفس طبيعية الا ان له وجود الهي شخصي سابق لميلاده، وعقيدة التجسد تعتبر الاساس اللاهوتي الذي يقوم عليه كل الايمان بالمسيح وباعماله الخلاصية من موت وقيامة وصعود الى السماء وكما يعتبرها القديس يوحنا هي المحك الوحيد الذي يكشف الايمان الصحيح من الايمان المزيف.
في يوم ميلادك يا شمس البر والعدل والسلام والنور،علينا ان نولد معك فلا نغضب ولا ننتقم ولا نوزع احزاننا ولا نمارس العنف ولا نقترف الخطيئة بكل اشكالها، بل ليكن يوم ميلادك يوم الغفران والمسامحة والاخوة والوداعة والفرح والصلاة والسلام، وليكن يوم ميلادك ايضا مناسبة مقدسة للتجدد نمتلىء فيها نعمة من عند الرب كما امتلات امك القديسة مريم سيدة النساء بهذه النعمة، فتعال يا رب بيننا واجعل لك من قلوبنا مسكنا.
يا طفل السلام ثبت سلامك في ضمائرنا، ويا طفل المحبة ازرع محبتك في قلوبنا، يا طفل الفرح اجعلنا نشع فرحا في كل ايام حياتنا، يا طفل الرجاء قو ايماننا فيك لندرك انه بميلادك صالحت الارض مع السماء ورفعت البشرية من الموت الى الحياة، وبالتالي نفرح بميلادك كما فرح الرعاة ونسجد لك ونقدم لك ذواتنا كما سجد لك المجوس وقدموا لك هداياهم النفيسة.
ولا ننسى في هذا العيد الا ان نهنئ سيدتنا مريم العذراء باب البر وباب الرب، التي حملت يسوع الذي هو سلامنا في احشائها، بهذه النعمة الالهية التي قبلتها طواعية، وبهذا المولود منها عمانوئل الذي تفسيره الله معنا، ونسلم عليها ونطوبها مدى الاجيال طالبين شفاعتها لدى ابنها الحبيب، لانه بفضل استحقاقاتها وشفاعتها ندخل في النعمة والصداقة العميقة مع المسيح ابنها ونصل الى الخلاص الابدي.
واما نحن البشر فعلينا ان نستيقظ، ونفتح قلوبنا، ونبدل حياتنا، وننطلق من الخوف الى الرجاء، كما يتوجب علينا فهم معاني عيد الميلاد على انه عيد الاخوة البشرية، عيد سكنى الله معنا، عيد يتجدد فيه الانسان، انه عيد الفرح وعيد الشكر نقدم اليك يا طفل المغارة فقرنا لكي تغنينا بفقرك، كما نقدم لك الشكر على عامنا الذي انقضى برعايتك واضعين في مغارتك عامنا الجديد الذي لا نعرف عنه شيئا، نضعه بثقة وايمان، اّملين ان يتوقف العنف وسفك الدماء البريئة، وكما ورد في الكتاب: يكون ثمر العدل سلاما، فلا ترفع امة على امة سيفا، ولا يتعلمون الحرب من بعد، ويعيش شعبي في بهاء السلام.
وأخيرا فان القديس بولس يطالبنا كبشر مشابهين لصورة الابن، الذي هو البكر بين اخوة كثيرين، ان نشهد لتجسده ونجعله موجودا بقوة في قلوبنا وفي العالم، وان نفرح بالرب في كل حين، ونتقبل بواكير الروح، لتجعلنا قادرين على انجاز شريعة المحبة الجديدة.
المسيح ولد لنا هلموا نسجد له مسبحين مع جمهور الجند السماوي: المجد لله في الاعالي وعلى الارض السلام وبالناس المسرة، وكل عام ويسوع يولد في قلوبنا جميعا لننعم بالخير والنعمة والسعادة والسلام.
بقلم بسام دعيبس
Comment