هل خُلِقَت المرأة على صورة الله مثل الرجل؟
آراء بعض آباء الكنيسة
مقدمة
لو تساءلنا، هل المرأة مخلوقة على صورة الله مثل الرجل، لنال هذا السؤال اندهاش الناس، لأنّ الجواب: نعم بكل تأكيد. فبعد أن كانت قضية المرأة مطروحة في الساحة العامة وتتباين الآراء حولها بين مؤيد ومعارض، استقرّ الرأي على المساواة بين الرجل والمرأة. وعلى الرغم من الظواهر الخارجيّة لدى بعض الفئات المحافظة، يمكننا القول إنّنا على أبواب انهيار الهيمنة الذكورية في المجتمع، ويبدو هذا الانهيار قدراً محتوماً. وحين يتحقق هذا القدر، لا بدّ للسؤال أن يُطرح: ما هو دور المرأة في الإيمان المسيحي أو في الديانات الأخرى؟
سيتناول هذا البحث آراء مجموعة من آباء الكنيسة حول المرأة ومكانتها. لا شك في أنّ ثقافة الآباء تختلف اختلافاً شبه جذري عن ثقافتنا، إلاّ أننا نعتمد عليهم اعتماداً شديداً في تفكيرنا الإيماني واجتهاداتنا. لذلك أردنا أن نقدم في هذا البحث عودة إلى المنابع لكل من يريد أن يعالج موضوعاً في هذا الإطار.
المجتمع الرجالي التقليدي
لقد عاشت جميع المجتمعات الماضية قناعةً راسخة وهي أن المجتمع يجب أن يتأسس على الرجال. وقد استعمل علماء الاجتماع كلمة "محورية الذَكَر Androcentrisme" للتعبير عن هذا الواقع الذي تكون فيه المرأة مُرتبطة، في كثير من الأمور، بالرجل بينما لا يرتبط الرجل كثيراً بالمرأة. ونحن لا زلنا نرى هذا الوضع في كثير من المجتمعات الشرقيّة.
وفي بعض الأديان، تظهر دونية المرأة على أنّها مُشرّعة تشريعاً إلهياً. إنها في الإسلام ناقصة عقل ودين، وليس حالها في البوذية أفضل. إذ إنّه من واجب (الراهبة) البوذية أن تسجد عند قدمي راهب حديث العهد حتى وإن كانت قديمة العهد في حياة الاعتكاف 1.
أثار وضع المجتمعات هذا استياءً شديداً لدى بعض التيارات المدافعة عن حقوق المرأة. فبدأت تنظر إلى بدايات ظهور المجتمع على أنها مجتمعات أنثوية كانت المرأة فيها محوراً وأساساً للأسرة. وتُرجع هذه التيارات زمن تلك المجتمعات إلى ما قبل العصر البرونزي، وتعتمد في ذلك على ما تجده حالياً في المجتمعات الأفريقية البدائية. ففي هذه المجتمعات، تتحمل المرأة كامل أعباء الأسرة وقراراتها، بينما يقتصر دور الرجل على الإخصاب والحرب 2 . إلا أنّ هذه النظرة غير صحيحة. فالسلطة العليا هي للشيوخ، حكماء القبيلة، وللساحر، وهو ذكر دوماً.
إنّ شمولية محورية الذَكَر في المجتمع لا تعني أن إنسانية المرأة أو كرامتها هي أقل من إنسانية الرجل وكرامته. ولكنها تخلق تراتبية نفسية تجعل الرجال قوّامين على النساء. الرجل فوق والمرأة تحت في جميع مجالات الحياة.
بعض الملاحظات الضرورية
علينا أن ننتبه، قبل الدخول في دراسة موضوع المرأة وآباء الكنيسة، إلى أنّ المسافة التاريخية التي تفصلنا عنهم واسعة جداً. ولا يمكننا الحكم على مواقفهم وآرائهم انطلاقاً من ثقافتنا الحالية. ففي العصر الحاضر، ساهم الطب والتكنولوجيا في تحرير المرأة. من الناحية الطبية، وبسبب انخفاض نسبة وفيّات الأولاد، لم يعد على المرأة أن تنجب أولاداً كثيرين لتضمن بقاء بعضهم على قيد الحياة. كما لم تعد حياتها مُهددة بالخطر أثناء الحمل والولادة خصوصاً في سن متأخرة. لذلك لم تعد الفتاة مُضطرة إلى الزواج المُبَكِّر، وأصبح لديها وقت فراغ أوسع وهي في الأربعينيات من عمرها وأولادها في المدرسة طوال النهار. كما أنّ التطور الطبي ساعدها على التحكم بالإنجاب. ومن الناحية التكنولوجية، لم يعد للقوّة العضليّة دور رئيس في الإنتاج، بل أصبحت الصناعات تعتمد أساساً على الفكر. وفي المجتمعات الزراعية، خفّفت الميكنة من عمل المرأة الخدمي في الزراعة والصناعات الزراعية. فأدىَّ كلّ هذا إلى خلق مساحات في حياة المرأة، أصبح بإمكانها أن تستغلها لتنمية نفسها وللعمل المأجور، مما أدىَّ إلى تغيير مكانتها في المجتمع ونظرة الذكور إليها.
كلّ هذا لم يكن موجوداً في مجتمعات الآباء. ومع ذلك، يرى بعض الباحثين الأرثوذكس أن موقف آبائهم كان ايجابياً تجاه المرأة، لأن النظرة الأرثوذكسية تجعل الله مركزاً، بينما تجعل نظرة الآباء اللاتين الرجل مركزاً، خصوصاً لدى اغسطينوس. وقد أدىَّ مفهوم مركزية الذَكَر لدى الآباء اللاتين إلى ظهور مواقف مُتشددة عند الآباء المدرسيين مثل القديس توما الأكويني الذي كان يرى أن الرجل هو الكائن المثالي الوحيد الذي يحمل الصورة الالهية.
ويعتقد لاهوتيون أرثوذكس أن تهمة العداء للنساء الموجهّة إلى آباء الكنيسة سببها الآباء اللاتين 3 . بينما يرى اللاهوتيون الكاثوليك أن هذا الرأي، إن لم يكن غير صحيح، فهو غير دقيق. فموقف آباء البرية من النساء وأقوالهم فيها، كما كتابات بعض مشاهير الآباء اليونان أمثال يوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس النيزنزي وغيرهم، لا تخولنا بأن ننفي وجود ميول عدائية تجاه المرأة في أدب الآباء اليونان.
صورة الله، تراتبية الخلق والسقطة
تعتمد مسألة صورة الله عند الآباء على تأويل قصة الخلق في (تك 1/26-27). ويربطون معها القصة الثانية للخلق، حيث خلق الله آدم أولاً وجعلَ له حواء عوناً (تك 2/18). وقد أثرّ هذا الأمر في توجهات الآباء ونظرتهم إلى صلة المرأة بصورة الله.
لم يُبدع آباء الكنيسة هذا التأويل، بل ورثوه من التفسير اليهودي لنصوص الخلق. فالقديس بولس، وهو فريسي مُتبحِّر في الكتاب المقدس وتفاسيره، لا يقول إن المرأة خُلِقت على صورة الله بل على صورة الرجل. فيجمع بوضوح بين التراتبية في الخلق وكون الرجل صورة الله. "أما الرجل فما عليه أن يعتمر لأنه صورة الله وشعاعه، وأما المرأة فهي شعاع الرجل. فليس الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولم يُخلق الرجل من أجل المرأة، بل خُلقت المرأة من أجل الرجل" (1قو11/9-7). ويُضاف إلى التراتبية في الخلق تأويل السقطة، أي مسؤولية حواء في الخطيئة. لذلك يزيد نص التكوين تبعية المرأة للرجل: "وإلى رجلك تنقاد أشواقك وهو يسودك" (تك 3/16). ونجد هذه النظرة أيضاً في الرسالة إلى طيموثاوس. فبعد التذكير بتراتبية الخلق، يقول بولس الرسول إنّ حواء هي وحدها التي أُغويَت. "إنّ آدم هو الذي جُبِلَ أولاً وبعده حواء. ولم يُغوَ آدم بل المرأة هي التي أُغويَت فوقعت في المعصية" (1طيم 2/13-14). ويزيد طرطليانوس مأساوية هذا الحدث، فيربط سقوط حواء وحدها بتدمير صورة الله في الإنسان في مقاله المشهور "زينة النساء":
"ستلدين أيتها المرأة بالأوجاع والمشقات؛ وستنقاد أشواقك إلى زوجك وهو يسودك. أتجهلين يا حواء هذا؟ ... أنتِ باب الشيطان ... أنتِ أوّل من خالف الشريعة الإلهية. أنتِ أوّل من غشَّ الذي لم يستطع الشيطان أن يهاجمه. أنتِ التي أنهيتِ بسهولة شديدة أمر الرجل صورةَ إلهكِ".
وقادت التبعية المزدوجة لحواء إلى آدم كثيراً من الآباء اليونان إلى رفض فكرة أن المرأة تستطيع أن تكون صورة لله مثل الرجل. ويظهر هذا بوضوح لدى الآباء الإنطاكيين. فهم يجعلون صورة الله في صورة سيطرة آدم على كل المخلوقات. ولأن المرأة خاضعة لزوجها (أف 5/22)، فهي لا تستطيع أن تكون صورة لله على قدم المساواة معه. إلا أنّ الآباء اليونان لا يتّفقون على هذا الرأي. فهناك عدد منهم لا يجعل صورة الله في سيادة الإنسان على الخلائق. وقد تعدّدت نظريّاتهم لتحديد ماهيّة صورة الله الموجودة في الإنسان.
حين كان الآباء اليونان واللاتين يتساءلون ما معنى أن يكون الإنسان على صورة الله، كانوا يحدّدون إجاباتهم صاعدين نحو القدرة التي تميز الإنسان عن الحيوان. فبالنسبة إلى القديس ايريناوس، الإنسان بكامله هو صورة الله. "فبيَدَي الآب، أي بالابن والروح القدس، أصبح الإنسان كلّه لا جزء منه، على صورة الله ومثاله. فالنفس والروح هما جزء من الإنسان لا الإنسان بكامله. فالإنسان الكامل هو مزيج واتحاد النفس الّتي نالت الروح من الآب، والّتي امتزجت بالجسد المصنوع بحسب صورة الله" 4 .
يبدو واضحاً في هذا النصّ أنّ القديس إيريناوس لم ينظر إلى المسألة من ناحية التمييز بين الرجل والمرأة. إلا أنّ المدرسة الإنطاكية من بعده مالت إلى جعل صورة الله في الهيمنة على الطبيعة. فأطلقت على أيقونة المسيح اسم الضابط الكل، تعبيراً عن الهيمنة، لأن المسيح هو صورة الآب.
أما المدرسة الإسكندرية، فقد جعلت صورة الله في النفس. وجعلت المدرسة الكبادوكية صورة الله في الفضائل، الخ. ويمكننا أن نختم هذا العرض بذكر أبيفانوس السلاميني، الذي رفض كلّ بحث لتحديد مكان صورة الله واعتبره خطراً ويؤدي إلى الهرطقة.
ومع ذلك، فإن المسألة تهمّنا لأنها تحدّد هل بإمكان المرأة أن تعكس صورة الله أم لا؟ صحيح أن الاختلاف بين المدارس لم يكن له أثر بالغ في اللاهوت، إلا أن الآباء اليونان لم يستطيعوا اعتبار صورة الله بعيداً عن نظرة مركزية الذَكَر.
التقليد الانطاكي
كما قلنا أعلاه، حددّ التقليد الإنطاكيّ صورة الله انطلاقاً من مفهوم الهيمنة. وسوف نستعرض بعض آباء الكنيسة الانطاكيين بحسب تسلسلهم التاريخي.
اوسابيوس الحمصي (300-359)
إنّه مؤسس الدراسات الكتابية للمدرسة الانطاكية في شأن صورة الله. وقد فُقِدَت غالبية أعماله باللغة اليونانية، ولم يبق إلا أجزاء منها تُرجمت إلى اللاتينية. وهو يقول:
"بحسب صورته" لا تعني شيئاً آخر غير أن الانسان ... نُصِّبَ ملكاً على كل ما في الأرض. فالله يسود كل ما خلقه في السماء وعلى الأرض، والإنسان يسود كل ما ناله من الله".
وظلت انطاكية وفية لهذا المفهوم عن الصورة. وتجدر الإشارة إلى أن اوسابيوس لم يُعالج مسألة قدرة المرأة أو عدم قدرتها على أن تكون صورة الله. وسيقوم ديودورس الطرسوسي بهذه المهمة.
ديودورس الطرسوسي (+ قبل 394)
قام ديودورس بتفسير صورة الله في المرأة تفسيراً سلبياً اعتماداً على ما قاله القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنثوس:
"اعتقد بعضهم أن الإنسان هو صورة الله في نفسه غير المرئية، ولم ينتبهوا إلى أن الملاك كما إبليس هما أيضاً غير مرئيين. علينا أن نوافق هؤلاء الناس حين يقولون إن المذكر والمؤنث يشاركان بنفسيهما وجسديهما في الطبيعة نفسها. ولكن، إذا كانت النفس هي صورة الله، لماذا يُحدّد بولس الرجل ويقول إنّه صورة الله لا المرأة؟ فهو يقول: "أما الرجل فما عليه أن يعتمر لأنه صورة الله وشعاعه وأما المرأة فهي شعاع الرجل" (اقو 11/7). فحين يكون الذي لا يجب عليه أن يغطي رأسه صورة لله، يكون من الواضح أن المُغطاة الرأس ليست صورة الله، حتى وإن كانت لديها النفس ذاتها. فكيف يكون الكائن البشري صورة لله؟ إنّه كذلك حين يمارس السلطة والسلطان. ويشهد على ذلك صوت الله نفسه حين يقول: "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا"، وحين يضيف "وليتسلط على سمك البحر وطير السماء ودواب الأرض ...". فكما أن الله يملك على كل ما في الكون، كذلك يملك الرجل على كل ما في الأرض. فهل تسود المرأة هي أيضاً على كل ما ذكرناه؟ لا! لأن الرجل رأسها، وهو الذي يسود على كل الآخرين. بينما ليس الرجل تابعاً للمرأة. لهذا السبب أصاب المغبوط بولس حين لم يجعل إلا الرجل صورة وشعاعاً لله، وقال إن المرأة هي فقط شعاع للرجل."
لا داعي لأن نُعلّق على هذا النص، فهو شديد الوضوح. ولكن، تجدر بنا الملاحظة إلى أن ديودورس يساوي نفس المرأة بنفس الرجل. ولن تزول هذه المساواة إلا مع القديس يوحنا الذهبي الفم.
يوحنا الذهبي الفم (344- 407)
يعرض يوحنا الذهبي الفم آراءه في الموضوع بوضوح شديد. ففي عظاته يقول:
"وماذا تقول الكتب المقدسة؟ "ستسودون سمك البحر وطير السماء وكل زاحف على الأرض". فالله يستعمل التعبير صورة ويقصد بها الهيمنة لا شيء آخر. لأن الله خلق الإنسان مُهيمناً على كل ما في الأرض، فلا شيء يفوقه بل كل شيء يخضع لسلطانه ... فإذا اعتقدوا (الخصوم) أن التعبير صورة يجب أن يُفهم بمعناه الواقعي، نرد عليهم ونقول: في هذه الحالة، يجب أن لا نُسمي الرجل فقط صورة. فالمرأة أيضاً يجب أن تُسمى صورة، لأن لكليهما الشكل نفسه. لكن هذا أمر غير معقول. فاسمع ما يقوله بولس: "على الرجل أن لا يعتمر لأنه صورة الله وشعاعه ... أما المرأة فهي شعاع الرجل". هو يسود وهي تخضع كما قال لها الرب منذ البدء: "وإليه تنقاد أشواقك وهو يسودك" (تك 3/16). ولأن الكلمة الأولى تقول إن الرجل يشارك في صورة الله لا في شكله، يمارس الرجل الهيمنة الشاملة بينما تكون المرأة خاضعة. ولهذا يُعلن بولس أن الرجل هو صورة الله وشعاعه، بينما المرأة هي شعاع الرجل. فلو كان يقصد الشكل، لما ميَّز هذا التمييز. لأن الرجل والمرأة هما من النمط نفسه." 5
يظهر واضحاً، أن يوحنا الذهبي الفم لا يعتبر المرأة صورة لله مثل الرجل، لا لأنها لا تستطيع ممارسة السلطة وحسب، بل لأن جسدها يختلف عن جسد الرجل، حتى وإن كان شكلها من نمط شكله. ويعتمد على هذا المبدأ ليُبرر عدم أهلية النساء للكهنوت. فهو يقول في مقاله حول الكهنوت:
"حين تقتضي المسألة رئاسة الكنيسة وهداية النفوس، وبما أنّ رجالاً كثيرين بنسحبون أمام واقع هذه المهمة العظيمة، فإن المرأة غير مؤهلة لها بسبب جسدها ... فأنا لا أبالغ حين أقول إنّ الفارق بين الراعي ورعيته هو كالفارق بين البهائم والأشخاص العاقلين." 6
ثيودورس المصيصي (350- 428)
يؤكد ثيودورس ما قاله يوحنا الذهبي الفم في شأن المرأة مُعتمداً أيضاً على ما ورد في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنثوس. إلاّ أنّ موقفه لم يكن واضحاً. ففي إحدى عظاته التعليمية يقول إن لحواء طبيعة آدم نفسها: "فهي كانت تمتلك مجموعة طبيعة آدم لأنها نالت مبدأ كيانها منه" 7 . بينما يقول في شرحه لـ (1 قو11/ 7) إنّ طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل:
"من غير اللائق، بحسب التقوى والطبيعة والخلق، أن يغطي الرجل رأسه لأنه صورة الله وشعاعه. بينما المرأة هي شعاع الرجل."
ولا يعتبر ثيودورس الجنس وخضوع حواء لزوجها نتيجة للخطيئة بل هما إرادة الله.
ثيودوريتوس القورشي (393- 466)
"فكما أن الله يسود كل الكون، يسود الرجل كل الأمور الأرضية. فهل تسودها المرأة أيضاً؟ لا، فالرجل هو رأسها حتى وإن كانت تسود على سائر الأشياء. بينما لا يخضع الرجل للمرأة. لذلك أحسن القديس بولس حين قال: "إن الرجل وحده هو صورة الله وشعاعه ... أما المرأة فهي شعاع الرجل."
ونختم قائمة المدرسة الانطاكية مع
ساويريانوس الجبلي (+ بعد 498)
"حتى وإن كان للمرأة جسد ونفس شبيهين بالرجل، لا يمكننا أن نقول إنها صورة. الرجل وحده هو الصورة. فالرجل ليس صورة الله في جسده أو روحه، وإنما في قدرته على ممارسة السلطة." 8
يبدو واضحاً أن التعابير أصبحت سارية بين آباء الكنيسة الانطاكيين ومُتَفقاً عليها. لهذا لا يمكننا قبول آراء من يقول إن الآباء اليونان لم يتأثروا من مبدأ مركزية الذَكَر في المجتمع، لأن الآباء الانطاكيين حصروا صورة الله في الذكورة كما يفهمونها هم. وقد أدّى هذا إلى إبعاد المرأة عن إدارة الكنيسة وحتى عن ممارسة دورها بشكل فعّال فيها. فلم يكن لها الحق في التعليم ولا الوعظ، خصوصاً إذا كان بين الحشد المُتلقي رجالاً. يقول يوحنا الذهبي الفم في شرحه لرسالة القدّيس بولس إلى تيطس:
" فليُعلمنَّ". ومع ذلك امنع النساء من التعليم. ولماذا تسمح لهنَّ بذلك طالما أنك قلت أعلاه: "ولا أُجيز للمرأة أن تُعلِّم" (1طيم 2/12)؟ واسمع ما أضيف بعد ذلك: "ولا أن تسود الرجل". فقد سُمح للرجال أعلاه بأن يُعلِّموا الرجال والنساء. وسمح "بولس" للنساء بأن يقلن كلاماً تهذيبياً في البيت فقط. إنه لم يسمح لهنَّ قط بأن يترأسوا أو يُلقوا الخطب. لهذا السبب يضيف ويقول "ولا أن تسود الرجل". 9
مدرسة الإسكندرية
تعتبر مدرسة الإسكندرية للدراسات الكتابية أن صورة الله هي في النفس. لا شك في أن نظرة المدرسة الإسكندرية إلى الكتاب المقدس تختلف عن نظرة المدرسة الانطاكية. فالمدرسة الاسكندرية تعتمد على الرمزية. وهي تتابع في هذا الأمر التقليد اليهودي الاسكندري الذي بلغ ذروته مع الفيلسوف فيلون الاسكندري (-13 +54). ففي شرحه لسفر التكوين يقول:
"إن الملذات لا تجرؤ على عرض ضلالها وخداعها للرجل بل للمرأة ومن خلالها للرجل. إنه المسار الطبيعيّ للأمور كي تبلغ غايتها. ففي الكائن البشري، يقوم العقل بدور الرجل والمشاعر بدور المرأة. لذلك فإن المتعة تقترب عموماً من المشاعر، ومن خلال المشاعر تتسرب إلى العقل المدبِّر." 10
نستنتج من هذا النص أن فيلون الإسكندري يرى الإنسان على النحو التالي: العقل هو الرجل والمشاعر هي المرأة. ويعتبر المشاعر مرتبطة بالنفس. فالنفس في الإنسان ذات طبيعة أنثوية.
انطلاقاً من هذا، اعتمدت مدرسة الإسكندرية على ما ورد في رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس (4/ 13) للكلام على الإنسان الكامل، ملء قامة المسيح بصيغة المذكر. فأصبح الكمال المسيحي ذكورياً، إذ ارتبط بالصفات الرجولية من مقاومة للخطيئة وشدة في الايمان وحزم وثبات. ودعم ارتباط الكمال بالذكورية اختبار الكنيسة لحياة الاستشهاد. فالشهداء أبدوا شجاعة و"رجولة" أمام مُضطهديهم، حتى إن كثيراً من سير الشهيدات وصِفَت شجاعتهن وكأنها أشد بأساً من الرجال المصارعين. وقاد هذا الأمر الأدب الروحاني إلى الكلام على ضرورة تحلّي المرأة بالذكورية إذا أرادت بلوغ الكمال الروحي.
فعلى الرغم من أن مدرسة الإسكندرية جعلت صورة الله في النفس البشرية لا في الهيمنة على الخليقة أو السلطان، فإن هذه الصورة تعاني صعوبة شديدة في أن تكون أنثوية. لنستعرض آراء هذه المدرسة بحسب التسلسل الزمني.
اقليمنضوس الاسكندري (150 – 214)
يصف هذا القديس الكمال المسيحي مُعتبراً اياه ذكورياً:
"حين تتحرر المرأة من متطلبات الجسد، تستطيع أن تُحقق الكمال في هذه الدنيا، لأن النفوس لا تنتمي إلى هذا الجنس أو ذاك، إنها ليست مذكرة أو مؤنثة، حيث لا تُزوَج ولا تتزوج. هكذا يكون حال المرأة حتى تتحول إلى رجل فتفقد أنوثتها وتصبح رجولية وكاملة." 11
إن كلام اقليمنضوس الاسكندري هذا فيه مبالغة شديدة للنظرة المتمحورة حول الذَكَر، إذ تشترط على المرأة أن تتخلى عن أنوثتها كي تبلغ الكمال. وفي كتاب "المُربي" يؤكد اقليمنضوس فوقية الرجل على المرأة في مجالي العقل والحكمة فيؤكد التراتبية الذكورية:
"لقد زيَّن الله الرجل بلحية مثل الأسود وجعله رجلاً إذ منحه صدراً مُشعراً. إنها علامة القوة والسلطان ... هذا هو الرمز المميز للرجل ... إنه رمز طبيعة أسمىَ ... وفي التناسل ... عُهِدَ إلى الرجل الدور الفعّال وإلى المرأة الدور السلبي." 12
لقد تأثر اقليمنضوس الاسكندري من نظرة الطب في عصره إلى العلاقة الجنسية. فهو يعتبر أن الرجل هو صورة الله لأنه في التناسل يشبه الزارع الذي يزرع أرضه. يقول في كتاب المربي:
"إن الزارع الذي يزرع حقلاً صاحب نفسٍ هو أسمى بكثير ... إنه يغرس بسبب الله الذي قال: "أكثروا" فيجب طاعته. فالرجل هو صورة الله لأنه، مع أنه إنسان، يساهم في ولادة الإنسان."
على الرغم من هذا كله، لم يقل اقليمنضوس الاسكندري إن المرأة ليست على صورة الله. بل اكتفى بالقول إن الرجل أسمى من المرأة.
اوريجينس (185 – 254)
شرح اوريجينس المعنى الرمزي للذكورية والأنوثة لدى فيلون الإسكندري، ونبذ في الآن نفسه نظرته إلى الانسان. ففي عظته عن سفر التكوين يقول: "إن إنساننا الداخلي يتألف من عقل ونفس. ونستطيع أن نعتبر العقل هو الذكر والنفس هي الأنثى". ويقول في عظته عن سفر الأحبار: "الذكر الحقيقي هو من لا يعرف الخطيئة، فالخطيئة هي نصيب الضعف الأنثوي". ويقول في عظته عن سفر الخروج: "فإذا كانت أفعالنا أنثوية فهي جسدية جسمانية ... فنظرة الخالق لا ترى الأنثى وإنما الذكر. لأن الله لا يرضى أن ينظر إلى ما هو مؤنث بل إلى ما هو مذكر".
هل يمكننا الاستنتاج بأن اوريجينس يؤمن بعدم المساواة بين الرجل والمرأة؟ يبدو أن المسألة لا تُطرح على هذا النحو. ففي عظته عن سفر يشوع بن نون يقول: "إن الكتاب المقدس لا يميز بين الرجال والنساء بحسب الجنس ... فالرجال والنساء يتمايزون بحسب اختلاف القلوب. فكم من نساء هنَّ أمام الله رجال أقوياء، وكم من رجال يجدر بهم أن يصطفوا مع النساء المتراخيات والمغنَّجات."
على الرغم من رفض اوريجينس التفريق بين الرجل والمرأة من حيث الطبيعة، فإن تفكيره يظل مُتأثراً تأثراً شديداً بنظرة المركزية الذكَريّة.
ديديمُس الأعمى (313 – 398)
دافع ديديمُس الأعمى دفاعاً شديداً عن تساوي صورة الله في الرجل والمرأة، لأن هذه الصورة هي في النفس. إلا أن تصوره للحياة الروحية ظلَّ مرتبطاً بتصور فيلون الإسكندري. ففي شرحه لسفر التكوين يقول:
"خلقتهما". إذا اعتمدنا على المعنى الحرفي لهذه الكلمة، نستطيع أن نقول إن لدينا هنا برهاناً على أن المرأة مساوية للرجل في الجوهر. فكلاهما ينتميان إلى النوع نفسه. وهذا ما جعل الله يقول: لنصنع الإنسان. فكلمتا ذكراً وأنثى تشيران على العكس إلى التمييز الذي جعله الله بينهما من أجل التناسل. وهما تبينان في الآن نفسه أن المرأة هي أيضاً على صورة الله، وأن لكليهما القدرات نفسها، أي إمكانية الاقتداء بالله، والمشاركة بالروح القدس واقتناء الفضيلة." 13
لا شك في أن كلام ديديمُس واضح في شأن المساواة بين الرجل والمرأة. إلاَّ أننا قلَّما نجد كتابات إسكندرية بهذا الوضوح، مما يجعلنا نتردّد في اعتبار هذا الكلام موقفاً يميز هذه المدرسة. الموقف المميز الوحيد هو اعتبار النفس صورة لله. لذلك يتابع ديديمُس قوله فيحُّط من شأن المرأة ويقول:
"هوذا المعنى الروحي لكلمتي رجل وامرأة: إنَّ العقل القادر على التعليم، القادر على رمي بذار كلمة الله في النفوس المؤهلة لاستقبالها، يجب أن يكون ذكراً. وتشغل مكان الأنثى النفوس التي لا تستطيع أن تولِّد شيئاً من ذاتها وإنما تنال التعليم من الآخرين وكأنه بذار. على صعيد الأمور المحسوسة، الله هو الذي يجعلنا ذكراً أو أنثى. ولكن على صعيد الأمور الروحية، كل واحد منَّا يختار بملء إرادته أن يشغل مكان السيد، أي الذكر زارع الخيرات، أو يجعل نفسه تلميذاً ينال البذار من آخر فيكون بهذا أنثى."
ويحاول ديديمُس في شرحه هذا أن يتفادى تهمة التمييز بين الجنسين فيقول إن "نفوس المؤمنين هي إناث أمام الله لأنها منه تتلقى الكلمة."
كيرلس الاسكندري (+ 444)
شهدت مدرسة الاسكندرية مع القديس كيرلس تراجعاً في مسألة تساوي المرأة مع الرجل. ففي شرحه لانجيل يوحنا، وعلى الرغم من أن هذا الإنجيلي أبرز دور المرأة في حياة يسوع، يقول القديس كيرلس:
"إن ضعف القدرات الفكرية لدى النساء يجعلهنَّ عاجزات عن التفكير بدقة وحزم. بينما تميل طبيعة الرجال أكثر إلى استعمال جميع أنواع التفكير وإلى أن تكون أكثر استعداداً للفهم." 14
إن جعل النفس صورة لله، سمح للمدرسة الاسكندرية بأن تفصُل الطبيعة الجسدية للكائن البشري عن الطبيعة والميول الروحية. وبالتالي، استطاعت أن تُقّر مساواة المرأة بالرجل من ناحية النوع والصورة الإلهية والكرامة البشرية. إلا أنها ظلت أسيرة النظرةالاجتماعية السائدة المتمحورة حول الذكورية، فلم تستطع أن ترى في الأنوثة إلا السلبية والعجز. ولما كانت حياة الكنيسة الاسكندرية تميل أكثر إلى الروحانية الرمزية، نمت في المخيلة الإيمانية صورة سلبية عن كل ما هو أنثوي. ولعل كلام كيرلس الاسكندري يوضح هذا النمو الذي انحرف عن مسار الأسلاف، والذي سيؤدي في العصور اللاحقة إلى إقصاء المرأة إقصاءً تاماً عن الحياة الكنسية، وهو أمر سيستفحل مع قدوم المسلمين وينال من الإسلام دعماً وسنداً.
المدرسة الكبادوكية
جعل الكبادوكيون صورة الله في حرية الكائن البشري. وهي أيضاً في قدرته على عيش الفضيلة. وقد كان مكاريوس أول من قال هذا.مكاريوس (نهاية القرن الرابع – بداية القرن الخامس)
"حين خُلِقت السماء والأرض والشمس والقمر ... فإنها لا تستطيع أن تغير شيئاً من طبيعتها، وليس لديها أية إرادة. وعلى العكس، يُقال عنك أنكَ خُلقت على صورة الله ومثاله لأنه، كما أن الله يعزم على فعل شيء من نفسه ويتصرف بحسب مشيئته ... كذلك تستطيع أنتَ أن تعزم على فعل شيء من نفسك وتقرر حتى هلاكك. لأن طبيعتك قابلة للتغيير ... فمن شاء، يطيع الله، ويسلك في طريق البر، ويسيطر على الشهوات. إن عقلاً كهذا ينمو في المعركة وبتفكير حاد، يستطيع أن يُقاوم هجمات الشر وينتصر على الرغبات المُخجلة." 15
وسيظهر اختيار مكاريوس هذا لدى الآباء الكبادوكيين، حتى وإن لم يكن لكتاباته تأثير عليهم.
غريغوريوس النيصي (335 – 394)
يرى غريغوريوس النيصي أن الفارق الجنسي هو أحد نتائج السقطة. لذلك فهو يعالج مسألة صورة الله انطلاقاً من الإنسان الكوني. فالإنسانية كلها مخلوقة بحسب المسيح. بهذا الموقف، تفادى غريغوريوس طرح السؤال: هل المرأة مخلوقة على صورة الله؟
"حين يقول الكتاب المقدس: وخلق الله الإنسان، فإنه يشير بهذا التعبير إلى الإنسانية جمعاء. ففي عملية الخلق هذه، لم يُطلق اسم على آدم كما هو الحال بعد ذلك. فالاسم يُطلق على الإنسان المخلوق فلان أو فلان بينما لقب إنسان يُطلق على الإنسان الكوني. نستطيع إذاً أن نفترض انطلاقاً من المفهوم الكوني للطبيعة ما يلي: إن المعرفة الشاملة والقدرة الإلهيتين تشملان الإنسانية كلها عند خلقها." 16
فما يقصده القديس غريغوريوس هو أن الله خلق الإنسان عاقلاً سواء كان رجلاً أو امرأة، أبيض أو أسود، صغيراً أو بالغاً. فتعبير الإنسان الكوني يعني الإنسان، أي إنسان، كلّ إنسان، مهما اختلف الزمان والمكان. لكن كتابات أخرى للقديس غوريغوريوس تبين أنه، على الرغم من نظرته الشمولية هذه، يظل أسير النظرة الذكرية المحورية. فحين كان يشرح حياة القديسة مكرينا قال: "ستتكلم قصتنا على امرأة، إن جاز لنا تسميتها امرأة، لأنني لا أعرف هل يليق بأن نشير انطلاقاً من الطبيعة إلى من تسامت على الطبيعة." 17
غوريغوريوس النـزينـزي (330 – 390)
لهذا القديس أوضح التعابير حول مساواة المرأة بالرجل أمام الله، وأوضح إقرار بأن المرأة مخلوقة على صورة الله:
"خالق واحد للرجل والمرأة، ومن تراب واحدٍ خُلقا. صورة واحدة، شريعة واحدة، موت واحد، قيامة واحدة."
ومع ذلك، يُعلن غوريغوريوس أن هناك فرق بين الرجل والمرأة على المستوى الاجتماعي. ففي الخطاب نفسه يتكلم على العفة ويربطها بالمرأة فيرى في زِناها تشويهاً للجنس البشري.
"وكيف تطالبين بالعفّة من دون أن تتمتّعين بها؟ اطردوا المرأة سيّئة السلوك لأنّها تشوّه النسل." 18
باسيليوس القيصري (330 – 379)
يظهر من كتابات باسيليوس أنه لا يشك في كون المرأة مخلوقة على صورة الله، وهو أشد الآباء اليونان دفاعاً عن المرأة في هذا الصدد. ومع ذلك، يظهر من عظته عن استشهاد جولييت تأثره بالنظرة الذكرية المركزية. فيبدأ بالتساؤل هل يليق بأن نُسمي امرأة من تخطَّت ضعف الطبيعة الأنثوية بعظمة نفسها. ويضع على لسان جولييت خطاباً موجهاً إلى النساء حولها:
"نحن من نفس عجينة الرجال. خُلقنا على صورة الله مثلهم. وجعل الخالق المرأة قادرة على الفضيلة مثل الرجل. ألسنا جميعنا من العرق نفسه الذي ينتمي إليه الرجال؟ فلكي تُخلق المرأة، لم يُؤخذ لحم فقط بل عظم من العظام. أما بالنسبة إلى القساوة والقوة والصبر، فنحن مساويات للرجال، وهذا بفضل سيدنا. وحين قالت هذا تقدمت إلى المحرقة."
يبدو واضحاً أن باسيليوس يُخالف أفلاطون في نظرته إلى المرأة. فالأفلاطونية تعتبر المرأة أضعف من الرجل في مجال الأخلاق، وأن مكانتها ككائن حي هي بين الإنسان والحيوان. ومع أنّ القديس باسيليوس نشأ على الثقافة اليونانية، يرفض هذه النظرة. ففي شرحه للمزمور الأول يقول:
"طوبى للرجل الذي لا يتبع مشورة الأشرار ... ولماذا يقول المزمور طوبى للرجل فقط؟ أتراه ينبذ المرأة من هذه التطويبة؟ على كل حال، هناك فضيلة واحدة للرجل والمرأة لأن خليقة هذه وذاك تتمتع بالكرامة نفسها. لذا ستكون مكافأة كليهما مماثلة. فلنسمع ما يقوله سفر التكوين: خلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلقهما، رجلاً وامرأة خلقهما، فمن لديهما الطبيعة نفسها، تكون أفعالهما متماثلة. ومن تماثلت أفعالهما تتماثل مكافأتهما. فلماذا يُشار إذاً إلى الرجل وتغيب المرأة؟ لما كانت طبيعة الاثنين واحدة وفريدة، رأى صاحب المزمور أنه يكفيه أن يشير إلى الكل من خلال الجزء الغالب."
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الآباء الكبادوكيين اعتبروا المرأة مخلوقة على صورة الله، لكنها لا تساوي الرجل من الناحية الدينية والاجتماعية. ففي مديح القديس باسيليوس لأخته غورغونا، يوصيها بأن تحترم القيود الاجتماعية في الطاعة للزوج والصمت أثناء اجتماع المسيحيين 19 . إنه يأسف لاختلاف الموقف تجاه الزوج والزوجة في حال الزنى، ويوصي في الآن نفسه المرأة بأن تستقبل زوجها إذا عاد من زنى، بينما على الرجل أن يُطلّق امرأته التي تدنست. 20
ابيفانيوس السلاميني (315 – 430)
يُعتبر ابيفانيوس من الآباء القلائل الذين ربطوا صورة الله بالكائن البشري لا بجزء من هذا الكائن. فهو يَحذو حَذوَ بعض آباء البرية مثل الأنبا سوباتروس الذي يقول:
"لا تجعل امرأة تدخل قلايتك، ولا تقرأ كتباً منحولة ولا تفكر في صورة الله في الإنسان. فهذا ليس هرطقة بل اندفاع نحو الجهل وروح الخلاف ... لأنه ما من خليقة قادرة على فهم شيء من هذا كله."
ويعتبر أبيفانيوس أن السؤال هل المرأة مخلوقة على صورة الله لا معنى له. ففي رده على بدعة الأُديانيين الذين أرادوا جعل صورة الله في الجسد البشري يقول:
"علينا ألا نسعىَ أبداً إلى تحديد أو اعتبار في أي جزء من الإنسان تكمن صورة الله، بل علينا أن نعترف بأن صورة الله هي في الإنسان كي لا نرفض نعمة الله ونصبح جاحدين. إنه لأمر ثابت أن جميع الناس خُلقوا على صورة الله. فأين تكمن هذه الصورة؟ علينا ألا نفتش عن ذلك بإلحاح ودقة. نحن لا نعتقد أن الجسد هو صورة الله ولا النفس ولا العقل ولا أنها في الفضيلة. لأن أموراً كثيرة تمنعنا في كل مرة عن التفكير هكذا. ولا نقول أيضاً إن الجسد أو النفس ليس على صورة الله ... إن صورة الله هي في الإنسان. كيف؟ الله وحده يعلم ذلك."
ومع ذلك لم يمتنع ابيفانيوس عن اتهام النساء بالنفوس الوضيعة كي يبرر عدم أهليتهن للكهنوت: "النساء غير مستقرات ويَملنَّ إلى الخطأ ولديهن نفساً وضيعة".
الخاتمة
ما الّذي نستنتجه من هذا المرور السريع على مواقف الآباء وآرائهم تجاه السؤال: هلى المرأة هي على صورة الله؟
1) إنّ التأكيد على أنّ المرأة مخلوقة على صورة الله لا يظهر لدى آباء الكنيستين الإنطاكيّة أو الإسكندريّة إلاّ في حالات منفردة. بينما يظهر هذا بوضوح في المدرسة الكابادوكيّة.
2) إنّ الموقف الأكثر شيوعاً هو رفض أن تكون المرأة على صورة الله أو أقلّه، رفض أن تكون على صورة الله مثل الرجل تماماً. إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ المرأة والرجل غير متساويَين في الطبيعة البشريّة. صحيح أنّ يوحنّا الذهبيّ الفم، وكيرلّس الإسكندري يؤكّدان اختلاف الطبيعة (phusis) بين الرجل والمرأة، إلاّ أنّ غالبيّة الآباء ينظرون بإيجابيّة إلى اتّحاد الرجل بالمرأة في الزواج مع أنّهم يحبّذون التبتّل الّذي يقرّب المرأة أكثر من العريس الإلهيّ.
3) وفي المرّات القليلة الّتي يؤكّد فيها بعض الآباء أنّ المرأة هي على صورة الله، يحتفظون بنظرتهم المركزيّة للذكَر، ولا يساوونها بالرجل على المستوى الاجتماعيّ أو الكنسيّ.
4) لم يعِر الآباء ما ورد في رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية أيّ اهتمام: "لم يعد بعدُ يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو أنثى، لأنّكم جميعاً واحد في المسيح يسوع" (غل 3/28). لأنّ العقليّة الّتي ترتكز على محوريّة الذكَر كانت تسيطر على تفكيرهم. وليسوا هم وحدهم في ذلك. فحين أراد لوثر أن يفسّر سفر التكوين ليكتشف أتباعه الكتاب المقدّس قال إنّ المرأة تختلف عن الرجل اختلاف القمر عن الشمس. "فكما أنّ الشمس أروع من القمر بكثير – مع أنّ القمر جسد رائع – كذلك فإنّ المرأة خليقة رائعة صنعها الله، لكنّها مع ذلك لا تساوي الرجل في المجد والكرامة."
على مستوى اللاهوت الأساسي، نرى مقدار تأثير الثقافة المحيطة في التفكير المسيحي. ففي الوقت الّذي كان للطبّ دور في الحطّ من شأن المرأة سابقاً، كان له دور في رفع شأنها حاليّاً. ولو قرأت هذا المقال امرأة من القرن التاسع عشر، لما تعجّبت منه أو تشكّكت. بينما تثير قراءته اليوم لغطاً وثورة. لذلك، لا يمكننا إهمال الأثر الثقافيّ في تدعيم عدم المساواة بين الرجل والمرأة في مضمار الليترجيّة (مثلاً قواعد الطهارة المفروضة على المرأة في الكنائس الشرقيّة كي تشارك في الاحتفالات الليترجيّة)، وإقصائها عن حياة الكنيسة. ألا يبدو، في عصرنا الحاضر، الحفاظ على التقليد إعاقة أكثر منه حافزاً على تأوين الإيمان وانثقافه؟ إنّ إدراك هذا قد يكشف لنا الطريق نحو التقليد الإنجيليّ ويشجّعنا على التغيير من أجل وفاء أشد لروح الإنجيل لا لحرفيّته.
Comment