مفهوم الإيمان عند كيركجارد
موضوع الإيمان لا يمكن أن يكون إلا مفارقة (ظاهري التناقض Paradox)، إذ أن الإيمان هو أساسا إيمان بالمعجزة، إيمان بالسر الغامض، باللغز الذي لا يمكن أن يُحل.
إن المعرفة شئ يختلف تماماً عن الإيمان، فعندما أقول أن الحديد يتمدد بالحرارة، أو الماء يتبخر بعد الغليان… الخ. فهذه موضوعات "معرفة" لكنها لا تحتاج إلى"إيمان" لأن "الإيمان مخاطرة"، ومن ثم فهو مسئولية، ومن هنا جاء قول القديس بولس: "طوبى لمن آمن ولم ير…". أن الإيمان الحقيقي لا يعتمد على الرؤية حسية كانت أم عقلية. وإنما يقوم على "اللايقين" الذي هو العلاقة الحقيقية الأصلية على يقين الإيمان.
إذا كان علينا أن نؤمن بما هو "ضد الفهم"، أو بما يعارض المنطق التقليدي وقوانينه، فإننا بحاجة إلى أن نربط هذا الإيمان ربطاً أساسياً بالإرادة. غير أن الارتباط بين الإرادة والإيمان قد يثير مشكلة جديدة تتعلق بالعلاقة بين الإيمان والنعمة. فكيركجورد يركز أحيانا على دور النعمة واللطف الإلهي في تطور إيمان الفرد، لكنه يعتقد في أحيان أخرى، أن مثل هذا الموقف يتعارض مع فهمه للذات البشرية، ذلك أنه من الأهمية البالغة أن تكون هذه الذات "مسئولة" عن قرارها الحر الخاص بالإيمان، وهنا تتحول فكرة "النعمة" لتصبح غير ضرورية. فهل يعتمد الإيمان على النشاط الإرادي الحر أم على النعمة؟
والحق أننا نستطيع أن نقول أن كيركجارد يذهب إلى أن الإيمان هو نتيجة للاثنين معاً: النعمة الإلهية من ناحية، والنشاط الإرادي الحر من ناحية أخرى. ذلك أن كيركجارد يعتقد أن خطيئة الإنسان تبعد إمكان الغبطة الأزلية (المثول الدائم للإنسان أمام الله) ما لم يكن هناك فعل الهي يعيد إتاحة هذا الإمكان من جديد، وهو يعتقد كما سبق أن رأينا أن هذا الفعل الإلهي يتجلى في التجسد، ومعنى ذلك أن التجسد هو فعل الله الخاص بالنعمة، فلو لم يقم الله أولا بفعل التجسد لبقى الإنسان في الخطيئة ولبعد عن الغبطة، فالفعل الإلهي الخاص بتجسد الله في المسيح الذي هو النعمة – شرط ضروري لكنه ليس كافياً لخلاص الفرد، لأن التحقق النهائي للغبطة لابد أن يأتي عن الطريق استجابة الفرد بقرار حر للإيمان بالتجسد. فالإيمان يظل مقيداً بإرادة الفرد.
وكلما تأملنا موضوع الإيمان ظهرت لنا أهمية الإرادة وما تقوم به من دور رئيسي ذلك لأن الإيمان، كما سبق أن رأينا، إيمان بالمفارقات لا سيما المفارقة الكبرى، المفارقة المطلقة ألا وهي التجسد، ولا يمكن أن يُقدَم للفرد أي ضرب من اليقين العقلي حتى يؤمن بهذه المفارقات.
ومن ثم فليس ثمة سبيل "للمعرفة" - وإذا كان هناك دور، أي دور للمعرفة، فهو أن "تـُعّرفنا" أن المفارقة المطلقة لا يمكن "معرفتها"؛ كما يقول كيركجارد: "من واجب الفهم البشرى أن يفهم أن هناك أموراً لا يمكن أن تـُفهَم.
وأن يعرف ما هي هذه الأمور؟ لكن الفهم البشرى لا يشغل نفسه، وعلي نحو مبتذل، إلا بما يمكن أن يُفهَم مع انه لو أجهد نفسه قليلا لاعترف بالمفارقة". فليس ثمة شئ يدعم به الفرد حركة الإيمان. ومن هنا يذهب كيركجارد إلى أن هذه المفارقة المطلقة تتطلب من الفرد اتخاذ قرار مطلق، لأن إيمانه لا يعتمد على مبرارات عقلية، ولا شواهد أو بينات أو وقائع تاريخية، بل يعتمد على قوة إرادته فحسب، أنه "يريد أن يؤمن". ومن هنا جاء التشبيه المشهور الذي يستخدمه كيركجارد لحركة الإيمان عندما يصفها بأنها "قفزة" أو وثبة Leap يقوم بها الفرد بإرادته الحرة وباختياره الإيجابي.
غير أن هناك سؤالين هامين يبرزان في هذا السياق:
الأول: ما الذي يدفع المرء إلى حركة الإيمان؟ أو بمعنى آخر ما الذي يجعله يؤمن بعبث هذه المفارقة الكبرى؟ ويجيب كيركجارد بأن الدافع هو سعي المرء إلى بلوغ غبطته الأزلية، انه يريد أن يصل إلى النفس المطمئنة، إلى الذات التي تخلو من الاضطرابات السابق ذكرها (اليأس، والقلق، والخطية).
وهكذا نجد أن الرغبة في الخلاص تخلق عند الذات اهتماماً قوياً، ودافعاً أساسيا للحركة نحو الإيمان، بحيث تبدو حركة الفرد إلى الخلاص عن طريق الإيمان تعبيراً عن أمله في تحقق ذاته الأصلية وعلاجاً لأمراض الذات الماضية.
والسؤال الثاني: الذي يظهر هنا هو: لم كانت حركة الإيمان "وثبة"؟ ولما يصفها كيركجارد بأنها "مخاطرة"؟
أما أنها "وثبة" فالأمر في غاية الوضوح لأن حركة الإيمان لا تعبر عن نتيجة منطقية سبقتها مقدمات أدت إليها، ليس ثمة براهين ولا تسلسل منطقي.
وهذه الوثبة، للأسباب السابقة نفسها، عبارة عن مخاطرة، لأنك تؤمن بموضوع بغير دليل ولا برهان، فليس هناك يقين للإيمان. ومن هنا نجد "لوثر" يصف الإيمان بأنه "اختيار بلا راحة؟". انه "الخطر الجميل!" كما يسميه كيركجارد لأننا لسنا أمام أمور تدعو إلى الشك والريبة، بل أمام ضروب من منافاة العقل والمحال Absurd ولو كانت هناك حقيقة مؤكدة لما أصبح الأمر يدعو إلى إيمان، كما يقول كيركجارد: "لأن الحقيقة الرياضية هي يقين مؤكد، ولهذا السبب تجدها محايدة أو غير مبالية. والحقيقة التي يعلمها القساوسة للناس هي من هذا القبيل، لأنها تزعم لنفسها مثل هذا اليقين –ومن هنا فأن على أولئك الذين يفضلون اليقين أن يظلوا مع القساوسة، أما نحن فليس عندنا سوى يقين واحد هو: أن نعرف أننا أمام مخاطرة مطلقة."
موضوع الإيمان لا يمكن أن يكون إلا مفارقة (ظاهري التناقض Paradox)، إذ أن الإيمان هو أساسا إيمان بالمعجزة، إيمان بالسر الغامض، باللغز الذي لا يمكن أن يُحل.
إن المعرفة شئ يختلف تماماً عن الإيمان، فعندما أقول أن الحديد يتمدد بالحرارة، أو الماء يتبخر بعد الغليان… الخ. فهذه موضوعات "معرفة" لكنها لا تحتاج إلى"إيمان" لأن "الإيمان مخاطرة"، ومن ثم فهو مسئولية، ومن هنا جاء قول القديس بولس: "طوبى لمن آمن ولم ير…". أن الإيمان الحقيقي لا يعتمد على الرؤية حسية كانت أم عقلية. وإنما يقوم على "اللايقين" الذي هو العلاقة الحقيقية الأصلية على يقين الإيمان.
إذا كان علينا أن نؤمن بما هو "ضد الفهم"، أو بما يعارض المنطق التقليدي وقوانينه، فإننا بحاجة إلى أن نربط هذا الإيمان ربطاً أساسياً بالإرادة. غير أن الارتباط بين الإرادة والإيمان قد يثير مشكلة جديدة تتعلق بالعلاقة بين الإيمان والنعمة. فكيركجورد يركز أحيانا على دور النعمة واللطف الإلهي في تطور إيمان الفرد، لكنه يعتقد في أحيان أخرى، أن مثل هذا الموقف يتعارض مع فهمه للذات البشرية، ذلك أنه من الأهمية البالغة أن تكون هذه الذات "مسئولة" عن قرارها الحر الخاص بالإيمان، وهنا تتحول فكرة "النعمة" لتصبح غير ضرورية. فهل يعتمد الإيمان على النشاط الإرادي الحر أم على النعمة؟
والحق أننا نستطيع أن نقول أن كيركجارد يذهب إلى أن الإيمان هو نتيجة للاثنين معاً: النعمة الإلهية من ناحية، والنشاط الإرادي الحر من ناحية أخرى. ذلك أن كيركجارد يعتقد أن خطيئة الإنسان تبعد إمكان الغبطة الأزلية (المثول الدائم للإنسان أمام الله) ما لم يكن هناك فعل الهي يعيد إتاحة هذا الإمكان من جديد، وهو يعتقد كما سبق أن رأينا أن هذا الفعل الإلهي يتجلى في التجسد، ومعنى ذلك أن التجسد هو فعل الله الخاص بالنعمة، فلو لم يقم الله أولا بفعل التجسد لبقى الإنسان في الخطيئة ولبعد عن الغبطة، فالفعل الإلهي الخاص بتجسد الله في المسيح الذي هو النعمة – شرط ضروري لكنه ليس كافياً لخلاص الفرد، لأن التحقق النهائي للغبطة لابد أن يأتي عن الطريق استجابة الفرد بقرار حر للإيمان بالتجسد. فالإيمان يظل مقيداً بإرادة الفرد.
وكلما تأملنا موضوع الإيمان ظهرت لنا أهمية الإرادة وما تقوم به من دور رئيسي ذلك لأن الإيمان، كما سبق أن رأينا، إيمان بالمفارقات لا سيما المفارقة الكبرى، المفارقة المطلقة ألا وهي التجسد، ولا يمكن أن يُقدَم للفرد أي ضرب من اليقين العقلي حتى يؤمن بهذه المفارقات.
ومن ثم فليس ثمة سبيل "للمعرفة" - وإذا كان هناك دور، أي دور للمعرفة، فهو أن "تـُعّرفنا" أن المفارقة المطلقة لا يمكن "معرفتها"؛ كما يقول كيركجارد: "من واجب الفهم البشرى أن يفهم أن هناك أموراً لا يمكن أن تـُفهَم.
وأن يعرف ما هي هذه الأمور؟ لكن الفهم البشرى لا يشغل نفسه، وعلي نحو مبتذل، إلا بما يمكن أن يُفهَم مع انه لو أجهد نفسه قليلا لاعترف بالمفارقة". فليس ثمة شئ يدعم به الفرد حركة الإيمان. ومن هنا يذهب كيركجارد إلى أن هذه المفارقة المطلقة تتطلب من الفرد اتخاذ قرار مطلق، لأن إيمانه لا يعتمد على مبرارات عقلية، ولا شواهد أو بينات أو وقائع تاريخية، بل يعتمد على قوة إرادته فحسب، أنه "يريد أن يؤمن". ومن هنا جاء التشبيه المشهور الذي يستخدمه كيركجارد لحركة الإيمان عندما يصفها بأنها "قفزة" أو وثبة Leap يقوم بها الفرد بإرادته الحرة وباختياره الإيجابي.
غير أن هناك سؤالين هامين يبرزان في هذا السياق:
الأول: ما الذي يدفع المرء إلى حركة الإيمان؟ أو بمعنى آخر ما الذي يجعله يؤمن بعبث هذه المفارقة الكبرى؟ ويجيب كيركجارد بأن الدافع هو سعي المرء إلى بلوغ غبطته الأزلية، انه يريد أن يصل إلى النفس المطمئنة، إلى الذات التي تخلو من الاضطرابات السابق ذكرها (اليأس، والقلق، والخطية).
وهكذا نجد أن الرغبة في الخلاص تخلق عند الذات اهتماماً قوياً، ودافعاً أساسيا للحركة نحو الإيمان، بحيث تبدو حركة الفرد إلى الخلاص عن طريق الإيمان تعبيراً عن أمله في تحقق ذاته الأصلية وعلاجاً لأمراض الذات الماضية.
والسؤال الثاني: الذي يظهر هنا هو: لم كانت حركة الإيمان "وثبة"؟ ولما يصفها كيركجارد بأنها "مخاطرة"؟
أما أنها "وثبة" فالأمر في غاية الوضوح لأن حركة الإيمان لا تعبر عن نتيجة منطقية سبقتها مقدمات أدت إليها، ليس ثمة براهين ولا تسلسل منطقي.
وهذه الوثبة، للأسباب السابقة نفسها، عبارة عن مخاطرة، لأنك تؤمن بموضوع بغير دليل ولا برهان، فليس هناك يقين للإيمان. ومن هنا نجد "لوثر" يصف الإيمان بأنه "اختيار بلا راحة؟". انه "الخطر الجميل!" كما يسميه كيركجارد لأننا لسنا أمام أمور تدعو إلى الشك والريبة، بل أمام ضروب من منافاة العقل والمحال Absurd ولو كانت هناك حقيقة مؤكدة لما أصبح الأمر يدعو إلى إيمان، كما يقول كيركجارد: "لأن الحقيقة الرياضية هي يقين مؤكد، ولهذا السبب تجدها محايدة أو غير مبالية. والحقيقة التي يعلمها القساوسة للناس هي من هذا القبيل، لأنها تزعم لنفسها مثل هذا اليقين –ومن هنا فأن على أولئك الذين يفضلون اليقين أن يظلوا مع القساوسة، أما نحن فليس عندنا سوى يقين واحد هو: أن نعرف أننا أمام مخاطرة مطلقة."
من فلسفة كيركجارد عن الإيمان
نقلاً من د. إمام عبد الفتاح إمام
في كتابه عن "كيركجارد"
نقلاً من د. إمام عبد الفتاح إمام
في كتابه عن "كيركجارد"
Comment