تدبير الله الكلمة في الجسد
1.الشجرة الحسنة إنما تعرف من ثمرها، فكيف لا تكون والدة الصلاح ومولدة الحسن الأزلي إذا أرفع شأنا بصلاحها من كل ما في العالم ومما فوق العالم؟ ذلك لأن القوة التي صنعت كل شيء، أيقونة الصلاح الأزلية والكلمة الكائن قبل الأزل الفائق الجوهر والفائق الصلاح، قد شاء في محبته للبشر التي لا توصف ورأفة بنا أن يلبس صورتنا، ليعيد طبيعتنا التي نزلت إلى أعماق الجحيم ويجددها بعد أن عتقت، ويصعدها إلى علو ملكوته وألوهيته الذي يفوق السماوات. شاء أن يتحد إذا بطبيعتنا بحسب الأقنوم وكان محتاجا من ثم إلى جبلة جسدية وإلى بشرة جديدة تكون في الوقت عينه بشرتنا نحن لكي يجددنا، ولذلك كان محتاجا إلى حبل شبيه بحبلنا، وإلى ولادة شبيهة بولادتنا، وإلى تغذية بعد الولادة وتصرف يتناسب وإيانا، صائرا بالتالي على شبهنا لأجلنا.
وهكذا وجد له أمة ملائمة هي العذراء الدائمة البتولية مريم لتمنحه من نفسها طبيعة لم يلحق بها دنس، وهي التي نسبحها اليوم مقيمين تذكار دخولها العجيب إلى قدس الأقداس، إذ سبق الله فعينها من قبل الدهور لأجل خلاص جنسنا وإعادته، مختارا إياها من بين جميع المختارين المشهود لهم بالتقوى والحكمة والأخلاق الحسنة قولا وفعلا.
سقوط آدم
2. في البدء قامت ضدنا الحية العقلية رئيسة الشرور فرمتنا في ظلمات الجحيم، وذلك لأسباب عديدة. فلقد قامت ضدنا واستعبدت طبيعتنا من جراء حسدها وغيرتها وكراهيتها وظلمها وغشها وخبثها، فضلا عن قوة الموت الكامنة فيها، ذلك الموت الذي تولد وحده ما إن أدار الشيطان وجهه عن الحياة الحقيقية.
في البدء أفسدت الحية آدم لما رأته عائشا في فردوس النعيم متلألئا بالمجد الإلهي، موجها من الأرض إلى السماء، وبحسد رديء منها أرادت اقتياده إلى الموت نفسه بعد أن سقط هو بعدل من ذلك النعيم. ذلك أن الحسد (أو الشهوة) ليس هو أب الكراهية وحسب، بل وهو مسبب القتل أيضا.
هذا ما جلبته إلينا الحية بغش من جراء كراهيتها لجنس البشر، إذ قد أخذت بحب التسلط عليه عن ظلم من أجل تحطيم ذاك الذي خلق على صورة الله ومثاله. ولما لم يكن في وسعها أن تواجهه على نحو مباشر، استخدمت إزاءه الغش. فقاربه الشيطان العدو من ثم بنصيحته اللطيفة الغاشة عن طريق الحية الحسية، وذلك ليسكب مشورته في الإنسان كسم يهدف إماتته.
الحاجة إلى آدم جديد
3. لو تمسك آدم بالوصية الإلهية طارحا المشورة الرديئة العدوة لظهر غالبا الفساد المميت ومنتصرا على العدو الغاش، إلا أنه تنازل للعدو بإرادته وعصى الوصية فانغلب وسقط. ولما كان هو أصل جنسنا جعلنا من ثم فروعا مائتة، فأصبحنا في عوز إلى النهوض من السقطة، وإلى استخراج السم من جسدنا ونفسنا حتى تمتع بالحياة الأبدية وعدم التألم وعدم الاشتهاء من جديد.
إذا أصبح جنسنا في عوز إلى جذر جديد، إلى آدم جديد لا يموت بل ولا يغلب أيضا، قادر على غفران الخطايا وتبرير المذنبين. صار في عوز إلى من هو حي ومحيي ليعطي الحياة لمن يلتصقون به ويتشبهون به، معيدا إلى الحياة لا اللاحقين وحسب بل والسابقين المائتين أيضا.
4. لذلك بولس الرسول قيثارة الروح قائلا: "صار آدم الإنسان الأول نفسا حية وآدم الأخير روحا محييا: (1 كور 15: 45).
والحال أن ليس بإمكان أحد أن يكون بلا خطيئة محييا قادرا على غفران الخطايا إلا الله وحده. لذلك وجب على آدم الجديد أن يكون إلها أيضا لا مجرد إنسان، فهو حياة وحكمة وعدل ومحبة ورأفة وكل صلاح بحيث يستطيع أن يجدد آدم القديم برحمة وحكمة وعدل، لا سيما أن الحية العقلية أصل الشر قد استخدمت ما يناقض كل ذلك لكي تسقطنا في العتاقة والموت.
تدبير الخلاص
5.في البدء ناهضنا قاتل الإنسان بدافع من الحسد والكراهية، وبعدها بادر إلينا رئيس الحياة بدافع من محبته للبشر وصلاحه، هو الذي أحب خلاص جبلته بعدل معيدا إليها ما كان لديها من السلطان، فيما أحب رئيس الشر هلاك خليقة الله بظلم مستعبدا إياها ومتسلطا عليها. فلقد تغلب الشرير على الإنسان وأسقطه بغش وظلم وخداع وخبث، أما المحرر فبعدل وحكمة وحق قد أتم غلبته النهائية على الشر ممجدا جبلته. إذا ثمة حكمة كبيرة كامنة وراء هذا التدبير الإلهي كله، إلا أنني لن أستفيض في تفاصيل هذا الموضوع في الوقت الحاضر.
التجسد
6. لقد كان من العدل أن تقوم الطبيعة المستعبدة نفسها وأن تنهض بإرادتها لمحاربة الشرير في سبيل الغلبة وإقصاء العبودية، ولذلك ارتضى الله أن يتخذ منا طبيعتنا حينما اتحد بها أقنوميا على منوال عجيب. ولكن، كان من المستحيل على تلك الطهارة العلوية الفائقة العقل أن تتحد بطبيعتنا المدنسة، إذ ثمة شيء واحد يستحيل على الله: أن يتحد بالدنس قبل تطهيره. ولذا كان في عوز إلى عذراء بلا عيب طاهرة لتحبل بذاك الذي كان معشوقها ومنبع الطهارة وتلده. وهكذا عينت العذراء مسبقا، ثم ظهرت فتم فيها السر عن طريق حوادث كثيرة عجيبة تلخصت في حدث أخير واحد.
7. ولهذا الحدث الذي انتهت إليه الأمور كلها نعيد اليوم، لا سيما وأن عظمة الأحداث تدرك من نتيجتها. فالذي هو من الله وإلى الله، الذي هو الله وكلمة الله وابن الآب العلي، الذي هو معه في عدم البداءة والأزلية هو نفسه يصبح ابن الإنسان، ابن العذراء الدائمة البتولية. والحال أن "يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 13: 8) لا يتغير بحسب ألوهيته، ولا عيب فيه بحسب إنسانيته. "هو هو وحده" كما سبق وشهد عنه إشعيا قائلا: "لم يصنع خطيئة ولم يوجد في فمه غش" (إشعيا 53: 9). بل ولم يحبل به أيضا في الإثم، كما ولم يولد في الخطايا، على نحو ما يشهد به داود في المزامير لنفسه ولكل إنسان، بحيث يكون طاهرا بلا عيب ولا حاجة إلى تطهير في ذاته، وحتى يزودنا بالطهارة من ثم مقتبلا الآلام والموت والقيامة.
الولادة بلا عيب ولا فساد
إن الشهوة في سبيل الولادة تلقائية في الواقع، وغالبا ما لا تخضع لناموس العقل على الرغم من جهاد البعض ضدها ومن سعي البعض الآخر إلى حدوثها بصورة طبيعية من أجل الإنجاب.
بيد أن هذه الشهوة تحمل في ذاتها سمات الحكم على طبيعتنا منذ البدء ولذلك تدعى فسادا وتولد فسادا بدورها. إنها ميل شهواني عند الإنسان الذي لم يحفظ الكرامة التي تلقتها طبيعتنا من الله، مما جعله يتشبه بالبهائم.
8. ولذا لم يكتف الله بأن يحل بين البشر، بل ورد من عذراء طاهرة قديسة، بل وفائقة الطهارة والقداسة. ذلك أنها ليست بتولا منزهة عن كل دنس بشري وحسب، بل ومنزهة عن كل الأفكار الجسدية الدنسة أيضا، هذا وإن تدخل الروح القدس هو الذي أعطى الحبل (لا شهوة الجسد)، وذلك عن طريق البشارة والإيمان بتأنس الله الذي يفوق كل عقل، بل الذي لا يعقل ولا يقبل تنازلا أو اختبارا لشهوة بشرية. فلقد حبلت العذراء وولدت مقصية عنها بالكلية شهوة كهذه، وذلك عن طريق الصلاة والبشاشة الروحية إذا قالت للملاك المبشر: "ها أنذا أمة للرب ليكن لي بحسب قولك" (لوقا 1: 38)، وصارت من ثم بتولا مهيأة لكل هذا بعد أن سبق الله فعينه منذ الدهر مصطفيا إياها من بين المختارين، وهذه هي الفتاة الدائمة البتولية التي نسبحها الآن.
اختيار شيت
9. وانظر من أين بدأ الاختيار. فلقد اختار الله شيئا من بين أبناء آدم، إذ كان يتحلى بجمال الأخلاق وضبط الحواس وبهاء الفضائل، فبدا من ثم سماء حية وأحرز الاختيار الذي ستبرز منه العذراء كمركبة لائقة بالله السماوي لإعادة البشر إلى البنوة السماوية.
10. ولما كان الكل قد دعوا أبناء الله ابتداء من شيت (تك 4: 26) كان على ابن الله من ثم أن يصير ابن الإنسان منذ ذلك الجيل، لا سيما وأن الاسم يعني لغويا "قيامة"، أو بالأحرى "من قيامة" مما يشير إلى وعد الرب بالحياة الأبدية التي سيمنحها للمؤمنين به. فكم كان الرمز مطابقا للاسم: "وقد أصبح شيت بالنسبة إلى حواء بدل هابيل الذي قتله أخوه قايين" (تك 4: 25).
هكذا المسيح المولود من العذراء أيضا قد تجسد بديلا عن آدم الذي قتله رئيس الشرور حسدا. غير أن شيئا لم يقيم هابيل من الموت بل كان مجرد رمز للقيامة، وأما يسوع فقد أقام آدم لأنه كان حياة الناس وقيامتهم. ومن هنا نفهم كيف استحق حلفاء شيت النبوة الإلهية وكيف دعوا على الرجاء ومن ثم أبناء الله.
11. إذا بدأ الاختيار من أبناء آدم الذي منه ستأتي العذراء والدة الإله مرورا بالملك داود النبي وأعقاب ذريته عبر الأجيال، وهذا التدبير الإلهي هو الذي جعل الله يختار من بيت داود وذريته كلا من يواكيم وحنة، الذين كانا عاقرين، عائشين بخوف الله، ساهرين على عمل الفضيلة كما يليق بسلالة داود. وكان هذان الزوجان يطلبان إلى الله بالنسك والصلاة أن يحل عقرهما واعدين بأن يفرزا لله الطفل المولود، فاستجاب الله لطلبهما وولدت من ثم الطفلة أم الله من والدين تقيين، وهذه اكتسبت بدورها الحكمة إلى جانب النسك والصلاة لتصير والدة البتولية، فولدت بحسب الجسد وبلا فساد من هو مولود من الآن قبل الدهور بحسب الألوهية، لا سيما وأنها كانت متطايرة بالصلاة ومتنغمة بدالة كبيرة لدى الله.
الدخول إلى الهيكل
12. عن طريق الصلاة إذا حصل الوالدان على طلبهما وعاينا تحقيق الوعد، فأسرعا من ثم ليوفيا النذر كونهما صفيين لله. فبعد الفطام حالا أتيا بالطفلة العذراء والدة الإله إلى هيكل الله حيث رئيس الكهنة، وكانت الطفلة ممتلئة نعمة منذ ذلك السن حتى إنها كانت تعي ما كان يجري أمام عينيها وتعبر قدر استطاعتها عن حرية انقيادها وعن تقدمها الطوعي إلى الله، كما لو كانت مأخوذة بالعشق الإلهي مشتهية هذا الدخول والسكنى في قدس الأقداس.
13. لقد فهم رئيس الكهنة أن الطفلة حاصلة على النعمة أكثر من الجميع، فأقامها من ثم في المكان الذي هو أفضل من أي مكان آخر، مدخلا إياها إلى قدس الأقداس ومعلما الكل توقير العذراء التي كانت تتغذى بقوت إلهي يحضره إليها ملاك، والذي به كانت تنمو في جسدها على نحو أجزل طهرا ونقاء وسموا من القوات العادمي الأجساد. إذا كان الملائكة يخدمونها، هي التي لم تدخل الهيكل من تلقاء نفسها بل التي اجتذبها إليه الله نوعا ما لتسكن معه سنوات عدة إلى أن انفتحت الأخدار السماوية وقدمت للمؤمنين هيكلا إلهيا بمولودها العجيب.
14. لقد أودعت اليوم في الأقداس كذخيرة إلهية هذه الطفلة المختارة بين المختارين منذ الدهر، التي كان جسدها أكثر طهارة من الأرواح المطهرة بالفضيلة، حتى إنها أضحت رمزا للأقوال الإلهية وحسب، بل ومسكنا أيضا لأقنوم الكلمة الابن الوحيد نفسه الذي للآب غير المولود.
هذه الوديعة في حينها كزينة غنية تفوق العالم، ولذلك يمجد أمه قبل الولادة وبعد الولادة أيضا،
وأما نحن فإذ نفهم معنى الخلاص الذي يتهيأ عن طريقها فنقدم لها الشكر والتسبيح كله.
هكذا حين سمعت المرأة المذكورة في الإنجيل الأقوال الخلاصية طوبت والدة الإله مؤدية لها الشكر جهارا وقائلة للرب: "طوبى للبطن الذي حملك وللثديين الذين رضعتهما" (لوقا 11: 27).
ونحن الحائزون على أقوال الحياة مكتوبة أمامنا، ومعها العجائب والآلام، وإقامة جنسنا من الأموات، وإصعادها إلى السماء، والحياة الأبدية الموعود بها، والخلاص المنتظر كيف لا نواصل التسبيح والتطويب الآن لمن ولدت معطي الخلاص ومانح الحياة، عند الحبل بها وعند ولادتها وعند دخولها إلى الأقداس؟
15. إذا فلننقل أيها الأخوة أنفسنا نحن: أيضا من الأرض إلى السماء، ومن الجسديات إلى الروحيات. لننقل شوقنا من العابرات إلى الباقيات، ولنزدر بالملذات الجسدية التي تطعن بالنفس وتعبر بسرعة. فلنشته الهبات الروحية التي تبقى بلا فساد، ولنرفع ذهننا من الصخب مرتقين به إلى السماوات، إلى قدس الأقداس حيث تسكن والدة الإله.
16. هكذا سنقدم لها نشائدنا بدالة كبيرة، وهكذا سنصبح بشفاعاتها ورثاء للخيرات الباقية بنعمة الرب يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذي ولد منها لأجلنا والذي به يليق المجد والإكرام والسجود مع أبيه الذي لا بدء له وروحه الكلي قدسه الصانع الحياة، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين.
من كتاب أناجيل ورسائل الأعياد السيدية والثابتة رقم 5
منقول...
1.الشجرة الحسنة إنما تعرف من ثمرها، فكيف لا تكون والدة الصلاح ومولدة الحسن الأزلي إذا أرفع شأنا بصلاحها من كل ما في العالم ومما فوق العالم؟ ذلك لأن القوة التي صنعت كل شيء، أيقونة الصلاح الأزلية والكلمة الكائن قبل الأزل الفائق الجوهر والفائق الصلاح، قد شاء في محبته للبشر التي لا توصف ورأفة بنا أن يلبس صورتنا، ليعيد طبيعتنا التي نزلت إلى أعماق الجحيم ويجددها بعد أن عتقت، ويصعدها إلى علو ملكوته وألوهيته الذي يفوق السماوات. شاء أن يتحد إذا بطبيعتنا بحسب الأقنوم وكان محتاجا من ثم إلى جبلة جسدية وإلى بشرة جديدة تكون في الوقت عينه بشرتنا نحن لكي يجددنا، ولذلك كان محتاجا إلى حبل شبيه بحبلنا، وإلى ولادة شبيهة بولادتنا، وإلى تغذية بعد الولادة وتصرف يتناسب وإيانا، صائرا بالتالي على شبهنا لأجلنا.
وهكذا وجد له أمة ملائمة هي العذراء الدائمة البتولية مريم لتمنحه من نفسها طبيعة لم يلحق بها دنس، وهي التي نسبحها اليوم مقيمين تذكار دخولها العجيب إلى قدس الأقداس، إذ سبق الله فعينها من قبل الدهور لأجل خلاص جنسنا وإعادته، مختارا إياها من بين جميع المختارين المشهود لهم بالتقوى والحكمة والأخلاق الحسنة قولا وفعلا.
سقوط آدم
2. في البدء قامت ضدنا الحية العقلية رئيسة الشرور فرمتنا في ظلمات الجحيم، وذلك لأسباب عديدة. فلقد قامت ضدنا واستعبدت طبيعتنا من جراء حسدها وغيرتها وكراهيتها وظلمها وغشها وخبثها، فضلا عن قوة الموت الكامنة فيها، ذلك الموت الذي تولد وحده ما إن أدار الشيطان وجهه عن الحياة الحقيقية.
في البدء أفسدت الحية آدم لما رأته عائشا في فردوس النعيم متلألئا بالمجد الإلهي، موجها من الأرض إلى السماء، وبحسد رديء منها أرادت اقتياده إلى الموت نفسه بعد أن سقط هو بعدل من ذلك النعيم. ذلك أن الحسد (أو الشهوة) ليس هو أب الكراهية وحسب، بل وهو مسبب القتل أيضا.
هذا ما جلبته إلينا الحية بغش من جراء كراهيتها لجنس البشر، إذ قد أخذت بحب التسلط عليه عن ظلم من أجل تحطيم ذاك الذي خلق على صورة الله ومثاله. ولما لم يكن في وسعها أن تواجهه على نحو مباشر، استخدمت إزاءه الغش. فقاربه الشيطان العدو من ثم بنصيحته اللطيفة الغاشة عن طريق الحية الحسية، وذلك ليسكب مشورته في الإنسان كسم يهدف إماتته.
الحاجة إلى آدم جديد
3. لو تمسك آدم بالوصية الإلهية طارحا المشورة الرديئة العدوة لظهر غالبا الفساد المميت ومنتصرا على العدو الغاش، إلا أنه تنازل للعدو بإرادته وعصى الوصية فانغلب وسقط. ولما كان هو أصل جنسنا جعلنا من ثم فروعا مائتة، فأصبحنا في عوز إلى النهوض من السقطة، وإلى استخراج السم من جسدنا ونفسنا حتى تمتع بالحياة الأبدية وعدم التألم وعدم الاشتهاء من جديد.
إذا أصبح جنسنا في عوز إلى جذر جديد، إلى آدم جديد لا يموت بل ولا يغلب أيضا، قادر على غفران الخطايا وتبرير المذنبين. صار في عوز إلى من هو حي ومحيي ليعطي الحياة لمن يلتصقون به ويتشبهون به، معيدا إلى الحياة لا اللاحقين وحسب بل والسابقين المائتين أيضا.
4. لذلك بولس الرسول قيثارة الروح قائلا: "صار آدم الإنسان الأول نفسا حية وآدم الأخير روحا محييا: (1 كور 15: 45).
والحال أن ليس بإمكان أحد أن يكون بلا خطيئة محييا قادرا على غفران الخطايا إلا الله وحده. لذلك وجب على آدم الجديد أن يكون إلها أيضا لا مجرد إنسان، فهو حياة وحكمة وعدل ومحبة ورأفة وكل صلاح بحيث يستطيع أن يجدد آدم القديم برحمة وحكمة وعدل، لا سيما أن الحية العقلية أصل الشر قد استخدمت ما يناقض كل ذلك لكي تسقطنا في العتاقة والموت.
تدبير الخلاص
5.في البدء ناهضنا قاتل الإنسان بدافع من الحسد والكراهية، وبعدها بادر إلينا رئيس الحياة بدافع من محبته للبشر وصلاحه، هو الذي أحب خلاص جبلته بعدل معيدا إليها ما كان لديها من السلطان، فيما أحب رئيس الشر هلاك خليقة الله بظلم مستعبدا إياها ومتسلطا عليها. فلقد تغلب الشرير على الإنسان وأسقطه بغش وظلم وخداع وخبث، أما المحرر فبعدل وحكمة وحق قد أتم غلبته النهائية على الشر ممجدا جبلته. إذا ثمة حكمة كبيرة كامنة وراء هذا التدبير الإلهي كله، إلا أنني لن أستفيض في تفاصيل هذا الموضوع في الوقت الحاضر.
التجسد
6. لقد كان من العدل أن تقوم الطبيعة المستعبدة نفسها وأن تنهض بإرادتها لمحاربة الشرير في سبيل الغلبة وإقصاء العبودية، ولذلك ارتضى الله أن يتخذ منا طبيعتنا حينما اتحد بها أقنوميا على منوال عجيب. ولكن، كان من المستحيل على تلك الطهارة العلوية الفائقة العقل أن تتحد بطبيعتنا المدنسة، إذ ثمة شيء واحد يستحيل على الله: أن يتحد بالدنس قبل تطهيره. ولذا كان في عوز إلى عذراء بلا عيب طاهرة لتحبل بذاك الذي كان معشوقها ومنبع الطهارة وتلده. وهكذا عينت العذراء مسبقا، ثم ظهرت فتم فيها السر عن طريق حوادث كثيرة عجيبة تلخصت في حدث أخير واحد.
7. ولهذا الحدث الذي انتهت إليه الأمور كلها نعيد اليوم، لا سيما وأن عظمة الأحداث تدرك من نتيجتها. فالذي هو من الله وإلى الله، الذي هو الله وكلمة الله وابن الآب العلي، الذي هو معه في عدم البداءة والأزلية هو نفسه يصبح ابن الإنسان، ابن العذراء الدائمة البتولية. والحال أن "يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 13: 8) لا يتغير بحسب ألوهيته، ولا عيب فيه بحسب إنسانيته. "هو هو وحده" كما سبق وشهد عنه إشعيا قائلا: "لم يصنع خطيئة ولم يوجد في فمه غش" (إشعيا 53: 9). بل ولم يحبل به أيضا في الإثم، كما ولم يولد في الخطايا، على نحو ما يشهد به داود في المزامير لنفسه ولكل إنسان، بحيث يكون طاهرا بلا عيب ولا حاجة إلى تطهير في ذاته، وحتى يزودنا بالطهارة من ثم مقتبلا الآلام والموت والقيامة.
الولادة بلا عيب ولا فساد
إن الشهوة في سبيل الولادة تلقائية في الواقع، وغالبا ما لا تخضع لناموس العقل على الرغم من جهاد البعض ضدها ومن سعي البعض الآخر إلى حدوثها بصورة طبيعية من أجل الإنجاب.
بيد أن هذه الشهوة تحمل في ذاتها سمات الحكم على طبيعتنا منذ البدء ولذلك تدعى فسادا وتولد فسادا بدورها. إنها ميل شهواني عند الإنسان الذي لم يحفظ الكرامة التي تلقتها طبيعتنا من الله، مما جعله يتشبه بالبهائم.
8. ولذا لم يكتف الله بأن يحل بين البشر، بل ورد من عذراء طاهرة قديسة، بل وفائقة الطهارة والقداسة. ذلك أنها ليست بتولا منزهة عن كل دنس بشري وحسب، بل ومنزهة عن كل الأفكار الجسدية الدنسة أيضا، هذا وإن تدخل الروح القدس هو الذي أعطى الحبل (لا شهوة الجسد)، وذلك عن طريق البشارة والإيمان بتأنس الله الذي يفوق كل عقل، بل الذي لا يعقل ولا يقبل تنازلا أو اختبارا لشهوة بشرية. فلقد حبلت العذراء وولدت مقصية عنها بالكلية شهوة كهذه، وذلك عن طريق الصلاة والبشاشة الروحية إذا قالت للملاك المبشر: "ها أنذا أمة للرب ليكن لي بحسب قولك" (لوقا 1: 38)، وصارت من ثم بتولا مهيأة لكل هذا بعد أن سبق الله فعينه منذ الدهر مصطفيا إياها من بين المختارين، وهذه هي الفتاة الدائمة البتولية التي نسبحها الآن.
اختيار شيت
9. وانظر من أين بدأ الاختيار. فلقد اختار الله شيئا من بين أبناء آدم، إذ كان يتحلى بجمال الأخلاق وضبط الحواس وبهاء الفضائل، فبدا من ثم سماء حية وأحرز الاختيار الذي ستبرز منه العذراء كمركبة لائقة بالله السماوي لإعادة البشر إلى البنوة السماوية.
10. ولما كان الكل قد دعوا أبناء الله ابتداء من شيت (تك 4: 26) كان على ابن الله من ثم أن يصير ابن الإنسان منذ ذلك الجيل، لا سيما وأن الاسم يعني لغويا "قيامة"، أو بالأحرى "من قيامة" مما يشير إلى وعد الرب بالحياة الأبدية التي سيمنحها للمؤمنين به. فكم كان الرمز مطابقا للاسم: "وقد أصبح شيت بالنسبة إلى حواء بدل هابيل الذي قتله أخوه قايين" (تك 4: 25).
هكذا المسيح المولود من العذراء أيضا قد تجسد بديلا عن آدم الذي قتله رئيس الشرور حسدا. غير أن شيئا لم يقيم هابيل من الموت بل كان مجرد رمز للقيامة، وأما يسوع فقد أقام آدم لأنه كان حياة الناس وقيامتهم. ومن هنا نفهم كيف استحق حلفاء شيت النبوة الإلهية وكيف دعوا على الرجاء ومن ثم أبناء الله.
11. إذا بدأ الاختيار من أبناء آدم الذي منه ستأتي العذراء والدة الإله مرورا بالملك داود النبي وأعقاب ذريته عبر الأجيال، وهذا التدبير الإلهي هو الذي جعل الله يختار من بيت داود وذريته كلا من يواكيم وحنة، الذين كانا عاقرين، عائشين بخوف الله، ساهرين على عمل الفضيلة كما يليق بسلالة داود. وكان هذان الزوجان يطلبان إلى الله بالنسك والصلاة أن يحل عقرهما واعدين بأن يفرزا لله الطفل المولود، فاستجاب الله لطلبهما وولدت من ثم الطفلة أم الله من والدين تقيين، وهذه اكتسبت بدورها الحكمة إلى جانب النسك والصلاة لتصير والدة البتولية، فولدت بحسب الجسد وبلا فساد من هو مولود من الآن قبل الدهور بحسب الألوهية، لا سيما وأنها كانت متطايرة بالصلاة ومتنغمة بدالة كبيرة لدى الله.
الدخول إلى الهيكل
12. عن طريق الصلاة إذا حصل الوالدان على طلبهما وعاينا تحقيق الوعد، فأسرعا من ثم ليوفيا النذر كونهما صفيين لله. فبعد الفطام حالا أتيا بالطفلة العذراء والدة الإله إلى هيكل الله حيث رئيس الكهنة، وكانت الطفلة ممتلئة نعمة منذ ذلك السن حتى إنها كانت تعي ما كان يجري أمام عينيها وتعبر قدر استطاعتها عن حرية انقيادها وعن تقدمها الطوعي إلى الله، كما لو كانت مأخوذة بالعشق الإلهي مشتهية هذا الدخول والسكنى في قدس الأقداس.
13. لقد فهم رئيس الكهنة أن الطفلة حاصلة على النعمة أكثر من الجميع، فأقامها من ثم في المكان الذي هو أفضل من أي مكان آخر، مدخلا إياها إلى قدس الأقداس ومعلما الكل توقير العذراء التي كانت تتغذى بقوت إلهي يحضره إليها ملاك، والذي به كانت تنمو في جسدها على نحو أجزل طهرا ونقاء وسموا من القوات العادمي الأجساد. إذا كان الملائكة يخدمونها، هي التي لم تدخل الهيكل من تلقاء نفسها بل التي اجتذبها إليه الله نوعا ما لتسكن معه سنوات عدة إلى أن انفتحت الأخدار السماوية وقدمت للمؤمنين هيكلا إلهيا بمولودها العجيب.
14. لقد أودعت اليوم في الأقداس كذخيرة إلهية هذه الطفلة المختارة بين المختارين منذ الدهر، التي كان جسدها أكثر طهارة من الأرواح المطهرة بالفضيلة، حتى إنها أضحت رمزا للأقوال الإلهية وحسب، بل ومسكنا أيضا لأقنوم الكلمة الابن الوحيد نفسه الذي للآب غير المولود.
هذه الوديعة في حينها كزينة غنية تفوق العالم، ولذلك يمجد أمه قبل الولادة وبعد الولادة أيضا،
وأما نحن فإذ نفهم معنى الخلاص الذي يتهيأ عن طريقها فنقدم لها الشكر والتسبيح كله.
هكذا حين سمعت المرأة المذكورة في الإنجيل الأقوال الخلاصية طوبت والدة الإله مؤدية لها الشكر جهارا وقائلة للرب: "طوبى للبطن الذي حملك وللثديين الذين رضعتهما" (لوقا 11: 27).
ونحن الحائزون على أقوال الحياة مكتوبة أمامنا، ومعها العجائب والآلام، وإقامة جنسنا من الأموات، وإصعادها إلى السماء، والحياة الأبدية الموعود بها، والخلاص المنتظر كيف لا نواصل التسبيح والتطويب الآن لمن ولدت معطي الخلاص ومانح الحياة، عند الحبل بها وعند ولادتها وعند دخولها إلى الأقداس؟
15. إذا فلننقل أيها الأخوة أنفسنا نحن: أيضا من الأرض إلى السماء، ومن الجسديات إلى الروحيات. لننقل شوقنا من العابرات إلى الباقيات، ولنزدر بالملذات الجسدية التي تطعن بالنفس وتعبر بسرعة. فلنشته الهبات الروحية التي تبقى بلا فساد، ولنرفع ذهننا من الصخب مرتقين به إلى السماوات، إلى قدس الأقداس حيث تسكن والدة الإله.
16. هكذا سنقدم لها نشائدنا بدالة كبيرة، وهكذا سنصبح بشفاعاتها ورثاء للخيرات الباقية بنعمة الرب يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذي ولد منها لأجلنا والذي به يليق المجد والإكرام والسجود مع أبيه الذي لا بدء له وروحه الكلي قدسه الصانع الحياة، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين.
من كتاب أناجيل ورسائل الأعياد السيدية والثابتة رقم 5
منقول...
Comment