المسيحية والعنف
مقدمة:
• المفردات
- المسيحية: يمكنها أن تعني:
• كما هي في الإنجيل وباقي العهد الجديد.
• كما هي في تعاليم السلطة الكنسية, بما فيها المجمع الفاتيكاني الثاني,
• كما هي في حياة المسيحيين في التاريخ,
• كما هي في حياة المسيحيين حالياًّ.
- العنف يعني غير القوة:
• فالقوة قيمة إيجابية, وفضيلة من الفضائل الأربع الأساسية بحسب تعبير الكنيسة, وهي عكس الضعف والتخاذل والهرب من أخذ القرار, او المسؤولية. وهي توظّف عادة لخدمة الإنسان, "كل إنسان".
• والعنف هو طاقة سلبية, موجهة ضد الإنسان, الفرد أو الجماعة, او المجتمع كله, تمسُّ شخصه بالعموم, أو إحدى قيمه الأساسية: حياته, حريته, مساواته مع الغير, تكافؤ الفرص للعلم والعمل, نموه الجسدي والنفسي والروحي, احترامه كفاية لا كوسيلة, وكفاعل لا كمفعول به...
• أمثلة عن العنف
- القتل- التشويه- التعذيب- الإرهاق- الحرب- الإبادة الجماعية, الشاملة أو الجزئية
- الإستعباد- الإكراه- الإغصاب- الإغتصاب- الإرهاب من السلطة أو ضدها
- الظلم- التفرقة الفئوية, بسبب العِرق أو اللون أو الدين... أو الجنس,
- الكذب- الخداع-
- الإبقاء في التخلف, الجسدي, أو النفسي, أو الروحي
- الإستغلال- الإبتزاز- وكل استعمال إنسان لإنسان آخر أو لجماعة
- التنكير أي اعتبار الآخر نكرة, كمية مهملة, رقماً كباقي الأرقام...
• أمثلة عن استعمال القوة غير العنفية
أي التي فيها ضغط, وشدة, وقساوة من دون المسّ سلبياًّ بأحد أبعاده أو قيمه الأساسية, مثلاً:
- التربية بدون ميوعة,
- تقديم اعوجاج عند الولد أو الحدث أو الشاب, لأجل صالحه,
- تطويره أو تطوير جماعة أو مجتمع
- الكلام الشديد الذي يوعّي الآخرين من غفلتهم, أو لا مبالاتهم, او خطأهم...
• الويل لكم
•
- لإقامة العدالة ضد الذين يسيئون إليها
- السجن التربوي- الأشغال المفيدة للمجتمع
- تعبئة الجماهير من خلال حملات إعلامية,
- المظاهرات- الإعتكافات- الصيام
- الوسائل الإقتصادية, التي لا تطال أبناء الشعب الكادح
- المقاطعة المدنية للحكام السياسيين أو الإقتصاديين, بالوسائل التي تؤثر على إرادتهم, فتدعوهم إلى ما هو حق وعادل.
• الوسائل اللاعنفية على طريقة غاندي
- هي الوسائل التي تسعى إلى تغيير الواقع الظالم أو المتخلف:
• في المجتمع المدني,
• وفي المجتمع الديني,
- المثلان الكبيران على هذه المنهجية اللاعنفية هما:
• تحرير الهند بقيادة "غاندي" من الإستعمار البريطاني, بالإستغناء عن المنتجات الإنكليزية,
• تحرير المواطنين السود بقيادة "مارتن لوثر كينغ" في الولايات المتحدة من القوانين العنصرية, التي تفرّق بينهم وبين المواطنين البيض, وتمنعهم من دخول المرافق العامة, وذلك بالإمتناع عن استعمال "الباصات" والذهاب مشياً على الأقدام إلى أعمالهم ومدارسهم.
- كان "غاندي" يقبل ببعض الإستثناء من اللاعنف الشامل, إذ يقول: "إذا خيِّرتم بين العنف والجُبن, فاختاروا العنف"!
المسيحية والعنف
• هل "المسيحية" تقبل بالعنف؟
- إذا كانت "المسيحية" تعني المسيحيين خلال التاريخ, من الواضح:
• أنّ المسيحية مارست العنف داخل الكنيسة الواحدة:
•• ضد أصحاب "البدع", "الهراطقة",
•• ضد اللاهوتيين إذا لم يلتزموا بحرفية تعليم السلطة: دواوين التفتيش
• أنها مارست العنف ضد كنائس أخرى:
•• حروب الكاثوليك والبروتستانت- ولا تزال تمارسه في إرلندا,
•• حروب الكاثوليك ضد الكنيسة الشرقية- والإقتناص منها
• أنها مارست العنف ضد المسلمين:
•• الصليبية,
•• الإستعمار.
- إذا كانت "المسيحية" تعني المسيحيين في أيامنا, واضح أيضاً:
• أن هناك أحزاباً مسيحية في أوروبا مارست العنف في سياستها الخارجية- الداخلية
• ان هناك أحزاباً أو تكتلات مارست العنف في بلادنا, أثناء الحرب الأخيرة:
•• ضد المسلمين, والفلسطينيين, والسوريين
•• ضد المسيحيين أنفسهم إذا كانوا في "خندق" مضادٍّ لهم,
- إذا كانت "المسيحية" تعني السلطات الكنسية, نجد أيضاً:
• أن الباباوات, والبطاركة والأساقفة ورؤساء الرهبانيات... لا يزالون يبررون "الحروب العادلة", والدفاع عن النفس, وعن الكنيسة, وعن الوطن بالوسائل العنفية, حتى القتل.
• إن المجمع الفاتيكاني الثاني ذاته قد سمح بذلك. ففي وثيقة "الكنيسة في عالم اليوم- فقرة 79" يقول: "لا شك أن الحرب لم تختف من الأفق الإنساني. وما دام خطر اندلاع الحرب قائماً, ولا سلطة دولية عليا, وذات صلاحية تملك القدرة الكافية, لا يمكن إنكار حق الحكومات, بعد استنفاد جميع إمكانات الحل السلمي, أن تلجأ إلى الدفاع الشرعي".
- أما إذا كانت "المسيحية" تعني تعليم المسيح والرسل في العهد الجديد, فلا يمكننا قطّ أن نجد تبريراً للعنف, بل نجد تبريراً للقوة المُحِبَّة, التي تريد خير الآخرين.
• متى 15:18-17: الإصلاح الأخوي على يد اثنين أو ثلاثة ثم مقاطعة الكنيسة للمدنيين على الخطأ لكي يهتدوا.
• بولس إلى الرومانيين 17:12 و18: "أغلبوا الشر بالخير"
• لوقا 51:9-55: توبيخ يعقوب ويوحنا, عندما أرادوا إنزال نار على السامريين الذين لم يريدوا استقباله مع تلاميذه, إذ قال لهم:
"إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس, بل ليخلصها."
• متى 51:26-53: عندما قال يسوع لبطرس: ردَّ سيفك إلى موضعه "فالذي يأخذ بالسيف بالسيف يهلك."
• متى 43:5-46: في عظة الجبل قال يسوع: "أحبوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم, وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم"...
• إعتراضات كتابية والجواب عليها
- ولكن هناك من يعترض قائلاً: إن المسيح مارس العنف عندما طرد الباعة من الهيكل. ولكن الواضح, بحسب النص الأصلي اليوناني للمقطع:
• أنه لم يؤذِ أحداً بما هو أساسي لكيانه الإنساني,
• أنه ضرب بالسوط الحيوانات لا البشر,
• أن ذلك كان قوة "غيرته", التي لم تقبل أن يصبح بيت الله مغارة للصوص, "إذ تذكر تلاميذه أنه مكتوب": "غيرة بيتك تأكلني" (مزمور 10:68),
• أن الهدف كان تربوياًّ للباعة والمشترين فياً, في ذلك الزمان وكل زمان.
- والإعتراض الثاني هو الكلام القاسي الذي كان يوجهه إلى الكتبة والفريسيين المرائين, كالأقوال التالية:
• "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون...
• ويل لكم أيها القادة العميان...
• فإنكم تشبهون القبور المكلسة, التي يبدو ظاهرها جميلاً, فيما باطنها ممتلئ عظام أموات وكل بخاسة...
• أيها الحيات نسل الأفاعي..." (متى 23)
هنا أيضاً نعرف أن المسيح كان يستعمل هذه اللغة معهم من أجل توعيتهم, وتربية تلاميذه على الطريقة التي يجب أن يستعملوها في الحالات الممثالة... وأولاً تجاه أنفسهم, لئلا يقال لهم, هم أيضاً: "إسمعوا أقوالهم, ولا تفعلوا أفعالهم" (متى 25:6) كلمة يرددها كثيراً في أيامنا الشبان والشابات, ويتذرعون بها ليبتعدوا عن الكنيسة.
• إعتراضات إنسانية والجواب عليها
فإذا اقتنع المؤمنون المسيحيون بكلمات المسيح ضد كل عنف, وبضرورة محبة الإعداء أنفسهم, وبالتمييز بين "القوة" التي اتّسم بها المسيح في أقواله وأعماله من جهة, "والعنف" الذي يعني الإساءة إلى الإنسان وقيمه الأساسية من جهة أخرى,
وإذا قرروا اتباع تعاليم المسيح هذه, التي قادته إلى الحكم عليه وصلبه وموته, وعدم استعمال قدرته الإلهية للنزول عن الصليب:
"وكان المارة يشتمونه وهم يهزون رؤوسهم ويقولون: أنت القادر على تدمير الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام, خلّص نفسك إن كنت ابن الله, وانزل عن الصليب". (متى 34:27و40),
وإذا أرادوا القتداء بالمسيح الذي غفر لقاتليه وصلىّ لأجلهم قائلاً:
يا أبتِ, إغفر لهم, لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23), كثيراً ما يقولون: هو كان ابن الله. كان قادراً أن يتصرف هكذا لأن لاهوته كان يقوّي ناسوته, الذي ظهر ضعفه في جبل الزيتون في نزاعه النفسي الشديد, إذ كان يصلي لأبيه السماوي:
"يا أبت, إن كان يُستطاع فلتعبر عني هذه الكأس (كأس الموت).
ولكن, ليس كما أشاء, بل كما تشاء أنت" (متى 39:26)
يضيف المسيحيون: طبيعتنا البشرية لا تستطيع أن تتحمل عنف الآخرين وتهديدهم إيانا بالعذاب أو بالموت, لذلك نلجأ للدفاع عن أنفسنا, وبالرد على العنف بالعنف... لإزالة عنف الآخرين, ولقتلهم قبل أن يقتلونا!
صحيح هذا الكلام. فالطبيعة البشرية, مع غريزة البقاء المتأصلة فينا, لا تقبل مثل هذه البطولة الإستشهادية. ولذلك من الضروري أن تساندنا القوة الإلهية, التي نسميها "النعمة".
"فيدونه لا نستطيع شيئاً" (يوحنا 5:15)
بينما, كما يقال بولس الرسول:"إننا نستطيع كل شئ في الذي يقوينا". (فيليبي 13:4)
نستطيع "فيه", أي إذا كنا نحيا فيه. ويقول بولس الرسول أيضاً اختباره لهذه الحياة.
"إن كنا قد متنا مع المسيح, نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه" (روم 8:6).
ونعترض نحن البشر من جديد قائلين كما قال سامعو المسيح بعد أن كلّمهم عن بذل جسده ودمه غذاء سماوياًّ:
"فلما سمع تلاميذه قال كثير منهم: إنه كلام صعب, فمن يطيق سماعه؟... منذئذ ارتدّ عنه كثير من تلاميذه وانقطعوا عن السير معه. فقال يسوع للإثني عشر (الرسل): وأنتم, أفلا تريدون أن تذهبوا؟ أجاب سمعان بطرس (يعقوب) المتحمس دائماً... الذي نكره عند الشدة والخوف من الموت):
"إلى من نذهب, يا رب؟ أن عندك كلام الحياة الأبدية" فإناّ نحن قد آمنا يك, وعرفنا أنك قدوس الله"! (يوحنا 60:6و66-69)
لذلك, إذا لم يكن لدينا اليمان العميق, الشجاع, الصامد, والإلتزام الحياتي بهذا الإيمان, والوعي أن المسيح يحيا فينا ونحن نحيا فيه (يوحنا 21:17) لا نستطيع أن أن نبقى لا عنفيين حتى الموت... موتنا, لا موت الآخرين!
والمؤمنون الملتزمون الصامدون قليلون ولا شك! (ولا أدري إذا كنت أنا منهم حقاًّ!)
• إعتراضات إجتماعية سياسية والجواب عليها
والمسيحيون اللبنانيون, الذين لجأوا إلى العنف إباَّن الحرب العيثية, كان لهم, ولا يزال عند البعض, إعتراضات أخرى, منها:
- هذه المبادئ "الإنجيلية", كانت صالحة لزمان غير زماننا.
- هي لكائنات تفوق الطبيعة البشرية.
- الذين يسمعونها منا يعتبرونها ضعفاً, وتبريراً للقبول بالضعف, بينما المطلوب أن نكون أقوياء.
- الأخصام السياسيون الذين يسمعونها "يستقوون"بها علينا فيأخذون جميع حقوقنا في الرئاسات والوظائف الإدارية, ويهمشوننا فلا يبقى لنا أي وزن في بلادنا, ونصبح مواطنين من درجة ثانية.
- النظام اللبناني مبنيٌّ على "الديمقراطية التوافقية", التي تتطلب "توازن القوى" الطائفية بل المذهبية لا مكان فيه للضعف وللتنازل عن الحقوق. فالطريقة اللاعنفية للتعامل مع الآخرين تصبح ضد المسيحية ووجودها الفاعل في المجتمع.
والأجوبة على هذه الإعتراضات تحتاج إلى فسحة أكبر من مقالة صحيفة. وبالإختصار يمكن الإكتفاء ببعض رؤوس الأقلام, على أن يكتمل التوضيح في مقالات لاحقة.
- هذه المبادئ الإنجيلية صالحة لكل زمان, على أن تفهم في حقيقتها, ووفقاً للمقاييس الإنسانية الروحية, لا السياسية "المصلحية". والمقياسان الأساسان, المتكاملان هما المسيح المطلق الأسمى, والإنسان المطلق الثاني النابعة من مطلقيته من أنه "صورة الله" "وهيكل الله", "وخليفة الله في الأرض".
- هذه المبادئ اعتمدها وطبقها المسيحيون الأوائل, فقبلوا عنف الأمبراطورية الرومانية الوثنية, التي قتلت عشرات الآلاف من المسيحيين, فأصبح "دم الشهداء بذار المسيحية" (ترتليانوس في القرن الثاني), وبدلاً من أن تزول المسيحية, زالت الأمبراطورية وعنفها.
- هذه المبادئ تفوق قوة الطبيعة البشرية, إذا لم تستند إلى قوة المسيح, وهي تساعد المؤمن للإنتصار على خوفه من الإستشهاد, وللشهادة للمسيح, وللحق والخير والعدل والمحبة...
- قد يعتبرها الناس من الخارج ضعفاً. ولكن إذا كانت الشهادة حقيقية, سيكتشفون وراء عدم العنف, وعدم الرد على العنف إلا بالمحبة, أن "المحبة قوية كالموت" (نشيد الأناشيد 8:6) بل أقوى من الموت وأن "كل مولود من الله يغلب العالم, والغلبة التب غلب بها العالم إنما هي إيماننا" (1 يوحنا 4:5)
- وإذا "استقوى" الأخصام السياسيون, "فاستقواؤهم" ليس "قوة" حقيقية. وكان بولس المختبر والمعبِّر الأول عن اختباره لقوة الإيمان والمحبة يقول:
"إننا ولا شك نسلك في الجسد, لكننا لا نحارب بحسب الجسد.
لأن أسلحة حربنا ليست جسدية, بل هي قادرة على هدم الحصون, فنهدم السفسطات (الجدل العبثي) وكل علوٍّ يرتفع ضد معرفة الله"... (2 كورنتس 3:10-5)
- وهذا التفكير الذي يناقض منطق القوة البشرية السياسية المعهود, يبدو تفكيراً "طوباوياًّ", ويذكر, ولا شك بكلمة ماركس الرهيبة: "الدين أفيون الشعوب"... وهو قد يكون كذلك إذا كان تفكيراً نظرياًّ, بلا ممارسة الإيمان والمحبة الحقيقيين.
- خسارة المسيحيين في لبنان لبعض مواقع السلطة والوظيفة العامة تنتج من انعكاس ميزان القوى المجتمعية السياسية. فبعد أن تفوّق المسيحيون في عهد الإنتداب وعقود "الإستقلال" الأولى, يتفوّق المسلمون حالياًّ بعد "اتفاق الطائف", ولكن هذه المعركة على مواقع السلطة والوظيفة هي جانب من مرض لبنان الطائفي, الذي يجب أن يشفى منه لبنان "بالعلمانية الشاملة الحيادية تجاه الأديان", التي أخذ يتبناها الكثيرون من أبناء "المجتمع المدني", لا سيما الشبان والشابات الذين يتزايد يوماً بعد يوم وعيهم لهذا المرض ولهذا الدواء. وسيفرد مقال أو أكثر في ما بعد لتوضيح معنى العلمانية الشاملة, التي ليست إلحاداً, ولا هي التي تحرر من الدين, بل تحرر الدين من شوائبه, ولا سيما من أن يصبح الدين إيماناً بلا ضغط مجتمعي.
- النظام اللبناني الحالي يجب أن يتغيّر, لا لأن "إتفاقية الطائف" قلَبَت موازين القوى لصالح المسلمين, بل لانه علة (أي سبب مرض بالوقت ذاته) لأمراض عديدة في المجتمع اللبناني, كالتخلف السياسي والثقافي, وإرساء البلاد على أسس تنتج المنافسة الشرسة وللاأخلاقية, والأحقاد بين اللبنانيين, وتمنع الوحدة الوطنية, والنمو المتوازن, الشامل والمتكامل.وعلى الجميع أن يسعوا لتغييره مسلمين ومسيحيين, ملحدين ولاأدريين, وكلٌّ من منطلقاته وإيمانه.
- والديمقراطية التوافقية, التي يتبناها بعض المفكرين المسيحيين لا تشفي من "العلة المزدوجة", بل تجعلها خفية, وتجعل الشفاء منها أكثر صعوبة.
• المفردات
- المسيحية: يمكنها أن تعني:
• كما هي في الإنجيل وباقي العهد الجديد.
• كما هي في تعاليم السلطة الكنسية, بما فيها المجمع الفاتيكاني الثاني,
• كما هي في حياة المسيحيين في التاريخ,
• كما هي في حياة المسيحيين حالياًّ.
- العنف يعني غير القوة:
• فالقوة قيمة إيجابية, وفضيلة من الفضائل الأربع الأساسية بحسب تعبير الكنيسة, وهي عكس الضعف والتخاذل والهرب من أخذ القرار, او المسؤولية. وهي توظّف عادة لخدمة الإنسان, "كل إنسان".
• والعنف هو طاقة سلبية, موجهة ضد الإنسان, الفرد أو الجماعة, او المجتمع كله, تمسُّ شخصه بالعموم, أو إحدى قيمه الأساسية: حياته, حريته, مساواته مع الغير, تكافؤ الفرص للعلم والعمل, نموه الجسدي والنفسي والروحي, احترامه كفاية لا كوسيلة, وكفاعل لا كمفعول به...
• أمثلة عن العنف
- القتل- التشويه- التعذيب- الإرهاق- الحرب- الإبادة الجماعية, الشاملة أو الجزئية
- الإستعباد- الإكراه- الإغصاب- الإغتصاب- الإرهاب من السلطة أو ضدها
- الظلم- التفرقة الفئوية, بسبب العِرق أو اللون أو الدين... أو الجنس,
- الكذب- الخداع-
- الإبقاء في التخلف, الجسدي, أو النفسي, أو الروحي
- الإستغلال- الإبتزاز- وكل استعمال إنسان لإنسان آخر أو لجماعة
- التنكير أي اعتبار الآخر نكرة, كمية مهملة, رقماً كباقي الأرقام...
• أمثلة عن استعمال القوة غير العنفية
أي التي فيها ضغط, وشدة, وقساوة من دون المسّ سلبياًّ بأحد أبعاده أو قيمه الأساسية, مثلاً:
- التربية بدون ميوعة,
- تقديم اعوجاج عند الولد أو الحدث أو الشاب, لأجل صالحه,
- تطويره أو تطوير جماعة أو مجتمع
- الكلام الشديد الذي يوعّي الآخرين من غفلتهم, أو لا مبالاتهم, او خطأهم...
• الويل لكم
•
- لإقامة العدالة ضد الذين يسيئون إليها
- السجن التربوي- الأشغال المفيدة للمجتمع
- تعبئة الجماهير من خلال حملات إعلامية,
- المظاهرات- الإعتكافات- الصيام
- الوسائل الإقتصادية, التي لا تطال أبناء الشعب الكادح
- المقاطعة المدنية للحكام السياسيين أو الإقتصاديين, بالوسائل التي تؤثر على إرادتهم, فتدعوهم إلى ما هو حق وعادل.
• الوسائل اللاعنفية على طريقة غاندي
- هي الوسائل التي تسعى إلى تغيير الواقع الظالم أو المتخلف:
• في المجتمع المدني,
• وفي المجتمع الديني,
- المثلان الكبيران على هذه المنهجية اللاعنفية هما:
• تحرير الهند بقيادة "غاندي" من الإستعمار البريطاني, بالإستغناء عن المنتجات الإنكليزية,
• تحرير المواطنين السود بقيادة "مارتن لوثر كينغ" في الولايات المتحدة من القوانين العنصرية, التي تفرّق بينهم وبين المواطنين البيض, وتمنعهم من دخول المرافق العامة, وذلك بالإمتناع عن استعمال "الباصات" والذهاب مشياً على الأقدام إلى أعمالهم ومدارسهم.
- كان "غاندي" يقبل ببعض الإستثناء من اللاعنف الشامل, إذ يقول: "إذا خيِّرتم بين العنف والجُبن, فاختاروا العنف"!
المسيحية والعنف
• هل "المسيحية" تقبل بالعنف؟
- إذا كانت "المسيحية" تعني المسيحيين خلال التاريخ, من الواضح:
• أنّ المسيحية مارست العنف داخل الكنيسة الواحدة:
•• ضد أصحاب "البدع", "الهراطقة",
•• ضد اللاهوتيين إذا لم يلتزموا بحرفية تعليم السلطة: دواوين التفتيش
• أنها مارست العنف ضد كنائس أخرى:
•• حروب الكاثوليك والبروتستانت- ولا تزال تمارسه في إرلندا,
•• حروب الكاثوليك ضد الكنيسة الشرقية- والإقتناص منها
• أنها مارست العنف ضد المسلمين:
•• الصليبية,
•• الإستعمار.
- إذا كانت "المسيحية" تعني المسيحيين في أيامنا, واضح أيضاً:
• أن هناك أحزاباً مسيحية في أوروبا مارست العنف في سياستها الخارجية- الداخلية
• ان هناك أحزاباً أو تكتلات مارست العنف في بلادنا, أثناء الحرب الأخيرة:
•• ضد المسلمين, والفلسطينيين, والسوريين
•• ضد المسيحيين أنفسهم إذا كانوا في "خندق" مضادٍّ لهم,
- إذا كانت "المسيحية" تعني السلطات الكنسية, نجد أيضاً:
• أن الباباوات, والبطاركة والأساقفة ورؤساء الرهبانيات... لا يزالون يبررون "الحروب العادلة", والدفاع عن النفس, وعن الكنيسة, وعن الوطن بالوسائل العنفية, حتى القتل.
• إن المجمع الفاتيكاني الثاني ذاته قد سمح بذلك. ففي وثيقة "الكنيسة في عالم اليوم- فقرة 79" يقول: "لا شك أن الحرب لم تختف من الأفق الإنساني. وما دام خطر اندلاع الحرب قائماً, ولا سلطة دولية عليا, وذات صلاحية تملك القدرة الكافية, لا يمكن إنكار حق الحكومات, بعد استنفاد جميع إمكانات الحل السلمي, أن تلجأ إلى الدفاع الشرعي".
- أما إذا كانت "المسيحية" تعني تعليم المسيح والرسل في العهد الجديد, فلا يمكننا قطّ أن نجد تبريراً للعنف, بل نجد تبريراً للقوة المُحِبَّة, التي تريد خير الآخرين.
• متى 15:18-17: الإصلاح الأخوي على يد اثنين أو ثلاثة ثم مقاطعة الكنيسة للمدنيين على الخطأ لكي يهتدوا.
• بولس إلى الرومانيين 17:12 و18: "أغلبوا الشر بالخير"
• لوقا 51:9-55: توبيخ يعقوب ويوحنا, عندما أرادوا إنزال نار على السامريين الذين لم يريدوا استقباله مع تلاميذه, إذ قال لهم:
"إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس, بل ليخلصها."
• متى 51:26-53: عندما قال يسوع لبطرس: ردَّ سيفك إلى موضعه "فالذي يأخذ بالسيف بالسيف يهلك."
• متى 43:5-46: في عظة الجبل قال يسوع: "أحبوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم, وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم"...
• إعتراضات كتابية والجواب عليها
- ولكن هناك من يعترض قائلاً: إن المسيح مارس العنف عندما طرد الباعة من الهيكل. ولكن الواضح, بحسب النص الأصلي اليوناني للمقطع:
• أنه لم يؤذِ أحداً بما هو أساسي لكيانه الإنساني,
• أنه ضرب بالسوط الحيوانات لا البشر,
• أن ذلك كان قوة "غيرته", التي لم تقبل أن يصبح بيت الله مغارة للصوص, "إذ تذكر تلاميذه أنه مكتوب": "غيرة بيتك تأكلني" (مزمور 10:68),
• أن الهدف كان تربوياًّ للباعة والمشترين فياً, في ذلك الزمان وكل زمان.
- والإعتراض الثاني هو الكلام القاسي الذي كان يوجهه إلى الكتبة والفريسيين المرائين, كالأقوال التالية:
• "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون...
• ويل لكم أيها القادة العميان...
• فإنكم تشبهون القبور المكلسة, التي يبدو ظاهرها جميلاً, فيما باطنها ممتلئ عظام أموات وكل بخاسة...
• أيها الحيات نسل الأفاعي..." (متى 23)
هنا أيضاً نعرف أن المسيح كان يستعمل هذه اللغة معهم من أجل توعيتهم, وتربية تلاميذه على الطريقة التي يجب أن يستعملوها في الحالات الممثالة... وأولاً تجاه أنفسهم, لئلا يقال لهم, هم أيضاً: "إسمعوا أقوالهم, ولا تفعلوا أفعالهم" (متى 25:6) كلمة يرددها كثيراً في أيامنا الشبان والشابات, ويتذرعون بها ليبتعدوا عن الكنيسة.
• إعتراضات إنسانية والجواب عليها
فإذا اقتنع المؤمنون المسيحيون بكلمات المسيح ضد كل عنف, وبضرورة محبة الإعداء أنفسهم, وبالتمييز بين "القوة" التي اتّسم بها المسيح في أقواله وأعماله من جهة, "والعنف" الذي يعني الإساءة إلى الإنسان وقيمه الأساسية من جهة أخرى,
وإذا قرروا اتباع تعاليم المسيح هذه, التي قادته إلى الحكم عليه وصلبه وموته, وعدم استعمال قدرته الإلهية للنزول عن الصليب:
"وكان المارة يشتمونه وهم يهزون رؤوسهم ويقولون: أنت القادر على تدمير الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام, خلّص نفسك إن كنت ابن الله, وانزل عن الصليب". (متى 34:27و40),
وإذا أرادوا القتداء بالمسيح الذي غفر لقاتليه وصلىّ لأجلهم قائلاً:
يا أبتِ, إغفر لهم, لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23), كثيراً ما يقولون: هو كان ابن الله. كان قادراً أن يتصرف هكذا لأن لاهوته كان يقوّي ناسوته, الذي ظهر ضعفه في جبل الزيتون في نزاعه النفسي الشديد, إذ كان يصلي لأبيه السماوي:
"يا أبت, إن كان يُستطاع فلتعبر عني هذه الكأس (كأس الموت).
ولكن, ليس كما أشاء, بل كما تشاء أنت" (متى 39:26)
يضيف المسيحيون: طبيعتنا البشرية لا تستطيع أن تتحمل عنف الآخرين وتهديدهم إيانا بالعذاب أو بالموت, لذلك نلجأ للدفاع عن أنفسنا, وبالرد على العنف بالعنف... لإزالة عنف الآخرين, ولقتلهم قبل أن يقتلونا!
صحيح هذا الكلام. فالطبيعة البشرية, مع غريزة البقاء المتأصلة فينا, لا تقبل مثل هذه البطولة الإستشهادية. ولذلك من الضروري أن تساندنا القوة الإلهية, التي نسميها "النعمة".
"فيدونه لا نستطيع شيئاً" (يوحنا 5:15)
بينما, كما يقال بولس الرسول:"إننا نستطيع كل شئ في الذي يقوينا". (فيليبي 13:4)
نستطيع "فيه", أي إذا كنا نحيا فيه. ويقول بولس الرسول أيضاً اختباره لهذه الحياة.
"إن كنا قد متنا مع المسيح, نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه" (روم 8:6).
ونعترض نحن البشر من جديد قائلين كما قال سامعو المسيح بعد أن كلّمهم عن بذل جسده ودمه غذاء سماوياًّ:
"فلما سمع تلاميذه قال كثير منهم: إنه كلام صعب, فمن يطيق سماعه؟... منذئذ ارتدّ عنه كثير من تلاميذه وانقطعوا عن السير معه. فقال يسوع للإثني عشر (الرسل): وأنتم, أفلا تريدون أن تذهبوا؟ أجاب سمعان بطرس (يعقوب) المتحمس دائماً... الذي نكره عند الشدة والخوف من الموت):
"إلى من نذهب, يا رب؟ أن عندك كلام الحياة الأبدية" فإناّ نحن قد آمنا يك, وعرفنا أنك قدوس الله"! (يوحنا 60:6و66-69)
لذلك, إذا لم يكن لدينا اليمان العميق, الشجاع, الصامد, والإلتزام الحياتي بهذا الإيمان, والوعي أن المسيح يحيا فينا ونحن نحيا فيه (يوحنا 21:17) لا نستطيع أن أن نبقى لا عنفيين حتى الموت... موتنا, لا موت الآخرين!
والمؤمنون الملتزمون الصامدون قليلون ولا شك! (ولا أدري إذا كنت أنا منهم حقاًّ!)
• إعتراضات إجتماعية سياسية والجواب عليها
والمسيحيون اللبنانيون, الذين لجأوا إلى العنف إباَّن الحرب العيثية, كان لهم, ولا يزال عند البعض, إعتراضات أخرى, منها:
- هذه المبادئ "الإنجيلية", كانت صالحة لزمان غير زماننا.
- هي لكائنات تفوق الطبيعة البشرية.
- الذين يسمعونها منا يعتبرونها ضعفاً, وتبريراً للقبول بالضعف, بينما المطلوب أن نكون أقوياء.
- الأخصام السياسيون الذين يسمعونها "يستقوون"بها علينا فيأخذون جميع حقوقنا في الرئاسات والوظائف الإدارية, ويهمشوننا فلا يبقى لنا أي وزن في بلادنا, ونصبح مواطنين من درجة ثانية.
- النظام اللبناني مبنيٌّ على "الديمقراطية التوافقية", التي تتطلب "توازن القوى" الطائفية بل المذهبية لا مكان فيه للضعف وللتنازل عن الحقوق. فالطريقة اللاعنفية للتعامل مع الآخرين تصبح ضد المسيحية ووجودها الفاعل في المجتمع.
والأجوبة على هذه الإعتراضات تحتاج إلى فسحة أكبر من مقالة صحيفة. وبالإختصار يمكن الإكتفاء ببعض رؤوس الأقلام, على أن يكتمل التوضيح في مقالات لاحقة.
- هذه المبادئ الإنجيلية صالحة لكل زمان, على أن تفهم في حقيقتها, ووفقاً للمقاييس الإنسانية الروحية, لا السياسية "المصلحية". والمقياسان الأساسان, المتكاملان هما المسيح المطلق الأسمى, والإنسان المطلق الثاني النابعة من مطلقيته من أنه "صورة الله" "وهيكل الله", "وخليفة الله في الأرض".
- هذه المبادئ اعتمدها وطبقها المسيحيون الأوائل, فقبلوا عنف الأمبراطورية الرومانية الوثنية, التي قتلت عشرات الآلاف من المسيحيين, فأصبح "دم الشهداء بذار المسيحية" (ترتليانوس في القرن الثاني), وبدلاً من أن تزول المسيحية, زالت الأمبراطورية وعنفها.
- هذه المبادئ تفوق قوة الطبيعة البشرية, إذا لم تستند إلى قوة المسيح, وهي تساعد المؤمن للإنتصار على خوفه من الإستشهاد, وللشهادة للمسيح, وللحق والخير والعدل والمحبة...
- قد يعتبرها الناس من الخارج ضعفاً. ولكن إذا كانت الشهادة حقيقية, سيكتشفون وراء عدم العنف, وعدم الرد على العنف إلا بالمحبة, أن "المحبة قوية كالموت" (نشيد الأناشيد 8:6) بل أقوى من الموت وأن "كل مولود من الله يغلب العالم, والغلبة التب غلب بها العالم إنما هي إيماننا" (1 يوحنا 4:5)
- وإذا "استقوى" الأخصام السياسيون, "فاستقواؤهم" ليس "قوة" حقيقية. وكان بولس المختبر والمعبِّر الأول عن اختباره لقوة الإيمان والمحبة يقول:
"إننا ولا شك نسلك في الجسد, لكننا لا نحارب بحسب الجسد.
لأن أسلحة حربنا ليست جسدية, بل هي قادرة على هدم الحصون, فنهدم السفسطات (الجدل العبثي) وكل علوٍّ يرتفع ضد معرفة الله"... (2 كورنتس 3:10-5)
- وهذا التفكير الذي يناقض منطق القوة البشرية السياسية المعهود, يبدو تفكيراً "طوباوياًّ", ويذكر, ولا شك بكلمة ماركس الرهيبة: "الدين أفيون الشعوب"... وهو قد يكون كذلك إذا كان تفكيراً نظرياًّ, بلا ممارسة الإيمان والمحبة الحقيقيين.
- خسارة المسيحيين في لبنان لبعض مواقع السلطة والوظيفة العامة تنتج من انعكاس ميزان القوى المجتمعية السياسية. فبعد أن تفوّق المسيحيون في عهد الإنتداب وعقود "الإستقلال" الأولى, يتفوّق المسلمون حالياًّ بعد "اتفاق الطائف", ولكن هذه المعركة على مواقع السلطة والوظيفة هي جانب من مرض لبنان الطائفي, الذي يجب أن يشفى منه لبنان "بالعلمانية الشاملة الحيادية تجاه الأديان", التي أخذ يتبناها الكثيرون من أبناء "المجتمع المدني", لا سيما الشبان والشابات الذين يتزايد يوماً بعد يوم وعيهم لهذا المرض ولهذا الدواء. وسيفرد مقال أو أكثر في ما بعد لتوضيح معنى العلمانية الشاملة, التي ليست إلحاداً, ولا هي التي تحرر من الدين, بل تحرر الدين من شوائبه, ولا سيما من أن يصبح الدين إيماناً بلا ضغط مجتمعي.
- النظام اللبناني الحالي يجب أن يتغيّر, لا لأن "إتفاقية الطائف" قلَبَت موازين القوى لصالح المسلمين, بل لانه علة (أي سبب مرض بالوقت ذاته) لأمراض عديدة في المجتمع اللبناني, كالتخلف السياسي والثقافي, وإرساء البلاد على أسس تنتج المنافسة الشرسة وللاأخلاقية, والأحقاد بين اللبنانيين, وتمنع الوحدة الوطنية, والنمو المتوازن, الشامل والمتكامل.وعلى الجميع أن يسعوا لتغييره مسلمين ومسيحيين, ملحدين ولاأدريين, وكلٌّ من منطلقاته وإيمانه.
- والديمقراطية التوافقية, التي يتبناها بعض المفكرين المسيحيين لا تشفي من "العلة المزدوجة", بل تجعلها خفية, وتجعل الشفاء منها أكثر صعوبة.
بقلم
سيادة المطران غريغوار حداد
سيادة المطران غريغوار حداد
Comment