«عند الله قوة للمساعدة وللإسقاط» (2 أخ25: 8)، قوة للخلاص وقوة للهلاك (رو1: 16، مت10: 28) فهو، «يميت ويحيي. يهبط إلى الهاوية ويصعد.. يفقر ويغني. يضع ويرفع» (1صم2: 6، 7). ومع أن القضاء هو عمله الغريب وفعله الغريب (إش28: 21)، ومع أن السيد الرب لا يُسر بموت الشرير (حز18: 23، 32)، بل «يُسر بالرأفة» (مي7: 18).. لكن دعنا لا ننسى أنه كما يظهر غنى نعمته في المؤمنين، ويبين فيهم غنى مجده، فإنه في الأشرار أيضاً سيظهر غضبه ويبين قوته (أف2: 7، رو9: 22، 23).
لعنة شجرة التين
(متى21: 18-22، مرقس11: 12-14، 20-23)
المعجزة الفريدة!
فبينما كل معجزات الرب الأخرى كانت أعماله نعمة وبركة، فإن هذه المعجزة تنفرد في أنها قضاء ولعنة.
فلقد كان الرب يعمل الخير للكل، دون أن يبحث عمن هو أهل له. لقد أشبع الآلاف مع أنه كان يعرف أنهم لا يؤمنون به (يو6: 26، 29)، ولمس أذن العبد ملخس الذي كان في مقدمة من أتوا ليقبضوا عليه. وهكذا على طول الطريق انسكبت النعمة على شفتيه، وانهمرت البركة من بين يديه. إلا هذه المرة الفريدة!
ولقد حدثت هذه المعجزة في الأسبوع الأخير من حياة الرب له المجد فوق الأرض. وبالتحديد في اليوم التالي مباشرة لدخوله إلى أورشليم في موكبه الوديع. فبمجرد أن دخل أورشليم (يوم الأحد) اتجه فوراً إلى الهيكل حيث نظر حوله إلى كل شيء، فلم يجد شيئاً يسره. فخرج من الهيكل، ومن المدينة كلها، وذهب لكي يقضي ليلته في قرية بيت عنيا!
وفي اليوم التالي ( الاثنين)، قام ليزور أورشليم .. المدينة التي لم ترحب به بالأمس، والتي كانت مزمعة أن تصلبه بعد أيام .. إنها غالية عليه جداً، وإن هان هو عليها .. ويبدو أنه قام مبكراً دون أن يتناول إفطاره، كما يفعل الفلاح عادة إذا كان أمامه عمل هام .. وفي الطريق جاع. فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق. وجاء إليها لكي يأخذ منها شيئاً. لكن بالأسف لم يكن فيها ثمر.
لقد كان مظهر الشجرة من بعيد يبشر بالخير. ففي شجرة التين يطلع الثمر قبل الورق. ويوضح مرقس «أنه لم يكن وقت التين» - أي لم يكن قد جُمع بعد من الشجر ... فأن لا يكون تين في هذه الشجرة التي عليها ورق، فهذا معناه أنها شجرة عقيمة.
هذه الشجرة العقيمة تصور لنا حالة الأمة في ذلك الوقت ... فيها الورق * ، وخالية من الثمر ... لها المظهر الخارجي، دون الجوهر. ويا لها من صورة صادقة لهذا الشعب الذي كان كل اهتمامه بالمظاهر. ينقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافاً ودعارة (مت23: 25). يكرمون الرب بشفاههم، وقلوبهم مبتعدة عنه بعيداً (مت15: 8)!!
لقد سبق أن قال المعمدان لهم «اصنعوا أثمار تليق بالتوبة» (مت3: 8). لكن الرب أوضح في مثل التينة (لو13: 6-9) أن التينة، رغم طول الانتظار، لم تصنع ثمراً، حتى طلب صاحبها (الله) من الكرام (المسيح) أن يقطعها ولا يبطل الأرض بسببها. لكن الكرام توسل من أجلها وطلب إعطائها فرصة أخرى وأخيرة «أتركها هذه السنة أيضاً، حتى أنقب حولها، وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً، وإلا ففيما بعد تقطعها».
وكم حاول الرب معهم طوال سني خدمته؟ من تعب وخدم مثله؟ لكنه في النهاية قال «عبثاً تعبت باطلاً، وفارغاً أفنيت قدرتي» (إش49: 4). وها هو في أسبوعه الأخير جائع لتوبتهم، دون مبالاة من جانبهم. فالشجرة عقيمة!!!
وورق التين من بداية التاريخ يحدثنا عن محاولات الإنسان الفاشلة لتغطية عريه، وعلاج خطيته (تك 3). لكن آدم نفسه سرعان ما اكتشف أن أوراق التين لا تنفع. وها التاريخ يعيد نفسه واليهود لا يغطيهم سوى ورق التين!!
ولهذا فإن الرب في اليوم التالي قال مقولته الشهيرة «يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا» (مت23: 37).
ولهذا أيضاً نطق الرب هنا على شجرة التين بالقضاء «لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد». فيبست التينة من الأصول!
وكما نطق الرب بهذا القول في الصبح، فإنه خلال النهار في نفس اليوم، وهو يتكلم عن مثل الكرم (مت 21: 33-44)، أكد الفكرة ذاتها إذ قال «إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره». فالتينة التي لن يأكل أحد منها ثمراً إلى الأبد، وملكوت الله الذي أُخذ منهم في مثل الكرامين الأردياء القتلة، يحدثانا بأن إسرائيل (الاثنى عشر سبطاً أو السبطين) قد فشل نهائياً تحت العهد الأول. لكن أمة * جديدة ستُولد في يوم واحد (إش66: 8)، ستصنع في المستقبل ثمراً لله!
إن شجرة التين في الكتاب المقدس ترمز بصفة عامة لأمة إسرائيل (هو9: 10، يؤ1: 7). لكن بعد الرجوع من السبي، أصبحت التينة ترمز بصفة خاصة إلى السبطين اللذين رجعا إلى الأرض، وظل الكرم إلى إسرائيل بصفة عامة (مز80: 8-14، إش5: 1-7، إر2: 21). ولهذا فإن الرب يسوع، كما مر بنا، شبه اليهود في زمانه بشجرة تين في الكرم *(لو 13). فالسبطان اللذان رجعا من السبي شغلا مركز إسرائيل كله، لكن باعتبارهم التينة. وكون التينة - في المعجزة التي نحن بصددها - قد يبست من الأصول، فهذا يعطينا تصويراً دقيقاً لتلك الأمة التي بتشتت السبطين سنة 70م ضاع آخر أمل لهم «كل بيت إسرائيل .. يقولون .. يبست عظامنا وهلك رجاؤنا» (حز37: 11). وعندما اندهش بطرس وباقي التلاميذ من تيبس التينة، فإن الرب أشار إلى شيء أغرب وأرهب «الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر، ولا يشك في قلبه، بل يؤمن إن ما يقوله يكون. فمهما قال يكون له».
والعلاقة النبوية بين تيبس التينة وطرح الجبل في البحر هي علاقة وثيقة جداً. ففي التينة نرى صورة للأمة كشاهدة لله على الأرض، ينتظر منها ثمراً. وفي الجبل نرى صورة لقوة أرضية أو بالحري مملكة (دا2: 35، 44، رؤ17: 9، 10، مز2: 6) وإذ يبست التينة بعد الصليب، فكان لابد من أن ينطرح الجبل في بحر العالم، وهو ما حدث سنة 70م على يد تيطس الروماني. ومن وقتها زالت الشهادة وتشتت اليهود في كل الأرض.
على أن موضوع شجرة التين لم ينته. فالرب في اليوم التالي، وهو يحدث تلاميذه فوق جبل الزيتون عن مجيئه الثاني، أخبرهم أن علامة مجيئه ستكون شجرة التين أيضاً. فعندما تخرج أوراقاً، تعلمون أن الصيف قريب (مت 24: 32).
إن ما حدث في جيلنا، إذ عاد اليهود (سبطا يهوذا وبنيامين) إلى أرض فلسطين من جديد، هو إخراج شجرة التين للورق + . وهو علامة أكيدة وقاطعة على أن ظهور المسيح للعالم قريب وعلى الأبواب. هذا خبر خطير، أرجو القارئ العزيز أن يعيه جيداً. وبينما كل مؤمن حقيقي يفرحه جداً قرب مجيء الرب، فكم يزعج هذا الخبر كل من يعيش في الخطية ويؤجل التوبة. دعنا نؤكد مرة أخرى أن ظهور الورق في تلك التينة التي يبست طوال تسعة عشر قرناً، لهو دليل أكيد على أن الصيف قريب. صيف لهم، وصيف للخليقة كلها .. أما للخاطئ مؤجل التوبة، فسيبدأ شتاء قاس لا ينتهي. وسيظل كل متهاون يردد طوال الأبدية هذه المرثاة: «مضى الحصاد، انتهى الصيف، ونحن لم نخلص» (إر8: 20).
لقد وردت هذه المعجزة في إنجيلي متى ومرقس. في إنجيل متى الذي يقدم الرب كالمسيا نجد أن المسيح إذ دخل أورشليم، مدينة الملك العظيم، فقد هتفت الجموع «أوصنا لابن داود». وهكذا أيضاً هتف الأولاد في الهيكل .. لكن هل كان ذلك الترحيب به صادقاً وحقيقياً؟
إن ما حدث بعد ذلك مباشرة يعطينا الإجابة. فما كان أشد العداء تجاهه من الشعب بكل فئاته (الرؤساء والشيوخ 21: 23 إلى 22: 14، ثم الفريسيين 22: 15-22، ثم الصدوقيين 22: 23-33). إذا فشجرة التين التي بها الورق، والتي تخلو من الثمر كانت هي الصورة الصادقة للشعب وقتها. تلك الصورة التي لم تكن خافية على الرب.
أما في إنجيل مرقس، فمع أن خدمة الرب كالخادم والنبي كانت قد انتهت في أصحاح 10: 45 برفض الأمة له. لكن رفضهم له كالنبي وكالخادم، جعل الله في غيرته على فتاه القدوس يسوع، يضع في أفواههم الاعتراف بأنه الملك (11: 9، 10). ومع أن مرقس ذكر هذه المشاهد باختصار كعادته، دون تسليط الأضواء كما فعل متى على اقتباس نبوة زكريا «هوذا ملكك»، أو هتاف الجموع أوصنا لابن داود، أو صراخ الأولاد في الهيكل، أو ارتجاج المدينة أورشليم كلها قائلة من هذا .. إلا أنه ينفرد بقوله إن الرب لما دخل الهيكل نظر حوله إلى كل شيء. فهو لم يتصرف فوراً كما ذكر متى، بل في هدوء أعطاهم الفرصة قبل أن يوقع عليهم القضاء (قارن تكوين 18: 20، 21).
أما لوقا فهو لم يذكر هذه المعجزة قط. فلوقا يركز على النعمة، بينما هذه معجزة قضاء. ولعله ملفت للنظر أن لوقا الذي لم يذكر هذه المعجزة، انفرد بذكر مثل التينة الغير مثمرة، والذي فيه يتوسل المسيح إلى الله من أجلهم * (لو 13). وتتميماً لذلك فقد انفرد لوقا أيضاً بذكر صلاة الرب يسوع فوق الصليب طالباً لهم الغفران «يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو23: 34).
وبينما يذكر لوقا قضاء الرب على الأمة ممثلة في شجرة التين، وهو في طريقه إلى أورشليم، فقد انفرد بذكر مشهدين للرب. الأول وهو في طريقه أيضاً إلى أورشليم، ربما في نفس ذلك اليوم أو اليوم التالي، إذ يقول «وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك! ولكن الآن قد أُخفى عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيكِ، ولا يتركون فيك حجراً على حجر: لأنك لم تعرفي زمان افتقادك» (لو19: 41-44). والمشهد الثاني وهو في طريقه للصليب إذ يَرُد على النساء اللواتي كن يذرفن عليه دموع العواطف الإنسانية أو النسائية قائلاً لهن «يا بنات أورشليم، لا تبكين عليّ، بل ابكين على انفسكن وعلى أولادكن! لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع! حينئذ يبتدئون للجبال اسقطي علينا وللآكام غطينا. لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس؟» (لو23: 27-31).
يا له من مخلص .. يفرح لرجوع الخاطئ (لو 15)، ويبكي على هلاكه!!!!
* في الورق نجد مظهر شهادة بأن هناك حياة. لكن الرب يريد قبل ذلك أن يكون هناك ثمر. نشبعه أولاً، ثم بعد ذلك نشهد. وهذا عين ما نجده في المزمور الأول عن الرجل المبارك «يكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل». أولاً الثمر، ثم الورق. أما ورق بدون ثمر فهو عين الرياء الذي يمقته الرب (مز50: 16 قارن 32: 2، 51: 6).
* هذه الأمة ليست هي الكنيسة (التي هي سماوية في كل شيء)، ولا هي الأمم بصفتهم هكذا، فهؤلاء سيُرفضون أيضاً في المستقبل (رو 11). بل هي البقية التقية بعد اجتيازهم في ضيقة يعقوب.
* هناك ثلاثة أشجار في الكتاب لها علاقة بإسرائيل: هي الزيتونة والتينة والكرمة (قض 9).
في الزيتونة: نرى الانتساب للبركة الإلهية، سواء بالارتباط مع إبراهيم (أصل الزيتونة)، أو نسله (المسيح) مركز كل البركات.
في التينة: نجد الامتيازات القومية، ولا سيما من الناحية الدينية، وأهم مظاهرها الهيكل.
في الكرمة: نجد الامتيازات الروحية المتمثلة في فرح الله بهم، وفرحهم هم بالله.
بحسب ما ورد في هوشع 3: 4، فلقد تعين لبني إسرائيل أن يلبثوا أياماً كثيرة بلا مظهر سياسي ولا مظهر ديني.
+ لقد أخرجت التينة الآن أوراقها فقط. أما الثمر فسينضج بعد الضيقة العظيمة. وعندها سيدعو الرب عروسه الأرضية لتخرج من مكان اختبائها (رؤ12: 6، 14) قائلاً لها «قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي لأن .. التينة أخرجت فجها (أو تينها الشتوي - بحسب ترجمة داربي) وقعال الكروم تفيح رائحتها» (نش2: 9-13). فأولاً التينة تخرج ثمرها الذي طلبه الرب في يومه ولم يجده (التين الشتوي)، وبعدها يجمع الرب الاثنى عشر سبطاً (مت24: 31، رؤ7: 1-8)، فتبرز إلى الوجود الكرمة التي لم تُر منذ السبي الأشوري (الذي سبق المسيح بنحو سبعمائة سنة)، وتنتج ثمرها الذي يفرح قلب الله والناس (مت26: 29، إش27: 2، 6، هو14: 5-8).
* واضح أن يوحنا له خط مختلف عن الأناجيل التلخيصية الثلاثة. فبينما تذكر هذه الأناجيل الثلاثة قرب نهايتها حادثة تطهير الهيكل، وحديث الرب فوق جبل الزيتون عن رجوعه مرة ثانية إلى هذا الشعب، فإن إنجيل يوحنا ذكر حادثة مشابهة لتطهير الهيكل، لكن في بداية خدمة الرب (يو 2). فهو يبدأ من حيث انتهى البشيرون الآخرون. وفي آخر الإنجيل لا نجده مشغولاً بهذا الشعب وحالتهم في الأيام الأخيرة عندما يظهر لهم، بل بكنيسته وأحوالها في يوم الروح القدس (فترة النعمة الحاضرة)، ومجيئه لاختطافنا إليه.
الكاتب خادم الإنجيل يوسف رياض
منقول : http://www.jesus-nazareth.com/vb/sho...1814#post71814