جميعـنا معـرّضـون للشك والعـثرة, وإن ذلك لنقـطـة ضعف أكـثر ما تـبرز فى هـذه الأيـام, حيث الأفـكار فى غـمـرة الغـليـان, وأغـلب ما تُشاهـد فى الحـقـل الديني وفي العـالم المسيحي بالـذات...
ويتـّخـذ هـذا الشك وجهـين متنـاقضين:
فمنهم من يتعـثرون لمشاهـدتهم الكنيسة تتجـرّد فتتجسد فى العـالم, وتفتـح نوافـذها لتظـل على اتصـال وتحسس بعبـير أرض البشر,
ومنهم من يتشككون إذ يرونهـا تسعى جـاهـدة نحـو المـزيد من النقـاوة, وعـدم التهـاون مـع ذاتهـا, والإخـلاص الـواعي لأهـدافها...
الحـرّية والعـلمنـة تقـفـان حجـر عـثرة, كمـا تقـوم رسالة البابا حـول عـزوبـة الكهنـة حجـر عـثرة...
وتتبـادر إلى الأذهـان كلمـات المسيح:
[ وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هَذَا اَلْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي اَلأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا! لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ اِبْنُ اَلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ : هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَاَلْخُطَاةِ. وَاَلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا ]
[ لوقا 7:31 ـ 35 ومتى 11: 16ـ 19]...
إن كـان فى الإنجيـل كـلام شديد اللهجـة, فهـو ما وجّـهه السيد المسيح إلى كـلّ من يتسبب بعـثار الأطـفـال الصغـار والضعـفـاء والفـقـراء, وقد لجـأ في هـذا الشأن إلى صـورة معـبّرة عنيفـة:
[ خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ ] [ لوقـا 17: 2]...
ولأنه كان المسيح ينـدد بالمتشكّـكين أي تنديـد, فهـو يعـترف أيضـًا:
[ كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اَللَّيْلَةِ] [ متى 26: 31]...
ممـا يعنـى أنـه سيكـون هـو نفسه سبب عـثرة للجميـع, حتى أنـه ينتهـي إلى هـذا القـول:
[وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ ] [ متى 11: 6]...
فكيف التـوفـيق بين الموقـفين؟...
ثمّـة طريقـة واحـدة لعـدم الشك في المسيح...
وهـى أن يصبـح المـرء طـفـلاً, ساذجـًا, فـقـيرًا...
ثمّـة فئـة واحـدة من الأشخـاص لا يشككهـا المسيح قـط: هم الأطـفال...
وأخـال الحـل لمشكلـة الشك هـو فى السلوك التـالي:
ألا نكـون البتـّة سبب عـثرة للصغـار والضعـفـاء,
[ وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ اَلصِّغَارِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ اَلرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ اَلْبَحْرِ ] [ متى 18: 6 ]...
وأن نكـون من الشفـافيـة والانفتـاح للنـور والفـقـر والطـفـولة الحقـيقـية, بحيث لا شيء يستطيـع تشكيكـنا, لا الأعجـوبة ولا السرّ ولا الخطيئـة ولا المـوت...
لم يتحـاشي المسيح قـط تشكيـك المقتـدرين والكبـار, لكنـه لم يشكّـك مـرة واحـدة واحـدًا من الصغـار...
أمّا فيما يخصـنا, فالعكس هـو ما يجـري في غـالب الأحيـان, إذ نتسبب بالعـثرة للفـقـير والضعـيف, ونتمـلّق الـقـدير والفـريسي والغـنى...
لـذا بـدأت الأمـور تتغـيّر اليـوم, مـع سعـينا لإصـلاح الخـط من أجـل السير فى طـريق المسيح القـويم...
فـقـد شـرع الأغـنيـاء يتـذمّـرون, وعـادت إلى شفـاه الـفـقراء بسمـة الرجـاء والأمـل...
تصـدر الرسـالة البـابـوية فى " تـرقـّي الشعـوب" فيتشكّـك الكاردينـال والرأسمـالي, بينمـا العـامل فى مصنعـه وكنّـاس الشارع يتهـلّلان...
يتشكّـك عـلمـاء اللاهـوت التقـليديـون لأن بولس السادس يـترك الفـاتيكان ليزور بطـريركـّا أرثوذكسيـًا لا شركـة بينـه وبين رومـا, فيمـا يبعث الرهبـان البـوذيون برسائـل سريه إلى البابا تطـفـح بالآمـال...
الكـاثوليكيـون القـدامى يتشكّـكون لأن الكـرسي البابوي يستـقـبل سفيـرًا لبلـد شيـوعي, فى حـين أن ثمّـة ماركسيين مخلـصين شرعـوا يفـكّرون أن الوقت قـد حـان لإعـادة النظـر فى مفـاهيم الإلحـاد...
لـن تكـون الكنيسة وجـه الله الحقيقي إلا حين تكـون على غـرار المسيح, حجـر عـثرة للجميع, ما عـدا الأطفـال...
ولـن نستطيـع الشعـور بأننـا اعضـاء جقيقيـون فى كنيسة المسيح إلا بقـدر ما نُرغـم ذواتنـا على الدخـول فى صميم هـذه التطـوبية الجـديدة:
[ وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ ] [ متى 11: 6]...
إن كـان المسيح شكّـك الجميـع, فعـلى الكنيسة أن تكـون سبب عـثرة, وإلا كانت كنيسة من ورق, فـارغـة, لا مستقـبل لهـا...
لقـد كان المسيح حجـر عـثرة للجميـع:
*** لليهـود لأنـه كان يقـول إنـه الله [ أَجَابَهُ الْيَهُودُ : لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً ] [ يوحنا 10: 33]...
***للفـرّيسيين, وقـد قـالوا عـنه أن فيـه شيطـانـًا... وقيـل لـه أيضـًا: [ أَتَعْلَمُ أَنَّ اَلْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا اَلْقَوْلَ نَفَرُوا؟ ] [ متى 15: 12 ]...
*** لعـلمـاء الشريعـة بسبب رحمتـه وحـريته فى التفكـير,
***للرسل بسبب متطلباتـه, فالأفخـارستيا تشككهم وكـذلك مـوته واستقبـاله للخطـأة,
*** وللمقـتدرين أمثـال قيـافـا, وقـد نعـته بالمجّـدف,
*** لأنسبائـه, وقـد أبـوا أن يـؤمنـوا بـه,
*** لأصـدقائه ومنهم مـرثا ومـريم, لأنـه تـرك أخـاهما لعـازر يمـوت,
*** لأمـه نفسهـا إذ أنّـبتـه بعـد فـقـدانه فى الهيكـل, وقـد قالت لـه: لم فـعـلت هـذا بنـا هكـذا؟
*** للشعب كله إذ هـاج عليه وصـاح: " اصلبـه , اصلبـه"...
أمـّأ الصغار فلم يشكّـك يسوع واحـدًا منهم قـط...
كـان يدافع عنهم " لأنهم آمنـوا بى"...
لـذا فإن الطفـل سوف يظـل أصفـى صـور الله وأقـربها إلى روح الإنجيـل...
الأطفـال قبـلوا المسيح دون مناقشـة, تركوه يـأخذ بمجامع قلوبهم دون أن يحاولوا احتكـاره..
الطـفـل يصـل بطبيعـته إلى حـدود الحرية فى الاستسلام والمحبّـة...
يـرى أنـه من الطبيعي أن يجـترح أبـوه المعجـزات ويكـون أقـوى الناس وأفضـلهم... يرى من البديهي أن يُصلحـه غـيره ويعـلّمـه, ولا يـدور فى خـلده البتـّة أن والـده معـرّض للخطـأ, حتى عـندما يكلّمه بأمـور هي في نظـره ألغـاز مطبقـة...
الطفـل يطـرح الكـثير من الأسئلة ولكنّـه يـؤمـن...
الطـفـل يشعـر فى صميم حيـاته أن الحب هـو في صميم الأشيـاء...
لـذا فإن باستطاعـته مخـاطـبة حجـارة الطـريق, وطـين الحـقـول, ومـاء الجـداول, وأنـه ليلعـب مع ابن الخـادم وابن الـوزير, والمـرأة البريئـة والمـرأة العـاهـرة عـلى حـد سواء...
الأطـفال أسياد المـادة, ومن المستحيـل أن يركـع الإنسان إلا فى حضـرة الله وحضـرة طـفـل صغـير...
إذا كان ثمّـة خطـر تشكيك أحـد الأولاد أو الفقراء أو المتعـثرين فى إيمانهم, فإنـه ينبغي لنـا أن نتشبّـه بالمسيح, فنكـون مستعـدين للتنـازل حتى عمّـا نسميه " حقـوقنـا" :
[ فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ اَلْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي اَلنَّارِ اَلأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ اَلْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ اَلنَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ ] [ متى 18: 8, 9 ]...
مـا كان على المسيح أن يـدفـع الجـزية ولكنـه قال لبطـرس:
[ وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ تَقَدَّمَ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: { أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ اَلدِّرْهَمَيْنِ؟ } قَالَ: { بَلَى }. فَلَمَّا دَخَلَ اَلْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: { مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ اَلأَرْضِ اَلْجِبَايَةَ أَوِ اَلْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ اَلأَجَانِبِ؟ } قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: { مِنَ اَلأَجَانِبِ }. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: فَإِذاً اَلْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلا نُعْثِرَهُمُ اِذْهَبْ إِلَى اَلْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَاَلسَّمَكَةُ اَلَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ ] [ متى 17: 24ـ 27]...
واليـوم يترتبّ على الكنيسة أن تتحـاشي تشكيك الفـقراء, وغـير المؤمنين, والذين يقـتربون من النور كأنهم الأولاد, والذين هم فى منتصف الطـريق إلى الحقـيقـة, فتتنـازل عن كثير من حقـوقها...
من المسلّم به أنـه يحـق لهـا أن " تعيش من المذبح", ولكن أليس من الأفضـل أن تَضـرب صفحـًا عن ذلك إن نتج عـنه التشكيك؟ من الأكيـد أنـه بإمكـانها أن تـُعفى من الضـرائب ومن موجبـات كـثيرة, ولكـن أليس من الأفـضل أن تـؤديها كسائر الناس ولا تتسبب بتشكيك الضعـفـاء؟ من الثابت أن الكهنـة والرهبـان والعلمـانيين الملـتزمين في أعمـال الرسالة لا يتـوجّب عليهم أن يعـيشوا حيـاة الفـقر البطـولية, على نحـو ما يعيشهـا من يحيط بهم من فـقراء حـقيقـيين, ولكـن أليس من الأنسب أن ينهجـوا هـذا المنهـج إذا كان الموقف المغـاير يشكّل عـثرة للفقـراء, أولئك الذين نبشرهم بمسيح لم يكـن له حتى سـقـف يلـوذ بحمـاه؟...
[ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20 و لوقا 9: 58 ]...
لا أنكـر أن بعـض الحقائق المسيحية تحـرقنـا كالنـار... لـذا فإننا بارعـون فى اختلاق ما من شأنه أن يـبرر مواقفنـا... أمّـا المسيح فكـلامـه جازم: " اقطعـوا, استأصـلوا" ... خـير لكم أن تتألمـوا من أن تشكّـكوا الصغـار...
ورُبَّ قائـل: " لا بـدّ من أن تقـع الشكوك, فمن المستحيل أن يفهـم العامة كل كوامن الأمـور"...
ولكن المسيح يستبـق هـذا الاعـتراض حيث يقـول:
[ اُنْظُرُوا لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هَؤُلاَءِ اَلصِّغَارِ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ. هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ اَلصِّغَارِ] [ متى 18: 10, 14]...
هـذا الصغـير " الضـائع", هـذه النعجـة الضـائعـة التى ليست من حظـيرتنا, هـذا الـذي نـدعـوه " خاطئـًا" , " ملحـدًا" , " وثنيـًا", " مناهضـًا للاكلـيروس" , هـو ذلك الصـغير بالـذات الذى قال عـنه المسيح :" لا تحتقـروه", وبعنى بذلك : اصغـوا على صـراخ ياسه, خـذوا بعـين الاعـتبار آراءه وانتقـاداته, وأسباب إلحـاده وتـوقـه إلى النـور, وضعـفه واستقـامته...
فى مـا خـلا ذلك, فـلا خـوف على الكنيسة من الشكـوك, إلا أنـه يتوجـبّ عليهـا القيـام بالمـزيـد إن هي أرادت أن تكـون أمنيـة للمسيح...
ويتـّخـذ هـذا الشك وجهـين متنـاقضين:
فمنهم من يتعـثرون لمشاهـدتهم الكنيسة تتجـرّد فتتجسد فى العـالم, وتفتـح نوافـذها لتظـل على اتصـال وتحسس بعبـير أرض البشر,
ومنهم من يتشككون إذ يرونهـا تسعى جـاهـدة نحـو المـزيد من النقـاوة, وعـدم التهـاون مـع ذاتهـا, والإخـلاص الـواعي لأهـدافها...
الحـرّية والعـلمنـة تقـفـان حجـر عـثرة, كمـا تقـوم رسالة البابا حـول عـزوبـة الكهنـة حجـر عـثرة...
وتتبـادر إلى الأذهـان كلمـات المسيح:
[ وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هَذَا اَلْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي اَلأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا! لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ اِبْنُ اَلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ : هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَاَلْخُطَاةِ. وَاَلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا ]
[ لوقا 7:31 ـ 35 ومتى 11: 16ـ 19]...
إن كـان فى الإنجيـل كـلام شديد اللهجـة, فهـو ما وجّـهه السيد المسيح إلى كـلّ من يتسبب بعـثار الأطـفـال الصغـار والضعـفـاء والفـقـراء, وقد لجـأ في هـذا الشأن إلى صـورة معـبّرة عنيفـة:
[ خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ ] [ لوقـا 17: 2]...
ولأنه كان المسيح ينـدد بالمتشكّـكين أي تنديـد, فهـو يعـترف أيضـًا:
[ كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اَللَّيْلَةِ] [ متى 26: 31]...
ممـا يعنـى أنـه سيكـون هـو نفسه سبب عـثرة للجميـع, حتى أنـه ينتهـي إلى هـذا القـول:
[وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ ] [ متى 11: 6]...
فكيف التـوفـيق بين الموقـفين؟...
ثمّـة طريقـة واحـدة لعـدم الشك في المسيح...
وهـى أن يصبـح المـرء طـفـلاً, ساذجـًا, فـقـيرًا...
ثمّـة فئـة واحـدة من الأشخـاص لا يشككهـا المسيح قـط: هم الأطـفال...
وأخـال الحـل لمشكلـة الشك هـو فى السلوك التـالي:
ألا نكـون البتـّة سبب عـثرة للصغـار والضعـفـاء,
[ وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ اَلصِّغَارِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ اَلرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ اَلْبَحْرِ ] [ متى 18: 6 ]...
وأن نكـون من الشفـافيـة والانفتـاح للنـور والفـقـر والطـفـولة الحقـيقـية, بحيث لا شيء يستطيـع تشكيكـنا, لا الأعجـوبة ولا السرّ ولا الخطيئـة ولا المـوت...
لم يتحـاشي المسيح قـط تشكيـك المقتـدرين والكبـار, لكنـه لم يشكّـك مـرة واحـدة واحـدًا من الصغـار...
أمّا فيما يخصـنا, فالعكس هـو ما يجـري في غـالب الأحيـان, إذ نتسبب بالعـثرة للفـقـير والضعـيف, ونتمـلّق الـقـدير والفـريسي والغـنى...
لـذا بـدأت الأمـور تتغـيّر اليـوم, مـع سعـينا لإصـلاح الخـط من أجـل السير فى طـريق المسيح القـويم...
فـقـد شـرع الأغـنيـاء يتـذمّـرون, وعـادت إلى شفـاه الـفـقراء بسمـة الرجـاء والأمـل...
تصـدر الرسـالة البـابـوية فى " تـرقـّي الشعـوب" فيتشكّـك الكاردينـال والرأسمـالي, بينمـا العـامل فى مصنعـه وكنّـاس الشارع يتهـلّلان...
يتشكّـك عـلمـاء اللاهـوت التقـليديـون لأن بولس السادس يـترك الفـاتيكان ليزور بطـريركـّا أرثوذكسيـًا لا شركـة بينـه وبين رومـا, فيمـا يبعث الرهبـان البـوذيون برسائـل سريه إلى البابا تطـفـح بالآمـال...
الكـاثوليكيـون القـدامى يتشكّـكون لأن الكـرسي البابوي يستـقـبل سفيـرًا لبلـد شيـوعي, فى حـين أن ثمّـة ماركسيين مخلـصين شرعـوا يفـكّرون أن الوقت قـد حـان لإعـادة النظـر فى مفـاهيم الإلحـاد...
لـن تكـون الكنيسة وجـه الله الحقيقي إلا حين تكـون على غـرار المسيح, حجـر عـثرة للجميع, ما عـدا الأطفـال...
ولـن نستطيـع الشعـور بأننـا اعضـاء جقيقيـون فى كنيسة المسيح إلا بقـدر ما نُرغـم ذواتنـا على الدخـول فى صميم هـذه التطـوبية الجـديدة:
[ وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ ] [ متى 11: 6]...
إن كـان المسيح شكّـك الجميـع, فعـلى الكنيسة أن تكـون سبب عـثرة, وإلا كانت كنيسة من ورق, فـارغـة, لا مستقـبل لهـا...
لقـد كان المسيح حجـر عـثرة للجميـع:
*** لليهـود لأنـه كان يقـول إنـه الله [ أَجَابَهُ الْيَهُودُ : لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً ] [ يوحنا 10: 33]...
***للفـرّيسيين, وقـد قـالوا عـنه أن فيـه شيطـانـًا... وقيـل لـه أيضـًا: [ أَتَعْلَمُ أَنَّ اَلْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا اَلْقَوْلَ نَفَرُوا؟ ] [ متى 15: 12 ]...
*** لعـلمـاء الشريعـة بسبب رحمتـه وحـريته فى التفكـير,
***للرسل بسبب متطلباتـه, فالأفخـارستيا تشككهم وكـذلك مـوته واستقبـاله للخطـأة,
*** وللمقـتدرين أمثـال قيـافـا, وقـد نعـته بالمجّـدف,
*** لأنسبائـه, وقـد أبـوا أن يـؤمنـوا بـه,
*** لأصـدقائه ومنهم مـرثا ومـريم, لأنـه تـرك أخـاهما لعـازر يمـوت,
*** لأمـه نفسهـا إذ أنّـبتـه بعـد فـقـدانه فى الهيكـل, وقـد قالت لـه: لم فـعـلت هـذا بنـا هكـذا؟
*** للشعب كله إذ هـاج عليه وصـاح: " اصلبـه , اصلبـه"...
أمـّأ الصغار فلم يشكّـك يسوع واحـدًا منهم قـط...
كـان يدافع عنهم " لأنهم آمنـوا بى"...
لـذا فإن الطفـل سوف يظـل أصفـى صـور الله وأقـربها إلى روح الإنجيـل...
الأطفـال قبـلوا المسيح دون مناقشـة, تركوه يـأخذ بمجامع قلوبهم دون أن يحاولوا احتكـاره..
الطـفـل يصـل بطبيعـته إلى حـدود الحرية فى الاستسلام والمحبّـة...
يـرى أنـه من الطبيعي أن يجـترح أبـوه المعجـزات ويكـون أقـوى الناس وأفضـلهم... يرى من البديهي أن يُصلحـه غـيره ويعـلّمـه, ولا يـدور فى خـلده البتـّة أن والـده معـرّض للخطـأ, حتى عـندما يكلّمه بأمـور هي في نظـره ألغـاز مطبقـة...
الطفـل يطـرح الكـثير من الأسئلة ولكنّـه يـؤمـن...
الطـفـل يشعـر فى صميم حيـاته أن الحب هـو في صميم الأشيـاء...
لـذا فإن باستطاعـته مخـاطـبة حجـارة الطـريق, وطـين الحـقـول, ومـاء الجـداول, وأنـه ليلعـب مع ابن الخـادم وابن الـوزير, والمـرأة البريئـة والمـرأة العـاهـرة عـلى حـد سواء...
الأطـفال أسياد المـادة, ومن المستحيـل أن يركـع الإنسان إلا فى حضـرة الله وحضـرة طـفـل صغـير...
إذا كان ثمّـة خطـر تشكيك أحـد الأولاد أو الفقراء أو المتعـثرين فى إيمانهم, فإنـه ينبغي لنـا أن نتشبّـه بالمسيح, فنكـون مستعـدين للتنـازل حتى عمّـا نسميه " حقـوقنـا" :
[ فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ اَلْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي اَلنَّارِ اَلأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ اَلْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ اَلنَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ ] [ متى 18: 8, 9 ]...
مـا كان على المسيح أن يـدفـع الجـزية ولكنـه قال لبطـرس:
[ وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ تَقَدَّمَ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: { أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ اَلدِّرْهَمَيْنِ؟ } قَالَ: { بَلَى }. فَلَمَّا دَخَلَ اَلْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: { مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ اَلأَرْضِ اَلْجِبَايَةَ أَوِ اَلْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ اَلأَجَانِبِ؟ } قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: { مِنَ اَلأَجَانِبِ }. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: فَإِذاً اَلْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلا نُعْثِرَهُمُ اِذْهَبْ إِلَى اَلْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَاَلسَّمَكَةُ اَلَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ ] [ متى 17: 24ـ 27]...
واليـوم يترتبّ على الكنيسة أن تتحـاشي تشكيك الفـقراء, وغـير المؤمنين, والذين يقـتربون من النور كأنهم الأولاد, والذين هم فى منتصف الطـريق إلى الحقـيقـة, فتتنـازل عن كثير من حقـوقها...
من المسلّم به أنـه يحـق لهـا أن " تعيش من المذبح", ولكن أليس من الأفضـل أن تَضـرب صفحـًا عن ذلك إن نتج عـنه التشكيك؟ من الأكيـد أنـه بإمكـانها أن تـُعفى من الضـرائب ومن موجبـات كـثيرة, ولكـن أليس من الأفـضل أن تـؤديها كسائر الناس ولا تتسبب بتشكيك الضعـفـاء؟ من الثابت أن الكهنـة والرهبـان والعلمـانيين الملـتزمين في أعمـال الرسالة لا يتـوجّب عليهم أن يعـيشوا حيـاة الفـقر البطـولية, على نحـو ما يعيشهـا من يحيط بهم من فـقراء حـقيقـيين, ولكـن أليس من الأنسب أن ينهجـوا هـذا المنهـج إذا كان الموقف المغـاير يشكّل عـثرة للفقـراء, أولئك الذين نبشرهم بمسيح لم يكـن له حتى سـقـف يلـوذ بحمـاه؟...
[ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ ] [ متى 8: 20 و لوقا 9: 58 ]...
لا أنكـر أن بعـض الحقائق المسيحية تحـرقنـا كالنـار... لـذا فإننا بارعـون فى اختلاق ما من شأنه أن يـبرر مواقفنـا... أمّـا المسيح فكـلامـه جازم: " اقطعـوا, استأصـلوا" ... خـير لكم أن تتألمـوا من أن تشكّـكوا الصغـار...
ورُبَّ قائـل: " لا بـدّ من أن تقـع الشكوك, فمن المستحيل أن يفهـم العامة كل كوامن الأمـور"...
ولكن المسيح يستبـق هـذا الاعـتراض حيث يقـول:
[ اُنْظُرُوا لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هَؤُلاَءِ اَلصِّغَارِ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ. هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ اَلصِّغَارِ] [ متى 18: 10, 14]...
هـذا الصغـير " الضـائع", هـذه النعجـة الضـائعـة التى ليست من حظـيرتنا, هـذا الـذي نـدعـوه " خاطئـًا" , " ملحـدًا" , " وثنيـًا", " مناهضـًا للاكلـيروس" , هـو ذلك الصـغير بالـذات الذى قال عـنه المسيح :" لا تحتقـروه", وبعنى بذلك : اصغـوا على صـراخ ياسه, خـذوا بعـين الاعـتبار آراءه وانتقـاداته, وأسباب إلحـاده وتـوقـه إلى النـور, وضعـفه واستقـامته...
فى مـا خـلا ذلك, فـلا خـوف على الكنيسة من الشكـوك, إلا أنـه يتوجـبّ عليهـا القيـام بالمـزيـد إن هي أرادت أن تكـون أمنيـة للمسيح...
Comment