سلام المسيح مع الجميع واسمحوا لي ان اقدم ما يقوله الكتاب عن حقيقة خلق الكون حسب مفهوم الكتاب المقدس فقط بعيدا عن النظريات والاستنتاجات غير الصحيحة وبالطبع قرأنا كثيرا عن هذا الموضوع ولكن يجب ان تقرأه بشكل صحيح لنعرف ماذا يقول الكتاب عن حقيقة الخلق والنظريات المعاصرة والقائلين بنظرية خلق الكون على مر العصور وهل الكون بالفعل خلق في فترات زمنية تمتد الى ملايين ومليارات السنين ؟؟
ام ان الله خلق الكون خلق فجائي ؟؟
تعالى لنتعرف ما يقوله الكتاب عن هذه النظرية :
ووطبيعة الخلق في الكتاب المقدس
إزاء كل المحاولات لتفسير أصل العالم بتعابير عمليات طبيعية بحتة، يصرّح الكتاب المقدس أن الله خَلَقَ كل الأشياء بشكل فائق للطبيعة. بكلمات أخرى، أتى العالم إلى الوجود بطريقة مختلفة كلياً عن أي شيء يمكن أن يُلاحَظ في الكون الحالي. في هذه الأيام لا شيء على الإطلاق يُخلَق بشكل مباشر بمعزل عن مواد موجودة مسبقاً، ويعبّر العلماء عن هذه الحقيقة الأساسية بواسطة القانون الأول للديناميكا الحرارية (الترموديناميك) (thermodynamics) (أي أن الطاقة لا يمكن أن تُخلق ولا أن تفنى). الخلق الحقيقي ما عاد يتحقق كما حدده الكتاب المقدس بوضوح (التكوين 2: 1 – 3). عمل الله بالحفظ يُبقي الكون في الوجود (عبرانيين 1: 3)، وعمله في العناية الإلهية يوجّه الكونَ نحو أهداف مجيدة (كولوسي 1: 20)، لكن عمله في الخلق بما يتعلق بالكون الحالي قد اكتمل.
ولذلك فعندما "صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا" (خروج 20: 11؛ 31: 17؛ نحميا 9: 6)، فعل ذلك بدون استخدام لأي مواد موجودة مسبقاً من أي نوع كانت. في لحظة ما لم يكن هناك أي مادة في أي مكان؛ في اللحظة التالية، ظهرت السماوات والأرض إلى الوجود. هذا ما دعاه اللاهوتيون (الخلق من لا شيء) creatio ex nihilo، وهذه العبارة مفيدة إذا فهمناها بمعنى أن الموجودات المادية خُلقت من مصادر غير مادية من قدرة الله الكلية. فنياً: العبارة تنطبق فقط على خلق المواد غير العضوية لأن الله استخدم سابقاً مواد غير عضوية مخلوقة في تشكيل أجسام الأشياء الحية. ومع ذلك، حتى في هذه الحالة، كما سوف نرى، كان الخلق تماماً فائق الطبيعة.
حقيقةُ أن الخلق كان فوق طبيعي تعني، من بين أشياء أخرى، بأنه يمكن أن يُفهم بالعقل البشري فقط من خلال قناة الوحي الخاص. الله وحده فقط يستطيع أن يخبرنا كيف ابتدأ العالم، لأنه لم يكن هناك أي شخص ليرى كيف كان يجري الخلق، وحتى لو كان هناك مراقب بشري موجود، ما كان ليفهم بشكل كامل ماذا رأى بمعزل عن تفسير الله ذاته. قال الله لأيوب: "اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ" (أيوب 38: 3– 4).
على كل حال، إن الصعوبة لدينا في إدراك عقيدة الخلق ليست ناتجة عن حقيقة أننا محدودون بل عن حقيقة أننا خاطئون. "وَلَكِنَّ الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (1 كورنثوس 2: 14). هناك بضعة عقائد في الكتاب المقدس تبدو للإنسان الطبيعي أكثر جهالةً من الخلق الفوق الطبيعي، لأن هكذا أحداث لا تجري اليوم. ولكن الخلق بالتأكيد هو أحد الأمور الأعظم والأهم في "مَا لِرُوحِ اللهِ"، إذ بدونه يسقط الكتاب المقدس والمسيحية ويتناثر إلى أشلاء. إن أزلتَ هذه العقيدة (الأساس) تنهار البنية الفوقية بالكامل.
لذلك فمن المهم للغاية أن نقارب الأصحاحات الأولى من سفر التكوين على هدى النور الذي يعطينا إياه الله نفسه من خلال الشهادة الكاملة التي يقدمها في الكتاب المقدس. بل، وكما أن الله أمر موسى أن يخلع نعليه لأن المكان الذي كان يقف فيه كان مقدساً، هكذا أيضاً علينا أن نلقي جانباً مفاهيمنا عما يمكن أن يكون قد حدث أو لم يحدث، وأن نقف في حضرة الله، على استعداد لأن نسمع ونؤمن بما شاء باختياره أن يخبرنا به عن الخلق.
هكذا خضوع غير مشروط لسلطان كلمة الله، بالطبع، ليس من سمة يومنا، حتى بين المسيحيين. لقد حذّر بولس (المؤمنين) قائلاً: "...لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ" (2 تيموثاوس 4: 3- 4).
إحدى هذه "الأساطير" التي نؤمن بها هي أن الله لم يخلق العالم بشكل فائق للطبيعة، بل من خلال عمليات طبيعية، بعنايته الإلهية، عبر فترات زمنية كبيرة جداً. هذه إنما خرافة، ليس فقط لأنها تتناقض مع الكتاب المقدس، بل لأنها تتناقض مع عمليات الكون التي يمكن رصدها ومعاينتها.
في السنوات الأخيرة أتت إلينا شهادة لافتة للانتباه من كتابات علماء هم موضع احترام وتقدير كبيرين قد رأوا أن مفهوم النشوء، بوجهه الأوسع، يقوم على أساس هش. يلاحظ ج. أ. كيركوت الذي من قسم الفيزيولوجيا والكيمياء الحيوية في جامعة ساوثمبتون، على سبيل المثال أن النشوئيين غالباً ما يكتبون وكأن "آراءهم قد جاءت إليهم بنوع من الوحي". وعلى الرغم من "الثغرات والهنّات الكثيرة" في نظامهم، إلا أنها "تُؤخذ بثقة كبيرة" وبـ "قبول أعمى" و"إغلاق للعينين" عن حقائق كثيرة هامة، وهذا يكشف عن "تعجرف" أكثر منه روحٍ علميةٍ حقيقية ولقد أدت المحاولات لسد الثغرة بين اللافقاريات والفقاريات، على سبيل المثال، إلى نوع من "الأدب القصصي ذي الخيال العلمي"، أكثر منه إلى الاكتشاف واحتمال أن الحياة قد بدأت أولاً بشكل تلقائي كـ "مسألة إيمان عند عالم الأحياء.
في تقديمه لكتاب داروين "أصل الأنواع" في مجلة "مكتبة الجميع" (1956)، يوضح و. ر. ثومبثون ما يلي:
"دعاة الداروينية الوجوديون المعاصرون مضطرون، كمثل أسلافهم وداروين أحدهم، إلى أن يميّعوا الحقائق بفرضيات ثانوية، مقبولة ظاهرياً في طبيعة أشياء لا يمكن إثباتها.... ويُترك القارئ ولديه الإحساس بأن البيانات لا تدعم النظرية كما يُفترض... هذا الوضع، حيث انبرى أهل العلم إلى الدفاع عن عقيدة لا يستطيعون أن يبرهنوا عنها علمياً، يُظهر ضعفَ الدقة العلمية، في محاولتهم الحفاظ على مصداقيتهم أمام العامة وذلك بقمع النقد وإزالة الصعوبات، وهذا أمر غير سوي وغير مرغوب به في العلم
قبل عدة سنوات، قال العالم الوراثي الرائد ريتشارد ب. غولدشمت (1878- 1958):
"هذا التكرار المستمر لهذا الادعاء غير المبرهن عنه (التغير الأحيائي الصغير للنشوء)، يموه قليلاً عن الصعوبات، واتخاذ موقف متعجرف نحو أولئك الذين لا يُستمالون بسهولة بالطرق السائدة في العلم، يُعتبر وكأنه تقديم دليل علمي إلى العقيدة.
كوكب الأرض:
إن الأرض الأولى، كما كانت لتُرى من الفضاء الخارجي قبل الطوفان الكبير، كانت مختلفة تماماً عن شكلها ومظهرها الحالي. في المقام الأول، لا بد أنها كانت أكثر حيوية مما هي عليه الآن، إذ لم يكن هناك غطاء سديمي يُبهت البحار الزرقاء المتألقة. وبالدرجة الثانية، لم يكن هناك قمم قطبية بيضاء أو مناطق صحراوية بنية ضاربة إلى الاحمرار، لأن حياة نباتية خضراء كثيفة كانت تغطي تقريباً كل المناطق اليابسة، حتى في المناطق القطبية (كما بينت مستودعات الفحم الكثيفة المكتشفة في جبال أنتاركتيكا). وثالثاًً، على الأرجح أن القارات كانت مختلفة تماماً في الشكل والموضع عنها حالياً. فبعض المناطق التي هي الآن فوق مستوى البحر كانت تقبع تحت المحيط يوماً ما.
يعتقد كثير من دارسي الكتاب المقدس أنه كانت هناك كتلة كبيرة واحدة فقط تحيط بالبحار قبل الطوفان، لأن زوجاً من كل نوع من الحيوانات ذات النفس دخلت إلى فلك نوح (تك 6: 20؛ 7: 8). من الممكن أيضاً، أنه لو وُجدت أكثر من قارة واحدة، فإن ممثلين عن كل أنواع الحيوانات كانوا ليعيشوا على القارة حيث شُيّد فلك نوح. إن فكرة "انجراف" القارات إلى مواضعها الحالية تواجه اعتراضات جيوفيزيائية كبيرة ولا يؤيدها الكتاب المقدس (تك 10: 25) لا بد أنها تشير إلى انقسام الأمم بعد الدينونة في برج بابل؛ (تك 10: 5، 20، 32).
يوضح ج. ج. ديوفاني. دو دويت الذي من قسم علم الحيوان في جامعة أورانج فري ستيت إلى أن "الصدع الثنائي" بين المعرفة العلمية (المتعلقة بالانفصال بين أنواع الأحياء) والإيمان الذي يفوق العلم (في التواصل النشوئي) يبلغ إلى "صدع في الوعي عند عالم الأحياء شخصياً".ومن هنا، فإن نظرية النشوء العامة على اعتبارها ضد الإيمان، قد ناقضتها، على نحو مطرد، حقائقُ ووقائعُ العلم التجريبي خلال القرن الماضي. وإن المسيحيين الذين يقبلون الشهادة الواضحة للكتاب المقدس فيما يتعلق بالصفة الفائقة الطبيعة في الخلق الأصلي لهم ثقة بأن حقائق العلم الحقيقية، رغم قمعها كثيراً من قِبَلِ النشوئيين وإساءة تفسيرهم لها، سوف يتبين في النهاية أنها تنسجم مع الكتاب المقدس". "مضامين النشوء" (نيويورك: منشورات بيرغامون، 1960)، ص 154، 155.
إن خلق الكون الفلكي لم يكن فقط من العدم (ex nihilo) كما ورد في (عبرانيين 11: 3)
بل كان أيضاً، وبنفس هذه الحالة، فجائياً، أي بشكل مفاجىء وفوري. ولذلك فإن نشوءه لم يكن تلقائياً أو ذاتياً. إن المفهوم النشوئي في التكوين التدريجي لعناصر أثقل فأثقل عبر مليارات السنين تستبعدها تصريحات الكتاب المقدس.
بالدرجة الأولى، إن التأثير المباشر الفوري لكلمة الله الخلاقة نجد تأكيداً شديداً عليه عند كاتب المزامير: "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا... لِتَخْشَ الرَّبَّ كُلُّ الأَرْضِ وَمِنْهُ لِيَخَفْ كُلُّ سُكَّانِ الْمَسْكُونَةِ. لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ" (المزمور 33: 6- 9). انظر أيضاً مزمور 148: 1 – 6).
بالتأكيد لا مجال هنا لفكرة تطور تدريجي، أو تحقيق لأوامر الله على مدى طويل، خطوة فخطوة. تكوين على مدى طويل وخطوة فخطوة. وفي الحقيقة، من غير الممكن أن نتخيل وجود فاصل زمني خلال عملية التحول من العدم (اللا وجود) المطلق إلى الوجود.
على نفس المنوال نجد الآية: "... قال الله ليكن نور، فكان نور" (تكوين 1: 3). ففي لحظة، لم يكن هناك نور على الإطلاق في أي مكان في الكون. وفي اللحظة التالية، وُجِدَ النور. حدث الخلق المحدد هذا دراماتيكي مذهل جداً لدرجة أن العهد الجديد يقارنه بـ "فجائية" و"فوق طبيعية" الاهتداء الروحي: "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2 كورنثوس 4: 6؛ 5: 17). والله قادر أيضاً على أن يقيم "فجأة" الميت جسدياً، لأنه الله الذي "يَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ" (رومية 4: 17). ولعله يمكن أن نجزم بكل ثقة أن فكرة "الظهور الفجائي" تغلب على كل رواية الخلق (تكوين 1: 3، 12، 16، 21، 25، 27؛ 2: 7، 19، 22).هناك كثيرون اليوم ممن ينكرون هذا المفهوم الكتابي الهام بدافع الاحترام للمتطلبات المزعومة للعلم التجريبي. ولكن ليس في العلم التجريبي أي شيء على الإطلاق يمنع الإله الحي, الذي يحفظ عمليات "العلم التجريبي", التي يمكن ملاحظتها وقياسها, في يده لحظة بعد لحظة, من أن يغيّر طرقه من زمن إلى زمن ليحقق مقاصده الأبدية للبشر. من منظور كتابي, وأيضاً كما يتبدّى في الصفحات التالية, إن الدليل قوي جداً على أن برامج الله الخَلْقية والافتدائية تتميز بأحداث ابتدائية فائقة الطبيعة.
في نفس الوقت, لابدّ من التأكيد على أن أعمال الله الخَلْقية الفائقة الطبيعة ومعجزاته ذات الدلالة لم يُقصد بها في الكتاب المقدس أن تُقلّص مجد الله في أعماله التدبيرية غير المعجزية في التاريخ البشري (دانيال 4: 17؛ وسفر استيرإن الفرق بين هذين النوعين من الظهورات أو التجليات لتحكّم الله المطلق بعالمه هو في غاية الأهمية. إن المعجزة والعناية التدبيرية ليستا متطابقتين ولا يجب الخلط بينهما. الحمل بربنا يسوع المسيح, مثلاً, كان بآنٍ معاً مفاجئاً وفائقاً للطبيعة بينما كانت ولادته بنتيجة عملية تدريجية وطبيعية جرت تحت عناية الله وتدبيره. إن كان الحمل بالمسيح يُفهم كعملية تدبيرية أكثر منها معجزية, فإن التجسد يصير أمراً مرفوضاً وتنهار المسيحية (اقرأ 1 يوحنا 4: 3؛ 2 يوحنا 7). على نفس المنوال، إن كانت الأحداث الواردة في تكوين 1- 2 تُفهم على أنها تدبيرية أكثر منها معجزية, فإن رواية الخلق الكتابية, لا تُعدّل وحسب, بل إنها تتدمّر.
إن الخلق من العدم يشير بشكل أساسي إلى الملائكة (اُنظر كولوسي 1: 16), والكون الفلكي (بكل تعقيدات الأجرام المرئية وحقول القوة غير المنظورة فيه), وهذا الكوكب. على كل حال, عندما خلق الله الكائنات الحية على الأرض, شكّلها فجأة من مواد لا عضوية مخلوقة مُسبقاً. ولهذا أَمَرَ المياهَ أن تنتج مخلوقات مائية وطائرة في اليوم الخامس. مهما يكن, فإن الماء, بحد ذاته, حتى في حضور أشعة الشمس, ما كان ليمكنه أبداً أن ينتج (ولو خلال مليارات السنين) هكذا حيوانات بالغة التعقيد. وللسبب نفسه, فإن المياه التي استخدمها ربُّنا في عرس قانا الجليل (اُنظر يوحنا 2: 1- 11) ما كان ليمكن أبداً أن تتحول إلى خمر, حتى ولو تبخّر بتدخل نشوئي في تلك الأجاجين الحجرية لمليارات السنين. في كلتا الحالتين، ظهرت الكينونات المعقدة على نحو مفاجئ, حتى ولو كانت قد بُنيت على مواد سابقة الوجود عادمة الحياة. ومن هنا فإن حقيقة أن الله أمر الأرض أن تُخرج أشجاراً لا تعود تعني عملية نمو تدريجية بقدر ما تعني استخدامه عناصر لا عضوية للإتيان بجسد إنسان كامل النمو في نهاية أسبوع الخلق. وحتى فيما يتعلق بأصل الجنس البشري, رأى كثير من المسيحيين عناية تدبيرية إلهية عبر الزمن والفعل بدلاً من معجزة إلهية, وبذلك حرّفوا رواية التكوين بدافع الإقرار. هذه المسألة ستتم مناقشتها أكثر في الفصل 4.
وصف أحد الكُتّاب, وهو نشوئي يرفض فكرة معجزات الخلق كلها, الأحداث "المفاجئة" التي تجري في تكوين 1- 2 بأنها مشابهة بشكل خطير للاهوت الأفسسيين الوثنيين الذين كانوا يؤمنون أن صورة (الإلهة) ديانا قد سقطت عليهم من السماءومثال نموذجي عن هذا النوع من الخَلْقية, كما نعلم, هو الحركة الأصولية "الضعيفة إزاء حضور العملانية" ولذلك تخصص مكاناً كبيراً "لفكرة المجيء الثاني، الذي لا يُرى كتحقيق للعملية التاريخية, بل أمراً سيحدث ببساطة وفقط استجابة سريعة لصوت الله"إن صحة هذا النوع من الاعتراض, يستند, بالطبع, إلى صحة الافتراض بأن نظرية النشوء الداروينية الجديدة صحيحة, وأن المعجزات الكتابية يمكن تفسيرها عادة استناداً إلى عمليات تدبيرية, وأن الله خلق العالم "بتجاهل كبير لمرور الوقت، هذه السمة التي تميز ذاك الذي يصنع تحفة فنية"يقودنا هذا إلى اعتبار ثانٍ رئيسي يتعلق بحوادث الخلق التي في التكوين, وتحديداً تناظر أعمال الله الخَلْقية في شخص ابنه خلال حياته على الأرض منذ حوالي ألفي سنة في فلسطين. إن العهد الجديد يعلّمنا بوضوح أن الكون برمته قد خلقه ابن الله (يوحنا 1: 3, 10, و كولوسي 1: 16؛ عبرانيين 1: 2). ويكشف لنا العهد الجديد أيضاً أن الأعمال التي أنجزها خلال حياته القصيرة على الأرض كان يقصد بها أن تكشف طبيعته الحقيقية ومجده (يوحنا 1: 14؛ 2: 11؛ 20: 31). وعلى ضوء هذه الحقائق، فمن المفيد تعليمياً بشكل عميق وأساسي أن نلاحظ أن كل معجزات المسيح كانت تشتمل على "تحولات مفاجئة".
رغم قول أحدهم أن "ليس هناك استراتيجية غامضة وخطرة كمثل التشابه الجزئي", إلا أن التشابه الجزئي الكتابي لأعمال المسيح الخَلْقية في سفر التكوين وفي الأناجيل تبقى مسيطرة وذات قوة حاسمة كبيرة. فاستجابة لمجرد نطق ربنا بكلمة, على سبيل المثال, كانت الرياح الهائجة "فجأة" تتوقف, و"فجأة" تظهر للوجود كمية هائلة من الأرغفة والأسماك, و"فجأة" يسترد رجل بصره, و"فجأة" ينهض رجل ميت واقفاً على باب قبره. الاستثناء الوحيد الذي يدونه الكتاب المقدس, وسط العدد الهائل من معجزات الشفاء التي قام بها المسيح, هو حادثة شفاء الأعمى الذي استرجع بصره على مرحلتين, ولكن كل مرحلة كانت فورية الشفاء (مرقس 8: 22 – 25)هذه الأعاجيب كانت علامات لا يمكن نكرانها على الفوق طبيعية في تصاريح ربنا العلنية بأنه مسيا إسرائيل, ولعلنا نكون متأكدين تماماً أنه لو كان في شفائه للمريض والمشلول, والأعمى, قد أظهر "التجاهل الكبير لمرور الوقت الذي يميز ذاك الذي ينجز تحفة فنية"لما كان أحد قد أعطى أي التفاتة إلى مزاعمه. لو تطلب الأمر أن ينقضي يومان حتى يهدأ بحر الجليل بعد قول يسوع: "اسكت. ابكم"، لما كان التلاميذ قد "خَافُوا خَوْفاً عَظِيماً"، ولما "قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (مرقس 4: 39- 41).
إن المغزى اللاهوتي الهائل وراء هذه الحقائق من أجل فهم مسيحي لأصل العالم يمكن إدراكه من خلال التعليق التالي:
"إن اللاهوتي ينسب ميزات "مطلقة" معينة لإلهه؛ فهو يُوصف على أنه إله كلي القدرة, وكلي المعرفة، ولا متناهٍ. وهنا الفكر الذي يكشف نفسه في تطور الحياة على هذا الكوكب من الواضح أنه ليس كلي القدرة؛ وإلا لكان جمّع مباشرة على نحو كامل .... مصممة من تراب الأرض دونما حاجة للمرور بعملية طويلة من المحاولة والخطأ التي ندعوها النشوء"إن كل محاولة لتعديل فكرة الفجائية والفوق طبيعية في حوادث الخلق لجعلها مقبولة أكثر لـ "الفكر المعاصر" لا تؤدي، على المدى الطويل, سوى إلى تقليص وإبهام الصفات الحقيقية المميزة لخلق الله. وكان في هذا درس مهم للكثير من المسيحيين ليتعلموه.
الاعتبار الثالث المهم هو حقيقة أن عمل الله في الخلق كان قد أُكمل في ستة أيام حرفية وهذا يُظهِرُ حصرياً وبدقة أن عمله الخَلْقي خلال كل يوم من هذه الأيام كان فجائياً وفائق الطبيعة.
وفي نظر المعترضين الكثر على هذا المفهوم، حتى في بعض الأوساط المسيحية، قد يندهش كثير من الناس لمعرفتهم كم كانت قوية أدلة الكتاب المقدس ومؤيدة لفكرته، إنْ قُبِلَ نظام التفسير الكتابي القائم على النقد التاريخي واللغوي.
والآن سوف نقدم أربعة أدلة على أن أسبوع الخلق كان سبعة أيام حرفياً، مع ردود على أغلب الإعتراضات.
1- رغم أن الكلمة العبرية (yom) التي تستخدم للإشارة إلى "يوم" مستخدمة ألف مرة في العهد القديم، إلا أنها في بعض الحالات النادرة يمكن أن تشير إلى فترة زمنية أطول من 24 ساعة وهذا ما يتطلبه النص الذي ترد فيه (مثال: "يوم الرب"). وعلى كل حال، عندما يتم إقران صفة عدد ترتيبي بالكلمة "يوم" (ونعرف عن مئتي حالة على ذلك في العهد القديم)، فإن معناها يكون مقتصراً دائماً على 24 ساعة (أي "اليوم الأول"، "اليوم الثاني"....الخ مع توازٍ دقيق مع سفر العدد 7: 12 - 87 ). ولأكثر من سبعمائة مرة تأتي الكلمة "أيام" بصيغة الجمع (y?mim) في العهد القديم وهي تشير دائماً إلى أيام حرفياً (مثال: خروج20: 11 - "في ستة أيام")والتعبير "يوم" في زكريا14: 7، قال البعض أنه استثناء لهذه القاعدة، ولابد أنه يشير أيضاً إلى يوم حرفي، وخاصة لأن التعبير "مساء" تظهر في نفس الآية.
إن كلمة "يوم" ترد لأربع مرات في رواية الخلق مشيرة إلى المعنى "نهار" (أي12 ساعة في ضوء النهار) (1: 5، 14، 16، 18) ولكن في هذه الحالات لا تأتي معها صفة العدد الترتيبي وفحوى النص يظهر بشكل واضح المعنى المقصود بالكلمة، فعلى سبيل المثال، تعابير "نهار" و"ليل" الواردة في (تكوين 1: 5) توصف على أنها فترات "نور" و"ظلمة". وبالتالي سيكون هذا بلا معنى تماماً إن كانت "نهار" و"ليل" لا تعني أجزاء من اليوم العادي. في (تكوين 1: 14 -19) خلقت الشمس "لتحكم النهار" والقمر "ليحكم الليل". ومرة أخرى كلمتا "نهار" و"ليل" هنا تشيران بالتأكيد إلى أجزاء من اليوم العادي. والتعبير "يوم" (أي في يوم) الواردة في التكوين 2: 4 ليست فقط بدون صفة عدد ترتيبي بل أيضاً تصبح، لاتصالها بحرف الجر "في" مصطلحاً يعني "عندما".يسلّم روبيرت سي. ينومان وهيرمان جي. إكلمان، اللذان يرفضان تفسير اليوم حرفياً، بالقول أنه "ما من مثال واضح وقاطع عن ("يوم" مع صفة عدد ترتيبي) يمكن أن تأتي مع كلمة "يوم" بمعنى فترة طويلة من الزمنبل ويصلان إلى الاستنتاج الخطير الهدام بأن "معظم المعاني الشائعة للكلمات المتناولة (أي: "يوم"، "مساء"، "صباح") ينبغي استخدامها لتشكل نموذجاً".كملجأ أخير، يبدو أن مؤيدي نظرية اليوم-لدهر يمكن أن يقولوا فقط أن "غياب استخدام كلمة "يوم" بمعنى يغاير الأيام العادية واستخدام الأعداد الترتيبية قبل الأيام العادية في مكان آخر في العهد القديم لا يمكن أن يعطى مغزى تفسيري واضح لا لبس فيه من ناحية فرادة الأحداث التي توصف في تكوين 1( أي الفترات الزمنية المتعاقبة وغير المحدودة)
لعله يمكننا أن نورد مجادلتهم على النحو التالي: إن إعلان الله لنا عبر العلم يشير بشكل واضح إلى أن النباتات والحيوانات ما لبثت تحيا وتموت منذ ملايين وبليارات السنين. ولذلك، فإن تأييد التفسير للفهم التقليدي العبري/المسيحي عن أسبوع خلق حرفي وجديد نسبياً لا يمكن أن يكون حاسماً. وقد يتساءل المرء عن العدد الكبير من المقاطع الأخرى "غير المقبولة" فلسفياً في الكتاب المقدس التي يمكن صرف النظر عنها على هذا النحو.
2- إن التعبير الوصفي "المساء والصباح"، المرتبط بكل يوم من أيام الخلق عبر التكوين يشير إلى دورة 24 ساعة حول الأرض خلال دورانها حول محورها إشارة إلى مصدر ضوء فلكي ثابت (وليس بالضرورة أن يكون الشمس في كل حالة). وهذا التعبير نفسه يظهر في دانيال 8: 62، حيث يظهر ببساطة أنه لا يعني فترات زمنية طويلة وغير محدودة. لقد زعم البعض أن الآية في المزمور 90: 6 هي مثال عن استخدام مجازي لـ "المساء" و"الصباح". ولكن صيغة تكوين 1 ليست مستخدمة هنا، وترتيب الكلمات معكوس. علاوة على ذلك، إن الاستخدام المجازي لهذه العبارات في المزمور90 سيكون بلا معنى إن لم تكن تفترض مسبقاً استخداماً حرفياً في روايات تاريخية باكرة في الكتاب المقدس، كما في التكوين 1.
3- إن "أسبوع" خلق مؤلف من ست فترات زمنية غير محدودة بالكاد يخدم كنموذج ذي مغزى صحيح عن دورة عمل بني إسرائيل واستراحتهم، كما أوضحها الله لهم في سيناء في الوصية الرابعة (خروج 20: 11؛ 31: 7).
بينما صحيحة هي الفكرة، بالطبع، بأن الله كان يمكنه أن يخلق العالم في ستة مليارات من السنين، أو في ست ثوانٍ (أو في جزء صغير من الثانية) لو شاء أن يفعل ذلك، إلا أن هكذا تخمينات لا تمت بصلة مطلقاً إلى الوصية الرابعة التي تعلمنا أن الله، كأمر واقع، اختار أن يخلق العالم "في ستة أيام" لكي يقدم نموذجاً واضحاً عن فترات عمل إسرائيل وفترات استراحته. إن التعبير "ستة أيام" (لاحظ صيغة الجمع" بالكاد يمكن اعتباره مجازياً في هكذا سياق للنص.
يقدم ليون موريس أيضاً موازاة ممتعة بين أسبوع الخلق والأسبوع الأول من خدمة المسيح العلنية:
"إن كنا على صواب في رؤيتنا هكذا لمجريات أسبوع هام جداً تُعرض في بداية هذا الإنجيل، فعلينا أن نتابع ونسأل ما مغزى هذه البداية. إن التوازي مع أيام الخلق في تكوين 1 يوحي بذاته ويعزّزه التعبير "في البدء" الذي يفتتح كلا الأصحاحين. كما أن الكلمات الإفتتاحية في هذا الأصحاح تذكرنا تماماً بتكوين 1، كذا ففي إطار العمل، ينشغل يسوع في خلق جديد. إن إطار العمل يوحي إلى حد ما بنشاط خَلْقي"4- بما أن الكلمة "أيام" في تكوين 1: 14 مرتبطة بالكلمة "سنين"، فمن الوضح أن وحدات الزمن التي نعرفها جيداً هي التي يُشار إليه هنا، حيث أن مدتها لا تحددها ظروف ثقافية أو ذاتية، بل حركات الأرض الثابتة نسبة إلى الشمس. وإلا فأن التعبير "سنين" سيكون بلا معنى.
لابد من أن نفترض أن الأيام الثلاثة الأولى من أسبوع الخلق كانت لهانفس المدة الزمنية للأيام الثلاثة الفلكية الثابتة الأخيرة، لأن نفس العبارات الوصفية مستخدمة مع كل يوم من الأيام الستة (أي الصفات العددية الترتيبية وصيغة مساء/صباح)، وإن كل الأيام الستة مجمعة معاً في خروج 20: 11 لتقدم نمطاً عن أسبوع العمل لإسرائيل. وإن حقيقة أن الشمس لم تخلق حتى اليوم الرابع لا تجعل من الأيام الثلاثة الأولى فترات زمنية غير محدودة، إذ أن الله خلق في اليوم الأول مصدراً للضوء ثابتاً ومتموضعاً في السماء والذي على أساسه مرت الأرض في دورانها عبر نفس النوع من دورات النهار/الليل التي كانت منذ خلق الشمسهذا الضوء ما كان ليكون نور طبيعة الله المقدسة، لأن الله خلقه ("ليكن"). إضافة إلى ذلك، لو كان نور الله نفسه لكان نصف الأرض سيبقى في الظلمة. ومن هنا، فقد كان نوراً مخلوقاً، متموضعاً في مكان ما في الكون، وعلى الأرجح غير مشترك مع الكون النجمي في اليوم الرابع من أسبوع الخلق بعد إنجاز وظيفته الفريدة والمؤقتة. إن المضامين اللاهوتية من تأجيل خلق الشمس، والقمر، والنجوم إلى النصف الثاني من أسبوع الخلق، لها مغزى كبير قياساً إلى الإستخدم الوثني لهذه الأجرام المحدودة وفاقدة الحياة من قِبَل الإنسان الساقط (انظر تثنية 17: 3؛ أيوب 31: 26- 28)ومن هنا، فإن تحليلاً دقيقاً للكلمة "يوم" من ناحية استخدامها في العهد القديم، ومقترنة بصفة العدد الترتيبي وصيغة مساء/صباح، وبارتباطها بالتعبير "سنين" خاصة على ضوء دورة العمل والإستراحة التي أعطاها الله لإسرائيل، يقودنا حتماً إلى الاستنتاج بأن أيام الخلق كانت حرفية ومؤلفة من 24 ساعة متتالية. وبالتالي، فأن تطيل الأيام إلى عصور طويلة أو أن تقحم دهوراً طويلة بين الأيام هو أمر غير منطقي كتابياًإن الفهم اليهودي-المسيحي التقليدي يؤيده التفسير الكتابي: الكون خلقه الله خلال أيام أسبوع واحد حرفياً.
إزاء التفسير الحرفي لليوم في تكوين 1، جادل البعض بأن هناك مقاطع أخرى في الكتاب المقدس تتحدث عن "يوم" في عيني الله هو كألف سنة. صحيح أن هكذا عبارة وردت مرة في العهد القديم (مزمور 90: 4) ومرة في العهد الجديد (2بطرس 3: 8). ولكن هاتين الآيتين لا تضعفان الرأي باليوم الحرفي للخلق بل إنها تساعد في تعزيزه بالفعل.
في 2بطرس 3: 8، مثلاً، لا يُقال لنا أن أيام الله يدوم كل منها ألف سنة، بل أن "يوم" واحد عند الرب هو ألف سنة...... أن نقول "هو كألف سنة" هو أمر مختلف جداً عن القول "هو ألف سنة". هذه الفكرة غالباً ما كانت موضع تفحص. إن كانت عبارة "يوم واحد" في هذه الآية تعني حقاً فترة طويلة، فعندها نصل إلى الإبهام التالي: "عند الرب، فترة طويلة من الزمن هي ألف سنة". ولكن ألف سنة ستكون فترة زمنية طويلة جداً بالنسبة للبشر أيضاً. لا بد أن يُفهم (مز90: 4) بنفس الطريقة إذا كان المقصود هو المغايرة بين الله والإنسان: "لأن ألف سنة في عينيك هي كمثل أمس عبر......". فهنا كلمة "أمس" لابد أنها تشير إلى فترة 24 ساعة وإلا لا يكون لدينا تغاير هنا.
وبالتالي، فإن التعليم الواضح في مز90: 4 و2 بطرس3: 9، هو أن الله فوق حدود وقيود الزمن. ونستدل من هذا على أن الله يمكن أن ينجز بيوم واحد حرفي ما لا يستطيع الإنسان إنجازه في ألف سنة. هذه إحدى الرسائل الصادمة التي نتلقاها من خلال التفسير العادي لرواية الخلق في تكوين 1: الله وحده له قدرة لا محدودة. وكان إرميا قد رأى هذه الحقيقة الراسخة:"[آهِ أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ هَا إِنَّكَ قَدْ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقُوَّتِكَ الْعَظِيمَةِ وَبِذِرَاعِكَ الْمَمْدُودَةِ. لاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ شَيْءٌ" (إرميا32: 17).
أمن الممكن أن الخالق كان في حاجة إلى اليوم السابع ليستريح من عناء ستة أيام في عمل الخلق؟ الجواب يأتينا بهذا الوضوح المذهل: "أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلَهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ. يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً" (أشعياء 40: 28- 29)
ببساطة يمكن القول أنه لا يمكن للفكر البشري أن يدرك قدرة الله وقوته: " فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ .... لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ" (أشعياء40: 25؛ 55: 9).
هذه الحقيقة البالغة الأهمية المتعلقة بالله تتم تسويتها جدياً، إن لم يكن إبطالها، عندما تمطّ رواية الخلق الواردة في التكوين لتدخل فيها عصور زمنية واسعة لجعل المقطع "معقولاً" و"مقبولاً علمياً" أكثر، وهكذا تتلاءم مع مستوى تفكير الإنسان الطبيعي المحدود. إن تحريف الكتاب المقدس يشوه رسالة الله لنا. وإنّ ما قاله الرسول بطرس فيما يتعلق برسائل بولس ينطبق طبعاً وبالتأكيد على الأصحاحات الافتتاحية من الكتاب المقدس، ".... الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ" (2 بطرس 3: 16).
هناك اعتراضٌ آخر واسع الانتشار على التفسير الحرفي لليوم في التكوين 1 يقول بأنّ اليوم السابع لم ينتهِ بعد، لأن الله لا يزال يستريح من عمل الخلق (انظر عبرانيين 4: 3- 11)
هذا النقاش والجدل يقدم الكثير من التشويش بين الأحداث التاريخية والتطبيق الروحي لها. فـ "الاستراحة" التي في عبرانيين 4 هي استراحة الخلاص الروحية (انظر متى 11: 28- 30)، وبها يشارك المؤمن في البركة الأبدية والامتلاء الذي يميز الله. بالطبع لم يكن الله بحاجة إلى أن ينتظر إلى نهاية اليوم السادس من أسبوع الخلق لكي يبدأ هذا النوع من الاستراحة ولذلك، فإن السبت الأول لم يكن قد وُضِعَ من أجل مصلحة الله (انظر أش 40: 28؛ يوحنا 5: 17) بل كان لأجل منفعة الإنسان (مرقس 2: 27). هذه الفكرة غالباً ما يتم تجاهلها ولكنها حاسمة في تحديد مدة وهدف يوم السبت الأصلي.
أصرّ إدوارد يونغ على أنَّ "اليوم السابع يجب تفسيره على أنه مشابه في طبيعته إلى الأيام الستة الأولى. وليس هناك من برهان كتابي على الإطلاق (ولا حتى في عبرانيين 4: 3- 5) على فكرة أن اليوم السابع أبدي ويوافقه هومر إ. كنت الرأي فيقول:
"هذه [الحقيقة في أنّ ليس هناك من نهاية تُذكر لليوم السابع] لا تحمل المعنى بأن اليوم السابع لم يكن يوماً حرفياً بمساء وصباح، كما الأيام الستة السابقة من الخلق. وعلى كل حال، استخدم الكاتب صمت الكتاب المقدس على هذه الفكرة ليقول في مجادلته أن استراحة الله في يوم السبت لم تنتهِ أبداً. ونفس الطريقة والجدال نستخدم في عبرانيين 7: 3 بما يتعلق بغياب سجل عن ميلاد ملكي صادق، أو نسبه أو موته"
كم من الوقت، إذاً، قد دامَ يوم السبت الأول؟ من الواضح أن كل الإسرائيليين، الذين قد عيّن الله لهم أن يحفظوا السبت قد فهموا أنّ هذه الفترة كانت 24 ساعة تماماً، استناداً إلى نموذج السبت لدى الله: "سِتَّةَ أيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ. وَأمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إلَهِكَ. لا تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنـزيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أبْوَابِكَ - لأنْ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ" (خروج 20: 9- 11).
فلو قرر أي إسرائيلي أن يطيل مدة حفظه للسبت على نحوٍ غير محدد على افتراض أن سبت الله (راحته) لا يزال مستمراً، فعندها سيموت من الجوع (انظر خروج 35: 3). وبنفس الأهمية هناك الاستنتاج بأنّ آدم وحواء لا بدَّ أن يكونا قد عاشا طوال يوم الخلق السابع برمته قبل أن يطردهما الله من الجنة، لأن الله ما كان ليلعن الأرض (تكوين 3: 17) خلال نفس اليوم الذي "باركه" و"قدسه" (تكوين 2: 3).
دافع البعض حتى عن فكرة أنّ اليوم السادس من الخلق قد امتدَّ بالتأكيد فترةً أطول من 24 ساعة لأن الله لا بد أن يكون قد أعطى آدم زمناً كافياً ليصبح لوحده. وهذا يؤكده، كما يزعمون، حقيقة أنّ آدم عندما استيقظ ورأى حواء هتف قائلاً: "هَذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي...." (تك 2: 23 أ)ولكن التعبير "الآن" (أي "هذه المرة" أو "الآن أخيراً" ) لا يمكن أن يُضغَطَ ليحمل معنى بشكل مطلق (بدلاً من نسبي) فترة طويلة من الزمن. لقد أحسنَ يعقوب عندما استخدم هذا التعبير بعد ساعتين أو ثلاث من المصارعة الشديدة مع الله ( تكوين 32: 24؛ هوشع 12: 2- 5). ولكن ليس من الضروري أن نُخمن حول الاستخدامات الممكنة لهذا التعبير، لأن إبراهيم في تكوين 18: 32 استخدمه في نهاية أحد محادثاته مع إلههِ. ويوضح نيومان وإكلمان قائلين: " هنا نجد الذروة العاطفية القوية تُبنى بسرعة لأن ابراهيم يساوم الله"هذا الشرح يُبطل بشكل واضح جدالَهم كليّاً، لأن آدم بالكاد قد تشارك عاطفياً مع الله ومع إمرأته المخلوقة حديثاً بنسبةٍ أقل مما تشاركه إبراهيم مع إلههِ. من المحزن أنّ المفكرين المسيحيين الذين يصرون على أن آدم ما كان ليمكنه أن يُسمي الطيور والثدييات في يومٍ واحد حتى مع فكرة المخلوق حديثاً وغير الساقط، وبمعونة الله الخاصة (تكوين 2: 19_ "أحضرها الرب الإله إلى آدم")، يطلقون العنان للاستقراءات المتساوقة الحافلة بالمخاطرة نمطياً والتي تميز دراسات كثيرةٍ جداً للتكوين 1- 11 في جيلينا. إنّ إعطاء زمنٍ أطول بقليل لآدم ليسمي الطيور والثدييات قد يبدو للبعض مسألة غير منطقية تماماً. إن ما يطلبه نيومان وإكلمان هو في الواقع ليس فقط بضعة أيام أو أسابيع لآدم ليسمي الحيوانات، بل "أسبوع خلق" يمتد "15- 20 مليار سنة"، بما فيها عمليات النشوء وما يزيد على مليار سنة من الموت في مملكة الحيوان قبل السقوط، مع استمرار الافتراض بأن اليوم السابع لا يزال في المستقبل.من ناحية العقيدة الكتابية المتعلقة بخلق العالم، هذه العقيدة الهامة بشكل حيوي جداً، سيبدو من غير المعقول أن ينتظر الله حتى القرن التاسع عشر الميلادي (أكثر من ثلاث ألفيات بعد كتابة التكوين) ليعلن لشعبه أن رواية الخلق تشتمل دهوراً وعصور واسعة ممتدة فيها موت وهلاك في مملكة الحيوان قبل خلق آدم. وكما يقول أحد المؤيدين لمفهوم الأرض القديمة بجرأة:
"حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان المسيحيون يُجمعون عملياً على الاعتقاد بأن الأرض كان عمرها حوالي ستة آلاف سنة بحسب تعليم الكتاب المقدس. ولكن الدراسة العملية المطردة.... شكلت ضغطاً على كاهل المفكرين المسيحيين ليعيدوا النظر في مسألة عمر الأرض"
للتأكيد، فإنّ حفنة من آباء الكنيسة كانوا متأثرين كثيراً بالفلاسفة الوثنيين في عصرهم فنظروا إلى الكثير مما ورد في تكوين 1 مجازياً، تماماً كما يفعل كثير من اللاهوتيين في يومنا هذا. ولكنهم "لم يعبثوا بفكرة الخلق ممتداً على مدى فترة طويلة من الزمن بل كانوا يعتقدون بالفكرة القائلة بأن الخلق لم يكن فورياً. هذه النظرية افترضها أوريجنس، وهيلري، وأغسطينوس، وجيروم (إيرونيموس)"ولكن التعليم الحقيقي في تكوين 1، مجرداً من التخمينات الاستعارية المجازية جميعاً، يأتي إلى شعب الله بوضوح مذهل. حتى اللاهوتيون الليبراليون، ولأسبابهم الخاصة يؤكدون هذه الفكرة. فعلى سبيل المثال، يعلق جيمس بار الذي من المعهد المشرقي في جامعة أوكسفورد قائلاً:
"على حد علمي، وحتى الآن، ليس هناك مدرس للغة العبرية أو العهد القديم في أية جامعة في العالم لا يعتقد أن كاتب (أو كتاب) تكوين 1- 11 كان يقصد أن ينقل لقرائه فكرة أن الخلق حدث في سلسةٍ من ستة أيام كان كلُُّ يومٍ منها مؤلفاً من 24 ساعة كما نعرفها الآن"هناك عدد من الآيات في العهد الجديد تدل بشكل قوي على أن الجنس البشري خُلق تقريباً في نفس الوقت مع الكون المادي. فعلى سبيل المثال، قال ربنا أن "مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللَّهُ" (مرقس 10: 6). ولكن إن كانت مليارات من السنين قد انقضت بين خلق الأرض وخلق الجنس البشري، فهذا القول سيكون مُضللاً وخاطئاً. من أجل أقوال مشابهة انظر متى 13: 35، مرقس 13: 19، لوقا 11: 50، رومية 1: 20، عبرانيين 4: 3، 9: 26. تظهر كتابات دافس يونغ التوترات الهائلة التي اختلقها القائلون بنظرية التساوق (وليس القائلون بحادثة واحدة فريدة) عندما ينظرون إلى الجيولوجيا التاريخية فيعطونها سلطة ومصداقية مساوية للأصحاحات الأولى من سفر التكوين. فمن جهة يؤكد دافس يونغ على أن الكتاب المقدس موثوق به أكثر بكثير من العلم، وأنه:
"إن كان من الممكن أن نظهر بما لا يرقى إليه الشك أن الكتاب المقدس يفترض 24 ساعة لليوم، فإنّ العالم المسيحي لا بدّ أن يقبل ذلك ويتخلى بالفعل عن آراء العلوم الجيولوجية ويلجأ إلى شيءٍ آخر. إن كان متماسكاً وثابتاً في إيمانه بالكتاب المقدس، فلا بدّ له أن يفعل ذلك"ومن جهة أخرى، يتابع قائلاً: ".... كعالم جيولوجي، إني مستمتع جداً بهذا التفسير (الرأي باليوم- دهر لتكوين 1)، لأني اعتدتُ على التفكير بمليارات السنين" فالنظرة الاستعارية المجازية لتكوين 1 "تعطي العَالِم حريةً كبيرة"، وتتركه "غير متقيد"باختصار، على المسيحي أن يكون مستعداً لأن يترك التقدم العلمي يسير في مساره الخاص وفي زمنه الخاص أي أن يتطور بشكل طبيعي مع ظهور الاكتشافات الجديدة. لا يستطيع المرء أن يفرض على التفكير العلمي أن يسير باتجاه محدد"لا يمكن تقديم تفسير مقنع عن السبب في أن هذه المقاربة تجلّ سيادة الكتاب المقدس أو تختلف عن النشوئية الإيمانية المباشرة.
ببساطةٍ ليس هناك مهرب من حقيقة أن الله يقصد لنا أن نفهم أن خلق الكون والأرض، ولأهداف عملية قد صار فوراً وبلحظةٍ واحدة. إنّ مضامين هذا الجانب من الوحي الإلهي من جهة المحاولات الحالية المنتشرة لأقلمة وتوثيق التكوين مع النشوئية الكونية واضحة تماماً من دون ريبٍ. فاقتراح "خلْقٍ تدريجي" للشمس والقمر والأرض قد يكون مفهوماً لبعض العقول. ولكن بالنسبة لمعظم الناس هكذا مفهوم سيطرح مسألةً جدية للغاية فيما إذا كان الله، كأمر مسلم به، قد خلق أصلاً وحقاً الشمسَ والقمرَ والأرضَ على الإطلاق. عندما تبدأ الحقيقة المذهلة تتضح معالمها، في أن هذه الأجرام الفلكية العظيمة قد خُلقت فورياً لحظياً ومن العدم، فإنّ كل الأسئلة والشكوك الجدية الكبيرة المتعلقة بالألوهية وقدرة الخالق ومجده تتلاشى ( انظر رومية 1: 20). هذا هو السبب في أنّ المقاربة اليهودية/المسيحية للخلق ليست فقط صادمة بل أيضاً تنشيء بتأثيرها تحولاً على الفكر البشري
روسل. و. ماتمان القائل بنظرية "اليوم- دهر"، كان متأثراً بهذا الدليل الكتابي: "لا يوجد شك بأن كل حدث خَلْقي كان فورياً. في لحظة ما وجد شيء معين، في اللحظة السابقة لم يكن موجوداً". كتاب "الكتاب المقدس، علم الطبيعة والنشوء"
هذا الاستثناء اللافت بين آلاف الشفاءات الفورية لربنا لا يمكن استخدامها بالتأكيد كأساس أو قاعدة على التدرج في عملية الخلق, انطلاقاً من مفهوم حدوث خلق الأصول خطوة فخطوة (رغم أن كل عمل كان فائق الطبيعة). إن هذه الحادثة الفريدة والوحيدة نفسها تفيد كتحذير لأولئك الذين سيفترضون أن هذه كانت طريقة الله الأساسية في خلق الأشياء. فهذا السرد في رواية الخلق لا يعطي أي إشارة على "عمليات خلق" على مراحل سواء للملائكة أو النجوم أو الكواكب أو النباتات أو الحيوانات أو الكائنات البشرية عبر ملايين أو مليارات السنين.
يتبع
ام ان الله خلق الكون خلق فجائي ؟؟
تعالى لنتعرف ما يقوله الكتاب عن هذه النظرية :
ووطبيعة الخلق في الكتاب المقدس
إزاء كل المحاولات لتفسير أصل العالم بتعابير عمليات طبيعية بحتة، يصرّح الكتاب المقدس أن الله خَلَقَ كل الأشياء بشكل فائق للطبيعة. بكلمات أخرى، أتى العالم إلى الوجود بطريقة مختلفة كلياً عن أي شيء يمكن أن يُلاحَظ في الكون الحالي. في هذه الأيام لا شيء على الإطلاق يُخلَق بشكل مباشر بمعزل عن مواد موجودة مسبقاً، ويعبّر العلماء عن هذه الحقيقة الأساسية بواسطة القانون الأول للديناميكا الحرارية (الترموديناميك) (thermodynamics) (أي أن الطاقة لا يمكن أن تُخلق ولا أن تفنى). الخلق الحقيقي ما عاد يتحقق كما حدده الكتاب المقدس بوضوح (التكوين 2: 1 – 3). عمل الله بالحفظ يُبقي الكون في الوجود (عبرانيين 1: 3)، وعمله في العناية الإلهية يوجّه الكونَ نحو أهداف مجيدة (كولوسي 1: 20)، لكن عمله في الخلق بما يتعلق بالكون الحالي قد اكتمل.
ولذلك فعندما "صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا" (خروج 20: 11؛ 31: 17؛ نحميا 9: 6)، فعل ذلك بدون استخدام لأي مواد موجودة مسبقاً من أي نوع كانت. في لحظة ما لم يكن هناك أي مادة في أي مكان؛ في اللحظة التالية، ظهرت السماوات والأرض إلى الوجود. هذا ما دعاه اللاهوتيون (الخلق من لا شيء) creatio ex nihilo، وهذه العبارة مفيدة إذا فهمناها بمعنى أن الموجودات المادية خُلقت من مصادر غير مادية من قدرة الله الكلية. فنياً: العبارة تنطبق فقط على خلق المواد غير العضوية لأن الله استخدم سابقاً مواد غير عضوية مخلوقة في تشكيل أجسام الأشياء الحية. ومع ذلك، حتى في هذه الحالة، كما سوف نرى، كان الخلق تماماً فائق الطبيعة.
حقيقةُ أن الخلق كان فوق طبيعي تعني، من بين أشياء أخرى، بأنه يمكن أن يُفهم بالعقل البشري فقط من خلال قناة الوحي الخاص. الله وحده فقط يستطيع أن يخبرنا كيف ابتدأ العالم، لأنه لم يكن هناك أي شخص ليرى كيف كان يجري الخلق، وحتى لو كان هناك مراقب بشري موجود، ما كان ليفهم بشكل كامل ماذا رأى بمعزل عن تفسير الله ذاته. قال الله لأيوب: "اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ" (أيوب 38: 3– 4).
على كل حال، إن الصعوبة لدينا في إدراك عقيدة الخلق ليست ناتجة عن حقيقة أننا محدودون بل عن حقيقة أننا خاطئون. "وَلَكِنَّ الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (1 كورنثوس 2: 14). هناك بضعة عقائد في الكتاب المقدس تبدو للإنسان الطبيعي أكثر جهالةً من الخلق الفوق الطبيعي، لأن هكذا أحداث لا تجري اليوم. ولكن الخلق بالتأكيد هو أحد الأمور الأعظم والأهم في "مَا لِرُوحِ اللهِ"، إذ بدونه يسقط الكتاب المقدس والمسيحية ويتناثر إلى أشلاء. إن أزلتَ هذه العقيدة (الأساس) تنهار البنية الفوقية بالكامل.
لذلك فمن المهم للغاية أن نقارب الأصحاحات الأولى من سفر التكوين على هدى النور الذي يعطينا إياه الله نفسه من خلال الشهادة الكاملة التي يقدمها في الكتاب المقدس. بل، وكما أن الله أمر موسى أن يخلع نعليه لأن المكان الذي كان يقف فيه كان مقدساً، هكذا أيضاً علينا أن نلقي جانباً مفاهيمنا عما يمكن أن يكون قد حدث أو لم يحدث، وأن نقف في حضرة الله، على استعداد لأن نسمع ونؤمن بما شاء باختياره أن يخبرنا به عن الخلق.
هكذا خضوع غير مشروط لسلطان كلمة الله، بالطبع، ليس من سمة يومنا، حتى بين المسيحيين. لقد حذّر بولس (المؤمنين) قائلاً: "...لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ" (2 تيموثاوس 4: 3- 4).
إحدى هذه "الأساطير" التي نؤمن بها هي أن الله لم يخلق العالم بشكل فائق للطبيعة، بل من خلال عمليات طبيعية، بعنايته الإلهية، عبر فترات زمنية كبيرة جداً. هذه إنما خرافة، ليس فقط لأنها تتناقض مع الكتاب المقدس، بل لأنها تتناقض مع عمليات الكون التي يمكن رصدها ومعاينتها.
في السنوات الأخيرة أتت إلينا شهادة لافتة للانتباه من كتابات علماء هم موضع احترام وتقدير كبيرين قد رأوا أن مفهوم النشوء، بوجهه الأوسع، يقوم على أساس هش. يلاحظ ج. أ. كيركوت الذي من قسم الفيزيولوجيا والكيمياء الحيوية في جامعة ساوثمبتون، على سبيل المثال أن النشوئيين غالباً ما يكتبون وكأن "آراءهم قد جاءت إليهم بنوع من الوحي". وعلى الرغم من "الثغرات والهنّات الكثيرة" في نظامهم، إلا أنها "تُؤخذ بثقة كبيرة" وبـ "قبول أعمى" و"إغلاق للعينين" عن حقائق كثيرة هامة، وهذا يكشف عن "تعجرف" أكثر منه روحٍ علميةٍ حقيقية ولقد أدت المحاولات لسد الثغرة بين اللافقاريات والفقاريات، على سبيل المثال، إلى نوع من "الأدب القصصي ذي الخيال العلمي"، أكثر منه إلى الاكتشاف واحتمال أن الحياة قد بدأت أولاً بشكل تلقائي كـ "مسألة إيمان عند عالم الأحياء.
في تقديمه لكتاب داروين "أصل الأنواع" في مجلة "مكتبة الجميع" (1956)، يوضح و. ر. ثومبثون ما يلي:
"دعاة الداروينية الوجوديون المعاصرون مضطرون، كمثل أسلافهم وداروين أحدهم، إلى أن يميّعوا الحقائق بفرضيات ثانوية، مقبولة ظاهرياً في طبيعة أشياء لا يمكن إثباتها.... ويُترك القارئ ولديه الإحساس بأن البيانات لا تدعم النظرية كما يُفترض... هذا الوضع، حيث انبرى أهل العلم إلى الدفاع عن عقيدة لا يستطيعون أن يبرهنوا عنها علمياً، يُظهر ضعفَ الدقة العلمية، في محاولتهم الحفاظ على مصداقيتهم أمام العامة وذلك بقمع النقد وإزالة الصعوبات، وهذا أمر غير سوي وغير مرغوب به في العلم
قبل عدة سنوات، قال العالم الوراثي الرائد ريتشارد ب. غولدشمت (1878- 1958):
"هذا التكرار المستمر لهذا الادعاء غير المبرهن عنه (التغير الأحيائي الصغير للنشوء)، يموه قليلاً عن الصعوبات، واتخاذ موقف متعجرف نحو أولئك الذين لا يُستمالون بسهولة بالطرق السائدة في العلم، يُعتبر وكأنه تقديم دليل علمي إلى العقيدة.
كوكب الأرض:
إن الأرض الأولى، كما كانت لتُرى من الفضاء الخارجي قبل الطوفان الكبير، كانت مختلفة تماماً عن شكلها ومظهرها الحالي. في المقام الأول، لا بد أنها كانت أكثر حيوية مما هي عليه الآن، إذ لم يكن هناك غطاء سديمي يُبهت البحار الزرقاء المتألقة. وبالدرجة الثانية، لم يكن هناك قمم قطبية بيضاء أو مناطق صحراوية بنية ضاربة إلى الاحمرار، لأن حياة نباتية خضراء كثيفة كانت تغطي تقريباً كل المناطق اليابسة، حتى في المناطق القطبية (كما بينت مستودعات الفحم الكثيفة المكتشفة في جبال أنتاركتيكا). وثالثاًً، على الأرجح أن القارات كانت مختلفة تماماً في الشكل والموضع عنها حالياً. فبعض المناطق التي هي الآن فوق مستوى البحر كانت تقبع تحت المحيط يوماً ما.
يعتقد كثير من دارسي الكتاب المقدس أنه كانت هناك كتلة كبيرة واحدة فقط تحيط بالبحار قبل الطوفان، لأن زوجاً من كل نوع من الحيوانات ذات النفس دخلت إلى فلك نوح (تك 6: 20؛ 7: 8). من الممكن أيضاً، أنه لو وُجدت أكثر من قارة واحدة، فإن ممثلين عن كل أنواع الحيوانات كانوا ليعيشوا على القارة حيث شُيّد فلك نوح. إن فكرة "انجراف" القارات إلى مواضعها الحالية تواجه اعتراضات جيوفيزيائية كبيرة ولا يؤيدها الكتاب المقدس (تك 10: 25) لا بد أنها تشير إلى انقسام الأمم بعد الدينونة في برج بابل؛ (تك 10: 5، 20، 32).
يوضح ج. ج. ديوفاني. دو دويت الذي من قسم علم الحيوان في جامعة أورانج فري ستيت إلى أن "الصدع الثنائي" بين المعرفة العلمية (المتعلقة بالانفصال بين أنواع الأحياء) والإيمان الذي يفوق العلم (في التواصل النشوئي) يبلغ إلى "صدع في الوعي عند عالم الأحياء شخصياً".ومن هنا، فإن نظرية النشوء العامة على اعتبارها ضد الإيمان، قد ناقضتها، على نحو مطرد، حقائقُ ووقائعُ العلم التجريبي خلال القرن الماضي. وإن المسيحيين الذين يقبلون الشهادة الواضحة للكتاب المقدس فيما يتعلق بالصفة الفائقة الطبيعة في الخلق الأصلي لهم ثقة بأن حقائق العلم الحقيقية، رغم قمعها كثيراً من قِبَلِ النشوئيين وإساءة تفسيرهم لها، سوف يتبين في النهاية أنها تنسجم مع الكتاب المقدس". "مضامين النشوء" (نيويورك: منشورات بيرغامون، 1960)، ص 154، 155.
إن خلق الكون الفلكي لم يكن فقط من العدم (ex nihilo) كما ورد في (عبرانيين 11: 3)
بل كان أيضاً، وبنفس هذه الحالة، فجائياً، أي بشكل مفاجىء وفوري. ولذلك فإن نشوءه لم يكن تلقائياً أو ذاتياً. إن المفهوم النشوئي في التكوين التدريجي لعناصر أثقل فأثقل عبر مليارات السنين تستبعدها تصريحات الكتاب المقدس.
بالدرجة الأولى، إن التأثير المباشر الفوري لكلمة الله الخلاقة نجد تأكيداً شديداً عليه عند كاتب المزامير: "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا... لِتَخْشَ الرَّبَّ كُلُّ الأَرْضِ وَمِنْهُ لِيَخَفْ كُلُّ سُكَّانِ الْمَسْكُونَةِ. لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ" (المزمور 33: 6- 9). انظر أيضاً مزمور 148: 1 – 6).
بالتأكيد لا مجال هنا لفكرة تطور تدريجي، أو تحقيق لأوامر الله على مدى طويل، خطوة فخطوة. تكوين على مدى طويل وخطوة فخطوة. وفي الحقيقة، من غير الممكن أن نتخيل وجود فاصل زمني خلال عملية التحول من العدم (اللا وجود) المطلق إلى الوجود.
على نفس المنوال نجد الآية: "... قال الله ليكن نور، فكان نور" (تكوين 1: 3). ففي لحظة، لم يكن هناك نور على الإطلاق في أي مكان في الكون. وفي اللحظة التالية، وُجِدَ النور. حدث الخلق المحدد هذا دراماتيكي مذهل جداً لدرجة أن العهد الجديد يقارنه بـ "فجائية" و"فوق طبيعية" الاهتداء الروحي: "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2 كورنثوس 4: 6؛ 5: 17). والله قادر أيضاً على أن يقيم "فجأة" الميت جسدياً، لأنه الله الذي "يَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ" (رومية 4: 17). ولعله يمكن أن نجزم بكل ثقة أن فكرة "الظهور الفجائي" تغلب على كل رواية الخلق (تكوين 1: 3، 12، 16، 21، 25، 27؛ 2: 7، 19، 22).هناك كثيرون اليوم ممن ينكرون هذا المفهوم الكتابي الهام بدافع الاحترام للمتطلبات المزعومة للعلم التجريبي. ولكن ليس في العلم التجريبي أي شيء على الإطلاق يمنع الإله الحي, الذي يحفظ عمليات "العلم التجريبي", التي يمكن ملاحظتها وقياسها, في يده لحظة بعد لحظة, من أن يغيّر طرقه من زمن إلى زمن ليحقق مقاصده الأبدية للبشر. من منظور كتابي, وأيضاً كما يتبدّى في الصفحات التالية, إن الدليل قوي جداً على أن برامج الله الخَلْقية والافتدائية تتميز بأحداث ابتدائية فائقة الطبيعة.
في نفس الوقت, لابدّ من التأكيد على أن أعمال الله الخَلْقية الفائقة الطبيعة ومعجزاته ذات الدلالة لم يُقصد بها في الكتاب المقدس أن تُقلّص مجد الله في أعماله التدبيرية غير المعجزية في التاريخ البشري (دانيال 4: 17؛ وسفر استيرإن الفرق بين هذين النوعين من الظهورات أو التجليات لتحكّم الله المطلق بعالمه هو في غاية الأهمية. إن المعجزة والعناية التدبيرية ليستا متطابقتين ولا يجب الخلط بينهما. الحمل بربنا يسوع المسيح, مثلاً, كان بآنٍ معاً مفاجئاً وفائقاً للطبيعة بينما كانت ولادته بنتيجة عملية تدريجية وطبيعية جرت تحت عناية الله وتدبيره. إن كان الحمل بالمسيح يُفهم كعملية تدبيرية أكثر منها معجزية, فإن التجسد يصير أمراً مرفوضاً وتنهار المسيحية (اقرأ 1 يوحنا 4: 3؛ 2 يوحنا 7). على نفس المنوال، إن كانت الأحداث الواردة في تكوين 1- 2 تُفهم على أنها تدبيرية أكثر منها معجزية, فإن رواية الخلق الكتابية, لا تُعدّل وحسب, بل إنها تتدمّر.
إن الخلق من العدم يشير بشكل أساسي إلى الملائكة (اُنظر كولوسي 1: 16), والكون الفلكي (بكل تعقيدات الأجرام المرئية وحقول القوة غير المنظورة فيه), وهذا الكوكب. على كل حال, عندما خلق الله الكائنات الحية على الأرض, شكّلها فجأة من مواد لا عضوية مخلوقة مُسبقاً. ولهذا أَمَرَ المياهَ أن تنتج مخلوقات مائية وطائرة في اليوم الخامس. مهما يكن, فإن الماء, بحد ذاته, حتى في حضور أشعة الشمس, ما كان ليمكنه أبداً أن ينتج (ولو خلال مليارات السنين) هكذا حيوانات بالغة التعقيد. وللسبب نفسه, فإن المياه التي استخدمها ربُّنا في عرس قانا الجليل (اُنظر يوحنا 2: 1- 11) ما كان ليمكن أبداً أن تتحول إلى خمر, حتى ولو تبخّر بتدخل نشوئي في تلك الأجاجين الحجرية لمليارات السنين. في كلتا الحالتين، ظهرت الكينونات المعقدة على نحو مفاجئ, حتى ولو كانت قد بُنيت على مواد سابقة الوجود عادمة الحياة. ومن هنا فإن حقيقة أن الله أمر الأرض أن تُخرج أشجاراً لا تعود تعني عملية نمو تدريجية بقدر ما تعني استخدامه عناصر لا عضوية للإتيان بجسد إنسان كامل النمو في نهاية أسبوع الخلق. وحتى فيما يتعلق بأصل الجنس البشري, رأى كثير من المسيحيين عناية تدبيرية إلهية عبر الزمن والفعل بدلاً من معجزة إلهية, وبذلك حرّفوا رواية التكوين بدافع الإقرار. هذه المسألة ستتم مناقشتها أكثر في الفصل 4.
وصف أحد الكُتّاب, وهو نشوئي يرفض فكرة معجزات الخلق كلها, الأحداث "المفاجئة" التي تجري في تكوين 1- 2 بأنها مشابهة بشكل خطير للاهوت الأفسسيين الوثنيين الذين كانوا يؤمنون أن صورة (الإلهة) ديانا قد سقطت عليهم من السماءومثال نموذجي عن هذا النوع من الخَلْقية, كما نعلم, هو الحركة الأصولية "الضعيفة إزاء حضور العملانية" ولذلك تخصص مكاناً كبيراً "لفكرة المجيء الثاني، الذي لا يُرى كتحقيق للعملية التاريخية, بل أمراً سيحدث ببساطة وفقط استجابة سريعة لصوت الله"إن صحة هذا النوع من الاعتراض, يستند, بالطبع, إلى صحة الافتراض بأن نظرية النشوء الداروينية الجديدة صحيحة, وأن المعجزات الكتابية يمكن تفسيرها عادة استناداً إلى عمليات تدبيرية, وأن الله خلق العالم "بتجاهل كبير لمرور الوقت، هذه السمة التي تميز ذاك الذي يصنع تحفة فنية"يقودنا هذا إلى اعتبار ثانٍ رئيسي يتعلق بحوادث الخلق التي في التكوين, وتحديداً تناظر أعمال الله الخَلْقية في شخص ابنه خلال حياته على الأرض منذ حوالي ألفي سنة في فلسطين. إن العهد الجديد يعلّمنا بوضوح أن الكون برمته قد خلقه ابن الله (يوحنا 1: 3, 10, و كولوسي 1: 16؛ عبرانيين 1: 2). ويكشف لنا العهد الجديد أيضاً أن الأعمال التي أنجزها خلال حياته القصيرة على الأرض كان يقصد بها أن تكشف طبيعته الحقيقية ومجده (يوحنا 1: 14؛ 2: 11؛ 20: 31). وعلى ضوء هذه الحقائق، فمن المفيد تعليمياً بشكل عميق وأساسي أن نلاحظ أن كل معجزات المسيح كانت تشتمل على "تحولات مفاجئة".
رغم قول أحدهم أن "ليس هناك استراتيجية غامضة وخطرة كمثل التشابه الجزئي", إلا أن التشابه الجزئي الكتابي لأعمال المسيح الخَلْقية في سفر التكوين وفي الأناجيل تبقى مسيطرة وذات قوة حاسمة كبيرة. فاستجابة لمجرد نطق ربنا بكلمة, على سبيل المثال, كانت الرياح الهائجة "فجأة" تتوقف, و"فجأة" تظهر للوجود كمية هائلة من الأرغفة والأسماك, و"فجأة" يسترد رجل بصره, و"فجأة" ينهض رجل ميت واقفاً على باب قبره. الاستثناء الوحيد الذي يدونه الكتاب المقدس, وسط العدد الهائل من معجزات الشفاء التي قام بها المسيح, هو حادثة شفاء الأعمى الذي استرجع بصره على مرحلتين, ولكن كل مرحلة كانت فورية الشفاء (مرقس 8: 22 – 25)هذه الأعاجيب كانت علامات لا يمكن نكرانها على الفوق طبيعية في تصاريح ربنا العلنية بأنه مسيا إسرائيل, ولعلنا نكون متأكدين تماماً أنه لو كان في شفائه للمريض والمشلول, والأعمى, قد أظهر "التجاهل الكبير لمرور الوقت الذي يميز ذاك الذي ينجز تحفة فنية"لما كان أحد قد أعطى أي التفاتة إلى مزاعمه. لو تطلب الأمر أن ينقضي يومان حتى يهدأ بحر الجليل بعد قول يسوع: "اسكت. ابكم"، لما كان التلاميذ قد "خَافُوا خَوْفاً عَظِيماً"، ولما "قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (مرقس 4: 39- 41).
إن المغزى اللاهوتي الهائل وراء هذه الحقائق من أجل فهم مسيحي لأصل العالم يمكن إدراكه من خلال التعليق التالي:
"إن اللاهوتي ينسب ميزات "مطلقة" معينة لإلهه؛ فهو يُوصف على أنه إله كلي القدرة, وكلي المعرفة، ولا متناهٍ. وهنا الفكر الذي يكشف نفسه في تطور الحياة على هذا الكوكب من الواضح أنه ليس كلي القدرة؛ وإلا لكان جمّع مباشرة على نحو كامل .... مصممة من تراب الأرض دونما حاجة للمرور بعملية طويلة من المحاولة والخطأ التي ندعوها النشوء"إن كل محاولة لتعديل فكرة الفجائية والفوق طبيعية في حوادث الخلق لجعلها مقبولة أكثر لـ "الفكر المعاصر" لا تؤدي، على المدى الطويل, سوى إلى تقليص وإبهام الصفات الحقيقية المميزة لخلق الله. وكان في هذا درس مهم للكثير من المسيحيين ليتعلموه.
الاعتبار الثالث المهم هو حقيقة أن عمل الله في الخلق كان قد أُكمل في ستة أيام حرفية وهذا يُظهِرُ حصرياً وبدقة أن عمله الخَلْقي خلال كل يوم من هذه الأيام كان فجائياً وفائق الطبيعة.
وفي نظر المعترضين الكثر على هذا المفهوم، حتى في بعض الأوساط المسيحية، قد يندهش كثير من الناس لمعرفتهم كم كانت قوية أدلة الكتاب المقدس ومؤيدة لفكرته، إنْ قُبِلَ نظام التفسير الكتابي القائم على النقد التاريخي واللغوي.
والآن سوف نقدم أربعة أدلة على أن أسبوع الخلق كان سبعة أيام حرفياً، مع ردود على أغلب الإعتراضات.
1- رغم أن الكلمة العبرية (yom) التي تستخدم للإشارة إلى "يوم" مستخدمة ألف مرة في العهد القديم، إلا أنها في بعض الحالات النادرة يمكن أن تشير إلى فترة زمنية أطول من 24 ساعة وهذا ما يتطلبه النص الذي ترد فيه (مثال: "يوم الرب"). وعلى كل حال، عندما يتم إقران صفة عدد ترتيبي بالكلمة "يوم" (ونعرف عن مئتي حالة على ذلك في العهد القديم)، فإن معناها يكون مقتصراً دائماً على 24 ساعة (أي "اليوم الأول"، "اليوم الثاني"....الخ مع توازٍ دقيق مع سفر العدد 7: 12 - 87 ). ولأكثر من سبعمائة مرة تأتي الكلمة "أيام" بصيغة الجمع (y?mim) في العهد القديم وهي تشير دائماً إلى أيام حرفياً (مثال: خروج20: 11 - "في ستة أيام")والتعبير "يوم" في زكريا14: 7، قال البعض أنه استثناء لهذه القاعدة، ولابد أنه يشير أيضاً إلى يوم حرفي، وخاصة لأن التعبير "مساء" تظهر في نفس الآية.
إن كلمة "يوم" ترد لأربع مرات في رواية الخلق مشيرة إلى المعنى "نهار" (أي12 ساعة في ضوء النهار) (1: 5، 14، 16، 18) ولكن في هذه الحالات لا تأتي معها صفة العدد الترتيبي وفحوى النص يظهر بشكل واضح المعنى المقصود بالكلمة، فعلى سبيل المثال، تعابير "نهار" و"ليل" الواردة في (تكوين 1: 5) توصف على أنها فترات "نور" و"ظلمة". وبالتالي سيكون هذا بلا معنى تماماً إن كانت "نهار" و"ليل" لا تعني أجزاء من اليوم العادي. في (تكوين 1: 14 -19) خلقت الشمس "لتحكم النهار" والقمر "ليحكم الليل". ومرة أخرى كلمتا "نهار" و"ليل" هنا تشيران بالتأكيد إلى أجزاء من اليوم العادي. والتعبير "يوم" (أي في يوم) الواردة في التكوين 2: 4 ليست فقط بدون صفة عدد ترتيبي بل أيضاً تصبح، لاتصالها بحرف الجر "في" مصطلحاً يعني "عندما".يسلّم روبيرت سي. ينومان وهيرمان جي. إكلمان، اللذان يرفضان تفسير اليوم حرفياً، بالقول أنه "ما من مثال واضح وقاطع عن ("يوم" مع صفة عدد ترتيبي) يمكن أن تأتي مع كلمة "يوم" بمعنى فترة طويلة من الزمنبل ويصلان إلى الاستنتاج الخطير الهدام بأن "معظم المعاني الشائعة للكلمات المتناولة (أي: "يوم"، "مساء"، "صباح") ينبغي استخدامها لتشكل نموذجاً".كملجأ أخير، يبدو أن مؤيدي نظرية اليوم-لدهر يمكن أن يقولوا فقط أن "غياب استخدام كلمة "يوم" بمعنى يغاير الأيام العادية واستخدام الأعداد الترتيبية قبل الأيام العادية في مكان آخر في العهد القديم لا يمكن أن يعطى مغزى تفسيري واضح لا لبس فيه من ناحية فرادة الأحداث التي توصف في تكوين 1( أي الفترات الزمنية المتعاقبة وغير المحدودة)
لعله يمكننا أن نورد مجادلتهم على النحو التالي: إن إعلان الله لنا عبر العلم يشير بشكل واضح إلى أن النباتات والحيوانات ما لبثت تحيا وتموت منذ ملايين وبليارات السنين. ولذلك، فإن تأييد التفسير للفهم التقليدي العبري/المسيحي عن أسبوع خلق حرفي وجديد نسبياً لا يمكن أن يكون حاسماً. وقد يتساءل المرء عن العدد الكبير من المقاطع الأخرى "غير المقبولة" فلسفياً في الكتاب المقدس التي يمكن صرف النظر عنها على هذا النحو.
2- إن التعبير الوصفي "المساء والصباح"، المرتبط بكل يوم من أيام الخلق عبر التكوين يشير إلى دورة 24 ساعة حول الأرض خلال دورانها حول محورها إشارة إلى مصدر ضوء فلكي ثابت (وليس بالضرورة أن يكون الشمس في كل حالة). وهذا التعبير نفسه يظهر في دانيال 8: 62، حيث يظهر ببساطة أنه لا يعني فترات زمنية طويلة وغير محدودة. لقد زعم البعض أن الآية في المزمور 90: 6 هي مثال عن استخدام مجازي لـ "المساء" و"الصباح". ولكن صيغة تكوين 1 ليست مستخدمة هنا، وترتيب الكلمات معكوس. علاوة على ذلك، إن الاستخدام المجازي لهذه العبارات في المزمور90 سيكون بلا معنى إن لم تكن تفترض مسبقاً استخداماً حرفياً في روايات تاريخية باكرة في الكتاب المقدس، كما في التكوين 1.
3- إن "أسبوع" خلق مؤلف من ست فترات زمنية غير محدودة بالكاد يخدم كنموذج ذي مغزى صحيح عن دورة عمل بني إسرائيل واستراحتهم، كما أوضحها الله لهم في سيناء في الوصية الرابعة (خروج 20: 11؛ 31: 7).
بينما صحيحة هي الفكرة، بالطبع، بأن الله كان يمكنه أن يخلق العالم في ستة مليارات من السنين، أو في ست ثوانٍ (أو في جزء صغير من الثانية) لو شاء أن يفعل ذلك، إلا أن هكذا تخمينات لا تمت بصلة مطلقاً إلى الوصية الرابعة التي تعلمنا أن الله، كأمر واقع، اختار أن يخلق العالم "في ستة أيام" لكي يقدم نموذجاً واضحاً عن فترات عمل إسرائيل وفترات استراحته. إن التعبير "ستة أيام" (لاحظ صيغة الجمع" بالكاد يمكن اعتباره مجازياً في هكذا سياق للنص.
يقدم ليون موريس أيضاً موازاة ممتعة بين أسبوع الخلق والأسبوع الأول من خدمة المسيح العلنية:
"إن كنا على صواب في رؤيتنا هكذا لمجريات أسبوع هام جداً تُعرض في بداية هذا الإنجيل، فعلينا أن نتابع ونسأل ما مغزى هذه البداية. إن التوازي مع أيام الخلق في تكوين 1 يوحي بذاته ويعزّزه التعبير "في البدء" الذي يفتتح كلا الأصحاحين. كما أن الكلمات الإفتتاحية في هذا الأصحاح تذكرنا تماماً بتكوين 1، كذا ففي إطار العمل، ينشغل يسوع في خلق جديد. إن إطار العمل يوحي إلى حد ما بنشاط خَلْقي"4- بما أن الكلمة "أيام" في تكوين 1: 14 مرتبطة بالكلمة "سنين"، فمن الوضح أن وحدات الزمن التي نعرفها جيداً هي التي يُشار إليه هنا، حيث أن مدتها لا تحددها ظروف ثقافية أو ذاتية، بل حركات الأرض الثابتة نسبة إلى الشمس. وإلا فأن التعبير "سنين" سيكون بلا معنى.
لابد من أن نفترض أن الأيام الثلاثة الأولى من أسبوع الخلق كانت لهانفس المدة الزمنية للأيام الثلاثة الفلكية الثابتة الأخيرة، لأن نفس العبارات الوصفية مستخدمة مع كل يوم من الأيام الستة (أي الصفات العددية الترتيبية وصيغة مساء/صباح)، وإن كل الأيام الستة مجمعة معاً في خروج 20: 11 لتقدم نمطاً عن أسبوع العمل لإسرائيل. وإن حقيقة أن الشمس لم تخلق حتى اليوم الرابع لا تجعل من الأيام الثلاثة الأولى فترات زمنية غير محدودة، إذ أن الله خلق في اليوم الأول مصدراً للضوء ثابتاً ومتموضعاً في السماء والذي على أساسه مرت الأرض في دورانها عبر نفس النوع من دورات النهار/الليل التي كانت منذ خلق الشمسهذا الضوء ما كان ليكون نور طبيعة الله المقدسة، لأن الله خلقه ("ليكن"). إضافة إلى ذلك، لو كان نور الله نفسه لكان نصف الأرض سيبقى في الظلمة. ومن هنا، فقد كان نوراً مخلوقاً، متموضعاً في مكان ما في الكون، وعلى الأرجح غير مشترك مع الكون النجمي في اليوم الرابع من أسبوع الخلق بعد إنجاز وظيفته الفريدة والمؤقتة. إن المضامين اللاهوتية من تأجيل خلق الشمس، والقمر، والنجوم إلى النصف الثاني من أسبوع الخلق، لها مغزى كبير قياساً إلى الإستخدم الوثني لهذه الأجرام المحدودة وفاقدة الحياة من قِبَل الإنسان الساقط (انظر تثنية 17: 3؛ أيوب 31: 26- 28)ومن هنا، فإن تحليلاً دقيقاً للكلمة "يوم" من ناحية استخدامها في العهد القديم، ومقترنة بصفة العدد الترتيبي وصيغة مساء/صباح، وبارتباطها بالتعبير "سنين" خاصة على ضوء دورة العمل والإستراحة التي أعطاها الله لإسرائيل، يقودنا حتماً إلى الاستنتاج بأن أيام الخلق كانت حرفية ومؤلفة من 24 ساعة متتالية. وبالتالي، فأن تطيل الأيام إلى عصور طويلة أو أن تقحم دهوراً طويلة بين الأيام هو أمر غير منطقي كتابياًإن الفهم اليهودي-المسيحي التقليدي يؤيده التفسير الكتابي: الكون خلقه الله خلال أيام أسبوع واحد حرفياً.
إزاء التفسير الحرفي لليوم في تكوين 1، جادل البعض بأن هناك مقاطع أخرى في الكتاب المقدس تتحدث عن "يوم" في عيني الله هو كألف سنة. صحيح أن هكذا عبارة وردت مرة في العهد القديم (مزمور 90: 4) ومرة في العهد الجديد (2بطرس 3: 8). ولكن هاتين الآيتين لا تضعفان الرأي باليوم الحرفي للخلق بل إنها تساعد في تعزيزه بالفعل.
في 2بطرس 3: 8، مثلاً، لا يُقال لنا أن أيام الله يدوم كل منها ألف سنة، بل أن "يوم" واحد عند الرب هو ألف سنة...... أن نقول "هو كألف سنة" هو أمر مختلف جداً عن القول "هو ألف سنة". هذه الفكرة غالباً ما كانت موضع تفحص. إن كانت عبارة "يوم واحد" في هذه الآية تعني حقاً فترة طويلة، فعندها نصل إلى الإبهام التالي: "عند الرب، فترة طويلة من الزمن هي ألف سنة". ولكن ألف سنة ستكون فترة زمنية طويلة جداً بالنسبة للبشر أيضاً. لا بد أن يُفهم (مز90: 4) بنفس الطريقة إذا كان المقصود هو المغايرة بين الله والإنسان: "لأن ألف سنة في عينيك هي كمثل أمس عبر......". فهنا كلمة "أمس" لابد أنها تشير إلى فترة 24 ساعة وإلا لا يكون لدينا تغاير هنا.
وبالتالي، فإن التعليم الواضح في مز90: 4 و2 بطرس3: 9، هو أن الله فوق حدود وقيود الزمن. ونستدل من هذا على أن الله يمكن أن ينجز بيوم واحد حرفي ما لا يستطيع الإنسان إنجازه في ألف سنة. هذه إحدى الرسائل الصادمة التي نتلقاها من خلال التفسير العادي لرواية الخلق في تكوين 1: الله وحده له قدرة لا محدودة. وكان إرميا قد رأى هذه الحقيقة الراسخة:"[آهِ أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ هَا إِنَّكَ قَدْ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقُوَّتِكَ الْعَظِيمَةِ وَبِذِرَاعِكَ الْمَمْدُودَةِ. لاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ شَيْءٌ" (إرميا32: 17).
أمن الممكن أن الخالق كان في حاجة إلى اليوم السابع ليستريح من عناء ستة أيام في عمل الخلق؟ الجواب يأتينا بهذا الوضوح المذهل: "أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلَهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ. يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً" (أشعياء 40: 28- 29)
ببساطة يمكن القول أنه لا يمكن للفكر البشري أن يدرك قدرة الله وقوته: " فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ .... لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ" (أشعياء40: 25؛ 55: 9).
هذه الحقيقة البالغة الأهمية المتعلقة بالله تتم تسويتها جدياً، إن لم يكن إبطالها، عندما تمطّ رواية الخلق الواردة في التكوين لتدخل فيها عصور زمنية واسعة لجعل المقطع "معقولاً" و"مقبولاً علمياً" أكثر، وهكذا تتلاءم مع مستوى تفكير الإنسان الطبيعي المحدود. إن تحريف الكتاب المقدس يشوه رسالة الله لنا. وإنّ ما قاله الرسول بطرس فيما يتعلق برسائل بولس ينطبق طبعاً وبالتأكيد على الأصحاحات الافتتاحية من الكتاب المقدس، ".... الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ" (2 بطرس 3: 16).
هناك اعتراضٌ آخر واسع الانتشار على التفسير الحرفي لليوم في التكوين 1 يقول بأنّ اليوم السابع لم ينتهِ بعد، لأن الله لا يزال يستريح من عمل الخلق (انظر عبرانيين 4: 3- 11)
هذا النقاش والجدل يقدم الكثير من التشويش بين الأحداث التاريخية والتطبيق الروحي لها. فـ "الاستراحة" التي في عبرانيين 4 هي استراحة الخلاص الروحية (انظر متى 11: 28- 30)، وبها يشارك المؤمن في البركة الأبدية والامتلاء الذي يميز الله. بالطبع لم يكن الله بحاجة إلى أن ينتظر إلى نهاية اليوم السادس من أسبوع الخلق لكي يبدأ هذا النوع من الاستراحة ولذلك، فإن السبت الأول لم يكن قد وُضِعَ من أجل مصلحة الله (انظر أش 40: 28؛ يوحنا 5: 17) بل كان لأجل منفعة الإنسان (مرقس 2: 27). هذه الفكرة غالباً ما يتم تجاهلها ولكنها حاسمة في تحديد مدة وهدف يوم السبت الأصلي.
أصرّ إدوارد يونغ على أنَّ "اليوم السابع يجب تفسيره على أنه مشابه في طبيعته إلى الأيام الستة الأولى. وليس هناك من برهان كتابي على الإطلاق (ولا حتى في عبرانيين 4: 3- 5) على فكرة أن اليوم السابع أبدي ويوافقه هومر إ. كنت الرأي فيقول:
"هذه [الحقيقة في أنّ ليس هناك من نهاية تُذكر لليوم السابع] لا تحمل المعنى بأن اليوم السابع لم يكن يوماً حرفياً بمساء وصباح، كما الأيام الستة السابقة من الخلق. وعلى كل حال، استخدم الكاتب صمت الكتاب المقدس على هذه الفكرة ليقول في مجادلته أن استراحة الله في يوم السبت لم تنتهِ أبداً. ونفس الطريقة والجدال نستخدم في عبرانيين 7: 3 بما يتعلق بغياب سجل عن ميلاد ملكي صادق، أو نسبه أو موته"
كم من الوقت، إذاً، قد دامَ يوم السبت الأول؟ من الواضح أن كل الإسرائيليين، الذين قد عيّن الله لهم أن يحفظوا السبت قد فهموا أنّ هذه الفترة كانت 24 ساعة تماماً، استناداً إلى نموذج السبت لدى الله: "سِتَّةَ أيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ. وَأمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إلَهِكَ. لا تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنـزيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أبْوَابِكَ - لأنْ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ" (خروج 20: 9- 11).
فلو قرر أي إسرائيلي أن يطيل مدة حفظه للسبت على نحوٍ غير محدد على افتراض أن سبت الله (راحته) لا يزال مستمراً، فعندها سيموت من الجوع (انظر خروج 35: 3). وبنفس الأهمية هناك الاستنتاج بأنّ آدم وحواء لا بدَّ أن يكونا قد عاشا طوال يوم الخلق السابع برمته قبل أن يطردهما الله من الجنة، لأن الله ما كان ليلعن الأرض (تكوين 3: 17) خلال نفس اليوم الذي "باركه" و"قدسه" (تكوين 2: 3).
دافع البعض حتى عن فكرة أنّ اليوم السادس من الخلق قد امتدَّ بالتأكيد فترةً أطول من 24 ساعة لأن الله لا بد أن يكون قد أعطى آدم زمناً كافياً ليصبح لوحده. وهذا يؤكده، كما يزعمون، حقيقة أنّ آدم عندما استيقظ ورأى حواء هتف قائلاً: "هَذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي...." (تك 2: 23 أ)ولكن التعبير "الآن" (أي "هذه المرة" أو "الآن أخيراً" ) لا يمكن أن يُضغَطَ ليحمل معنى بشكل مطلق (بدلاً من نسبي) فترة طويلة من الزمن. لقد أحسنَ يعقوب عندما استخدم هذا التعبير بعد ساعتين أو ثلاث من المصارعة الشديدة مع الله ( تكوين 32: 24؛ هوشع 12: 2- 5). ولكن ليس من الضروري أن نُخمن حول الاستخدامات الممكنة لهذا التعبير، لأن إبراهيم في تكوين 18: 32 استخدمه في نهاية أحد محادثاته مع إلههِ. ويوضح نيومان وإكلمان قائلين: " هنا نجد الذروة العاطفية القوية تُبنى بسرعة لأن ابراهيم يساوم الله"هذا الشرح يُبطل بشكل واضح جدالَهم كليّاً، لأن آدم بالكاد قد تشارك عاطفياً مع الله ومع إمرأته المخلوقة حديثاً بنسبةٍ أقل مما تشاركه إبراهيم مع إلههِ. من المحزن أنّ المفكرين المسيحيين الذين يصرون على أن آدم ما كان ليمكنه أن يُسمي الطيور والثدييات في يومٍ واحد حتى مع فكرة المخلوق حديثاً وغير الساقط، وبمعونة الله الخاصة (تكوين 2: 19_ "أحضرها الرب الإله إلى آدم")، يطلقون العنان للاستقراءات المتساوقة الحافلة بالمخاطرة نمطياً والتي تميز دراسات كثيرةٍ جداً للتكوين 1- 11 في جيلينا. إنّ إعطاء زمنٍ أطول بقليل لآدم ليسمي الطيور والثدييات قد يبدو للبعض مسألة غير منطقية تماماً. إن ما يطلبه نيومان وإكلمان هو في الواقع ليس فقط بضعة أيام أو أسابيع لآدم ليسمي الحيوانات، بل "أسبوع خلق" يمتد "15- 20 مليار سنة"، بما فيها عمليات النشوء وما يزيد على مليار سنة من الموت في مملكة الحيوان قبل السقوط، مع استمرار الافتراض بأن اليوم السابع لا يزال في المستقبل.من ناحية العقيدة الكتابية المتعلقة بخلق العالم، هذه العقيدة الهامة بشكل حيوي جداً، سيبدو من غير المعقول أن ينتظر الله حتى القرن التاسع عشر الميلادي (أكثر من ثلاث ألفيات بعد كتابة التكوين) ليعلن لشعبه أن رواية الخلق تشتمل دهوراً وعصور واسعة ممتدة فيها موت وهلاك في مملكة الحيوان قبل خلق آدم. وكما يقول أحد المؤيدين لمفهوم الأرض القديمة بجرأة:
"حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان المسيحيون يُجمعون عملياً على الاعتقاد بأن الأرض كان عمرها حوالي ستة آلاف سنة بحسب تعليم الكتاب المقدس. ولكن الدراسة العملية المطردة.... شكلت ضغطاً على كاهل المفكرين المسيحيين ليعيدوا النظر في مسألة عمر الأرض"
للتأكيد، فإنّ حفنة من آباء الكنيسة كانوا متأثرين كثيراً بالفلاسفة الوثنيين في عصرهم فنظروا إلى الكثير مما ورد في تكوين 1 مجازياً، تماماً كما يفعل كثير من اللاهوتيين في يومنا هذا. ولكنهم "لم يعبثوا بفكرة الخلق ممتداً على مدى فترة طويلة من الزمن بل كانوا يعتقدون بالفكرة القائلة بأن الخلق لم يكن فورياً. هذه النظرية افترضها أوريجنس، وهيلري، وأغسطينوس، وجيروم (إيرونيموس)"ولكن التعليم الحقيقي في تكوين 1، مجرداً من التخمينات الاستعارية المجازية جميعاً، يأتي إلى شعب الله بوضوح مذهل. حتى اللاهوتيون الليبراليون، ولأسبابهم الخاصة يؤكدون هذه الفكرة. فعلى سبيل المثال، يعلق جيمس بار الذي من المعهد المشرقي في جامعة أوكسفورد قائلاً:
"على حد علمي، وحتى الآن، ليس هناك مدرس للغة العبرية أو العهد القديم في أية جامعة في العالم لا يعتقد أن كاتب (أو كتاب) تكوين 1- 11 كان يقصد أن ينقل لقرائه فكرة أن الخلق حدث في سلسةٍ من ستة أيام كان كلُُّ يومٍ منها مؤلفاً من 24 ساعة كما نعرفها الآن"هناك عدد من الآيات في العهد الجديد تدل بشكل قوي على أن الجنس البشري خُلق تقريباً في نفس الوقت مع الكون المادي. فعلى سبيل المثال، قال ربنا أن "مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللَّهُ" (مرقس 10: 6). ولكن إن كانت مليارات من السنين قد انقضت بين خلق الأرض وخلق الجنس البشري، فهذا القول سيكون مُضللاً وخاطئاً. من أجل أقوال مشابهة انظر متى 13: 35، مرقس 13: 19، لوقا 11: 50، رومية 1: 20، عبرانيين 4: 3، 9: 26. تظهر كتابات دافس يونغ التوترات الهائلة التي اختلقها القائلون بنظرية التساوق (وليس القائلون بحادثة واحدة فريدة) عندما ينظرون إلى الجيولوجيا التاريخية فيعطونها سلطة ومصداقية مساوية للأصحاحات الأولى من سفر التكوين. فمن جهة يؤكد دافس يونغ على أن الكتاب المقدس موثوق به أكثر بكثير من العلم، وأنه:
"إن كان من الممكن أن نظهر بما لا يرقى إليه الشك أن الكتاب المقدس يفترض 24 ساعة لليوم، فإنّ العالم المسيحي لا بدّ أن يقبل ذلك ويتخلى بالفعل عن آراء العلوم الجيولوجية ويلجأ إلى شيءٍ آخر. إن كان متماسكاً وثابتاً في إيمانه بالكتاب المقدس، فلا بدّ له أن يفعل ذلك"ومن جهة أخرى، يتابع قائلاً: ".... كعالم جيولوجي، إني مستمتع جداً بهذا التفسير (الرأي باليوم- دهر لتكوين 1)، لأني اعتدتُ على التفكير بمليارات السنين" فالنظرة الاستعارية المجازية لتكوين 1 "تعطي العَالِم حريةً كبيرة"، وتتركه "غير متقيد"باختصار، على المسيحي أن يكون مستعداً لأن يترك التقدم العلمي يسير في مساره الخاص وفي زمنه الخاص أي أن يتطور بشكل طبيعي مع ظهور الاكتشافات الجديدة. لا يستطيع المرء أن يفرض على التفكير العلمي أن يسير باتجاه محدد"لا يمكن تقديم تفسير مقنع عن السبب في أن هذه المقاربة تجلّ سيادة الكتاب المقدس أو تختلف عن النشوئية الإيمانية المباشرة.
ببساطةٍ ليس هناك مهرب من حقيقة أن الله يقصد لنا أن نفهم أن خلق الكون والأرض، ولأهداف عملية قد صار فوراً وبلحظةٍ واحدة. إنّ مضامين هذا الجانب من الوحي الإلهي من جهة المحاولات الحالية المنتشرة لأقلمة وتوثيق التكوين مع النشوئية الكونية واضحة تماماً من دون ريبٍ. فاقتراح "خلْقٍ تدريجي" للشمس والقمر والأرض قد يكون مفهوماً لبعض العقول. ولكن بالنسبة لمعظم الناس هكذا مفهوم سيطرح مسألةً جدية للغاية فيما إذا كان الله، كأمر مسلم به، قد خلق أصلاً وحقاً الشمسَ والقمرَ والأرضَ على الإطلاق. عندما تبدأ الحقيقة المذهلة تتضح معالمها، في أن هذه الأجرام الفلكية العظيمة قد خُلقت فورياً لحظياً ومن العدم، فإنّ كل الأسئلة والشكوك الجدية الكبيرة المتعلقة بالألوهية وقدرة الخالق ومجده تتلاشى ( انظر رومية 1: 20). هذا هو السبب في أنّ المقاربة اليهودية/المسيحية للخلق ليست فقط صادمة بل أيضاً تنشيء بتأثيرها تحولاً على الفكر البشري
روسل. و. ماتمان القائل بنظرية "اليوم- دهر"، كان متأثراً بهذا الدليل الكتابي: "لا يوجد شك بأن كل حدث خَلْقي كان فورياً. في لحظة ما وجد شيء معين، في اللحظة السابقة لم يكن موجوداً". كتاب "الكتاب المقدس، علم الطبيعة والنشوء"
هذا الاستثناء اللافت بين آلاف الشفاءات الفورية لربنا لا يمكن استخدامها بالتأكيد كأساس أو قاعدة على التدرج في عملية الخلق, انطلاقاً من مفهوم حدوث خلق الأصول خطوة فخطوة (رغم أن كل عمل كان فائق الطبيعة). إن هذه الحادثة الفريدة والوحيدة نفسها تفيد كتحذير لأولئك الذين سيفترضون أن هذه كانت طريقة الله الأساسية في خلق الأشياء. فهذا السرد في رواية الخلق لا يعطي أي إشارة على "عمليات خلق" على مراحل سواء للملائكة أو النجوم أو الكواكب أو النباتات أو الحيوانات أو الكائنات البشرية عبر ملايين أو مليارات السنين.
يتبع
Comment